على سبيل التقديم:
لقد عرف الشعر العربي تطورات مهمة على مستوى الشكل والمضمون، باعتبارها ترتبط باللغة في علاقتها بالذات الشاعرة؛ وتفاعلاتها مع العالم والوجود. لذلك فناموس التطور الذي يسري على على هذا الكائن التاريخي/ اللغوي؛ يسري على اللغة باعتبارها مكونا هاما في العملية الإبداعية على مر التاريخ الإنساني؛ منذ الإلياذة والأوديسة والإنيادة من بعدهما. ونظرا لأهمية الشعر في الثقافة العربية/ الإسلامية؛ باعتباره "ديوان العرب"(1) ، حيث بدأ الاهتمام به منذ القرن الثالث الهجري مع "ابن سلام الجمحي" ( ت 231ه)؛ والصراع حول قضاياه النحوية والفنية والإبداعية، وبنظرة فاحصة نجدها تتصارع بشكل عام؛ في نطاق العلاقة بين الشكل والمضمون؛ والانتصار للجانب الذي يحقق للقصيدة الشعرية نصيتها وخطابها الثابت على مر التاريخ. لكن الإشكال هو النظرة إلى الشكل والتقعيد والارتهان إلى دولاب البلاغة والنحو والعروض هي السائدة؛ منذ عصر التدوين (القرن الثاني الهجري)؛ فساد أن الشعر شكل يرتكز إلى الوزن والقافية، تمييزا له عن باقي الشعر في الثقافات الأخرى. وهذه النظرة - ربما- لها تبريراتها التاريخية والحضارية، في بناء سور منيع للحفاظ على الثقافة العربية من انصهارها في ثقافة أخرى. لذلك فالشعر " كلام موزون يدل على معنى" .(2(
ومع بداية العصر الحديث، منذ القرن التاسع عشر، ستبدأ محاولة رد الاعتبار إلى الشعر العربي، ومحاولة البحث عن الشعرية، خاصة منذ الانفتاح على الثقافة الغربية مع التيار الرومانسي، وبالأخص مع "مدرسة المهجر" التي كانت نقطة بداية الحداثة الشعرية في الثقافة الشعرية العربية، منذ ظهور "الشعر المرسل" و"الشعر المنثور". وبظهور الشعر الحديث في الثقافة العربية الحديثة مع "مجلة شعر" (1956)، ستتم إعادة الاعتبار إلى أقانيم وأسس الشعر؛ برد الاعتبار إلى المضمون بدل الشكل والقواعد التي حنطت الشعر في قالب خارج النص، وبعيدا عن الذات الشاعرة، وهي محاولة إعادة الاعتبار للنظرية الإبداعية في الكتابة الشعرية؛ فمنطلق الشعر ليست هي القواعد أو عمود الشعر الذي جاء به المرزوقي (ت 498هـ). بل الذات والكتابة . ف "امرؤ القيس" والنابغة الذبياني والخنساء وعنترة لم يكونوا على علم بالنحو والبلاغة وقواعد الخليل، وهذا ما جعل الشعر الحديث- على حد تعبير المجاطي- يراهن على مفهوم التطور من خلال الربط بين إبداعية الذات الشاعرة، والتراث الشعري العربي، فكان الشكل تابعا للمضمون وليس العكس. فكانت المرحلة الثانية من تطور الشعر العربي الحديث؛ متجهة نحو تجاوز مسألة "الإيقاع"؛ خطوة أكبر من تجاوز الوزن، وربطها بالذات المبدعة، تناسبا مع شعرية الحداثة التي تنظر إلى أن الإيقاع مجرد إوالية من إواليات إنتاج الشعرية، وليس خصيصة مستهدفة في حد ذاتها."فالشعرية لها كل الحق الشرعي ان تختار الأدوات التي يحقق لها ذلك سواء أكان التحقق بالتفاعيل العروضية أم بسواها من الأدوات المولدة للإيقاع" (3(
ف "قصيدة النثر"وجه إبداعي اكثر تمثيلا لهذه الشعرية التي تتنوع فيها أدوات إنتاجها من ادوات فردية وتركيبية وصرفية، وادوات بلاغية بديعية ونحوية، تحتاج إلى متابعة كمية وكيفية "ثم تحديد مدى تداخلها في إنتاج الشعرية عموما" .(4(
وإذا كانت "قصيدة النثر العربية" قد تأثرت ب "قصيدة النثر الغربية" التي ارتبطت بالمدينة؛ حيث "يعتبر ألوسيوس برتراند" و"بودلير" مؤسسا هذا الجنس الأدبي، وقد تم الاعتراف بقصيدة النثر وممارساتها كما هي من لدن جيل 1880"(5) فإن هناك اتجاهات في الثقافة العربية اعتبرتها مبثوثة في كتابات الفلاسفة والمتصوفة أو أنها تعود إلى زمن ضارب في التاريخ الإنساني البعيد، زمن البدايات، فالوزن والقافية ما هما إلا لواحق طارئة على الشعر وإضافات تزيينية فقط. لذلك فهي ليست منفصة عن الشعرية العربية، بل هي حلقة من حلقات تطوراتها وشكل مطواع يتغذى على أشكال إبداعية أخرى "مكرسة"(6) مثل "القول المأثور" و"القصة" و"نصر الفن" و"البيت الحر" وغيرها، ويظهر هذا عند قراءتنا لكبار شعراء قصيدة النثر مثل "رامبو" و"بودلير" وغيرهما، وهذا غير بعيد عما كتبه الشعراء العرب والمغاربة أيضا.
فتطور الشكل الذي ظهر بشكل جلي في "قصيدة النثر" يرتبط بتغير في الوظيفة التي تميزت بالجدة والطرافة، تبعا لتغيرات في بنى المجتمع القديمة وعلاقاتها بالأشياء. وهذا يبرز بالضرورة "حرية الفرد وحقه في الراي والتعبير دون عوائق"(7) تبعا للتطور الثقافي والتكنولوجي والإلكتروني الذي عرفته المجتمعات العربية منذ عقد ونيف من الزمن. فهي سمة من سمات ديمقرطة الكتابة الإبداعية التي هي جزء من تحقق ثقافة حقوق الإنسان في ظل العولمة الراهنة. وفي ظل هذا الاكتشاف الإبداعي، نجد ان "قصيدة النثر" تعكس في مستواها الأول التحول الحضاري الذي جاء في سياق تأثر الشعر العربي بمقومات جديدة وفي المستوى الثاني، تحولا جماليا قد "أفرز طاقة لا متناهية من الأيقاع والرموز والتشكيلات المجازية الخارقة" .(8(
وتبعا لذلك ف "قصيدة النثر" هي مجمع لغوي له قواعد خاصة، بعيدا عن القوالب والأشكال الجاهزة، انطلاقا من اللهجة الفردية الناشئة على المتنافرات الدلالية والمجازية والجمالية، لذلك فهي شكل إبداعي تجريبي على المستوى اللغوي والبنائي والدلالي.
1 - ملامح اللغة الإبداعية في "قصيدة النثر":
إن "قصيدة النثر" باعتبارها "قصيدة أجد" - على حد تعبير عبد العزيز المقالح - تتمثل كإبداع في علاقتها بفكرة إنسانية "لا يحاول شاعر بقدر ما يعيشها إنسان، فهي فعل اختراقي في الجوهراني من العناصر لا لعب بالشكلاني" ،(9) إذ لا شكل ثابت لها يتنبه له القارئ، بل تنتصر في جوهرها إلى جمالية المعنى، وذكاء العبارة، مما يفسر " تعرف مقطع نثري تعرفا مفارقا بأنه شعر" .(10)
ومن تم، فهي مجمع لغوي، فاللغة فيها هي مركز الثقل، والوسط الشمولي الذي تجري فيه عملية الفهم بذاتها، بلا حدود فاصلة بين الشعر والنثر. فهي احتفاء باللغة الشفافة – كما يسميها بلانشو- اللغة المجازية والشعرية، إنها لغة ثالثة؛ تنفتح على مجالات معرفية متنوعة مثل : الفلسفة والتصوف والدين والتاريخ والسرد (...)، إنها جنس عابر للأنواع كما يقدمها " عز الدين المناصرة" .(11)
فاللغة الإبداعية في "قصيدة النثر" لغة التفاصيل، يتتبع من خلالها الشاعر المهمل واللامرئي؛ لتجسيد شعر الحياة اليومية الذي يعد لونا عربيا قديما؛ "بدأ من ابن الرومي وشعراء الحياة اليومية في العصر العباسي، ونظر له العقاد في مقدمة (عابر سبيل) كما تبناه صلاح عبد الصبور (الناس في بلادي) واستخدمته قصيدة النثر في أحد تياراتها،(12)" يستهدف الشاعر من ورائها رسم مشاهد يومية انطلاقا من رؤيته الخاصة للعالم. وهي أيضا، تحتفي بالتجربة الصوفية باعتبارها تجربة في الكتابة؛ وليست في النظر؛فهي "حركة إبداعية وسعت حدود الشعر، مضيفة إلى أشكاله الوزنية أشكالا أخرى نثرية" (13) انفتحت عليها من خلال لغة تصوفية تتأسس على الإيحاء والرمزية بدل المباشرة.
وبذلك تنفتح على السريالية من جهة أخرى، السريالية التي لا تسعى فقط إلى اكتشاف عمق الذات من الداخل، بل تحاول اكتشاف العالم الخارجي؛ بهدف إعادة تشكيله من جديد. فاللغة الشعرية هي لغة خلق عالم جديد مماثل للعالم الذي نعيش فيه وموازن له. فهي – أي "قصيدة النثر"- لم تكتف بالقفز فوق التفاعيل، بل تخطت نموذجية اللغة، وخلقت مفاجآت عدة إيقاعية وتعبيرية ودلالية، "صدمت المتلقي في ذوقه أحيانا، وفي فكره أحيانا، بل في معتقده في بعض الأحيان ،(14) ولازالت مستمرة في ممارسة فعل المفاجآت على أجهزة متلقيها سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون.
فالشاعر هو دائما في مواجهة مع اللغة، ذلك أن الألفاظ لا يمكن أن تتجدد داخل قواعد تركيبية جاهزة باستمرار إلا إذا تحررت في معانيها من كل مبدأ موضوعي إلا الانضباط لذات الشاعر وفق " قواعد الحرية وشروط الإبداع، أثناء عملية تركيبية للنص الشعري" .(15) أي ما يمكن نعته بكيمياء التركيب في اللغة الإبداعية. وهذه المواجهة مع اللغة؛ تستشف في كتابة "قصيدة النثر"، وكأننا أمام فعل نقدي بلغة شعرية، ومسحة انفعالية تجسد مكابدات الذات في عملية التعبير، وخلق الشعرية. وكما يقول الشاعر المغربي "عبد الله زريقة": «ويخشى النص أن تطوح به خمر القراءة/ وتخشى الورقة من ارتعاد يد الناسخ/ أما الكاتب فلا أحد يعرفه/ حين يكسر اللصوص كل المفاتيح» .(16)
وهذا الصدام مع اللغة؛ يبرز لنا دائما المسافة الفاصلة بين المعطى النظري والمنجز النصي، وقد حصل هذا ل "يوسف الخال"، لكن "أنسي الحاج" كان شاعرا مجازفا ومغامرا، حيث "ظل في "لن" و"الرأس المقطوع" شاعرا صداميا تجاه جدار اللغة، ممثلا لمبدئه في كونه الشاعر "خالق لغة"" .(17) وبهذا الصدد؛ يمكن أن نقف عند تجربة "أنسي الحاج" نموذجا من خلال ديوانه "لن" الذي يمكن أن نتتبع بعض مظاهر التمرد الثرى على جدار اللغة والتي قدمها لنا "سامي السويدان" وهي كالآتي:
"- تحطيم قواعد اللغة العربية في نحوها وصرفها
- مزج العامي بالفصيح
- قلب المألوف وإعادة تأليفه
- اشتقاق ألفاظ جديدة على أسس غير معهودة في العربية
- الإكثار من الصور المكثفة المتوترة
- تداخل الأصوات المتكلمة" (18)
وتبعا لهذا الصراع مع اللغة بغية تحقيق شعرية "قصيدة النثر" كانت ظاهرة الغموض والإبهام؛ الذي أصبح يعد ملمحا جماليا في اللغة الإبداعية، لأنه ذو وظيفة دلالية، وليست مجانية. انطلاقا من ممارسة عنف منظم على اللغة العادية، والانحراف عن نمطية أنساقها وقوالبها الجاهزة. " وفي هذه الحالة، لا تدل الكلمات بعد بالإحالة إلى أنساق وصفية، بل تنتظم دلالتها بالإحالة إلى النسق الدلائلي لنوع أدبي".
2 - الأساليب الفنية في "قصيدة النثر":
إن" قصيدة النثر" فد دخلت في التجريب الإبداعي؛ إن على مستوى اللغة، وإن على مستوى البناء والدلالة، وهي كلها جوانب تلتحم فيما بينها لتحقيق متعة فنية، ووظيفة جمالية، قبل الوظيفة الإقناعية برؤية الشاعر للعالم. وبذلك سنحاول أن نرصد ملامح الأساليب الفنية التي يرتكز عليها هذا النص الشعري التجربي الحرون. والتي يمكن حصرها في الجوانب التجريبية التي سبقت الإشارة إليها.
2 – 1 - شعرية الإيقاع:
إن "قصيدة النثر" في تجاوزها للعروض الخليلي، أسست لإيقاع شعرية جديد (مفرد بصيغة الجمع)؛ تنبثق من داخل النص والكتابة في ارتباط وثيق بالذات الشاعرة. عوض اعتماد قواعد خارجية، بل هو" إيقاع يخلق ويتنامى من الداخل، يتفجر تلقائيا من التجربة الشعورية نفسها للذات" ؛ دون فصل بين وواضح بين الصوت والمعنى،أو بين الشكل والمضمون، فهو إيقاع دلالي بدل إيقاع الصوت الذي بلي ومجته الأسماع. وهذا ما جعل " جو كوهن" ينعتها ب "القصيدة الدلالية" " poème sémantique" .(20) والإيقاع في "قصيدة النثر" يتنوع ويتجدد؛ فـ"بالنظر إلى مجموع الظواهر الصوتية التي تحتضنها اللغة، يؤكد أن الشعرية لا يمكن أن تحصر نفسها في قالب إيقاعي بعينه، بل لها الحق المشروع في التعامل مع النظام الإيقاعي الذي يناسبها" .(21)
فإذا كانت الشعرية العربية التراثية قد اختارت لنفسها النظام العروضي؛ لتجسيد إيقاعها الشعري، فإن الشعرية العربية الحداثية قد وسعت من هذه المنطقة حتى يتم استيعاب جل – إن لم نقل كل- الأبنية التي تتيح التعبير في مثل هذا النص الشعري، حتى يضمن تفرده بخواصه من خلال انفتاحه وامتزاجه بالنثرية " ومعنى هذا أن التكافؤ الصوتي أصبح بديلا مشروعا للتكافؤ العروضي" .(22) وأهم ما يميز " قصيدة النثر" على مستوى الإيقاع هو التناوب الحاصل بين الصوت والصمت.
أ- إيقاع الصمت:
ويتجلى في التشكيل البصري للقصيدة، والاهتمام بهندسة البياض. فالصمت إيقاع وبلاغة ودلالة، تم استغلالها من قبل شعراء الحداثة في الشعر الحديث، وكذا "قصيدة النثر" حيث يتيح إمكانات " بصورة متعددة تمتد بين قطب البساطة ( حيث يكاد البعد اللغوي يختفي) وقطب التعقيد والتركيب" ،(23) وذلك في تكامل بين التشكيل البصري والتدليل اللغوي وفق استراتيجيات الخطاب. ويتجلى هذا في الكاتبة المطبعية، سواء على مستوى "التشكيل الطباعي الخاص" الذي نجد "أحمد بلبداوي" يتحدث عنه في بيانه الموسوم ب "حاشية على بيان الكتابة": "حينما أكتب القصيدة بخط يدي، فإني لا أنقل إلى القارئ معاناتي فحسب، بل أنقل إليه نبضي مباشرة وأدعو عينيه للاحتفاء بحركة جسدي على الورقة" ،(24) وذلك من خلال كتابة بعض الجمل الشعرية أو كلها التي تلعب دورا في بناء صور دلالية/ سيميائية تستشف من هيئة الحروف والكلمات. أو على مستوى "التشكيل الطباعي العام"، الذي نقصد به مسألة كتابة النصوص وعملية تنضيدها على مساحة بياض الورقة، أي التنضيد النصي، وهو نوعان إما "تنضيد ضيق" أو "تنضيد موسع"، علاوة على استعمال علامات الترقيم التي تلعب دورا إيقاعيا على مستوى إيقاع الصمت ونفس القراءة (النقطة والفاضلة ونقط الحذف ...) وغيرها.
ب- إيقاع الصوت:
وفي مقابل " إيقاع الصمت" نجد "إيقاع الصوت" الذي يتعالق مع اللغة، ويلعب دورا في تحصيل الدلالة، وإدراك المعنى من لدن المتلقي، بشكل قريب المدى، و"نتيجة لذلك، تعالج الإيقاعات جزءا من التخمين التشاكلي الذي يضطلع بدور تحصيل السمات (...)" .(25)
وهنا، يمكن ان نميز بين "الإيقاعات المتجانسة" التي يتم تثبيتها بالتكرار أو التكتل السيمي، و"الإيقاعات المتنافرة" التي تنبني على تناوب السمات أو التكتلات. ويبرز هذا خصوصا من خلال خاصيتي التوازي والتكرار. فالتوازي " عبارة عن تماثل قائم بين طرفين من نفس السلسلة اللغوية، وهي عبارة عن جملتين، لهما نفس البنية بينهما علاقة متينة؛ إما قائمة على أساس المشابهة أو التضاد" ؛(26) وهو ما يتناسب مع المعادلة والموازنة في البلاغة العربية القديمة .(27) وينقسم إلى توازٍ تام، وتوازٍ نسبي، وتوازي – المتوازيات، وبنية المؤالفة والمخالفة. ويمكن رصده على المستوى الصرفي والنحوي والدلالي.
أما التكرار، فيمكن رصده على مستوى الحرف (الصوامت والصوائت)، وتكرار الكلمات (التكرار المتسلسل والحصر والمتباعد)، وتكرار الكلمات المتقاربة صوتيا، وتكرار الكلمات المتقاربة دلاليا، بالإضافة إلى تكرار الجمل المتوازية. وكما له وظيفة جمالية، له وظيفة دلالية؛ حيث يقول عنه "يوري لوتمان" "لا نقاش في أن تصاعد التكرار يقود إلى تصاعد التنوع الدلالي، لا إلى تماثل النص. فكلما تكاثر التشابه كلما تكاثر الاختلاف" .(28)
2 – 2- شعرية الصورة/ الدلالة:
وما دامت " قصيدة النثر" قصيدة دلالية بامتياز، فهي قصيدة تحتفي بجانب الصورة/الدلالة التي بدونها لا تحقق شعريتها، خاصة من خلال اعتماد "الاستعارة" باعتبارها أرقى صور التعبير الإبداعي؛ انطلاقا من " التغيرات الدلالية المركبة المسماة المجازات المركبة (...) التي تعطينا استعمال نفس الكلمة بمعنيين مختلفين في الآن ذاته" .(29)
وهي صورة تنبثق من الذات المبدعة انبثاقا خالصا، حيث يقوم الذهن بإنتاج صورة قائمة على التباعد بين واقعتين بالتقريب بينهما بناء على علاقة. وبقدر ما يكون البعد والصدق، بقدر ما يكون التأثير الانفعالي وتحقيق الشعرية. وهذا ما يؤكده "أندريه بروتون" بوصوح في قوله: "إن غاية ما يطمح إليه الشعر هو؛ أن يقارب بين شيئين متباعدين في خصائصهما وصفاتهما إلى أبعد حد. أو أن يجمع بينهما باية طريقة كانت على نحو فجائي ومثير للدهشة" .(30) وهنا يمكن أن الوقوف عند أنواع متعددة من الصور الشعرية التي تحتفي بها " قصيدة النثر" ومنها:
- الصورة الومضة:
وهي صورة خاطفة، مركزة، ذات شحنة انفعالية قوية وعالية، وتتجسد في الشذرة أو الهايكو. مثل فول الشاعرة " فاطمة الزهراء بنيس": " أرتل غَوايتي/ آية....آية/ ألم تروني في كل حرف أهيم/" .(31)
- الصورة التشكيلية:
خاصة وأن " قصيدة النثر" قد انفتحت على عالم اللون والرسم والمنمنمات والتشكيل. تقول "ثريا ماجدولين" أترك جسدي/ يسير وحده/ إلى حافة الليل/ متوجا بالبياض" (32)
- الصورة المشهد:
وهي صورة مشهدية تحتفي بتفاصيل الحياة اليومية، حيث يعمل الشاعر على ترتيب عناصرها، وتارة منفصلة عن الذات، وتارة أخرى ملتحمة بها. يقول "حسن نجمي": " في الرباط/ في البيت/ في الليل وحدي/ أحاول، أنا الهارب/ أن ارى/ لا أستطيع أن أمنع رائحة الشٍّواء البعيدة ولا بائعات الخبز عن لغتي (...)" .(33)
- الصورة المسترسلة:
وهي صور جزئية، تقوم على علاقة الاتصال والانفصال لتكيل الصورة / القصيدة، أو على الأقل الجملة الشعرية، وغالبا ما يحتفي هذا النمط من الصور بالحكي والسرد وتسلسل لصور أحداث الذات في انفغالاتها. يقول " عبد الهادي روضي": " كأني أصعَّد هاويتي لا ظل للظل لا مجازَ يدلني من هنا جحافل الطغاة تسللت إلى شغاف النهر هربَت نداوة النخيل لم تترك للمدى ريحَه ولا للماء طلَه ملءَ/ حناجرنا/ اندست" .(34)
- الصورة الغنائية:
وهي صورة ترتبط بالذات، بعالم الذكريات الطفولية، والحنين إلى لحظة أو مشهد أو شخص. تقول " نجاة الزباير": " حين التقينا/ همستَ في محارة البحر/ أني نصفك المرمري/ فغدوتُ أميرة لكل الشطآن/ أتعثر بين الأماني/ تغازلني رياح الصَّبابة". (35)
على سبيل الختام:
إن "قصيدة النثر" يصعب حصر شعريتها، سواء على مستوى اللغة أو البناء أو الدلالة، خاصة أنها قد تمردت على الأسس والأقانيم التي وضعتها لها "سوزان برنار" (التوهج والمجانية والكثافة). حيث أصبحت تبني ذاتها ليس كنمط شعري، بل كجنس قائم الذات، له هويته الخاصة، المنفلتة، والمتطورة. خاصة أنها تنفتح على شعريات متعددة تمتح من تفاعلات الذات مع العالم في نطاق علاقة لغوية تجريبية؛ لا تركن إلا لمبادئ الحرية الإبداعية؛ معتمدة على عنصر مهم في بناء شعريتها ألا وهو الخيال الشعري الجامح.
إنها جنس أدبي عابر للأنواع؛ منفتح على الدين والفاسفة والتاريخ والأسطورة والسينما والتشكيل والإيقاعات الموسيقية... فهي صورة مثلى لعالم الحرية ودمقرطة الحق في الكاتبة والتعبير، لكن الأمر الذي لا يسعف هذا الجنس في شق طريق شعريته هو نقص المتابعة النقدية الجادة للأعمال الشعرية العربية عامة والمغربية خاصة. فلا أدب دون نقد. ولا نقد دون إبداع.
هوامش:
-1(1)اُنظر ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه. تحقيق محمد عبد القادر أحمد عطا. دار الكتب العلمية. بيروت- لبنان. ط1. ج1. 2001. ص32.
(2)- قدامة بن جعفر؛ نقد الشعر. تح عبد المنعم خفاجي. مكتبة الكليات الأزهري. القاهرة. 1978. ص13.
(3)- محمد عبد المطلب؛ النص المشكل أو قصيدة النثر. دار العلم العربي. القاهرة. ط1. يناير 2011. ص114.
(4)- نفسه.
(5)- مشيل سندرا؛ قصيدة النثر. ترجمة محمد آيت لعميم. مجلة البيت. ع 13-14. صيف 2009.ص154.
(6)- نفسه .ص157.
(7)- أدونيس؛ الصوفية والسريالية. دار الساقي. بيروت- لبنان. ط4. 2010. ص214.
(8)- إيمان الناصر؛ قصيدة النثر العربية: التغاير والاختلاف. مملكة البحرين. وزارة افعلام والثقافة والتراث الوطني. ط1. 2007. ص214.
(9)- محمد العباس؛ ضد الذاكرة ( شعؤية قصيدة النثر). المركز الثقافي العربي. بيروت – البيضاء. ط1. 2000. ص48.
(10)- ميكائيل ريفاتير؛ دلائليات الشعر. تر محمد معتصم. منشورات كلية الاداب والعلوم الإنسانية بالرباط. سلسلة نصوص واعمال مترجمة رقم 7. مطبعة النجاح الجديدة. البيضاء. ط1. 1997. ص4.
(11)- اُنظر عز الدين المناصرة؛ إشكاليات قصيدة النثر ( نص مفتوح عابر للأنواع). المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الأردن. ط1. 2002.
(12)- محمد عبد الله؛ قصيدة النثر شعر طبيعي. نفسه. ص387.
(13)- أدونيس؛ سابق. ص22.
(14)- محمد عبد المطلب. سابق. ص29.
(15)- عبد الله إبراهيم؛ بالذكاء وقوة الكلمة ( مقاربات للحوار مع الشعر والشعر الغربي والشعر العربي الحديث) مطبعة النجاح الجديدة. البيضاء. ط1. 1999.
(16)- عبد الله زريقة؛ حشرة اللامنتهى. دار الفنك. البيضاء. ط1. دجنبر 2004. ص42.
(17)- رشيد يحياوي؛ قصيدة النثر العربية أو خطاب الأرض المحروقة. أفريقيا الشرق. البيضاء. ط1. 2008. ص52.
(18)- نفسه. ص53.
(19)- أحمد الطريسي أعراب؛ الشعرية بين المشابهة والرمزية ( دراسة في مستويات الخطاب الشعري). شركة بابل للنشر والتوزيع. الرباط. ط1. 1991. ص149.
(20)- J.Cohen ; structure du langage poétique. Ed Flammarion. 1966. P9.
(21)- محمد عبد المطلب. سابق. ص115.
(22)- نفسه.
(23) - محمد العمري؛ الإيقاع الشعري نحو إعادة التعريف في سياق حوار " النظم" و" النثر". مجلة البلاغة وتحليل الخطاب. مطبعة النجاح الجديدة. البيضاء. ع1. 2012. ص23.
(24)- محمد بلبداوي؛ حاشية على بيان الكتابة. المحرر الثقافي. 16 أبريل 1981. نقلا عن نبيل منصر. الخطاب الموازي للقصيدة العربية. دار توبقال للنشر. البيضاء. ط1. 2007. ص247.
(25)- فرانسوا راستيي؛ فنون النص وعلومه. تر إدريس الخطاب. دار توبقال للنشر. البيضاء. ط1. 2010. ص67.
(26)- محمد كنون؛ التوازي ولغة الشعر. مجلة فكر ونقد. السنة2. ع18. أبريل 1999. ص79.
(27)- اُنظر أبي محمد القاسم السجلماسي؛ المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع. تقديم وتحقيق: علال الغازي. مكتبة المعارف. الرباط. 1980. ص508.
(28)- محمد بنيس؛ الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاته. ج3. ط3. 2001. ص150.
(29)- فرانسوا مورو؛ البلاغة ( المدخل لدراسة الصور البيانية). تر محمد الولي وعائشة جرير. أفريقيا الشرق. البيضاء. ط2. 2003. ص20.
(30)- آ. أ. ريتشاردز؛ فلسفة البلاغة. تر سعيد الغانمي وناصر خلاوي. أفريقيا الشرق. البيضاء. ط2. 2002. ص 119.
(31) - فاطمة الزهراء بنيس؛ طيف نبي. دار الغاوون. بيروت. ط1. 2011. ص52.
(32)- ثريا ماجدولين؛ سماء تشبهني قليلا. دار الثقافة. البيضاء. ط1. 2005. قصيدة: ( وقالت المحارة للبحر). ص71.
(33)- حسن نجمي؛ أذى كالحب. دار مرسم. الرباط. ط1. 2011. قصيدة: ( نوستالجيا الهارب). ص29.
(34)- عبد الهادي روضي؛ بعيدا قليلا. مطبعة آنفو – برانت. فاس. ط1. 2008. قصيدة: ( المسيح يتقمص وجه الغيم). ص 43.
(35)- نجاة الزباير؛ رسائل ضوء وماء. منشورات أفروديت. مطبعة وليلي. ط1. مارس 2011. قصيدة: ( ظلال من داليات الشوق والهوى). ص19- 20.