زياد جيوسي ومنى عساف
بعد الترحيب بالحضور، افتتح اللقاء بالاستماع لنشيد الوفاء الذي تم إعداده خصيصاً لهذا اللقاء في رام الله، للمبدعة لارا زمزم ومصطفى زمزم، ومن كلمات الشاعر حسام عرار: "أنطون سعادة غسان كنفاني، مجد الأمة انتو صرتو صوت الضمير، حروف الحق بالفكر حفرتوا ريح التغيير، أنطون سعادة توج بالشهادة، قال فداك بلادي دم صنع المصير، غسان كنفاني يا فكر إنساني فكر ما إلو تاني متلو ما بيصير، صفحات التاريخ كتبتوا الحلم العنيد، ضحيتوا بالروح وما سألتوا للشعب المجيد".
بالبداية تحدث المفكر سعادة إرشيد عن تجربة أنطون سعادة، واستشهد خلال حديثه بالساعات الأخيرة للشهيد قبيل إعدامه، مستشهداً بشهادة الخوري إيليا برباري الذي شهد عملية إعدامه كونه رجل دين، حيث روى ما قاله الشهيد: "أنا لا يهمني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعد السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكن قليلين منا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد"، واستمر بحديثه حول مقدرة أنطون سعادة باستشراف المستقبل، وهو الذي اعتبر أن المشروع الصهيوني يهدد كل الوطن العربي وليس فلسطين لوحدها، وهو مشروع حرصت الدول الاستعمارية على خلقه ليحل محلها، وليكون عقلها المدبر للفوضى والعنف والشر والقتل في منطقة الشرق الأوسط، ويدها التي تعيث فساداً لتبقي الواقع العربي متراجعاً ومشتتاً ومقسماً لطوائف تتناحر وتتقاتل لتنشغل بمشاكلها وهمومها الداخلية، وتنسى وجود الصهيونية في المنطقة لتتمكن هذه من بناء نفسها والقيام بمهمتها على أكمل وجه دون عراقيل من أي دولة من دول الجوار. وأكد حديثه بقوله: وإن ما نشاهده اليوم في المنطقة لخير برهان ودليل على أن شَخص الحالة قبل حدوثها. واستمر بحديثه وقال: إن أنطون سعادة بشكل دائم ومستمر كان يتساءل عدة أسئلة منها: هل سينتصر الجهل على العلم؟ هل تستطيع الفوضى الخلاقة أن تنتصر على النظام؟ واختتم قوله: إن فكره وآراءه وقدرته على استشراف المستقبل أصبحت تشكل خطراً عليهم فقرروا القضاء عليه لعلهم يقضوا على فكره، لأنه باستمرار كان يدعو ويطالب العرب أن يكونوا مستعدين، ويشكلوا قوة تملك المقدرة لتدير الصراع الصهيوني العربي، ويتمكنوا من الدفاع والحفاظ على إنسانية الإنسان العربي، والمحافظة على كرامته وحياته، وتوفير الحياة الكريمة والآمنة له، ليصبح قادراً على العيش والتنعم برغد الحياة وعيشها بسلم وسلام.
وعن الشهيد غسان كنفاني تحدث السيد نافع الحسن، وعبر عن رغبته بالحديث عن غسان وتجربته الشخصية معه، قائلاً: "إنه سيتحدث عنه وعن تجربته الشخصية معه بشكل عام. إنه إنسان حساس ومتواضع ووسيم، بعكس ما نشاهد في هذه الأيام من غرور واستعلاء بين صفوف المثقفين بشكل عام." غسان الفتى الذي ولد في عكا في العام 1936 وشرد وهجر إلى صيدا في لبنان، وجد نفسه وسط المعترك السياسي والنضال الفلسطيني، وأصبحت وجهة بوصلته فلسطين وطناً والفلسطيني مواطناً يعاني كل أشكال القمع والتميز ومشرد في مخيمات اللجوء داخل وخارج الوطن. ويعتبر كل ما كتب غسان من مقالة أو رواية أو تحليل سياسي شوكة وغصة وخطر أشد فتكاً من السلاح من وجهة نظر الصهيونية، إلى جانب قوى الرجعية والظلام في الوطن العربي وفي جميع أنحاء العالم، لتكون هذه الكتابات والروايات وأفكاره وما يخط قلمه سبب رئيس في اغتياله من قبل النازية الصهيونية في العام 1972 حيث كان ضمن قائمة اغتيالات وضعتها (غولدا مئير)، تضمنت عدة أسماء منها: وديع حداد وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، ونجحوا باغتياله مع ابنة أخته لميس نجم، وبعد اغتياله كان هذا التصريح الصهيوني لغولدا مائير: "باغتياله فإنهم اغتالوا كتيبة كاملة وليس كاتباً فقط."
تعتبر روايات غسان وكل ما كتب صالحاً، ويقدم حلولاً ونهجاً للنضال والحرية، ولكن رواياته التاليات تميزت بأنها شكلت مثلثاً وقاعدة أساسية وغذاء لروح وعقل كل فلسطيني وهي: "عائد إلى حيفا، رجال في الشمس، وأرض البرتقال الحزين،" ما زاد من التسبب بالأرق والقلق للصهيونية، لدرجة أنهم عندما كانوا يداهمون بيوت الفلسطينيين حتى لو بدون سبب ووجدوا هذه الروايات فيه، يقوموا باعتقال صاحب البيت. وعند الحديث عن غسان لا بد من الحديث عن حركة القوميين العرب، التي يسجل لصالحها صدقها أمام نفسها وجمهورها بعد نكسة 1967، حيث أعلنت عن حل نفسها بسبب الهزيمة النكراء التي حلت بكل الدول التي شاركت في مواجهة الصهيونية. واستمر بقوله: إن غسان صاحب بصيرة فذة وعقل مفكر حيث كتب في العام 1960 مقالاً عن الدور السعودي في المنطقة، وهو طبق الأصل عما نشاهده اليوم بعد 65 عاماً من كتابته. ومن رؤى غسان السليمة والدقيقة: "القضية الفلسطينية هي قضية كل العرب وعلى الفلسطينيين أن يكونوا في المقدمة"، و"الصهيونية وجدت لتدمر وتشتت وتقسم كل الدول العربية إلى طوائف ودويلات لتسيطر على المنطقة". واختتم حديثه بقوله: إن غسان ترك للفلسطينيين إرثاً إن صح استخدامه سيتحرر الوطن والمواطن.
واختتم اللقاء بالنقاش مع الحضور حول الشهيدين وعدد آخر من شهداء الثورة الفلسطينية، وشكروا الحضور المميز بنوعه وليس بكمه لهذه الأمسية. وتبقى هناك عدة أسئلة بعد أمسية ثقافية ومميزة كهذه الأمسية: متى ستصبح المقاومة الفلسطينية والعربية قادرة ومنظمة وتمتلك الكفاءة لتكون قادرة على مواجهة اللوبي الصهيوني؟ متى سيبقى الواقع العربي في حالة من التراجع الحضاري والثقافي والعلمي والاجتماعي؟
وهل أجمل من أن نختتم مقالتنا بهذه المقولة لشهيدنا غسان كنفاني:
"إن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها، كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه".