يساجل الباحث العراقي مجموعة من الأفكار السائدة حول «تضليل الرأي العام» في السفسطائيّة، وكيف يرى البعض أن اللوغوس اللغوي والفلسفي والأنطولوجي لديها مجرد انتهازية، مع أن السفسطائية أنجزت قطيعة أبستمولوجية وأنطولوجية هامة في تاريخ الفلسفة اليونانية، وأسست لـ«منطق نسبي تاريخي» في خطابها.

في بلاغة الانسان مقياس كل شيء

مقاربات ومنتخبات

حيـدر علي سلامة

تعتبر إشكالية الخطاب السفسطائي/ وبلاغته في راهن القول الفلسفي، واحدة من أعقد الإشكالات الفلسفية. لما يكتنفها من حالات من الغموض والالتباس على المستويات التالية: التنظير الأبستمولوجي؛ والميتودولوجي(المنهجي) واللساني (التداولي)، مما انعكس سلبا على أغلب الدراسات والمؤلفات في مجال وحقل الخطاب الفلسفي، وأدى الى سيطرة النزعة الأرثوذكسية/ السلفية في البحث والكتابة، في كل مرة يجري فيها تناول تاريخ الفلسفة السفسطائية. ربما يعود هذا في أحد أهم أسبابه، إلى "سياسيات النهل الارتكاسي" من مصادر معلومات مألوفة وغير نافدة الصلاحية، تمثل المقاييس والمعايير السائدةstandards / norms لمجمل الأخطاء الأكاديمية الشائعة/ والمتداولة في دراسة وتحليل بنية ومفاهيم ومنهج هذه المدرسة الفلسفية اللسانية.

ومن بين أكثر تلك الأخطاء الفلسفية المألوفة التي يمكن تشخيصها وملاحظة تكرارها بطريقة دورية مسستمه ومُحكمة، هو "ضرورة التلازم الأيديولوجي" لهذه الفلسفة مع كل ما له صلة بمنطق التلاعب بالألفاظ؛ والخداع الخطابي؛ والإغواء الذهني. وذلك في ضوء عدة اعتبارات منها انها فلسفة تهدف إلى الإيقاع بالخصم وتضليله، لأنها استندت على منطق اللغة اليومية النسبي والحجاج البلاغي الاقناعي. فهي تسعى بذلك، إلى خلق حالة ذهنية شواشية لدى المتلقي/ والمخاطَب، ومن ثمة، تخلق بينه وبين جوهر الحقائق المطلقة والكاملة فجوة كبيرة.

فحينما نطالع كتاب الأستاذ الدكتور "كلود يونان" الموسوم بـ(التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي العام "الحركة السفسطائية نموذجا"، بحث في فلسفة التضليل الكلامي الدعائي الإعلامي السياسي)، سنلمح كيف جرى اعتبار تلك الفلسفة "الأساس الجينالوجي" لتاريخ التضليل الإعلامي والكلامي. فمن خلال محاولة الباحث وبطريقة ميتافيزيقية وسحرية، التأسيس لتاريخ التلاعب الإعلامي والميديائي المعاصر على الخلفية التاريخية لهؤلاء المنبوذين-أي السفسطائيون- حتى من قبل اليونانيين أنفسهم. سعى الباحث إلى تشكيل حفريات مؤدلجة بهدف تدليس وتلبيس الحقائق، وذلك لغرض ابتكار مرحلة تاريخية هجينة للخطاب السفسطائي تتأسس على كتابات غورغياس والذي عده الباحث واضع قوانين: «التضليل السيكولوجي عندما كشف ازدواجية الشعور في النفس. وواضع قواعد التلاعب به وتوجيهه بواسطة اللوغوس الكلامي. أما بروتاغوراس، زعيم الحركة السفسطائية، فهو المساهم في تأسيس التضليل الكلامي الموجه إلى العقول، الذي استعمل الجدلية الكلامية التي تقوم على البهلوانية اللفظية والقياسات المموهة التي لا تثبت شيئا، غايتها الإفحام والتسلط، باستعمال قوة الكلام. وجدلي: الانتيلوجي "القائمة على الخطاب الكلامي المزدوج المعاني، فحول كل شيء يوجد خطابان يتناقض واحدهم مع الآخر. وهنالك الكثير من طرق التضليل التي أسسها السفسطائيون. ان "الدعاية الإعلامية" تقوم على أساسات فلسفية عريقة بجذورها في الفلسفة السفسطائية، حيث نجدها عند السفسطائي غورغياس الذي أسس منظومة فلسفية متكاملة، حول "الدوكسا" أي الرأي، وعلاقته "باللوغوس الكلامي" والذي استقر أناه من خلال الآليات القووية (التي تستعمل القوة) التي مارسها اللوغوس الكلامي على الرأي ليضلله ويقوده. وقد سميت هذه الطريقة "البسيكاغوجيا" أي "فن قيادة النفوس"، بواسطة الإقناع الكلامي؛ وهي من أهم وسائل الحرب السيكولوجية المستعملة بشدة في عصرنا الحالي». (د. كلود يونان: المصدر نفسه، دار النهضة العربية للطباعة والنشر-القاهرة، الطبعة الأولى،2011، ص18-19).

نلاحظ من خلال النص أعلاه، كيف تشكلت حالة التلازم الايديولوجي بين ظهور الفلسفة السفسطائية وبين تحول الخطاب الميديائي من مرحلة "الطهر الإعلامي الأفلاطوني" إلى مرحلة "الدنس الإعلامي السفسطائي/ النسبي". وبسبب غياب الأبعاد التاريخية والسوسيوثقافية في معالجة قضايا إنتاج الرأي العام وسياسيات تضليله من جانب المؤسسات الإعلامية صاحبة الدعم المادي واللوجستي له رسميا، راح باحثنا يصب جم غضبه على تاريخ الفلسفة السفسطائية التي عدها هي السبب الكامن وراء خروج "إعلامنا" من جنة دلمون المقدسة. ونتيجة لذلك، جرت عملية تنزية متكاملة شملت الجهات الإعلامية/ الميديائية ومجمل برامج التشويه اليومي التلفازية والاذاعية؛ ناهيك عن الحروب النفسية ذات الصلاحية المستمرة والمستعملة في غسيل أدمغة المتلقي. فهذه المؤسسات –بحسب وجهة نظر الباحث- كان يمكن لها ان تستمر في أداء وظائفها بمعزل عن منطق "الكون والفساد المتحول"، لولا ظهور "الفلسفة السفسطائية" التي لوثت طهارة تلك "المدن الإعلامية الفاضلة" التي ربما كانت تعمل بواسطة الأقمار الصناعية الأفلاطونية الميتافيزيقية المعقلنة عبر التاريخ!!

ويستمر الباحث في عملية تأصيل تاريخ أشكال "تضليل الرأي العام". ليصل إلى نتيجة مفادها أن "السفسطائية" كانت هي المؤسِسِة للمبادئ الأولى في منطق إنتاج الخدع الإعلامية والأشهارية - فكأنها بذلك هي الأسبق على طروحات الفيلسوف الفرنسي بودريار في التكنولوجيا (اللامادية) المستعملة في حرب الخليج- حيث يرى: «أن السفسطائي غورغياس كان له الفضل في وضع النظريات المهمة في علم الأستراتيجيات من حيث الآليات الصراعية غير المادية، لقد تكلم على  الحرب الموجهة إلى الأعداء من خلال التهويل أو الإغواء بواسطة "اللوغوس الكلامي". كما تكلم عن آلية إرهاب العدو بواسطة المشهد والصورة. وعدّ ذلك أسسا لفلسفة انتهازية الزمان والمناسبة والاستفادة من الفرص السانحة»(المصدر نفسه، ص19). فهل نحن إزاء حرب أفلاطونية جديدة ضد السفسطائية، يتحول وفقا لها "منطق اللوغوس الكلامي الفلسفي والأنطولوجي في تاريخ الفلسفة اليونانية إلى مجرد صور للإغواء والانتهازية؟ ثم لماذا ركز الباحث على تشويه "منطق اللوغوس" الذي يشكل القاعدة السوسيوسياسية؛ والسوسيولسانية لفلسفة الخطاب السفسطائي؟

ربما أن تأثير الفلسفات الأفلاطو-أرسطية امتدّ من القارة الأوروبية ليصل ويتغلغل بين طيات أبحاثنا الأكاديمية العربية بشكل كبير، وهذا ما بدا واضحا في لغة الباحث. حيث نلحظ بين الحين والآخر حضورا لتلك الفلسفات، من خلال عقده لمقاربات فلسفية لا حصر لها بين الاقانيم المثالية والقيّمية للفلسفات الأفلاطو-أرسطية الواحدية المنزهة والمتعالية عن كل ما هو "سفسطائي حسي/ نسبي" وغريب بالضرورة عن الخطاب السياسي لمدينة أثينا المقدسة والمسورة بحقائق أفلاطون السياسية المطلقة؛ وبفلسفة الأخلاق الارسطية المعيارية. بل ونلحظ ايضا، أن كتاب أ. كلود يونان وعلى مدار فصوله، كان غزيرا في عرض مختلف الصفات والخصائص السلبية التي أُلصِقت جزافا بالسفسطائية. ولنتأمل في هذا النص المفتقر للدقة والموضوعية من النواحي التاريخية والفلسفية، حينما يعتبر الباحث: «أن فلسفة التضليل عند بعض الاتجاهات السفسطائية شكلت احد أهم المحفزات التي ساهمت في الإنتاجية الفكرية عند أفلاطون وأرسطو، وهذا يخولنا القول بأن هذه "الفلسفة" نهضت تنظيرا وسلوكا لدى زعماء الحركة السفسطائية: بروتاغوراس؛ غورغياس، وايزوقراطس، مؤسس المدرسة "الأسكراتية". وهذه الحركة كانت في صدام فكري مع التيار السقراطي الأفلاطوني الأرسطي. ومرده، ذلك التناقض في الآراء والأفكار والمسلكيات، والتضارب في الآراء بين سقراط وتلاميذه، وبين السفسطائيين مؤسسي فلسفة التضليل السياسي، الهادفين إلى السيطرة والتسلط على الشعب في البولس-المدينة "polis" اليونانية. أنهم "باعة علم الكلام" و"تجار الحقيقة"، "وباعة المعرفة"، "الذين مزجوا لحق بالباطل"، "وزيفوا الحقائق"، "وأبرزوا البهتان بثوب الحقيقة"، "أنهم المتملقون، المداهنون، المغالطيون، النفعيون، المخاتلون، المخادعون، المتكيفون، المتقلبون، الذين شوهوا الأخلاق واحلوا منهج اللاعقلانية محل العقلانية، والذين تلاعبوا بعواطف الشعب وبمصيره. كل هذه الصفات أطلقها أفلاطون وأرسطو على زعماء هذه الحركة وتلامذتها. هذا يعني أن فلسفة التضليل كانت المحفز الأساسي لنشوء الفكر الفلسفي عند أفلاطون وارسطو الذي مر بالمراحل الآتية: مرحلة الكشف عن "فلسفة التضليل" التي مارستها الحركة السفسطائية. وتضمنت فضح هؤلاء وكشف قواعد التضليل لديهم؛ مرحلة دحض هذه القواعد وتفكيك آليات التضليل ومناهجه المستعملة من قبل هؤلاء؛ مرحلة المواجهة، وقد بدأت عندما وضع أفلاطون وارسو القواعد المعرفية والمنهجية والأخلاقية الثابتة لمواجهة فلسفة التضليل. ورمت قواعد الأخلاق التي وضعها أفلاطون إلى مواجهة المبادئ اللاأخلاقية، التي اعتنقها السفسطائيون ومارسوها»(المصدر نفسه، ص 19-20).

اشتملت لغة النص أعلاه، على حالة من "التمويه والتضليل التاريخي" لطبيعة الخطاب السفسطائي. فعندما جاءت على عرض أهم المراحل التي مرَّ بها هذا الخطاب، نلاحظ كيف تعاملت معها تارة بوصفها نظام فلسفي واحد ينبغي مواجهته وتفكيكه؛ وتارة أخرى تصنفها بطريقة اعتباطية غير دقيقة وواضحة بما يكفي من أجل تحديد جينالوجيا فلسفة أجيالها المبكرة والمتأخرة. أضف إلى أن الباحث لم يأتِ على عرض تحليلي واف يعرض لنا فيه ما ارتكبه "السفسطائيون" من أخطاء تاريخية أدت إلى مثل هذه العواقب الوخيمة. وهنا ينبغي علينا أن نتساءل، ما هو نوع وطبيعة التضليل الذي قصده الباحث؟ ومن هم المنتجون لمثل ذلك التضليل في تاريخ الفلسفة اليونانية؟ هل هم أولئك الذين فصلوا بين النظرية والممارسة وخطاب المدينة وعلاقته بالكائن الإنساني، كما هو الحال عليه في الفلسفات الأفلاطونية والأرسطية؟ أم هم من سعوا –أي السفسطائيين– إلى إعادة الاعتبار إلى "فلسفة المادية البراكسيسة" واكتشاف "النظرية السياسية" في بنية التواصل اليومي في المدينة بعدما كانت محض تصورات نظرية ميتافيزيقية تجريدية؟ وهل يمكننا العثور على أصول أشكال التضليل عند السفسطائي المبتكر لخطاب الثقافة النسبية ونسبية الثقافة ونقد وتعرية وتفكيك القيّم الأيديولوجية التي كانت مسيطرة آنذاك، خاصة مع استمرار عملية إنتاج العبودية بواسطة نظرية تقسيم العمل الأفلاطونية إلى ما هو ذهني وفيزيائي، والتي تخدم، في نهاية المطاف، سلطة الطبقات السياسية المسيطرة في أثينا؟ وهل في الامكان ان تتأسس أصول التضليل والتمويه والخداع مع السفسطائي الذي سعى إلى تطبيق قانون "محو الأمية" في أثينا من خلال تعليم "العامة من اليونانيين" التقنيات الخطابية في البلاغة والحجاج القائمة على وسيلة الإقناع، تلك التقنيات النافعة والمثمرة على مستوى الحياة اليومية بكل ما تخلفه لهم من هموم وقضايا ومشاكل إنسانية آخذة في التعقيد والتي رافقت التحولات السياسية والاقتصادية في الحضارة اليونانية، فكان عليهم أن يتعلموا كيفية الدفاع عن حقوقهم المهدورة والمصادرة في ظل سيطرة منطق اللغة النخبوية المسيطر؟ وهل تبدأ سياسة التضليل مع من يعمل –مثل أفلاطون وارسطو– على تثبيت سلطة الدولة وتأسيس إيديولوجيتها على أسس ميتافيزيقية/ أخلاقية/ قانونية قسرية مطلقة وقارّة وأبدية، لا تخدم سوى طبقة الساسة والملوك ومن لفّ حولهم؟ أم مع السفسطائي الذي نادى بضرورة التأسيس "لمنطق نسبي تاريخي" في الخطابات السوسيوسياسية؛ والسوسيوثقافية؛ والسوسيولسانية/ ولغوية؟ ومن يضلل العامة، هل هو ذلك الذي يفرض عليهم الخضوع بدون جدال لمبادئ المثل العليا، ومن يستخدم وسيلة العنف بواسطة "سساتيم لا مرئية" مشرع لها دستوريا وقانونيا، ويأتمر الجميع إليها بالضرورة على الطريقة التوتاليتارية –حسب ارندنت–؟ أم هو ذلك السفسطائي الذي حول مسار الخطاب الفلسفي وانعرج بتاريخ الانطولوجيا الغربية بعدما كانت منسية جراء سيطرة الفلسفات التجريدية من الأفلاطونية والأرسطية؟

إن طبيعة لغة الباحث كانت متوقفة عند حدود المنطق الصوري. لهذا، نلاحظ كيف تمّ تغييب ومصادرة أهم انجازات الخطاب السفسطائي الفلسفية واللسانية والتداولية.. الخ. وذلك لأن: «السفسطائية استخدمت في خطاباتها السياسية أسلوب الجدل التضليلي، الذي لا تبتغي منه المنهجية الرصينة، أو علم المنطق المؤديين إلى الحقيقة. بل جدل يراد به التضليل والتدليس والخداع والتمويه وسائر ضروب الغش. جدال يتلبس أشكال المنطق. ليست الجدلية السفسطائية بعلم، إنما هي مهارة وحرفة وبراعة، تهدف إلى التنافس والتجادل والتبارز، والتبرير من اجل التغلب على الخصم، ومضايقته والاستهزاء به. إن الجدل لدى بعض الاتجاهات السفسطائية، تم التطرق إليه ليس بهدف إنشاء منظومة منطقية متكاملة ومتناسقة، إنما في سياقات استخداميه وانتهازية، وتوظيف بعض القواعد المنطقية في خدمة "البلاغة" و"الفصاحة" و"الإقناع" و"المجادلة" التي تهدف إلى التضليل من أجل الانتفاع والنجاح والتسلط في المجتمع والسياسة»(المصدر نفسه، ص27).

من بين ما يثيره النص أعلاه من أسئلة إشكالية، هل نحن أزاء بحث أكاديمي فلسفي موضوعي؛ أم بحث سلفي أرثوذكسي النزعة انطلق بنا من مسلمات مطلقة/ ومقدسة إلى حد الدوغما القطعية حول أصول التضليل السفسطائية المزعومة، ومن ثمة، بطلان الخطاب السفسطائي برمته؟ فلماذا غابت مناهج التحليل اللساني والابستمولوجي واللغوي بهدف إعادة قراءة تاريخ هذه الفلسفة كما هو حاصل في راهن الخطاب الفلسفي الغربي؟ ولماذا كان هناك استناد واضح للباحث على مصادر ثانوية لا يمكن اعتبارها مراجعا موثوقا بها من الناحية التصنيفية والمنهجية؟

إشكالات اللوغوس والخطاب في الفلسفة السفسطائية
عند مطالعتنا تحديدا لبعض المفاهيم الأساسية في كتاب الأستاذ يونان، نلحظ وجود حالة من عدم الضبط الاصطلاحي وغياب الدقة المفاهيمية، وبالتالي افتقار لغة الباحث إلى ملامح منهجية واضحة ومحددة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما جاء الباحث على عرض مفهوم "اللوغوس" واستعمالاته وبنية وظائفه الفلسفية عند السفسطائية، لم يعمل على تقديم سرد تاريخي وفلسفي/ ابستمولوجي/ اصطلاحي لمسيرة وتحولات هذا المفهوم بدء من الإرهاصات الأولى لتشكله في الفلسفة اليونانية حتى مرحلة تفكيك تاريخ اللوغوس في الانطولوجيا الغربية التقليدية على يد كل من: نيتشه وهيدجر إلى جانب الدارسات اللسانية والأنتروفلسفية الجديدة. نتيجة لذلك، لم يسلط الباحث الضوء على القطيعة الابستمولوجية واللسانية التي أحدثتها الفلسفة السفسطائية مع مفهوم اللوغوس الأفلاطو-أرسطي. فمثل هكذا مقاربات فلسفية لم يكن لها حضورا في بنية الكتاب برمتها. ومن ثمة، لم يسعى الباحث نحو عرض هذا المفهوم بوصفه مفهوم متصل غير منفصل عن مجمل أبحاث الفلسفة السفسطائية، بدء من مبحث الوجود، مرورا بعلوم السياسة والأخلاق وتاريخ الانطولوجيا القديمة في الفلسفة اليونانية.

لهذا، علينا أن لا نصاب بالدهشة لعدم حضور مصطلحات أمثال مصطلح "الخطاب" ومناهجه التحليلية والنقدية" على مدار صفحات وفصول الكتاب. ربما لأن الباحث، لا زال يتعامل مع الفلسفة بوصفها تمثل مرحلة ماقبل الخطاب/ واللغة والتداوليات اللسانية/ التواصلية الجديدة، في حين إن بنية الخطاب السفسطائي أصبحت: ((تعكس الصورة المقلوبة لصنوه وغريمه الأبدي، أي لكل من أفلاطون وأرسطو اللذان طالما فكر كل منهما من داخل الإطار الأونتو-لوجي onto-logie، أي ضمن أطار الكلام الذي يُحمل أولا وأخيرا على مفهوم الكينونة être دون سواه. فالكينونة سابقة بدورها على اللغة التي هي مسكن الانكشاف. فمن خلال استنادهما على هذا المفهوم فهم قد حددا الكلام بـ"التحدث عن شيء ما"، ومن ثمة، لم يضعوا بعين الاعتبار أشكال اللغة الأخرى، على سبيل المثال، الخطب العامة وطرق الإقناع persuasion وغيرها ممن الأشكال التي نتداولها في حياتنا اليومية، حيث تغلب الفاعلية وكفاءة الأداء في الواقع على سؤال الحقيقة فيكون مراعاة التواصل العلائقي أهم بكثير من محتوى أي خطاب. إذن، إن أحد أهم سمات الخطاب السفسطائي هو تدشينه لمفهوم الممارسة والتفكير بتلك الاشكال البلاغية/ التداولية التي طالما نبذتها الأنطولوجيا الأفلاطو-أرسطية ورمت بها في لجة العدم. لأنه وفقا لهذه الانطولوجيا، طالما كانت تحمل كل كلمة من الكلمات "جوهرا متعاليا" فأنه بالضرورة سيكون لكل واحدة من هذه الكلمات معنى. وهذا ما يلخص ذلك الرسوخ الأساسي للغة في الأنطولوجيا (وفي نطاق الفلسفة الأرسطية وذلك تحت ذريعة عدم الانزلاق في الأقيسة الفاسدة واللغو السفسطائية). فمع السفسطائية أصبح الكلام يمثل وجودا -في- العالم، وهذا ما طبع التفكير الفلسفي بما ندعوه في القرن العشرين بالمنعرج اللساني "linguistic turn")). Barbara cassin,la sophistique,sciences de linformation et de la communication,p29

يتضح من النص أعلاه، ان هناك علاقة جدلية وتاريخية تم السكوت عنها في نص الباحث، ونعني بها هنا: العلاقة المفقودة بين كل من: اللوغوس/ والخطاب/ والوجود. حيث لاحظنا ان الباحث لم يكن مهتما بإشكالية القطيعة الأبستمولوجية/ والأنطولوجية/ والمعرفية التي شكلها الخطاب السفسطائي في تاريخ الفلسفة اليونانية، بل إن الباحث لم يهتم أيضا بقضية تسليط الضوء على لحظة المنعرج الأنطو-لساني، الذي تم تدشينه مع السفسطائية وليجري إعلان ميلاد مختلف لمفهوم الأنطولوجيا القديمة.

والسؤال الذي نود طرحه هنا: لماذا اخذ مفهوم اللوغوس معناً أرثوذكسيا واحديا مرتبطا بأشكال منطق التلاعب؛ والتملق؛ والتضليل والسيطرة على عقول الناس، بصورة متلازمة مع فلسفة السفسطائيين في المؤلف أعلاه؟ هل لأن يعود ذلك لوجود "تأويل حرفي" مطلق للوغوس تتحدد من خلاله أشكال ذلك المنطق؟ ثم كيف لمفهوم "اللوغوس" أن ينفصل عن اللغة ومتداوليها في انطولوجيا الحياة اليومية؟ وكيف انفصل اللوغوس عن الوجود ليغدو مجرد "شعار إيديولوجي" استعمله الباحث لغرض فرض أحكامه المسبقة بهدف الإعداد لعملية "تحريف جديدة" تُضاف إلى سلسلة تاريخ تشويه الخطاب السفسطائي؟

ولماذا صمت "لوغوس الجامعة وأساتذته" عن كشف آليات التضليل والدوافع الأيديولوجية الخفية لدى الباحث، والرامية إلى إضافة دفعة تحريفية جديدة للخطاب الفلسفي السفسطائي، عوضا من إعادة قراءته واستنطاق المسكوت عنه. هل لان الخوض في "الفلسفة السفسطائية" لا زال يشكل "تابو محرم" في الفلسفة العربية عندنا، لا يصح تناوله وإعادة قراءته بالدرس والتحليل في كبرى مشاريع الثقافة العربية عامة والفلسفية خاصة؟

موقف أفلاطون من بلاغة التفلسف السفسطائي
اتضح لنا من خلال تحليلنا وقراءتنا لمؤَلف الأستاذ الدكتور "كلود يونان" والموسوم بـ(التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي.. الحركة السفسطائية نموذجاً)، انه تضمن على كثير من الاشكالات الميتودولوجية (المنهجية)؛ والسوسيولسانية والسوسيوثقافية، المتأصلة والمزمنة في طرائق شرح وتحليل بنية النظام الفلسفي/ اللغوي/ المنطقي في الخطاب السفسطائي وتاريخ أجياله، والذي أنتج نظريات فلسفية ولسانية تختلف تماما عن النظام الفلسفي والكوسمولوجي للفلسفة الأفلاطو-أرسطية. لهذا، نلحظ أن اغلب الكتابات الأكاديمية/ واللسانية والثقافية العامة، لم توفق في إعادة تقويم وتقييم بنية الخطاب البلاغي في الفلسفة السفسطائية حيث ظلت أيديولوجيا الاحكام المسبقة مسيطرة تماما على اغلب ما يُنشر ويُكتب حول تلك الفلسفة، لتصل بنا في نهاية المطاف الى ذلك الاستنتاج الثابت والراسخ بسيطرة الميتافيزيقا الأفلاطونية في كل مرحلة تقويمية من تلك الكتابات.

من هنا، نلمح على "طبيعة المنشور الثقافي السائد" حول الفلسفة السفسطائية ونظرياتها الأبستمولوجية والأنطولوجية في البلاغة واللغة والنظرية السياسية وفلسفة القانون، سيادة لنزعة تجزيئية تفصل بين تاريخ العلاقة الإشكالي لكل من: نظرية المعرفة/ ونظرية البلاغة؛ وبين نظرية البلاغة ونظرية العدالة؛ وبين نظرية العدالة ونظرية الحجاج البلاغي. لدرجة نجد فيها ان كثيراً من الباحثين يطرح نظرية البلاغة في الفلسفة السفسطائية دون أن يعير ادنى أهمية واهتمام لطبيعة التداخل التاريخي والأبستمولوجي بين البلاغة ومفهوم نسبية الطبيعة البشرية الذي انعرج مع تطور المنهج الشكي اللايقيني عند السفسطائية التي طالما اعترضت على المفاهيم الأفلاطو-أرسطية المكرسة لاقانيم فلسفية ابدية وخالدة، كمفاهيم الحقيقة المطلقة والخير المطلق والحق المطلق والتي شكلت البؤرة الأساسية لإعادة اختبار نظرية العدالة والسياسة عند كل من افلاطون وارسطو في الخطاب السفسطائي انطلاقا من نظريتهم الجديدة في البلاغة والحجاج البلاغي. بعبارة أخرى، ان الخطاب السفسطائي كان خطابا يقف بالضد من الخطاب الذي كان يسعى إلى إعادة انتاج أنماط العبودية والامتثال الأعمى لسلطة معايير القانون السائدة norms المتمثل في بنية الأنظمة الفلسفية لأفلاطون وارسطو. هذا يعني ان مفهوم البلاغة عند السفسطائيين ظل يعمل ضد أي سلطة ممكنة وقابلة لان تتحول الى نسق شمولي مطلق يتألف من مجموعة من القواعد والأنظمة القانونية التي تنتج/ وتعيد إنتاج ذهنية الطاعة العمياء للغة القانون الوضعانية والميتافيزيقية بالضرورة. وما يدعو الى الدهشة، اننا نلاحظ ان طرح هكذا إشكالات فلسفية متداخلة ومتعددة المناهج والاطر المعرفية والسوسيوثقافية لا زال غائباً ومغيباً في كتابات بعض المختصين والباحثين سيما المشتغلين منهم في الخطاب الفلسفي عامة والخطاب اللساني ونظرية البلاغة وتحليل الخطاب النقدي خاصة، وقد مثل كتاب أ. كلود يونان المذكور أعلاه، الخطاب الفلسفي بامتياز. وسنحاول هنا ان نستعرض دراسة الأستاذ الدكتور عماد عبد اللطيف الموسومة بـ(موقف افلاطون من البلاغة) باعتبارها تمثل الانموذج اللساني المقترح في البحث والدراسة والتحقيق.

في دراسته الآنفة الذكر، حاول أ. عماد عبد اللطيف إعادة تقويم تاريخ البلاغة واشكالاته الفلسفية من خلال موقف افلاطون إزاء الخطاب السفسطائي، سيما في محاورة (بروتوجوراس في السياسة)، مؤكدا على طبيعة التلازم المنطقي بين جدل البلاغة والسلطة، وكأنه بذلك يُعيد الى الاذهان من جديد طروحات كتاب (التضليل الكلامي) الأيديولوجية حول الخطاب الفلسفي عند السفسطائيين لدى أ. كلود يونان. فلم يختلف الأثنان من حيث المنهج والرؤية والنقد الفلسفي الموجه الى بنية الخطاب البلاغي ونظام اللوغوس اللساني والمنطقي الذي لم يشغل حيزا كافيا لدى كل منهما. وهذا يعود الى سيطرة "لغة بحث وتحقيق واحدية "، فأذا كان اللوغوس عند أ. يونان ظل مجرد انعكاس ميكانيكي وحتمي للبنية التحتية لأيديولوجيا التضليل في الخطاب السفسطائي، فأن مفهوم البلاغة السفسطائي عند أ. عبد اللطيف بقي مرتبطا بسلطة التضليل السياسي والتضليل القيّمي أو الأخلاقي الذي عمل افلاطون جاهدا على تفنيدها ونقدها وتعريتها بوصفها بلاغة تمويهية تعد من أسوء أشكال البلاغة السياسية والتعليمية والعملية –بحسب أ. عبد اللطيف–. ولنطالع تعريف جورجياس لمفهوم البلاغة باعتبارها: «القدرة على اقناع الناس بواسطة الحديث؛ القضاة في محاكمهم، والشيوخ في مجلسهم، وفي الجمعية العمومية، وكذلك في كل اجتماع آخر يجتمع فيه المواطنون". ويحدد في الفقرة ذاتها هدف هذه البلاغة بأنه السيطرة على هؤلاء المخاطبين ’وتسخيرهم’ لمصلحة حائز هذه البلاغة؛ أي "انت يا من تعرف كيف تتكلم، وكيف تقنع الجماهير". وقد وافق بولس وكاليكاليس جورجياس على التعريف والوظيفة اللذين يقترحهما للبلاغة، بل وصل ثانيهما الى حد القول بأن البلاغة هي التي تضمن اخضاع الضعفاء لسيطرة الأقوياء. يمكن القول، وفقا لتعريف جورجياس السابق، ان البلاغة التي ينتقدها افلاطون في ’جورجياس’ هي نشاط (تعليمي، وعملي) يمكّن من استخدام الكلام أداة للسيطرة والإخضاع؛ أي أداة للاستحواذ على السلطة وممارستها. وقد لاحظ موري ان محاورة ’جورجياس’ تدور بأكملها حول موضوع ’السلطة’.. ويرى موري ان دفاع السياسة الفعالة في البرلمان والمحاكم، والسيطرة على جمهور الجاهلين بواسطة الأقناع. وكذلك التحكم في أفعال المتخصصين المهرة؛ مستشهدا بأمثلة جورجياس التي يصرح فيها بأن الطبيب ورجل المال يصبحان عبدين للخطيب الذي يمكنه ان يحكم الاخرين في المدينة. ويخلص الى نتيجة مؤداها: ان حيازة السلطة تمثل الخاصية المميزة للبلاغة التي يعلمها جورجياس، وان البلاغة التي تفقد السلطة العامة ليست هي البلاغة التي يدرسها جورجياس. لكن حيازة السلطة ليست دائما عمل شريرا. ومن ثم فأن’عداء’ أفلاطون للبلاغة لا يبرره كونها أداة للاستحواذ على السلطة فحسب بل يرجع أولا، الى ما تتبعه من سبل للاستحواذ عليها. وثانيا، الى طبيعة هؤلاء الذين يحوزون السلطة بواسطتها». (د. عماد عبد اللطيف: موقف افلاطون من البلاغة من خلال محاورتي "جورجياس" و"فيدروس"، مجلة جامعة الشارقة للعلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 5، العدد 3، اكتوبر2008، ص 230-231).

يكشف لنا النص أعلاه، كيف ان لغة الدراسة لم تأخذ على عاتقها إعادة اكتشاف العلاقة المنطقية والأبستمولوجية بين كل من: البلاغة والعدالة والخطاب السياسي، الى جانب فلسفة الأخلاق وقيم الثقافة النسبية في الخطاب السفسطائي. وقد بدا ذلك الإهمال واضحا من خلال عنوان الفقرة التي افتتح البحث بها قراءة مفهوم البلاغة عند جورجياس والمعنونة بـ"نقد البلاغة السياسية" وهذا يعني ان البحث سوف يتجه صوب إعادة تشكيل العلاقة الغائبة والمغيبة، ونعني بها تلك العلاقة القائمة بين البلاغة والنظرية السياسية ونظرية العدالة عند السفسطائيين عامة وجورجياس خاصة. لكننا على العكس من ذلك، رأينا ان لغة الباحث كانت تسير باتجاه تشكيل مقاربات فلسفية تشير الى سيطرة شكل أيديولوجي/ سلطوي واحدي للبلاغة تشكلت ملامحه الجينالوجية على يد بروتوجوراس، جاعلا من رأي الكاتب "موري" حول سلطوية البلاغة في الهيمنة والأقصاء في "محاورة جورجياس" الأساس الفلسفي والتاريخي لطروحاته. وهذا ما يُعيد الى الاذهان مرة أخرى، نمط الاكتفاء الذاتي في استعمال المصادر والمراجع المتعلقة بتاريخ الفلسفة السفسطائية، ذلك النمط الذي تسود فيه النزعة الانتقائية الموجهة لإبراز أغراض أيديولوجية معينة، كما مرَّ بنا سابقا مع أ. كلود يونان في كتابه المذكور سابقا. وقد توضحت آثار سيطرة تلك النزعة من خلال الآراء المطروحة في الدراسة حول شكل البلاغة السياسية التي انتقدها افلاطون في محاورة جورجياس، وهي البلاغة المرتبطة بالنشاط التعليمي والعملي، والتي تحتاج الى وقفة تحليلية وتاريخية تخص جملة من القضايا والاشكالات المتعلقة بالنشاط التعليمي/ والعملي، فهل ثبُت تاريخيا ان ذلك النشاط تحدد وبشكل حتمي بإنتاج/ وإعادة انتاج "استخدام الكلام كأداة للسيطرة والإخضاع"-حسب رأي الباحث-؟ وهنا يمكننا أن نلحظ ونشخص أيضا، غياب الابعاد الفلسفية واللغوية التي أدت الى إفراغ نظرية البلاغة السفسطائية من مفاهيم اللوغوس والحجاج وفلسفة النحو والخطاب، أضف الى فلسفة اللغة ونظريات التواصل التي جرى تدشينها مع ظهور هذه الفلسفة التي بشرت بخطاب قيمي/ أخلاقي وتعليمي نسبي، تلك الابعاد والمفاهيم والنظريات التي عمل على تأريخها وإعادة قراءتها وتأويلها المؤرخ والفيلسوف الالمانيWerner Jaeger (1888-1961) في مؤلفه الشهير بايديا (paideia…la formation de l’homme grec). حيث نجد مع هذا المصنف الفلسفي ان فلسفة التعليم والبلاغة عند بروتوجوراس لم يكن الغرض منها انتاج كتلة تاريخية سلطوية تسيطر على ذهنية العامة من خلال اللغة وآليات انتاج الكلام السحري الإغوائي، بل على العكس من ذلك تماما، إن بروتوجوراس: «لم يأت على وصف التعليم الشخصي/ النخبوي، وانما انشغل بالتعليم/ التربية التي ينتفع به، في اعلى مراتبه، جميع الاثينيون والاستغناء عن المدارس الخاصة المنتشرة في المدينة آنذاك. كان ذلك الانموذج من التعليم هو الملهم لدى السفسطائيين وقد عملوا على تطويره، سيما فيما يخص الحقول الرسمية التي تمثل القاعدة الأساسية في نظام التعليم عند اليونان. فقبل السفسطائيين، لم نكن نعرف شيئا عن علم النحو grammaire والبلاغة والجدل dialectique، لهذا، يعود إليهم الفضل في ابتكار جميع هذه الحقول المعرفية. حيث يتبين ذلك في التقنية السفسطائية الجديدة التي تبدأ من تدريس اشكال اللغة وفن الكلام/ البلاغة وفن التفكير، بكلمة واحدة، انها تقنية تستند على تطبيق منتظم لمبدأ عمليات تشكيل الذهن» (Paideia, Gallimard, 1964, p. 363).

نخلُص من النص أعلاه، ان فكرة التعليم عند السفسطائيين لا يمكن لنا ان نستوعبها كاملة دون الرجوع الى إعادة فهم وتأويل جينالوجيا مفهوم "البايديا" الذي كان يشير الى: «مجمل الممارسات والتقنيات والمناهج التي تسمح بتربية الناشئة جسديا وعقليا، واتسع هذا المعنى بعد ذلك وبصورة متواصلة في القرن الرابع وفي العصور الهلنستية والامبراطورية الرومانية، حتى اصبح منذ ذلك الحين يُنسب وللمرة الأولى على حد سواء الى areté التي تعتبر المثال/النموذج الذي يسعى الانسان الى تحقيقه: وهي تشير الى مجمل حالات التكامل للجسد والعقل. بعبارة أخرى هو مفهوم يتضمن بوضوح على ثقافة ذهنية وروحية حقيقية»( Ibid,p,333).

وبالعودة الى نص الدراسة (موقف افلاطون من البلاغة) للأستاذ عماد عبداللطيف، نلاحظ على أسلوبها اللغوي والتاريخي في تتبع أثريات العلاقة الإشكالية بين كل من: التربية والتعليم والبلاغة والسياسة في الخطاب السفسطائي، إنه أسلوب اتسم بالتأويل الحرفي الافلاطوني لمجمل المفاهيم أعلاه، خاصة فيما يتعلق بطبيعة العلاقة الإشكالية بين كل من: سلطة النخب/ وخطاب السلطة وأنظمة التربية والتعليم المرتبطة بها والتي برزت في خطاب المحاورات الافلاطونية كونها نتيجة طبيعية لبلاغة التعليم والتعلم السفسطائي التي تمّ اختزالها وحصرها ضمن بلاط النخب الارستقراطية وانتشالها من الفضاء الثقافي العام public sphere. ربما لان بلاغة افلاطون تقع في الأصل على النقيض من بلاغة الفضاء العام antipublic sphere. وهذا ما يوضحه هذا النص: «لقد أفاض دارسوا محاورة ’جورجياس’ في تشكيل صورة البلاغي أو السفسطائي أو الخطيب الذي يواجهه أفلاطون. ويمكن أن نميز بين طائفتين؛ طائفة المعلمين، وطائفة المتعلمين. الأولى تضم السفسطائيين الخطباء الذين كانوا يُعلمون أبناء الأثرياء اليونانيين البلاغة مقابل أجور باهظة مثل جورجياس وبروتاجوراس.. وليسياس.. وقد هاجم سقراط هؤلاء هجوما شاملا، وتابعه أفلاطون في هجومه عليهم، ووصف عملهم بأنه غير أخلاقي ومضر بالمدينة؛ فهم لا يقدمون لطلابهم معرفة بل حيلا. ولا يستهدفون الوصول إلى المعرفة بل إلى الإقناع. وتشغلهم المصلحة لا الخير. وغايتهم تعليم طلابهم طرق الوصول إلى السلطة لا الفضيلة. أما الطائفة الأخرى فهي طائفة المتعلمين؛ وكانوا من أبناء الأثرياء الاثينيين الذين أقبلوا على دراسة البلاغة التي كانت تمثل لهم، فنا جذابا لا يقاوم لأنه يجلب السلطة. هؤلاء الطلاب –بعد انتهاء دراساتهم، ونجاحهم في تعلم كيف يستخدمون اللغة ويتقنون أساليب البلاغة- كانوا يصبحون رجالا أقوياء ينتمون الى الطبقة الارستقراطية، ويمثلون النخبة التي تمتلك حق الكلام في المجتمع. لقد هاجم أفلاطون هؤلاء بقسوة، كما هاجمهم أستاذه سقراط من قبل. وكانت شخصية كاليكاليس في محاورة ’جورجياس’ ممثلة لهم، وهو رجل يصفه كروازيه، استنادا إلى الصورة التي يظهر عليها في المحاورة، بأنه لا أخلاقي في جرأة، وأنه لا يتردد في أن يُلقي في البحر بكل الأخلاقيات الراسخة لينقذ البلاغة من الغرق. تلك البلاغة التي تمثل في الواقع سفينته التي سوف يقفز منها الى السلطة. هؤلاء ’البلاغيون’ لا يلبثون أن يمسكوا بزمام السلطة. وقتها سوف يعملون لمصلحتهم الخاصة، وليس لخير شعوبهم. لقد وضحت الآن أية بلاغة تلك التي انتقدها افلاطون –بقسوة أو عدائية- في’جورجياس’. إنها ’بلاغة غير أخلاقية بشكل جذري، ولا يمكن تجاوزه، ويكمن الظلم في جوهرها’ بلاغة محورها التلاعب في المستمعين من قبل أناس غير مخلصين بشكل جذري. ووضح الآن أي بلاغيين، متعلمين أو ممارسين، هؤلاء الذين ينتقدهم أفلاطون. فجورجياس المعلم يتكسب من وراء تعليم تلامذته كيف يسخّرون الآخرين لمصلحتهم ويتحكمون فيهم. وكاليكاليس تلميذ جورجياس ليس إلا مشروع طاغية ومحتال»(د. عماد عبد اللطيف، المصدر السابق، ص ص ص 232-233-234).

يجد المتأمل في لغة النص أعلاه، سيطرة شبه تامة للنزعة الوثوقية/ الأرثوذكسية في الاعتماد المطلق على تصنيفات افلاطون في التبويب لمجمل "أشكال المعارف الفلسفية الميتافزيقية منها والأخلاقية والسياسية واللسانية/ اللغوية" والتي تحولت بدورها إلى سرد فلسفي مطلق في أغلب محاوراته، التي اعتمد فيها على "سياسة لغوية قسرية" نهجها أفلاطون في فرض آرائه وتصوراته المطلقة على ألسِنة سقراط والسفسطائيين وغيرهم. بمعنى آخر، إن هناك كثير من الآراء التي جاءت على "لسان سقراط وبروتاجوراس" لم تكن تمثل –حسب التحقيقات والتأويلات للمحاورات الافلاطونية (للمزيد يُنظر: Alexis Philonenko: Leçons Platoniciennes, Les Belles lettres, Paris, 1997)– آرائهم الحقيقية وانما آراء افلاطون التي حاول بثها وتثبيتها وتعميمها من خلال استغلال ألسنتهم ولغتم وخطابهم في المحاورات. لهذا، نجد أن الكثير من الفلاسفة والشُراح والمنقبين في "اركيولوجيا وحفريات" مخطوطات المحاورات الأفلاطونية "شكك" في "صحة وأصالة" كثير من آراء افلاطون التي ترد على ألسِنة هؤلاء الفلاسفة بوصفهم شخصيات محورية وأساسية في محاوراته الفلسفية، وذلك لأن أفلاطون "قوَّل" هذه الشخصيات ما لم تُرِد قوله وما لم يُمثل خطابها الفلسفي برمته. نتيجة لذلك، اعتبر المؤرخون إن إشكالية توثيق نصوص ومحاورات افلاطون تُعد من كبرى إشكالات الفلسفة ومباحثها الاساسية، بل إنها تفوق أهمية طروحاته الفلسفية بذاتها. فمن خلال صدق عملية التوثيق ودقتها العلمية في التحري والتقصي inquiry عن المعلومة الفلسفية الحقيقية والتاريخية وليس المتخيلة أو المفترضة، يمكننا فقط إعادة قراءة تاريخ الفلسفة اليونانية ومراجعة معظم النظريات الفلسفية والميتافيزيقية واللسانية التي سكت عنها أفلاطون من خلال "لغة القسر" التي انتهجها في أغلب محاوراته.

والغريب في الأمر، أن تلك الإشكالية الفلسفية الكبيرة لم تستأثر باهتمام أغلب الباحثين والمختصين سواء في حقل الخطاب الفلسفي؛ أو الخطاب اللساني/ والمنطقي مما جعلهم يتناقلون آراء افلاطون بوصفها آراء مطلقة الصلاحية validity والمصداقية المنطقية والقانونية والأخلاقية. وهذا ما انعكس سلبا على طبيعة الدرس الفلسفي واللساني معا، حيث نجد أن هناك اتفاقا شبه عام بين الخطابين المذكورين على "صلاحية النص الأفلاطوني" و"بطلان النص السفسطائي"، وكأن النص الأفلاطوني أصبح نصا مقدسا الى درجة لا يمكن التشكيك فيه أبدا، "وفلسفة السفسطائيين" مدنسة بذاتها، لا تحتاج منا الى إعادة قراءة وتأويل طالما أن افلاطون قوّض مجمل طروحاتهم اللسانية والبلاغية والمنطقية، ووضح مدى ضلالتهم القيّمية والسياسية والاجتماعية. ولنأخذ مثالا على ذلك، الترجمة العربية الأولى للإعمال الكاملة لمحاورات أفلاطون الصادرة بطبعتها الأولى عام 1994، والتي تفاجئنا بخلوها من أي مقدمة تاريخية وتحليلية لبنية المحاورات ونظامها اللساني والمنطقي الذي طالما بدا عليه حالة من الغموض والالتباس والتفكك والركاكة اللغوية واللسانية نتيجة لحالات الاقتباسات النصية والكلامية "غير الدقيقة" والمحرّفة عن موضعها الصحيح والتي تناقلها أفلاطون على ألسنة سقراط والسفسطائيين، وتناقلها الباحثون والمختصون من بعده، لتغدو بديهيات مطلقة وراسخة وقارّة في بنية البحث الأكاديمي والفلسفي المحكم، خاصة فيما يتعلق بالموقف الأفلاطوني من "بلاغة الفلسفة السفسطائية "من جهة؛ وفلسفة الأخلاق من جهة أخرى.

فعند قراءتنا لتلك الترجمة نكتشف كيف ان أيديولوجيا صلاحية الأحكام الأفلاطونية تم الحفاظ عليها وعلى قدسيتها المثالية والمتعالية، بخلاف "الفلسفة السفسطائية" التي استمر النظر اليها بوصفها فلسفة بالقوة وليست بالفعل. وهذا ما جعل طبيعة القراءات المقدمة في الخطاب الفلسفي واللساني حول تلك الفلسفة متطابقة تماما في المقدمات والنتائج، فلا تحتاج الى كبير عناء لتكتشف النزعة "اللاتاريخية الراكدة والثابتة" في معظم ما يُكتب ويُنشر حول تاريخ الفلسفة السفسطائية. وبالطبع، هذا عكس ما يحصل في راهن الخطاب الفلسفي الغربي الذي جعل من "تاريخية ونسبية الصورة المطلقة للمحاورات الأفلاطونية" المدخل الأساسي لفهم وتأويل/ وإعادة تأويل هذه المحاورات بما ينسجم ويتزامن مع مجمل طبيعة التطورات والتحولات الحاصلة في خطابات العلوم الإنسانية والأبستمولوجية والمنطقية، ربما لأن ذهنية التقديس الفلسفي/ واللساني في خطابنا الثقافي والأكاديمي لا زالت هي المتسيدة والمسيطرة حتى هذه اللحظة. فحينما نقرأ مقدمة الأستاذ سامي مكارم لترجمة "الأعمال الكاملة لمحاورات افلاطون" الى اللغة العربية نلمح كيف تعامل أ. مكارم بطريقة عكسية تماما مع: "الإشكالية الكرونولوجية الزمنية التتابعية" في محاورات افلاطون تلك الإشكالية التي تحولت الى سؤال فلسفي لإعادة تفكيك قداسة النص الأفلاطوني الذي لا زال مسيطرا على الفلسفة الغربية. ولنتأمل في كيفية التعاطي مع الأبعاد التاريخية والزمانية لمحاورات افلاطون في نسختها العربية فأهم ما طالعنا به أ. مكارم هو ثنائه على نقل هذا النص ليس من اللغة اليونانية مباشرة وانما من نسختها الإنجليزية؟ فمنذ متى كانت "المحاورات الافلاطونية " بنسختها الإنجليزية محط اهتمام الفلاسفة والمؤرخين؟ وإلا لماذا يعود المؤرخون والشُراح والفلاسفة الى النص الأصلي، ولم يعتمدوا النص المعرب الى لغاتهم الأم؟ السبب يكمن في حضور الأبعاد التاريخية/ والتأويلية في الفلسفة الغربية بخلاف الفلسفة العربية. لهذا جاء تركيز أ. مكارم على الأسباب التي جعلت من هذه الترجمة إنجازا هاما التي اوجزها بما يلي: «أولا، لان الأستاذ شوقي تمراز، بإتقانه اللغتين العربية والإنكليزية على السواء، وبمعرفته للفلسفة بعامة وللفلسفة الأفلاطونية بخاصة استطاع ان يجعل من تعريبه لمحاورات افلاطون بخاصة استطاع ان يجعل من تعريبه لمحاورات افلاطون عملا دقيقا وصحيحا من جهة وبليغا واضحا من جهة أخرى. ويمكننا القول انه كان في تعريبه قريبا الى روح فلسفة افلاطون إذا ختار لعمله هذا احدى أفضل الترجمات الإنكليزية فاعتمدها في تعريبه ذاك. ثانيا، لا نستطيع فهم افلاطون فهما دقيقا الا إذا درسنا اعماله في ضوء ترتيبها ترتيبا زمنيا، وذلك لكي يتسنى لنا تتبع تطور فكر هذا الفيلسوف. وهو امر في غاية من الضرورة لفهم الفلسفة الافلاطونية. ولم يكن هذا الأمر ليتم الا بالاطلاع على اعماله كاملة غير مجتزأة. ثالثا، ان محاورات افلاطون تختلف الواحدة عن الأخرى اختلافا كبيرا، من حيث المضمون ام الأسلوب ام المقارنة.»(أفلاطون المحاورات الكاملة، ترجمة: شوقي تمراز، الدار الأهلية، ص 9).

نلاحظ من خلال النص أعلاه، ان مسألة طرح قضايا إشكالية مهمة في تاريخ الفلسفة عامة والفلسفة الأفلاطونية خاصة، كعملية المقاربة بين محاورات افلاطون وتواريخها الزمنية وتسلسلها التاريخي، إضافة الى تباين واختلاف البنية اللسانية والاسلوبية، جاءت بطريقة وثوقية وتقليدية، فلم تتم الأشارة لا من قريب أو بعيد الى منطق المقاربة التاريخية بين لغة المحاورات الأصلية والانجليزية. وهذا بطبيعة الحال سوف يؤدي بدوره الى تذويب الإشكالات الاسلوبية واللسانية والمنطقية المتعددة والمختلفة بين محاورة وأخرى. وهذه مشكلة يترتب عليها إعادة النظر في مجمل الحقول المعرفية والفلسفية التي تم تناولها وطرحها في المحاورات، لأنها شُيدت على لغة فلسفية واحدة هي لغة افلاطون واسلوبياته الميتافيزيقية المؤسَسَة على منطق الفضيلة/ وفضيلة المنطق المطلق.

والأمر تكرر أيضا مع المترجم نفسه الذي لم يعمل هو الآخر على وضع مقدمة فلسفية تحليلية/ وتاريخية لبنية المحاورات من جهة، ولبنية نظامها المنطقي والمفاهيمي من جهة أخرى بل اكتفى المترجم في وضع مفاتيح تعريفية موجزة لأهم الثيمات الفلسفية التي جاءت على طرحها كل محاورة. وكان اهم ما يمكن ملاحظته على تلك المفاتيح التعريفية، هو ابتعادها عن الطرح الإشكالي والأبستمولوجي، خاصة فيما يتعلق بالمحاورات الخاصة في مناقشة وتحليل ثيمات لسانية ولغوية ومنطقية كتلك المتعلقة بالخطاب السفسطائي واشكالية البلاغة وعلاقتها بالإشكالية الأنطولوجية والثقافية، ربما لان المترجم اعتمد على "لغة ومنطق الفضيلة المطلق" التي تتعارض تماما مع "لغة ولوغوس الأخلاق النسبية عند السفسطائيين". لهذا نجد كيف ان المترجم، لم يأت على ذكر فلسفة البلاغة وخطابها المنطقي واللساني، التي شكلت أحد اهم المحاور الرئيسية والأساسية في تاريخ الفلسفة اليونانية. فعندما جاء المترجم على وصف بنية محاورة "جورجياس" على انها محاورة بنيت على أساس تعريف ماهية "علم الكلام" أي" فن البلاغة" او "فن الكلام" لا نعرف لماذا لم يلجأ المترجم الى استعمال مصطلح البلاغة عوضا عن علم الكلام في هذه المحاورة؟ ثم الا يوجد اختلاف جوهر ي بين "علم الكلام "الذي يشير، في أحد معانيه، الى ذلك العلم الذي يستعمل الحجج العقلية والمنطقية للدفاع عن فكرة وجود الله في العالم، وقد ساد هذا العلم في الفترة الوسيطة من تاريخ الفكر الغربي والعربي وهي الفترة التي سيطرت عليها الأفكار الدوغمائية واللاهوتية المعتمدة على المنطق الأرسطوي المعياري والميتافيزيقي في بناء نظام العالم وتصوراته المطلقة. اذ أن هناك ثمة فرق كبير بين منطق "علم الكلام" ومنطق "فن البلاغة او فن الخطاب"، هذا الأخير الذي تحول مع الخطاب السفسطائي الى فن انتاج القيم الاجتماعية بواسطة استعمال اللغة الطبيعية في انطولوجيا الحياة اليومية، فمثل هكذا ممارسة وسوسيوثقافية/ وسوسيولسانية لم يتم تسليط الضوء عليها عندما جاء المترجم على وصف ثيمة محاورة "جورجياس" حيث يتحاور فيها: «كل من سقراط، بولس، جورجياس، وكاليكلس. يبدأ جورجياس بالبحث في علم الكلام ،ثم يعرفه أخيرا بأنه فن الأقناع في المحاكم القانونية والجمعيات العمومية الأخرى .ويأتي دور بولس الذي أراد من سقراط ان يعرف علم الكلام ،ويقول سقراط :ان علم الكلام ليس فنا على الأطلاق بل هو نوع من الحذق العملي ويشبه الطهو، فكما ان الطهو يرضي اذواق الأكلين ويهبهم اللذة، كذلك علم الكلام ينتج نوعا من البهجة والإرضاء للمستمعين. لذلك فعلم الكلام ما هو سوى جزء من المداهنة والنفاق اذا اسيء استعماله، لكن اذا حسن استعماله، فما ينبغي الا ان يستخدم لرفع شأن الأنسان وحثه على ممارسة الفضيلة بشكل عام.»(المصدر نفسه، ص21-22).

يتضح لنا من لغة النص أعلاه، كيف ان منطق الفضيلة المطلق/ والميتافيزيقي هو منطق سابق على منطق ولوغوس بلاغة التواصل الثقافي النسبي. بالطبع اننا بكل بساطة لا بد وان نصل الى مثل هكذا احكام جاهزة لا تحتاج الى كبير عناء، فقد أصبحت القاسم المشترك والموحد لجميع الترجمات والأبحاث الفلسفية واللسانية والسياسية وما شابه. ذلك لان المنطق الوثوقي المطلق والعام هو المنطق الذي ظل متسيدا ومسيطرا على مدار تطور تاريخ اللغة والبلاغة في الفلسفة اليونانية عامة والفلسفة السفسطائية خاصة. فما ان يتم مناقشة طروحات الفلسفة السفسطائية وخطابها اللغوي/ والبلاغي، حتى تجد ايديولوجيا التشابه في انتاج الاحكام على هذه الفلسفة مطلقة مستمرة وسارية الصلاحية والمفعول في النهاية لا تجد هناك اختلاف على ان السفسطائي: «يدعي العلم فقط وهو مخاصم ويعلم فن الخصام عن الأشياء الإلهية التي هي محجوبة عن الناس بشكل عام وكذلك عن الأشياء المرئية في السماء وعلى الأرض وما شابههما، ويعلم فن الجدال في المحادثات الخاصة عن اثبات النشوء والماهية، وعن القانون والسياسة. وباختصار فأن السفسطائي ما هو الا ساحر ومقلد وكلامه كاذب وخادع. وهناك فرق كبير بين الفيلسوف الذي يرتبط علمه بفن الديالكتيك وهو علم صاف وحق، وبين ما يرتبط به السفسطائي، ومرتبته مع المقلدين بحق وليس بين هؤلاء الذين يمتلكون معرفة. لذلك فأن الجهل الأكبر هو ان يدعي المرء انه يعرف عندما لا يعرف، وهذه قمة الجهل، وهذا ما يفعله السفسطائي بكل تأكيد.»(المصدر نفسه، ص 27).

ساد في لغة النص أعلاه حالة من الخلط المعرفي والفلسفي التي تشير الى قلة في الاطلاع على تاريخ وفلسفة الخطاب السفسطائي، وهذا ما توضح من خلال ورود مثل هذه العبارات: "ان السفسطائي يعلم فن الخصام مع الأشياء الإلهية، ويعلم فن الجدل في المناقشات الخاصة عن اثبات النشوء والماهية.. الخ" فمثل هذه التعابير تدعونا الى اثارة أكثر من تساؤل، فهل كان السفسطائيون فعلا من المهتمين بالقضايا الماورائية واشكالات النشوء والماهية؟ وهل ذكر لنا تاريخ الفلسفة السفسطائية اهتمامهم أيضا بفنون الخصام مع الأشياء الإلهية؟ ان طرح المترجم لمثل تلك التصورات عن الفلسفة السفسطائية، كان مفتقرا لمنطق التحقيق التاريخي والأبستمولوجي لبنية الخطاب السفسطائي وحقيقة وظائفه الثقافية والاجتماعية من خلال البدء والانطلاق من الانسان كونه وجود–في– العالم حسب هايدجر، وهذا أيضا ما أشار اليه افلاطون نفسه عندما فسّر فكرة نجاح السفسطائيين في اكتساب: «الشهرة. كما يصوره افلاطون، يرجع الى مقدرة وتأثير حقيقيين على مفكري عصرهم أمثال ثوكيديديس ويوريبيديس. لقد كانوا يعلمون "فن السياسة" بأسلوب عملي ولم يهتموا بالتأمل فيما وراء الطبيعة. لا يهتمون بالبحث عن الآلهة ولكن اهتمامهم موجه الى الحياة نفسها وعلى الأخص الحياة السياسية والاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات. الأنسان في نظرهم مقياس كل شيء، وفي هذا المجال كان يكمن خطرهم واستحقوا بذلك لقب السفسطائيين»(د. عبد الله حسن المسلمي: افلاطون. محاورة منكسينوس او عن الخطابة، منشورات الجامعة الليبية، كلية الآداب، 1972، ص،23-24).

من هنا نرى ان "مترجم المحاورات الافلاطونية" أ. تمراز كان محكوما بسلسلة لامتناهية من الاحكام المسبقة والجاهزة حول تاريخ الفلسفة السفسطائية من جهة؛ وخطابها اللساني/ واللغوي من جهة أخرى. ففي الوقت الذي عدّ فيه الكثير من الباحثين والمؤرخين محاورة "السفسطائي" ممثلة "لفلسفة وجينالوجيا بلاغة اللغة"، نرى كيف تم استبعاد فلسفة اللغة من هذه المحاورة وتضييقها في مجالات ميتافيزيقية مطلقة. وكما مر بنا سابقا، فقد رأينا ان اغلب الدراسات والبحوث الأكاديمية في حقل الخطاب الفلسفي/ واللساني لم تتحرر بعد من سيطرة هذه الأحكام المسبقة والجاهزة المتعلقة بتاريخ الفلسفة السفسطائية الذي طالما ظل مرتبطا بسياسات المكر والخداع والتضليل، وهذه القضية مرتبطة بدورها أيضا بإشكالية وجدلية الصراع بين كل من: الفضيلة؛ والمعرفة؛ والبلاغة. حيث يتضح من خلال هذه الجدلية كيف ان الخطاب السفسطائي شكل قطيعة ابستمولوجية وانطولوجية واخلاقية مع علاقة البلاغة بالفضائل حيث كما هو معروف ان الفضيلة تساوي المعرفة المطلقة والخيّرة بذاتها عند سقراط وأفلاطون، في حين ان الفضيلة تساوي البلاغة عند السفسطائيين، هذه "القطيعة" لم يتم تسليط الضوء عليها بل تحولت الى ممارسة اعتيادية عند الباحثين الذين يأتون على ذكر العلاقة بين الفضيلة والبلاغة ويتجاوزون عملية تداخلها مع "النظام الابستيمي/ النظري" والمعرفي السائد في سياق الثقافة  اليونانية لان ما يعنيهم، في نهاية الامر، ان يبقى مفهوم "الفضيلة ميتافيزيقي ومحض" في الوقت الذي رأى فيه السفسطائيون: «ان معرفة العلوم المختلفة لا تفي متطلبات الوقت، فما جدوى هذه العلوم وما جدوى الفضيلة، في نظرهم، اذا كان هناك من لا يستمع اليها؟ ورأوا ان الضرورة تحتم تعلم الخطابة وفن التأثير على المستمعين وكسب الجدل بأي وسيلة ممكنة. اذن فالريطوريقا في نظرهم هي الفضيلة وهي أسمى العلوم. اما سقراط، أراد ان يعلم الفضيلة=المعرفة الحقة»(المصدر نفسه، ص 9).

فعلاقة البلاغة مع مفهوم الفضيلة عند السفسطائيين تجاوزت منطق المعايير الثابت/ ومنطق الحقيقة المطلقة، منذ تدشين الخطاب السفسطائي لمفهوم "القطيعة الأبستمولوجية" الذي عمل على تفكيك مفهوم الابستمولوجيا الافلاطوني التقليدي ألمؤسس على "منطق التبريرjustification " لكل معرفة مطلقة وميتافيزيقية واعتقادية تتجاوز بالضرورة منطق نسبية التواصل الأخلاقي والاجتماعي المتمأسس وفقا لأيديولوجيا الخطاب السياسي المسيطر والسائد والذي كان يمثل البؤرة المركزية لدى السفسطائيين، حيث سعوا الى تقويض أسس ذلك الخطاب ومعاييره criteria المنطقية الثابتة من خلال أسس منطقهم الحجاجي الاقناعي المناقضة لأيديولوجيا قواعد منطق التبرير النظري والمعرفي لكل ما هو نخبوي وسياسي بالضرورة أيضا -حسب افلاطون-. بعبارة أخرى، ان منطق الخطاب السفسطائي لا يمكن تأسيسه على معايير وسساتيم ميتافيزيقية قبلية سابقة على نسبية الوجود الإنساني في بلاغة السياق السوسيوثقافي، فهذا الوجود النسبي الذي جعل من فكرة الأنسان مقياس كل شيء، هو بالضبط ما شكّل القاعدة الأساسية لبلاغة الخطاب السفسطائي، وهو ايضا من أعاد الاعتبار الى "منطق الدوكسا" الذي يتأسس على عمليات تاريخية ومعرفية مستمرة تنطلق من نقد وتفكيك سياسة الاعتقاد والاعتقاد السياسي الذي شكل جوهر نظرية المعرفة المعيارية المطلقة في بلاغة الفلسفة الافلاطونية المثالية. اذن، ان "بلاغة الدوكسا" التي تُعنى بمنطق اختبار المبادئ المسؤولة عن تشكيل اعتقاداتنا المقررة سلفاdoxastic decision principles ، تقف على طرفي نقيض من بلاغة "التبرير الابستيمي epistemic justification" (للمزيد يُنظر: Midwest Studies in Philosophy V 1980..Studies in Epistemology, Minneapolis, 1980, pp. 29-30)، أي تلك البلاغة التي تسيطر على عملية انتاج مجمل آراء واحكام الوجود الإنساني اللساني واللغوي النسبي لتجعله خاضعا الى معايير ومعتقدات موجهة من قبل ميتافيزيقا سياسية ونخبوية مطلقة تصادر منطق الفعل الإنساني، ومن ثمة، كل ما هو نسبي وتاريخي وحجاجي/ بلاغي كما هو الحال عليه في البلاغة الافلاطونية التي عملت على محاربة ومطاردة "دوكسا الكلام النسبي في الخطاب السفسطائي" تارة باسم الفضيلة المجردة وتارة أخرى باسم الاعتقادات السياسية المبررة لكل ما هو ثابت ومستقر من قيّم واحكام واراء أخلاقية غير قابلة للمراجعة والفحص وإعادة الاختبار لأنها تحولت الى معايير نظرية تسيطر على بنية الفعل الإنساني وتتحكم به.

لكننا نلمح عكس ذلك تماما، إذ نجد ان عملية الفصل المستمرة بين ما هو ابستمولوجي؛ وانطولوجي؛ واخلاقي؛ وبلاغي/ حجاجي في الخطاب السفسطائي، أصبحت معيارا ثابتا ومطلقا في بنية اسلوبيات الكتابات الاكاديمية الفلسفية خاصة واللسانية عامة، سيما فيما يتعلق بإشكالية العلاقة بين البلاغة الافلاطونية والسفسطائية حيث ارتبطت البلاغة الافلاطونية بميتافيزيقا المعايير الفاضلة، حيث: «كان نقد افلاطون للبلاغة يعكس صراعا بين طريقتين في الحياة وتصورين للعالم. الاول يرى غاية الحياة الوصول الى الفضيلة والثاني غايتها الوصول الى السلطة. الاول يحتفي بالصدق مهما كانت نتيجته والثاني يحتفي بالتملق والخداع. الاول يعنى بالمعرفة، والثاني يعنى بالاعتقاد. الأول يشغله الخير، والثاني تشغله اللذة. الأول يحركه العدل، والثاني تحركه المنفعة. الاول لا تشغله الحياة العامة، والثاني لا تشغله الا الحياة العامة. الأول وسيلته الفلسفة والجدل، والثاني وسيلته السفسطة والبلاغة.» (د. عماد عبد اللطيف، المصدر السابق، ص.234). ان هذا النص اشكالي بامتياز، ويتضح لنا ذلك من خلال محاولته في تبني منطق "الثنائيات الأيديولوجية والتراتبية" التي عمل افلاطون على إرساء دعائمه واسسه. فالنص يشطر العالم والبلاغة الى نصفين: نصف ماورائي ثابت ومطلق ويقيني/ عقلاني/ فاضل واخلاقي بالضرورة والبداهة، ونصف نسبي متحول ومتغير لا يخضع "لسستمة الفضيلة الميتافيزيقية"، ولهذا فهو عالم لاعقلاني لأنه محكوم بالأهواء والانفعالات؛ أيديولوجي لأنه يسعى للسلطة؛ لاأخلاقي لأنه يخضع للتملق والخداع واللذة؛ غير عادل لأنه محكوم بالمنفعة؛ عالم غير نخبوي لأنه منشغل بالحياة العامة.

وعلى الرغم من نجاح أ. عبد اللطيف في تشكيل ورشة عمل تحليلية لنقد نقد بلاغة افلاطون وإعادة استنطاق ما سكت عنه ذلك النقد، الا انه ظل نقدا منصبا وموجها لتفكيك تصورات أفلاطون "المعيارية" حول مفهوم "البلاغة السياسية العام" ولم يأخذ على عاتقه –أي هذا النقد– إعادة تقويم فلسفة البلاغة واللغة خاصة، والخطاب السفسطائي عامة، سيما وان أ. عبد اللطيف برع في تفكيك "الثنائيات الافلاطونية المؤدلجة"، إلا أن مشكلة هذا التفكيك تكمن في انه لم يأخذ بنظر الاعتبار خطاب الآخر المقصي والمهمش واعني به السفسطائي وفلسفته البلاغية والسياسية على حد سواء، بل انشغل في عملية "نقد النقد الافلاطوني" للبلاغة و ثنائياتها التي تعتبر نتيجة طبيعية للنظام التراتبي/ والهرمي للفلسفة الافلاطونية المثالية/ المعيارية. والشيء الاخر الذي نود ان نوضحه في هذا النقد، هو انه لم يستطع الخروج من "دوائر التأويل الحرفية" لكثير من المفاهيم ذات الصلة والوظيفة السوسيو ثقافية والسوسيولسانية كمفهوم البلاغة السياسية؛ والقضائية؛ والسلطوية والأيديولوجية التي بدت وكأنها منفصلة تماما عن فلسفات المعرفة ونظريات الاخلاق والقانون ونظريات الخطاب وفلسفة اللسانيات، وهذا ما وسم طبيعة "نقد النقد الافلاطوني للبلاغة" بالسمة المعيارية normative المحددة بنظام لغوي واحدي لا يخرج عن لغة التوصيف الحرفية، ربما هذا ما جعل من قيمة "نقد النقد الافلاطوني" تفتقر أيضا الى فلسفة المناهج والمقاربات الثقافية المتعددة التي لا يمكنها ان تفصل بين تاريخ المفاهيم وارتباطه بنظريات المعرفة والأبستمولوجيا وبالمنطق الخفي الذي يشكل بنية سياسة الاعتقاد/ والاعتقاد السياسي بالقيم والأخلاق والأعراف السائدة المتحولة جميعها الى معيار norm ثابت ومطلق يتألف من لغة اخلاق واخلاق لغوية ولسانية لا يمكن لها ان تنفصل أيضا عن فلسفة الذهن والعقل المرتبطة بدورها بنظريات الحجاج المنطقية والبلاغية.

اذن يتبين لنا ان لغة "نقد النقد الافلاطوني للبلاغة" لم تبتعد كثيرا عن لغة التضليل والخداع السياسي المتصلة بالبلاغة السفسطائية، هذه البلاغة التي طالما حاول افلاطون تقويض أسسها ومصادرة مبادئها الأبستمولوجية والمنطقية. على الرغم من أن البلاغة التي انتقدها افلاطون لا تتركز فقط على نقد البلاغة السياسية والقضائية فحسب، بل انها موجهة ضد "الفلسفة السفسطائية عامة" وقد تم التبرير لهذا النقد بواسطة الخطاب السياسي ونظامه اللساني والسلطوي. وبذلك يكون افلاطون قد أسس لما يعرف بـ"الأبستمولوجيا الارستقراطية" وهذه تتحقق من خلال: «الجدل والتفلسف. اللذان -يضعهما افلاطون موضع البلاغة والخطابة- يعدَّان نشاطا نخبويا، قد تتفاعل معه النخب الفكرية، اما عامة الشعب فيصعب، غالبا، ان تتفاعل معه. ينطوي مقترح افلاطون اذن على اقصاء للبلاغة الشعبية التي تستهدف الاقناع، يتسق مع اقصائه للشعب نفسه من دائرة الحكم، لصالح سيطرة الارستقراطية الفكرية. ومن ثم فان بديل البلاغة السياسية الموجهة للجمهور عند افلاطون هو ديكتاتورية التفلسف. وينتج عن ذلك ان يصبح الشعب خارج دائرة الحكم، وتسقط الحاجة للبلاغة السياسية فليس ثمة حاجة لإقناع من لا قوة له». (المصدر نفسه، ص 237).

كما نرى في النص أعلاه، ان هناك بعض النقاط تحتاج الى اكثر من وقفة نقدية واشكالية، فمثلا البلاغة السياسية لم يتم توضيح ما المقصود بها؟ ومَنْ المقصود بها؟ وهل كان هناك غير السفسطائيين مَنْ أسس لها؟ وهل كان هناك غير السفسطائيين من أعاد الاعتبار الى مفهوم "البلاغة الشعبية" و "بلاغة الاقناع"؟ ونتيجة لذلك، لا يمكننا إلا ان نضع مفهوم "البلاغة السياسية" بين قوسين(؟)، حيث كان موقعه يشوبه نوع من الضبابية في النص أعلاه. اضف الى ان المفاهيم التي حاول استبدالها افلاطون بديكتاتورية التفلسف، هي جميعها تعود الى الخطاب السياسي والفلسفي السفسطائي، اما توصيف النص ولغته كانت عامة، تحاول ان تتقنع بأكثر من مصطلح لتبتعد عن منطق تسمية الأشياء بمسمياتها، خاصة وأننا لاحظنا في بداية دراسة أ. عبد اللطيف، كيف ارتبط الخطاب السفسطائي بكل ما هو تضليلي ولا أخلاقي ونسبي وسلطوي يتحين الفرصة للاستحواذ على السلطة ،لكننا نجد في النص الآتي ان هذه الفكرة تتكرر أيضا لكن بأسلوب مختلف ومغاير: «لقد رأى افلاطون أن التخلص من الخداع والتضليل اللذين يمارسهما البلاغيون للاستحواذ على السلطة يتحقق عن طريق التخلص من ’البلاغيين’ واحلال الفلاسفة محلهم. وهو ما يبدو حلا نخبويا يتسق مع النزوع الارستقراطي لأفلاطون، لكنه في الوقت ذاته لا يحقق سوى استبدال سلطة بسلطة أخرى، ربما تكون مضطرة بدورها الى ممارسة خداع وتضليل مماثلين.» (المصدر نفسه، ص 237). فمن هم هؤلاء البلاغيون الذين حاول افلاطون التخلص من خداعهم وتضليلهم السلطوي؟ لماذا سكت النص اعلاه عن توضيح هذه النقطة؟! ولماذا لم يتم التمييز بين خطاب البلاغة السياسية العامة؛ وخطاب بلاغة السفسطائيين؛ وبلاغة الخطباء؟

 

(باحث من العراق متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/ وما بعدها)