المتتبع لتاريخ الأدب عامة، والرواية خاصة، لابد سيجد أن التغيرات الحادثة في مراحلها المتعاقبة، إنما هي تغيرات في الشكل، لا في المحتوي الذي لن يتغير كثيرا، ولن يخرج عن بضع نقاط يمكن حصرها. إذ تتصل كلها بعلاقة الفرد بنفسه، وعلاقته بغيره مما ومن يحيطون به، أو في جملة جامعة، في علاقته بالكون من حوله. وبالتالي كان البحث عن الشكل الروائي هو بحث عن وضع المجتمع في فترة كتابة الرواية، وكان البحث في محتوي الشكل هو التعبير الواقعي لحالة المجتمع.
لذا أتصور أن إبداع المبدع، وتفرد الكاتب، يتوقف علي قدرته في اتباع الشكل الذي يستطيع به أن يبرز محتواه، دون انفعال، أو افتعال. أي بالكيفية التي تصل بقارئه إلي مرحلة اللذة، أو الارتياح، أو الإشباع، بوسيلة الاتصال التي تتفق مع يسر، أو وعورة الطريق المؤدي إلي تلك النتيجة.
ومن الذين يسعون دائما لمحاولة تطوير الشكل، مع تقارب كثير في المحتوي، الأمر الذي يعني أن لديه رؤية، ومشروع يحاول التركيز عليه، مستخدما تجديد الثياب ليبدو ما بداخله –الثياب- جديدا وجميلا، هو القاص والروائي فؤاد مرسي. مؤكدا ذلك في روايته "شباك مظلم في بناية جانبية"(1) في العام 2002، والتي كانت القاعدة التي انطلق منها في روايته التالية "قنطرة الوداع(2) في العام 2008، مؤكدا تفرده بأسلوب خاص به. قائم علي التزاوج بين النوعين الأدبيين "القصة القصيرة، التي يخلص لها، عمليا ونظريا، والرواية التي تكون بنكهة القصة القصيرة. حيث نستطيع حصر الفعل، إن كان ثم فعل، في إطار الزمن النموذجي للقصة القصيرة، والقائم علي صغره الذي يصل إلي حد اللحظة. ولم يكن أوفق من استخدام إسلوب تيار الوعي القائم علي الصراع النفسي ومرحلة ما قبل الكلام، أو الصراع بين الوعي واللاوعي، الأمر الذي يجعل من الكتابة به تعتبر كتابة شخصيات بالدرجة الأولي، خاصة تلك الشخصيات المأزومة، أو التي تعاني مشكلة نفسية ما. وهو ما تكاثرت نسبته بعد تزايد الاكتشافات العلمية، واستخدام الآلة، التي بالضرورة أثرت علي نفسية العامل الذي كان اعتماده علي العمل اليدوي، وهو ما يعني أن ظهور الألة، والكثير من الاكتشافات العلمية كما كان أداة للبناء، فقد كانت أيضا في ذات الوقت أداة للهدم. ولا أدل علي ذلك منإختراع ألفريد نوبل للديناميت في العام 1867 بغرض الاستخدام فيما يفيد البشرية، وما أستخدمت فيه بالفعل بعد ذلك في السعي نحو دمارها.
وقد كانت الآلة أيضا أحد الوسائل التي أدت للحروب، أو الأحداث الكبري التي لاشك تترك آثارا نفسية علي الإنسان. وبالتالي تتزايد الاضطرابات النفسيةمعتزايد شعوره بالغربة ، سواء في وجوده في مجتمع مخالف، أو حتي في مجتمعه ذاته، وهو الأصعب.
فإذا كانت هذه بعض الدوافع التي أدت إلي ظهور واستخدام تقنية "تيار الوعي" عالميا. باعتباره أقرب الطرق للتعبير عن الهواجس والأمراض النفسية، وكشف المخبوء منها وراء الظاهر (الكلام). فقد كانت ذات الأسباب التي أدت أيضا إلي لجوء بعض الكتاب العرب لاستخدام نفس التقنية. فقد وجدت لدينا ذات الأسباب وما زاد عنها من شعور الإنسان العربي باغترابه داخل وطنه، إضافة إلي انتشار ظاهرة السعي إلي الدول النفطية، وما لاقاه الإنسان المصري خاصة، في تلك الدول، وما انتابه من قلق نفسي، وشعور بالاغتراب.
ومن أبرز من كتبوا بتيار الوعي في مصر، "محمود عوض عبد العال" صاحب "سكر مر"، " ضابط احتياط".
كما جاء فؤاد مرسي في الجيل التالي لمحمود عوض عبد العال. حيث أثبت عبر روايته " قنطرة الوداع" ومن قبلها كانت "شباك مظلم"، أثبت وعيه الكامل بدوافع ومبررات استخدام هذه التنقنية. حيث دارت الأحداث أو الوقائع في الأخيرة "شباك مظلم" في فترة شهدت تدفقا وسعيا نحو السفر لدول الخليج. والتي كان لها الكثير من الآثار النفسية. فضلا عن المعيشة في بيئة اجتماعية مختلفة، وتشرب مفاهيم مختلفة، والعودة إلي أرض الوطن، ليصبح مشتتا بين تلك المفاهيم التي تربي عليها والأخري العائد بها، وكذلك الظروف الاجتماعية التي عاد بها لتمنحه شعورا آخر. الأمر الذي أدي إلي تغيير في الأوضاع الاجتماعية وتخلخلها. والذي أيضا كان له تأثيره النفسي علي إنسان تلك الفترة. والتي كان من أسوأ نتائجها، إن لم يكن إنعدام الانتماء أو فقدانه، فعلي الأقل تذبذبه. أي تأثيره علي علاقة الفرد بالمجتمع.
فإذا كان فؤاد مرسي قد استخدم تاريخين محددين، كعناوين جانبية، وهما 1986، و 1996. تلك السنوات العشر التي اعتمدها كمدخل للرواية، محددا موقفه فيها.. فوقف يتفرج وكأنه خارج المشهد، وهو لا يدري أنه من صنعها {كعادته منذ سنوات عشر، يطل برأسه من الشباك ملهوفا، يتفحص المارين، وينظر في الساعة}. مع ملاحظة ما تحمله (وينظر في الساعة) من قلق، وترقب. الأمر الذي يزرعنا في الحالة الداخلية للراوي منذ البداية.
فكأنه قد حدد لنا الفترة الزمنية التي يجري الحديث حولها وهي العشر سنوات التي تكون قد لعبت دورا أساسيا في حياة الراوي، أو الجو والبيئة والظروف التي أثرت في فعله، وإن كان الفعل هنا هو اللافعل، والتي يجب علينا عدم إهمالها أو تغافلها وصولا لأبعاد تلك الشخصية التي تبدو غير سوية لكثير من الظواهر التي ساعده (الكاتب) علي إظهارها، وعيه بحرفية تلك التقنية، المعتمدة علي تفتيت الزمن، وهجره للخطوط الصاعدة، أو المستقيمة، أو حتي المتعرجة. إذ ليس ثمة خطوط واضحة المعالم في الرواية. وإنما هي أشبه بالحروف المتناثرة، المطلوبة للعبة الكلمات المتقاطعة، والتي علي القارئ أن يبحث لكل حرف فيها عن المربع الذي به يكمل الجملة، أو المعني. وكأن فؤاد مرسي يراهن علي قارئه وذكائه. غير أنه لا يقدم ذلك مجردا، بل يقود قارئه بوضعه في جو عام، يساعده في الكشف عن مكنون، أو محتوي الشكل. ليكشف عن الجو النفسي الذي يعيشه بطله. لذا تعتبر أعمال فؤاد مرسي أقرب إلي التجارب النفسية، التي تبدو في السطح، مسألة جد فردية، غير أنها ليست بالفعل كذلك. وإنما بالرؤية والتمهل، نكتشف أننا أمام تجربة جيل يمثله الكاتب، بل تجربة مجتمع يعيشه، ويقيم معه علاقة جدلية لا تنضب.وبالرجوع لتلك الفترة، سنجد أن تلك الفترة قد بدأ صوت البطالة عن العمل يعلو، وبالتالي بدأت ظاهرة السفر إلي الخارج، خاصة إلي دول الخليج، قد بدأت في الظهور والتزايد حتي باتت ظاهرة مؤثرة علي النواحي الاقتصادية والاجتماعية. وكان من الطبيعي أن تظهر أثارها في إبداع المبدعين.
ومن النماذج التي تحدثت عن أثر تلك السفريات إلي دول الخليج، والتي جربها الراوي ذاته. نجد ذلك النموذج مع احد اصدقائه:
{وبنت العم التى كان يحبها فى الصبا تراجع عن كلامه بشأنها مع أبيها، الذى أرسل له عقدعمل بالخليج وهو طالباً مازال، بمجرد أن طابت إقامته هناك قطع علاقته بعمه ولم يعد يزوره، لا لشىء إلا خشية أن يقال إن عمه وابنته هما وش السعد عليه، وأنهما وراء ما سيصيبه حتماً من رغد فى العيش، لا يريد أن يمكِّن مخلوقاً من ادّعاء فضل عليه}ص85. ومن الواضح الانعكاس الاجتماعي علي عملية السفر هذه. وإن بدت هنا نكران للجميل، أو محاولة التخلص ممن يمكن أن يذكره بماضيه، أو إن شئنا قلنا محاولة التخلص ممن يذكره بفقره. خاصة بعد تلك التقلبات المنفعية التي سنتبينها في علاقات الآخرين. وإن انسقنا في السير وراء التداعيات لقلنا أن محاولة التخلص تلك وما يسمي في العرف الشعبي (قلة أصل)، فإنها في العرف الاجتماعي تسمي فقدان الانتماء. حيث يصبح الانتماء هنا للمصلحة فقط، أو للمال فقط. وهو ما سوف نتبينه لدي بطلة الرواية، الغائبة الحاضرة "شيرين".
وتأتي فرصة السفر لصديق آخر "عبد المجيد" فيتجاهل آلام أمه التي سيهجرها، حتي تعجز عن مجرد مواجهته عند السفر {لم أحْكِ لأحد عن الفرصة المأمولة، تعاملت مع الأمر كسِرّ عسكري، باستثناء أمي التي باركت خطاي، وأرفقتها بالدعاء، وأنا أعلم أنها تطوى إحساسًا قاسيًا بالوحدة التي سوف يحيلها سفري أنا الآخر إلى غول يهدد أيامها}ص92. وهو ما يكشف إحساس شباب تلك الفترة، وتجاهلهم للآم الآخرين، حتي لو كانت الأم ذاتها، أمام المصلحة، والمنفعة.
ويؤكد الراوي، رغم سفره وانتمائه لمجموعة الشباب، وخضوعه لتجربة السفر، أن عمليات السفر إلي الخليج ليست إلا خدعة تم استدراج الشباب المصري إليها: { (أية خدعة تلك التي دبرت بمكر شديد لاصطيادنا.. نحن الرقيقين، أصحاب القلوب الرهيفة، عشاق الجمال الحقيقي الآسر، الآخذ بالألباب، المرتقي بها إلى سماوات الوصل الإنساني الحقيقي، لا الزائف؟}.
لقد كانت هجرة الشباب إلي دول الخليج، التي تزايدت خلال تلك الفترة، عظيمة الأثر النفسي، الذي تولد عنه شخوص غير أسوياء، رسم منها الكاتب شخصية الراوي، الذي تعددت مظاهر اضطرابه النفسي. والتي نتكشفها في العيش في في حياة الآخرين، حتي الحب يعيشه في صورة محبوبة صديقه، وسلبيته وعدم قدرته علي الفعل. واحتفاظه بالقدرة علي الاندهاش والبكارة، في زمن غابت فيه البكارة.
يدخلنا فؤاد مرسي، منذ اللحظة الأولي في ذلك الجو النفسي لبطله، غير المسمي، والمتماهي في الغير، منذ أول ما تقع عليه عين القارئ، وهو العنوان "شباك مظلم في بناية جانبية" وكأنه يجسد الحالة، ويصور الحال، فالشباك، يضعنا أمام زاوية للرؤية، غالبا ما تكون ضيقة، حيث تنحصر فيما يمكن أن تقع عليه العين، الفعلية الظاهرة، من مساحة هي بالتأكيد أوسع من تلك التي تتحدد بخطوط مستقيمة، يغيب عنها ذلك الذي يقع خارجها، والذي بدوره قد يستدعي العديد من مكنون الذات الرائية. ثم نعلم أن الشباك مظلم. وهو ما يؤدي إلي الرؤية من زاويتين مختلفين. زاوية ذلك الذي ينظر من الشباك، فلا يراه الآخرون. وزاوية الناظر من الخارج إلي الشباك، فتتشوش الصورة وتتعدد الرؤي، وقد تنعدم تماما. مثل تلك الصورة التي وضعها أحد الكتاب الرواد لذلك الذي ظل يتابع ويتأمل تلك الواقفة في الشباك طوال الليل، ويرسم الأفكار والخطط لإقامة علاقة معها، وفي الصباح يتبين له أن الواقفة في الشباك لم تكن سوي (قلة). وتلك هي الرؤية الأقرب لما أراده الكاتب – من وجهة نظرنا- حيث بدت الصورة في البداية أقرب إلي الوضوح، ليتضح بعد ذلك ضبابية تلك الصورة، خاصة مع تلك المعنية وراء الشباك (شيرين) علي نحو ما سنري.
ثم ندلف إلي كلمة (بناية) الغير معرفة، والتي تستدعي التهميش، وغياب الهوية أو المعالم. كما تتضمن في تداعياتها الزمن أيضا، حيث تستدعي كلمة بناية أيضا العتاقة والقدم. وربما التهالك.
ويزيد الأمر قتامة وتهميشا، كلمة (جانبية) أي انها ليست في منطقة النور، ليست علي الواجهة،وليست محط النظر. فماذا يمكن أن يكونه ساكن تلك البناية في الأغلب الأعم؟ وماذا يمكن أن يراه من ينظر من ذلك الشباك المظلم؟. وعلي الرغم من أن الغالب أن نتعرف علي ارتباط العنوان بمتن العمل بعد قراءة العمل. إلا أنه بعد القراءة (للمتن) نكتشف مدي ارتباط العنوان بتداعياته الأولية، بما يؤكد صدق ارتباطهما (العنوان والمتن) بأوثق الروابط.
ونبدأ في التعرف علي تفتت الشخصية وتوزعها، حينما نتعرف علي أن بطلنا يعيش حياته بين بيتين، بيت الأب والأم طيلة النهار، بينما ظلت حجرة في بيت جده محجوزة له، للنوم{من بيت أمى إلى غرفتى فى بيت جدتى مسافة قصيرة، امتلأت بدهشة "حامد" من وضعى هذا: آكل فى بيت وأعيش فى آخر.}ص47.
لنعلم أنه مشتت بين حاضره، أو ماضيه القريب،(الأب والأم والأخوة)، وماضيه البعيد (الجد والجدة). تلك الحجرة التي أصبح عليه تركها بعد وفاة الجد- وكانت الجدة قد فارقته من قبلها- وكأنه انسلخ من حياته بتلك المغادرة. وبتأمل المساحة المعطاة لحياته في واقعه المعاش، بيت الأب والأم، سنجدها أقل كثيرا من تلك المعطاة لحياته الثانية، بيت الجد والجدة، وكأنه يعيش بجسده في البيت الأول، بينما يعيش بروحه في البيت الثاني. ويدعم تلك الرؤية، رؤية الراوي نفسه للزمنين، زمن الماضي الذي يري فيه الهدوء والانسجام، وزمن الحاضر الذي غلبت عليه الفوضي والعشوائية، مستخدما اللألوان المعبرة عن أزياء المرأة التي .. هي الحياة:
{سقطت مملكة الفوشيا التي دخلتها كل نساء مصر، الفتح الآن للـ ANTI FASHION.}.
فإذا بحثنا عن تأثيرات لون الفوشيا، والذي .. كان.. فسنجده (يضفي لمسة حيوية وإشراقاً على ملامح البشرة، ويبعث في النفس الشعور بالبهجة والسرور. كما أنه لون أنثوي بامتياز ويلائم كل ألوان السحنة).أي اننا أمام حالة انسجام وتوافق، تلك التي يعيشها الراوي في بيت الجد، بينما نتبين شعوره عن .. الآن.. فسنجد الفوضي و ال anti fashion أي حالة القلق وعدم التواؤم مع المحيط الذي يعيشه. كما سنجده يعيش من خلال الآخرين..
فقصة الحب الأولي مع "شرين" والتي هي في الأصل وبالدرجة الأولي محبوبة صديقه، إلا أنه ظل يبحث عنها في الأخريات {ربما تخونني الذاكرة في استرجاع ملامح ناس لم أرهم منذ أمد، لكن ملامحها ماثلة بين الجفنين، لم تبرحهما أبداً.. هي الملامح ذاتها التي لقيتها في عيني دعاء التي نزلت في دار السلام..}ص76. {نزلت دعاء في دار السلاموتزوجت فتاة صديقي}.
بل جاءت كل حكايات الراوي من خلال اصدقائه، ومحبوباتهم. فمن خلال حامد أحمد تعرفنا علي علاقته ب "حنان"،و "سعاد". ومن خلال ساهر حشيش تعرفنا علي علاقته ب"زينب" . ومن خلال عبد المجيد رسلان تعرفنا علي علاقته ب"سعاد" حيث كانا مثالين لمسيرة الحياة التقليدية، إذ انتهي بهما الحب إلي الزواج. وعاشا حياة تقليدية انتهت بهما إلي الملل، وأصبحت كل النساء مشهيات .. إلا سعاد، التي ترهلت وتحولت صورتها في عيني عبد المجيد رسلان. ومن خلال محمد قابيل تعرفنا علي "سهام"و علي عمته "سيدة قابيل"، والوحيدة التي ارتبط بها الراوي بعلاقة ما.. ليست علاقة خارجية أو عاطفية، وإنما هي علاقة نفسية. فقد أصبح الراوي يأنس لحديثها، ويسعي لمقابلتها في بيت صديقه، حتي أنه أصبح يتمني ألا يجد صديقه عندما يذهب إليه في بيته، ليسعد بالحديث إليها. وليكتشف بعد فترة طالت كثيرا- حيث لم يصادفها يوما واقفة –{أتذكر الآن أنني لم أعرف بشللها إلا في نهاية العام الثاني من علاقتي بمحمد. كنت دائمًا أراها جالسة على كنبة بلدي في الصالة وأمامها ترابيزة بمفرش طويل يدارى ساقيها}. وهو ما مثل للراوي أن "سيدة قبيل" هي نموذج للإٌصرار والتحدي والعقل. فأن يتحدث الراوي معها عن الرسوم والسريالية.. فهو ما يعني أنها بالنسبة له ليست مجرد إمراة {في اليوم التالي. ذهبت إليه ولم أجده، فجلست مع عمته "سيدة قابيل". حدثتها عن صادق ورفضه لرسوم محمد السريالية، ذلك الرفض الذي كان يقابله محمد بسخرية شديدة، ثم يبدأ في رسم لوحة جديدة. نعم.. لا يصل منها معنى مباشرا، لكني قلت: علينا أن نفهم، أو على الأقل نحاول.(لن أرسم مرة أخرى)}.
وإزاء ما شعر به – الراوي – من قوة وإرادة في شخصية "سيدة قابيل"، والذي انعكس عليه، ليكشف عما تحركه في جوانيته من إحساس وما يحدد جانبا مهما في تحديد شخصيته، غير الظاهر منها. يضيئ لنا الكاتب ذلك المكنون في أعماقه:{الأمر ارتبط بفكرة الضعف والقوة، بالتحديد بأن أظل قويًّا في نظرها. كان ذلك الإحساس جديدًا تمامًا علىّ، أعانيه وحدي، ووحدي بين تلافيفي واشتباكاته الغامضة التي فتحت أبوابًا كانت مغلقة، قادت إلى أبواب أخرى وأبواب، هكذا ارتسمت المتاهة.}ص93.
كما يتبين نظرته إليها من خلال الأمنية التي تمناها ... ولم تتحقق.. بلقاء يجمع بين "سيدة قابيل" رمز العقل.. و "شيرين" رمز العاطفة { لماذا لم تأت معى شيرين إلى سيدة قابيل وتتعرف إليها.. لماذا ظل لقاؤها بسيدة مجرد أمنية وقفت فى طريقها الحوائل.}ص105. وكأنه تمني لقاء العقل والعاطفة، والذي يعني التواؤم والتوافق.. ذلك اللقاء الذي رآه مستحيلا، في ظل الظروف النفسية، والظروف الاجتماعية المحيطة أو المعيشة..
ومن خلال تلك العلاقة، بين الراوي و"سيدة" نستطيع الوقوف علي ذلك الصراع المعتمل في داخل شخصية الراوي. ذلك القابع في ذاته باحثا عن التفاعل، ولا يقدر عليه. باحثا عن الحب، ولكنه المستحيل، فكم بحث عن الحب، وقد أكد الكاتب ذلك في أكثر من موضع:
{كنت قد نسيته.. حامد أحمد!.
وجدته أمامي، وأنا جالس في مكاني، على السور المقابل لمدخل الكلية، أحدق في البنات بسعادة، وأبحث عن حبيبة.}ص43.
{قبّلت كفه ورفضت أن آخذ منه ثمن الجريدة، وذهبت إلى الكلية، أبحث عن فتاة أحبها.}ص60.
و{هل يمكن أن ينصلح الوقت ذات مرة، ويدفع فى طريقى ببنت تكون بعضاً من شيرين. بنت فى مثل دعاء التى نزلت فى دار السلام، تقبل أن تحيا معى فى هذا البيت؟}ص88
ولطول البحث والتمني، ربما قد تسرب اليأس إلي قلبه .. رآه مستحيلا. ولم يتبق له غير ذكري التي كانت .. شيرين :
{فصديقي ترك فتاته لأسباب عميقة جدًا، ولكن شبّاكها في البناية الجانبية بضوئه الأحمر الخافت ظل يملؤنا ببهجة المستحيل، وضفيرتها بقيت تعارك الأحلام.}ص13.
وتزداد الهوة في الفراغ النفسي، عندما ينفصل الراوي عن مجموعته، أو شلته، والتي يمكن تصنيفهم في جانب اليسار، وقد تؤكد كلمة "شيرين" للراوي حين قالت {أشعر أنكم لازلتم تؤمنون بالأحلام الكبرى، هكذا كانت تشى بكم أغنياتكم}. عندما يكتشف تعارض مظهرهم مع مخبرهم. إذ عندما عرض عليه صادق الترشح لرئاسة الشعبة الثقافية في أسرتهم الدراسية. يبدأ هو باحترام كلمة صديقه محمد قابيل الذي انتوي الترشح. غير أن محمد قابيل يتراجع عن رغبته في الترشح، فيقرر هو الترشح نزولا علي رغبة زملائه.. إلا أنه يكتشف أنهم كما اتفقوا معه سرا، اتفقوا مع أحمد الجبالي وسيد عبد المجيد المرشحين المنافسين .. كذلك.
وفي أحد إحتفالات الأسرة.. تجلس "شيرين" متألمة ولا تشاركهم فرحهم. ويعلم الراوي أنها تعاني من ضيق الحذاء، يسعي الراوي للبحث عن (سبرتو أحمر) ويساعدها في تليين جلد الحذاء، فتظهر بسمتها التي تتحول إلي ضحكة.. ويقيم الأصدقاء له محاكمة.. كيف يساعد تلك الأرستقراطية، وينحني علي حذائها؟ {وما معنى أن يحاكمنى صادق وساهر وعبد المجيد ومحمد قابيل فى اليوم التالى على ما فعلته معها، وينبهوننى بلهجة سلطوية لأهمية أن أعرف ما يريده الآخرون منى وماذا سيضيف إليهم ما معى، على ألا أسمح لهم إلا بالقشور}.
وما يزيد الأزمة وضوحا، أن نعلم أن "صادق" تزوج من "حنان سرا" (عرفي) – موضة الطلبة في تلك الفترة -. وبمنتهي اليسر والسهولة يطلقها ليخطب ابنة عمه الذي يسر له السفر. وتتجسد المأساة لدي الراوي، عندما نضع تلك المحاكمة التي نصبها الأصدقاء لتلك (الأرستقراطية) والوضع الذي أجاد وصفه الكاتب للوضع الاجتماعي لصادق هذا، عندما ذهب والد حنان إلي بلدة صادق، لنري تلك الصورة القلمية:
{نزل في أول البلدة. سأل عنه. مشى فوق مَدَقّ ترابي طويل، في نهايته سأل عن خالة "سر السعادة"، سيدة طاعنة، تجلس أمام مشنة جرجير وفجل وبقدونس وكرات، تنادى على "الورور". وقف يحدق فيها، قبل أن يسألها عن ابنها. هبت مذعورة، بعد أن تفلت في عبها وعن يسارها، ورافقت الرجل. حطت قدماها على عتبة بيت تتصدره فتاه تبيع الطعمية.. سألتها عن أخيها، وأجابت أنه بالنادي، وأرسلتها إليه.
دخل الرجل إلى غرفة غير مستوية الجدران. تتوسط أرضيتها حصيرة بلاستيك ناحلة.
خلعت "سر السعادة" شبشبها البلاستيك وهى تطأ الحصيرة. جلس فوق الكنبة الوحيدة بالغرفة وجلست على الأرض أمامه. عن يمينه مباشرة كان يتساقط ببطء، خيط رفيع من تراب أسود من فجوة مظلمة في عروق السقف، ويحط إلى جواره صانعًا هرمًا صغيرًا، ما إن يتكامل حتى تنفضه السيدة.
جاء صادق،
وبكل هدوء طلب منه الرجل تطليق ابنته، وكأنما ينفض عن يده ماءً.... طُلِّقتْ حنان}. ليفقد الراوي ثقته في أقرب أصدقائه، وتزادا الدنيا سوادا في عينيه.
فإذا ما أضفنا إلي ذلك انفضاض السند، أو انقطاع الجذور، بموت الأم والجد والجدة والخال. ليزداد شعورنا بتوحده وسط غابة من الفوضي وانعدام الثقة وانعدام الانسجام. ليخرج لنا إنسانا محطما قضت الظروف الاجتماعية والسياسية بالطبع للمجتمع علي أحلامه، وعدم قدرته علي إيجاد من يحب.. رغم طول البحث عن الحب.
إِحكام غير المُحْكَم
من البداية، ومن مفتتح الرواية {كعادته منذ سنوات عشر، يطل برأسه من الشباك ملهوفا، يتفحص المارين، وينظر في الساعة}. نتبين أن الحدث الرئيس في الرواية. هو وقوف الراوي في الشباك. يتأمل ويسترجع، ويستشرف. أي انه يعيش الأزمنة الثلاثة في ذات اللحظة. وهو الأمر الذي أدي من جانب توصيفنا للرواية علي أساس انتهاجها لأسلوب القصة القصيرة. ومن جانب آخر، هو ما أدي لتصنيفنا الرواية ضمن منهج "نيار الوعي". والذي يقوم علي التفكك أكثر مما يقوم علي الترابط، أي يقوم علي عدم الإحكام – الظاهري علي الأقل-.
غير أن المبدع، أي مبدع، لابد من شئ في أعماقه يريد أن يوصله. ولكي تصل الرسالة لابد من وسيلة للتوصيل، وحتي تصل الرسالة عبر هذه الوسيلة، لابد من تحديد مسارها، وإلا ضاعت الرسالة في الطريق، ولا تصل لمن أرسلت إليه. أي أنه علي من انتهج "تيار الوعي وسيلة للتوصيل، فرغم عدم إحكامها، الظاهري كما قلنا، فإنه يصبح مطالبا بالبحث عن وسيلة محكمة يضمن بها وصول رسالته، أو تنظيم غير المنظم.
فإذا ما أعدنا النظر في "شباك مظلم في بناية جانبية" لنتتبع خط سير الرسالة، والتأكد من وصولها، فسنجد أن الرسالة قد عبرت طريقها عبر عنصر الزمان.
فإذا كان الزمان الروائي (الداخلي) قد يتحدد بالفترة الزمنية التي يجري فيها الفعل الظاهري. فإن الزمن (الفعلي أو الحقيقي) لا يرتبط بذلك فقط، وإنما هو يمتد بطول حياة البطل، منذ ولادته، بل ومن قبل ذلك أيضا. حيث مكان النشأة وإسلوب التنشئة وشخصية كل من الأب والأم، والعوامل الوراثية، وغيرها، كلها تؤثر في تكوين وتركيب الشخصية. ونحن هنا أمام رواية تعتمد علي الشخصية، بل علي الأعماق الداخلية لتلك الشخصية، أو لاوعيها. الأمر الذي يجعل لكل تلك العوامل دورها المؤثر.
بداية سنلحظ أن الراوي يقع بين مجموعتين (بشريتين) للتأثير. مجموعة العائلة (الأب ، الأم، الجد، الجدة، الخال) ويمكن أن نضيف إليهم، من خارج العائلة "سيدة قابيل" باعتبارها ليست من المجموعة الثانية، مجموعة الأصدقاء (صادق وساهر وعبد المجيد ومحمد قابيل) إلي جانب ارتباطها بالبيت علي نحو ما وضحنا سابقا.
تبدأ الرواية بما يشبه المفتتح. دون عنوان أو تصنيف محدد. فقط تحديد المكان (شباك الحجرة). وتدفق سيل البنات من أمامه، فيتدفق سيل التداعيات في الأعماق. وكأنه يضع الأساس الذي ستنبني عليه البناية. وبعدها تبدأ المعالم في الوضوح. حيث تنقسم الرواية إلي بابين محددين بسنوات محددة.
الباب الأول 1986
والباب الثاني 1996
وينقسم كل باب إلي مجموعة من الفصول. وكل فصل يتنقل في أكثر من مكان وأكثر من موضوع. علي أن الكاتب لم يحدد أبوابا أو فصولا. لكنه اكتفي في البابين بذكر رقم السنة. واكتفي في الفصول بذكر اسم أحد الأصدقاء.
ومن خلال هذه التقسيمة – المتصورة- نستطيع تلمس حرفية الكاتب في محاولة إِحكام غير المُحكم، كما نستطيع رغم سكون الحركة في الشباك، نستطيع ملاحظة الزمن وتأثيره، وجريانه.
فإذا ما تأملنا ما جاء تحت العنوان 1986. فسنجد أنه يمثل مرحلة الشباب، أو مرحلة أن كانت المجموعة الأولي – مجموعة الأصدقاء – كانوا في مرحلة التعليم الجامعي. مرحلة الشباب والحلم. وعلي الجانب الآخر – مجموعة العائلة، فسنجد أنها كانت لا تزال علي قيد الحياة. وسنعلم أن العنوان 1986. لا يعني السنة وحدها، وإنما هو بداية مرحلة استغرقت عشر سنوات، أي أنها امتدت حتي بداية المرحلة الثانية (1996).
فسنجد في المرحلة الأولي أو ما أطلقنا عليه الباب الأول. سنتعرف علي أولئك الشباب، الذي كان مثقفا، إذا ما تجاوزنا مبدئيا علي التعريف الشامل للمثقف، وتوقفنا علي التعريف العامي له بأنه من يقرأ – في الأدب أو الثقافة- . حيث نجد أن الراوي يتحدث عن نفسه، في منولوج:
{ وأنت الملدوغ بالعيب واللا يصح وعشرة أرفف مملوءة بتاريخ الإنسانية}ص11
{ ولأنك لم تكن أبدًا خنجرًا مغروسا في قلب الحياة التي تكره أمثالك؛ فتحولت إلى دمعة من دمعات "برتولت بريخت"}.ص12.
ويتحدث عن صديقه حامد أحمد:
{نظرتُ إلى كتابه، محاولاً استكشاف عنوانه، بصعوبة قرأت: تشارلز ديكنز.
قال:
رواية الأوقات العصيبة]ص22.
ويتحدث عن صديقه محمد قابيل:
{سهرنا بغرفتى، شرب معي القهوة وقرأ مجموعة يوسف إدريس "بيت من لحم" وقرأت "أرخص ليال"}.
وعن صديقه ساهر حشيش:
{كان ممسكًا بديوان أمل دنقل "قصائد الغرفة رقم 8"}،ص44
وهو ما يحدد هوية تلك المجموعة، وما دعانا –سابقا - لتصنيفها ضمن تيار اليسار. حيث شباب هذا التيار هم من يملآون الندوات ويسعون لإقامة الأنشطة الثقافية، وهم أكثر من كان يتحدث، ويتباهي بالقراءة والكتب. وهو أيضا ما يجعل صدمة الراوي فيهم أشد، حيث كانت الشعارات البراقة هي سلاحهم. ورفضه لهم، حين اكتشف إزدواجية شخصياتهم،علي أرض الواقع، علي نحو ما أوضحنا.
وإذا ما انتقلنا إلي المجموعة الثانية (العائلة) فسنتعرف علي أنها ليست ببعيدة عن ذلك أيضا. فالجد يحفظ أشعار صلاح جاهين ويرددها، بل والجدة أيضا حيث تكمل الأبيات، وتطلب مع الجد من الحفيد أن يردد الكلمة التي كان ينهي بها جاهين رباعياته(عجبي) وكأنها طقس من الطقوس المتفق عليها، وعليهم أن يلقنوها الأحفاد:
{ ولدى نصحتك لما صوتي اتنبح
ما تخافشى من جنى ولا من شبح
وإن هب فيك عفريت قتيل اسأله..
فأكملت زوجه بعيون دامعة:
ما دافعشي ليه عن نفسه يوم ما اندبح
وفي صوت واحد قالا:
عجبي..
ثم التفت إليَّ، وقال:
ـ قل عجبي.
فقلت..}
وما يمكن أن نتصوره قد حدث في نهاية الفترة الأولي، وكأن زمنا قد مضي، حيث بعد أن استعرضنا أوضاع الشباب وأحلامهم في بداياته، وكأننا أمام نهايات مرحلة وبدايات مرحلة أخري. حيث نقرأ:
{نزلت دعاء في دار السلام}. تلك الجملة التي تكررت كثيرا –في مواضع مختلفة- بما يوحي برمزيتها. وما يمكن أن توحي به وداع، وتدفع إلي التفكير فيما يمكن أن يحدث بعد الوداع.
{وعبد المجيد رسلان مثلنا جميعا.. سافر. ("وكم توحي هنا "مثلنا جميعا" بمرور الزمن وتحركه علي مجموعة الأصدقاء جميعها)
.. ومثلنا أثث شقة.
.. صار زوجا وديعا، يشتري لامرأته الهدايا في المناسبات السعيدة، ويذهب بأسرته إلى المصيف كل عام.
.. اجتماعي
.. له ولد وبنت
.. عادل بين أسرته وأسرة زوجته.
.. مشكلته الوحيدة أن العالم لم يعد صادقاً بما يكفى وأن البنات في الشارع أصبحن أكثر إثارة من زوجته، حتى وهى فى قمصان النوم، التي أمسى يسميها كلاسيكية
.. مشكلته الوحيدة أنه صار يهرع إلى عادته القديمة، يستجلب في الظلام بأصابع مرتعشة نساء يتقن فنون الحياة.}. كل تلك الحركة والتغيرات. تتطلب زمناا تتحرك فيه. وهو ما يعني ديناميكية الزمن رغم استاتيكية الفعل 0الوقوف بالشباك).
وتبدأ المرحلة الثانية (1996)، وقد استمر تيار الزمن في جريانه وبدأت الأمور في الحياة العملية. وما يمكن أن نطلق عليها مرحلة التكشف والوداع.
فيبدأ هذا الباب ب{منذ عشر سنوات:
صلى جدي العشاء وذهب إلى أمي، احتسى كوب الحلبة باللبن الذي يفضله، ثم تنحنح وقال بخجل إن إقامتي في الغرفة منذ اليوم حرام شرعا} {أردف قائلا: إنني حتى صبـاح اليـوم، وقبـل إعـلان نتيجـة البكالوريوس كنت تلميذا، أستحق المساعدة، لكنى الآن أصبحت مؤهلاً لكسبالمال} ص72.
ويمثل موت الجد تحديدا، دور حيوي في التعرف علي أبعاد شخصية الراوي. فإذا كنا قد اشرنا أن الزمن الفعلي، في رواية الشخصيات تحديدا، يمتد إلي ما قبل حياته، فسنجد إشارة عابرة ترد عن الجد، تحدد تلك الجينات التي حملها الحفيد، ولم يستطع التخلص منها. تلك الإشارة هي:{ولأن جدى لا يحب الغرباء، فقد أدخلته من الباب المشرف على ردهة البيت}ص47. إذ تحدد جذور شعور الراوي بالوحدة والتوحد، وعدم قدرته علي التواؤم والتعايش بين الآخرين. فالجملة توحي بعدم الرغبة في الاختلاط. فضلا عن إشارة أخري تربط بين الجد والحفيد، وتؤكد أنه الوريث – في الصفات- والمختبئة، وراء فعل ظاهر، أخرج به الكاتب ذلك اللاوعي وراء الظاهر. فيعترف الراوي بعد موت الجد، وبعد أن أوعزوا إليه بتسليم مفتاح البيت الذي كان يحتل حجرة منه{أنا الوحيد في العائلة، الذي أملك غير جدي نسخة من مفاتيح البيت، ألمحوا لي عند الفجر أن أسلمها لعمى الأكبر.سيغلق البيت إذن! ولن تكون هناك بعد اليوم غرفة كهذه} {وهى الغرفة التي جاءت لي بالدنيا خالصة، وحطتها بين كفى}ص125.
وفي بداية هذا الباب أيضا (1996)يدخل–صاحبنا - البيت، فيجده شبه مظلم، رغم أن الوقت في الظهيرة، وكأنه إظلام الرؤيا، لا إظلام الرؤية
{هاج بطني.انتابني شعور طاغ بالقيء بمجرد أن دخلت من باب الشقة.رائحة مكتومة، خليط من أنفاس نوم، ورطوبة حوائط، ورائحة عرق جاف.كان البيت غارقًا في الظلام، رغم الظهيرة. أضأت نور الصالة، هرعت إلى شباك غرفة الجلوس، دفعته بغضب، وحططت على الكنبة البلدي وأنا ألهث}.
فيكتشف صاحبنا تعب أمه، وقد هاجمها التعب وهي في الحمام. وفي هذا الباب أيضا ترحل الجدة ويرحل الجد والخال، وتمرض العمة، التي تنازلت له عن حجرة العائلة طوال فترة حياتها، بما يعني القلق علي مستقبله في الحجرة. وما يمكن معه أن نتصور أن هذا الباب هو مرحلة انفضاض العائلة، أو السند من حوله، لتستبد به الوحدة، والفراغ في حياته حتي أنه ظل يبحث عن الحب، الونس، وكأنه يبحث عن الخل الوفي.
وليكشف لنا الكاتب عن ارتباط الراوي بالعائلة، للكشف عن فجيعته في فقدهم. نقرأ الفعل – الوحيد – الإيجابي الذي فعله الراوي هو ما قام به تجاه الجدة {لم يتقدم نحوها، أسبلت عينيها وأدرت جسدها الثقيل وحدك، موجهاً رأسها إلى القبلة}ص31.
وتزداد الفجيعة أن يموت زوج الخالة والخالة من ورائه:
{ واريناه التراب وعدت إلى زوجه، وقفت أمامها ولم ترني، كلمتها ولم تسمعني، شددت على يدها وكانت قطعة رخوة سائبة، فقبضت على كتفها صارخًا: خالتي.. خالتي}ص32.
ويتواصل إكتشاف الحقائق، أو المخبوء وراء السطح، في مجموعة الأصدقاء. وتبدأ بفجيعته في تلك التي كانت حبه الأول، في شرين. حيث تخبره بأن طموحه (المادي) محدود، وأنها تبحث عن المال، لا عن الحب.{لقد رتبت أمها للفرار منه بزيجة مرتاحة، وهو نفس نية شيرين التي أعلنتها صراحة، كما صارحتني بضعف طموحاتي المالية.
ـ نعم.. هو الحب بعينه، ولكن الحياة شيء آخر}.
وسالم حشيش يبحث عن قطعتين من ملابس زينب زميلته في العمل.. وسلسلة من المغامرات الجنسية معها. .. {ولا حتى زينب كانت تنفع.. جلدها تخين} ثم تزوج ابنة عمه بعد أن أحضر له عمه عقد عمل.
ومحمد قابيل، غام في عينيه المستقبل {لقد تخرجنا منذ عام وأوشكنا على الانتهاء من أداء الخدمة العسكرية، والآتي في عيوننا غائم، الدفعة التي تخرجت قبلنا لم يجد معظمهما عمل حتى الآن}.فذهب إلي أبيه طالبا أن يتنازل عن دكانه ليقيم مشروعا عليه مع أخيه الأصغر. وبالطبع يرفض الوالد ويطلب أن يتمهلا حتي موته، وبعدها فليفعلا في الدكان ما شاءا. ثم يموت الأخ الأصغر. دون أن يتحقق المشروع. والذي كان موته رمزا لموت المستقبل.
وقبل النهاية يضع فؤاد مرسي عنوانا جديدا (مقتطع)، يختلف في شكله وفي مضمونه. وكأنه باب منفصل متصل. وتم ترقيم فصوله، أو مقتطفاته بالأرقام. يؤكد في كل مقتطع منها حال شخصية من الشخصيات، وكأنه يعمل إضاءة علي تلك الشخصيات. فنجده مثلا يصور الراوي – دون أن يذكر شيئا عنه:{ العمر بيتسرسب وانت في مكانك واقف، مستسلم لهشاشتك وخوفك، اللي أصبح زي السرطان بيهدد كل شيء حواليك، بقيت زي دمعة من دمعات برتولت بريخت؛ لأنك مش عارف تبقى سهم فى قلب الحياة اللي دايما بتخوفك}.
وفي النهاية يضع عنوانا آخر، ملتبس في نطقه (مزج إلي) يصل بقارئه فيه إلي مرحلة الإشباع، بعد رحلة وعرة تداخل فيها الوعي باللاوعي، والواقع بالخيال. حيث يعرض خلاصة تجربة الوقوف في "شباك مظلم في بناية جانبية" والتي استمرت بعضا من الوقت، ربما خمس دقائق، وربما الساعة، اعتصر فيها حياة الراوي، بل حياة جيل، بل مشكلة مجتمع في زمن محدد.فكانت حياة مجتمع متمثلة في حياة شخص { يحفر مساراته في صفحة الوقت المتكررة بدأب لا يفصله إلا حسابات المكسب والخسارة المحتملة، تلك التي أجهضت نبتات رقيقة، كانت تتشوف للطلوع. بددت آمالاً وضيعت وجوها ممكنة سابت من بين أصابعي}.ص96. حيث تحول حلم الحب والبراءة، إلي مادية مقيتة، دثرت الماضي وأماتت الحاضر، ووأدت المستقبل.
صاغ فؤاد مرسي روايته القصيرة – نسبيا – بمنهج القصة القصيرة القائم علي الاقتصاد الشديد، وعدم الاستسلام للترهل. فجاءت الكلمات والجمل موحية تلقي بالقارئ في بحر من التهويمات والتأويلات التي توسع من الفضاء الزماني والمكاني، مستخدما إسلوب أقرب في بعضه إلي اللهجة الدارجة مثل (شافتك،شفت، البحلقة، اللتين كانتا قاعدتين، يحوش، ياوله، يا وسخ ...إلخ). وهو ما يشد القارئ ويشعره بالحميمية الجاذبة لمواصلة القراءة. فيحظي بمتعة قرائية ومتعة فكرية، ورؤية واقعية، رغم رومانسيتها.
Em:shyehia48@gmail.com
هوامش:
(1) - فؤاد مرسي –شباك مظلم في بناية جانبية - الهيئة العامة لقصور الثقافة – أصوات أدبية – ط1 – أغسطس 2002.
(2)- فؤاد مرسي – قنطرة الوداع - رواية – كتابات جديدة – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008.