في الحديث عن التصوف والصوفية في العالم العربي والغرب عادة ما تقدم الطرق الصوفية اليوم أو يحاول تقديمها كدرع ممانعة للحركات المتشددة. ففي بريطانيا عندما اختلفت الحكومة البريطانية مع المجلس الإسلامي البريطاني (المعروف اختصارا أم سي بي) قررت تحويل الدعم إلى هيئة غير معروفة وهي المجلس الصوفي البريطاني ومنبر آخر يقوده صوفيون من جنوب آسيا. والنظرة للصوفية باعتبارها حركة مضادة للتشدد، لا تأخذ بعين الإعتبار صورتها الأولى كحركة اجتماعية مضادة للمؤسسة الرسمية- الدينية والسياسية، وكما أشار العالم والأكاديمي المعروف فضل الرحمن إلى أن الصوفية في مراحلها الأولى تحولت إلى حركة رفض وعباءة تؤوي كل الحانقين على المؤسسة السياسية في العالم الإسلامي. وظلت الصوفية التي قدمت أول شهدائها وهو الحلاج محلا للرفض حتى ظهور الإمام أبو حامد الغزالي (ت.1111) الذي جسر الفجوة بينها وبين الشريعة وأصبح العالم المسلم بعدها يقدم نفسه بالصوفي والفقيه أو المحدث وهو ما لم يتأت للعلماء من قبل. لكن تطور الصوفية الإسلامية في القرون الأولى يظل محلا للنقاش بل إن أصول ومعنى الصوفية ظلت محل أخذ ورد بين العلماء المسلمين حتى عصر ابن تيمية (1263- 1328) الذي شن هجوما على ما رآه تصوفا أجنبيا وحلوليا ممثلا بأفكار ابن عربي (1165- 1240). وقد ظل هذا الأندلسي المدفون في دمشق مثارا للجدل حول أفكاره الصوفية وطبيعة ما كتب في»فصوص الحكم» و «الفتوحات المكية» لكن هناك كما من الكتب التي نسبت إليه ولم يكن هو كاتبها. ولا ريب أن الصوفية قد قطعت مع إبن عربي شوطا طويلا من أغاني العشق الإلهي التي دبجتها رابعة العدوية والرسائل والأدلة التي كتبها أئمة الصوفية من الجنيد وأبو القاسم القشيري والكلاباذي والسلمي وغيرهم إلى التجارب الصوفية التي تغنت بالحلول والفناء والوحدة مع الله وأخذت كثيرا من الأفلاطونية المحدثة التي أثرت على مسار الفلسفة العربية الإسلامية.
بين الصحو والسكر
وقد طرحت المؤثرات الغنوصية والمسيحية واليهودية والهندوسية على التصوف أسئلة حول «أصالته الإسلامية» فالزهاد الذين هالهم ما وصل إليه المجتمع العربي في عصوره الزاهية من ترف وبعد عن التدين بدأوا حركتهم الداعية للإعتدال في الحياة والإمتناع عن الملذات التي أتخذت عند بعض الأئمة شكلا متطرفا، كل هذا قبل أن تبدأ الصوفية ويبدأ أفرادها بالتزي بالصوف لكونه أخشن الألبسة والتي تعطي فكرة عن الفقر. وعليه فقد ارتبط الصوف بالفقر، مع أن الكثير من مفكري الصوفية حاولوا وضع تعريفات لمعنى الصوفية- من الصفة (في المسجد النبوي)- الصف الأول في الصلاة- الصفاء وغير ذلك إلا أن ما اتفق عليه الباحثون أن هناك ارتباطا بين الملبس والإسم. وعلى العموم لم تقنن الحركة الصوفية ولم تخرج من المسجد إلا عندما بدأ أفرادها يربطون بين السماع- الموسيقى والرقص- الذكر من أجل تعزيز التجربة الصوفية والخروج من حالة «الصحو» إلى حالة «السكر» بشكل تجعل الصوفي مثل أبي يزيد البسطامي يتلفظ بكلام غير مفهوم إلا لأصحاب الذوق. ورغم شعبية الفكرة الصوفية إلا أنها طورت لغتها وإطارها النخبوي، فما يقال للعامة يختلف عن أحاديث الخاصة. ونعرف أن الجنيد البغدادي لام تلميذه الحلاج على كشف أسرار الخاصة. ومهما يكن فقد بنت الصوفية رغم ما تعرضت له من قمع وملاحقة من قبل الفقهاء فكرتها ودخلت مرحلتها التنظيمية والتي بدأت بعبد القادر الجيلاني الذي كان إماما وواعظا حنبليا في بغداد وطور أبناؤه حركته التي انتشرت بعد وفاته في كل أنحاء العالم الإسلامي وأصبحت أم حركات التصوف وعرفت باعتدالها مقارنة مع حركات أخرى بالغت في حفلات الذكر واستخدمت أصحاب الحيل ممن يمشون على النار ويغرزون السيوف في بطونهم وغير ذلك من المبالغات.
قرن الإحياء والتجديد
وعلى العموم فقد أصبحت الصوفية حتى بعد ابن تيمية الذي هاجم الطابع المتطرف فيها القوة المتسيدة في العالم الإسلامي. وحتى القرن الثامن عشر الذي يعتبر قرن الإحياء والتجديد كان الإسلام الذي فهمه الناس ومارسوه هو إسلام الصوفية لا إسلام الفقهاء. وهو ما دفع عددا من قادة الصوفية في مرحلة ما لإعادة النظر في مسار التصوف ومحاولة رده إلى المصادر الأصلية- الكتاب والسنة. وكانت الحركة التي بدأها محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر استثناء في هذا الإطار، فهي الوحيدة كما يقول الباحث الأمريكي جون فول من بين حركات التجديد التي شنت حربا على التصوف باعتباره «شركا». ولهذا كان تطور الوهابية واحدا من العوامل التي لعبت دورا في تراجع دور التصوف في العالم الإسلامي، لكن هل قضت الوهابية على الصوفية؟ الجواب لا.
وهو ما تحاول مجموعة أبحاث صدرت عن دار جامعة كامبريدج قراءته وتحليله. ففي «رفيق كامبريدج للصوفية» يقدم الكتاب الصادر حديثا مجموعة من المقالات حول تاريخ الصوفية وفكرها وأصولها الأولى والنساء الزاهدات في المرحلة الأولى من التصوف والطقوس والتفسيرات الصوفية الأولى والأخلاق في أدبيات التصوف الأولى. وفي الجزء الثاني يقدم «الرفيق» دراسات حول التحرر في أدبيات المتصوفة والحب الديني من رابعة إلى إبن عربي.
الصوفية والاستعمار
الدراسة الأخرى التي تقدم إضاءة عن وضع الصوفية في العصر الحديث هي التي أعدها نوط فيكور عن العلاقة بين التصوف والإستعمار. ويعترف الكاتب أنه من الصعب الحديث عن رد واحد قامت به الحركات الصوفية ضد التمدد الإستعماري في العالم الإسلامي. ويرى أن الإستعمار كان عاملا مهما في توثيق التراث الصوفي خاصة فرنسا في شمال وغرب أفريقيا. فقد أعد باحثون فرنسيون مرتبطون بالمؤسسة الإستعمارية دراسة إثنوغرافية مهمة حول طبيعة التشكيلات الصوفية في المنطقة. ورغم ثراء هذه الأدبيات إلا أنها تعبر في النهاية عن الرؤية الإستعمارية. وما يهم في النظرة الفرنسية هذه هي أنها تعاملت مع الطرق الصوفية «كحركات سرية» ولهذا تجب ملاحقتها والتدقيق في نشاطاتها. ولعل الملمح الأهم في تجربة الصوفية مع الإستعمار أنها صدرت عن تنوعات متعددة- مقاومة وأخرى تعايشت مع الإستعمار فيما حاول آخرون تجنب المستعمرين. وبهذه المثابة يقدم نوط أول تجربة صوفية مع الإستعمار وهي حركة الأمير عبد القادر الجزائري التي انتهى جهادها برحيل الأمير إلى دمشق. ولا يعتقد الكاتب أن المكون الصوفي لعب دورا في كفاح الأمير بل ظهر أثره لاحقا في المنفى. وفي السياق اتسمت تجربة الحركة التيجانية مع الإستعمار بالمهادنة في جزء منها وبالمواجهة في جزء منها. وهذا يتضح في حركة عمر تال (1794-1864) الذي مات وهو يقاتل الحكام المحليين في منطقته القريبة من السنغال. وقد تجنب عمر تال الإستعمار في البداية لكنه أجبر لاحقا على مواجهته. وفي السياق نفسه ظلت الحركة السنوسية التي أنشأها محمد بن علي السنوسي في الواحات الليبية وركزت على تعليم البدو تعاليم الدين، وأقامت زواياها على طرق التجارة بين الساحل الليبي وقلب أفريقيا السوداء. ولم يكن للحركة التي هادنت العثمانيين في أول أمرها أي اهتمام بالجهاد إلا عندما فرضه الإستعمار الفرنسي عليها في مناطق تشاد. ومن ثم دخلت الحركة في مواجهة مع الطليان ودفع السيد أحمد الشريف زعيم الحركة ثمن مواجهته مع البريطانيين في مصر حيث عاش في المنفى. ولعل الحركة السنوسية من الحركات الأولى التي دفعها الدافع الصوفي لمواجهة المستعمر الإيطالي. ودفعت ثمن هذا تدمير بنيتها وزواياها ورجالها. ولكنها تحولت لاحقا إلى دولة حيث حكم إدريس السنوسي المملكة الليبية كأول وآخر ملك قبل انقلاب معمر القذافي عليه عام 1969.
لم تقف مآلات الصوفية عند علاقتها مع الإستعمار بل وطرحت المواجهة مع الحداثة تحديات كبيرة عليها، فالدولة القومية الجديدة التي أنشأها مصطفى كمال أتاتورك عملت على قتل الدور الصوفي في البلاد. وفي الدول القطرية الحديثة نظر لبعض الحركات التي تعاونت مع الإستعمار نظرة شك. لدرجة جعلت المستشرق الإنكليزي إي جي أربري يترحم على الحركة الصوفية ويعلن وفاتها. وقد تعجل في هذا. صحيح أن حركة الحداثة الدينية رفضت الصوفية وطقوسها كما ورفضتها الدولة القطرية بشكل جعل من الصوفية الضحية التي تم ذبحها على مذبح الحداثة والقومية كما يقول أيتزاك وايزمان في قراءه لأثر العولمة على الصوفية، ويرى أنه من منتصف القرن التاسع عانت الصوفية، لكن العولمة منحت حياة جديدة للصوفية. وتقدم دراسة وايزمان الحركيات التي جعلت الصوفية تستعيد عافيتها فيما يناقش رون غيفز في مقالته عن الصوفية مواقف المستشرقين الغربيين من الصوفية الإسلامية حيث انكروا ان يكون للإسلام صوفية. وفرق بين التصوف والإسلام. وأشار غيفز إلى الحركات الصوفية «الروحانية» التي ظهرت في الغرب وأنشأها متصوفة مسلمون تحرروا من الشريعة كما في كتابات إدريس شاه والحركات الصوفية التقليدية التي واصلت تعاليمها كما في نشاطات الحركة النقشبندنية. وفي المحصلة يقدم كتاب كامبريدج حصيلة جيدة لتاريخ التصوف وحركته التاريخية، مشاكله وخروجه من أزماته بحيث يجعل من التصوف في كل أشكاله التقليدية والمتحررة من الدين قوة لا يمكن تجاوزها.
The Cambridge Companion to Sufism
Edited by: Lloyd Ridgeon
Cambridge University Press
Cambridge-2015/ 310 pages