ثمة سلطتين تنطلق منهما ليلى مهيدرة، الروائية المغربية، في كتابة روايتها (ساق الريح)، هما التعري أمام مرآة الذات والتحديق فيها بصبر وأمانة، والثانية هي عدم الرهبة من غلاظة أدوات النقد، أثناء ارتكاب فعل الكتابة وبوعي كامل.
هي المرة الأولى التي أتعامل فيها (في حدود قراءاتي المتواضعة) مع نص نسوي (رغم عدم قبولي لهذه التسمية) وأقف أمام امرأة تقبض بيد من حديد على أدواتها وتحمي نفسها من الانسياق خلف مشاعرها وتحصر حدود كتابتها الروائية داخل حدود الحواس، وهو شرط من بين أهم شروط الكتابة الإبداعية المحكمة، رغم اعتمادها لتقنية الميتاسرد أو الكتابة النرجسية التي تتمحور حول الذات وتتمركز حول الذاتي في أضيق صوره، كما في الرواية التي بين أيدينا (ساق الريح)، والتي تجعل من الأنا مرآة للتحديق في الذات وتفحصها عن قرب.
ليلى مهيدرة في رواية (ساق الريح) والصادرة عن مؤسسة الرحاب في لبنان عام 2014 ) تنفض عن الكتابة النسوية رداء تأنيث فعل الكتابة النسوية لتطلقها في فضاء الإبداع الحر دون تجنيس، ودون إدعاء قفز على المألوفات، التي صارت ـ وبالتراكم ـ دمغة أو صفة لأغلب الأعمال الإبداعية التي تنتجها الأقلام النسوية، في حقل السرد على وجه التخصيص.. كما إنها تركز على عرض صراع أنا الأنثى مع الوجود عبر مواجهتها بمرآة الذات، كأنا مطلقة خارج حدود هويتها الجنسية، قبل أن تكون ضمن حدود تلك الهوية وخصوصيتها.
وطبعا تعد تقنية التشخيص الذاتي من بين أهم اشتغالات وحفريات الميتاسرد، وتستخدمها ليلى مهيدرة بصيغة عين الكاميرا أو الإخراج، إذ تكون الذات الراوية راصدة لتحولات ولإنسلاخات وأوجه تمظهر أناها، التي تنجح في النهاية في الانسلاخ عن ذات الراوية ـ البطلة لترسم مصيرها بنفسها ووفق رؤيتها الخاصة.
إنها عملية النظر في الذات وتحولاتها من أقرب نقطة موازية ومعادلة (الأنا) في صيغة تمظهرها النرجسي... ولكن ليس الانفعالي المغرور والمبني أو النابع من رؤية الأنثى لشخصها، عبر رؤية الذكر لها كوسيلة إشباع أو كذات موضوع متعة، بل عبر صيرورتها كذات فاعلة ترسم مصيرها بذاتها ولذاتها، كجزء من منظومة الحياة والفعل الاجتماعيين.
رواية ساق الريح رواية شخصيات وتحليل وليست رواية أحداث وأفعال؛ وبالإمكان اختصارها بجملتين: روائية تختلق بطلة وترسل لها رسائل غرامية عن طريق الخطأ وتراقب تصرفاتها؛ وعندما تكتشف البطلة الأمر تقرر أن تمسك بزمام الأمور وتتحرر من الروائية وتلزمها ان تبقى آلة تصوير لا أكثر، لتجرب بنفسها عملية رسم مصيرها... والذي ينتهي بتسليم ساقها للريح واختفاء من على ساحل البحر أو غرقا فيه، بعد أن تحول إلى رفيق وأنيس وحيد لها.
روائية ورواية يذكرانا بالروائية البريطانية (فرجينيا وولف) في إلإشتغال بحرفية وصمت العمل على والحفر في جسد النص وله (العمل بعبودية، بتعبير فرجينيا وولف) وتتخذ من تموجات وتشوفات الأنا الأنثوية، في صراعها مع الوجود موضوعا لعرض ماهية الذات المجردة من وسائل الاتصال والتوصيل والإفصاح عن ذاتها وأوجه إقصاء وتهميش هذه الذات، وما عاد به أو أفضى إليه هذا الإقصاء والتهميش من التباس في الرؤية وطرق التعبير والتعامل والإفصاح لهذه الذات.. وكل هذا يأتي، مع ليلى مهيدرة، بإيقاع هادئ وغير منفعل ولا يتطلع لغير تأطير المشكلة وإضاءتها من أجل تحديد وتركيز الزاوية التي يجب أن ينظر من خلالها لهذه المشكلة.
ليلى مهيدرة تعتمد فكرة دأب النملة أو العمل بصمت وعبودية الإخلاص لما تشتغل عليه؛ ولهذا فإنها لا تسعى لتطوير منطقة اشتغالها بدراماتيكية أو ميلودرامية الحدث، بل ولا حتى بضخ الدراما، وإنما تعمد لتفكيك شخصية بطلة الرواية الوحيدة، وهي ذات الراوية التي تسلخها عن نفسها لتجعل منها مرآة لأناها، ومن ثم تحاول إضاءة جوانب إلتباس تلك الذات، بعد أن تعري تلك الجوانب أمام مرآتها.
المحفز الدرامي ـ وهو مدخل مسار حبكة الرواية ـ الوحيد الذي تعتمده ليلى مهيدرة، لإثارة رغبة المتلقي في نزال القراءة وسيرورة حبكة وثيمة الرواية، هو أربع رسائل حب ترسلها الراوية (البطلة) لأناها، بعد أن تفصلها عن ذاتها وتحاول أن تجعل منها مرأة لتلك الذات، قبل أن تتمرد تلك الأنا على الراوية وتسعى لرسم مصير آخر لنفسها، وعلى غير ما تشتهي البطلة / الذات، إذ كانت تحاول أن تحصرها ـ الأنا/الذات الجوانية ـ في أطر العادة أو المألوف الذي يحكمه المنطق ومنطق السيرورة المعيشة، وكما تؤكد الرواية هذا في الصفحة 53 (كم تمنيت أن تكون مجنونة ولو لمرة واحدة، أن تكسر كل القواعد وتتخطى كل الخطوط الحمراء، فنحن في زمن اللاحواجز، زمن نراهن فيه على اختراق كل الدوائر وتفجير الرغبات ولو على شوارع من ورق، وأزقة رسمت بحبر) وهذا هو الصراع الأزلي بين الأنثى وذاتها المكبوحة ومع المجتمع وإرثه الثقافي الذكوري الذي يمارس معها سلطة التهميش والإقصاء.
إن عملية فصل الذات أو نزعها وإحالتها إلى ذات مستقلة، من أجل محاورتها، ومن ثم محاكمتها ومحاولة قيادها بإتجاه المتمنى أو المرغوب وما يجب أن يكون، هي عملية الكشف عن وتشخيص سبب الخلل الذي مازال رابضا ويفرض سطوته؛ وهي أيضا طريقة إضاءة لموطن العجز الذي مازال يبحث عن وسائل إزاحته، في نفس الأنثى، ضد سلطة وسطوة ثقافة المجتمع ووسائل قهره للمرأة، وكما تصرح الراوية في حديث لنفسها في الصفحة 53 (كان الفنجان في يدها يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهي مغرقة في صمت مطبق حتى كدت لا أسمع أنفاسي... وكأنها هي الكاتبة وأنا بطلة الورق... كم تمنيت لو أتقمص شخصيتها (تقصد ذاتها المحررة من سلطتها) ولو للحظات فأمزق ورقة الأسف وأعلن تمردي على الشوارع، فأرتدي فستانا حريريا يحررني، وأنا على شاطئ مدينتي ورياحها العاتية، فأمارس لعبة التعري طبقا لقانونها، فأتمنع وأنا الراغبة، وأرتمي في حضن موج يجيد ملامسة الأنثى في داخلي).
الرواية تنتهي بتبدد أو اختفاء أو غرق تلك الأنا، وهي إشارة محكمة إلى المجهولية والغموض اللذان مازالا يكتنفان مصير الأنثى في مجتمعاتنا التي مازالت تصر على النظر للمرأة من موقع الدونية وعدم الأهلية، والروائية، التي قالت الكثير في أقل القليل (94 صفحة)، تضع نفسها وأناها قبل الجميع أمام حجم المأساة التي تعيشها المرأة العربية في كيانها الشخصي والاجتماعي وحريتها، دون اللجوء إلى أسلوب التوجع والتحسر الذي إنتهجته الكثير من الكاتبات العربيات، في حقل المسرود على وجه الخصوص، وهي بهذا تقرر أن من يجب أن يتولى عملية الدفاع عن المرأة وانتزاع وحقوقها إنما هي المرأة ذاتها، كذات وكيان وجودي وإجتماعي له وجوده الذي يجب أن يفرض على من يتعامى عن رؤيته أو يصر على تجاهله.
روائي وناقد