لعل أسوأ ما في الواقع العربي الراهن هو حال التمزق على المستويات كلها، والمؤلم أنّ الأمة الواحدة تتنازع فيها "هويات" جديدة على حساب الهوية العربية الواحدة. كلمات موجزة قدمها الكاتب والمفكر العربي صبحي غندور في كتابه "الفكر والأسلوب في مسألة العروبة"، واضعاً سبابته على الجرح العربي المكشوف.
هذا الجرح (بحسب رؤية الكاتب) يتمثل عموماً بالتحدي الثقافي، الذي يستهدف نزع الهوية العربية، عبر استبدالها بهوية "شرق أوسطية" (على المستوى الخارجي) ونزع الهوية الوطنية المحلية (على المستوى الداخلي) والاستعاضة عنها بهويات عرقية ومذهبية وطائفية.. وفي هذا التحدي الثقافي سعيٌ محموم لتشويه صورة الإسلام والعروبة معاً. وهناك تركيز إعلامي وسياسي على تفسير وربط ما يحدث في المنطقة وتوزيع المناطق والأحزاب والحركات السياسية وفقاً لذلك.
المبحر في الكتاب يدرك وجوب التوقف عند محطات مهمة تبين مفاصل الحالة العربية:
اولاً: الحالة العربية السوداوية الراهنة هي مسؤولية الخجولين بانتمائهم قبل غيرهم، لأنهم عرفوا ان هناك مشكلة في أوطانهم فرضت عليهم "الخجل" بالهوية،، فهربوا منها أما إلى الأمام لانتماءات أممية (بأسماء تقدمية او دينية)، او للخلف بالعودة الى القبيلة والطائفية والعشائرية...
ثانياً: الفكر السائد الان في المنطقة العربية تغلب عليه الانتقائية في التاريخ وفي الجغرافيا، بحيث يعود البعض في تحليله، لغياب الديمقراطية في الأمة مثلاً، الى حقبة الخمسينات من القرن الماضي وما رافقها من انقلابات عسكرية، وكأن تاريخ هذه الأمة كان قبل ذلك واحة للديمقراطية السليمة!، والحال نفسه ينطبق على ما تعيشه الأمة العربية من ظواهر انقسامية مرَضية بأسماء طائفية او مذهبية او اثنية، حيث ينظر البعض اليها من اطر جغرافية ضيقة، وبمعزل عما حدث ويحدث من تدخل خارجي في عموم الأمة.
ثالثاً: المفاهيم التي تحرك الجيل العربي الجديد الان، هي مفاهيم تضع اللوم على "الآخر" في كل أسباب المشاكل والسلبيات، ولا تحمل أي "أجندة عمل" سوى إبادة "الآخر". وهي بذلك مفاهيم تهدم ولا تبني، تفرق ولا توحد، وتجعل القريب غريباً والصديق عدواً.
المتجول بين صفحات الكتاب وعلامات الترقيم يتوقف عند محطة رابعة تتحدث عن دراسة نشرتها مجلة "اتجاهات-كيفونيم" في شباط/فبراير 1982، للكاتب الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الإستراتيجية) تحت عنوان "إًستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات" وجاء فيها: "إنّ العالم العربي ليس الا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات، فهذه المنطقة قسمت عشوائياً الى 19 دولة تتكون كلها من مجموعات عرقية مختلفة ومن أقليات يسودها العداء لبعضها... وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزق العربي لتحقيق أهدافها وتقسيم المنطقة إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي".
المحطات العربية كثيرة ومتنوعة، إلا أن هناك محطة خامسة مهمة أشار إليها مفكرنا غندور، وعلى القارئ العربي إدراكها ووعيها جيداً لأنها تحتضن المفهوم الجمعي لمعنى الهويات "الثلاثية المزجية المركبة" وهي: "قانونية" (الوطنية) و"ثقافية" (العروبة) و"حضارية" (الدين). وهذا واقع حال ملزم لكل أبناء البلدان العربية حتى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكل الهويات أو بعضها.
*كاتب صحافي من فلسطين