يتناول الأكاديمي الجزائري رواية "الزلزال"، فيقارب معنى الفصامية المتعددة لبطل وحيد في كون هجرته الآلهة، وما انفكت سرديته تحاول مجادلة الملحمة. ويشير لمفرد شخصيات الطاهر وطار من حيث انسجام خطابها الروائي من صلب تفكك العالم الروائي الذي تتشظى فيه ذواتها لتتوحد مآسيها وخطاباتها.

أبطال الطاهر وطار.. انسجام الخطاب وتفكك العالم

محمد الأمين بحري

بوالأرواح في رواية «الزلزال» .. نداء متعدد لبطل وحيد
حينما نلتقي بوالارواح بطل رواية "الزلزال"، نجد أنفسنا إزاء بطل فصامي التركيب، يتنكر عالمه الخارجي المنبوذ لعالمه الداخلي الموعود، مما جعله قنبلة موقوتة تتحسس أوان الانفجار في أي منعرج من منعرجات الرواية.. داخلياً يسكنه مشروع جنة موعودة تزهر فيها حقوله وأراضيه اللامحدودة التي ورثها عن أسلافه القيّاد، ويبتغي فيها إتمام وصية الأمجاد، يجد نفسه إزاء عالم خارجي يهدده بالعقم والبوار وانقطاع النسل والانبتار، ويتوعده باستئصال شأفته وفكره، بل وطبقته الإقطاعية من جذورها. وهذا ما أشعل فتيل القنبلة التي بدأ خيطها الخارجي يتآكل وتلتهمه النيران، ومحتواها الجهنمي يتأجج حقداً ويتوعد العالم الخارجي بانفجار مهول لا يبقي فيه احداً من سكان قسنطينة التي جاء إليها باحثاً عن حفيد يرث أراضيه، ويحيي ماضيه ، فما كان من هذه المدينة إلا أن سلمته للتيه في شوارعها، واستفزته بالزيف الذي طال معالمها، والتهتك الذي تصدره شوارعها وازقتها، مما فاقم من غيضه وفجر براكينه حمماً على الجميع، فلم يجد من يشكو إليه مأساته، ولا من يشاطره معاناته سوى أوليائها الصالحين الذين اعتقد بأنهم يحرسون المدينة ويقاسمونه جور الزمن وهجران القيم. وهاهو يشكو إلى أحد أوليائها الصالحين (سيدي راشد) الذي تقلد اسمه أكبر جسور قسنطينة.

يشكو بو الارواح مغيثه سيدي راشد ولي المدينة وحارسها، الذي شاء له الطاهر وطار أن يبقى كآلهة خرساء تسمع ولا تلبي نداء المستغيث: "أرحها من الرعاع الذين يدنسونها بأبدانهم النجسة وبأفعالهم المنكرة، سلط عليهم "طَيْراً أَباَبِيْلَ تَرْمِيْهِمْ بِحِجاَرَةٍ مِنْ سِجّيِلْ". ابدأ من هنا من الأسفل واصعد إلى قلبها وطهره "(1).

وحين يلتفت يجد الأولاد الطائشين يدورون حوله ويجاذبونه ملابسه وهم يتصارعون حول من يظفر بمسح حذائه، وما يلبث يلفي نفسه طريدة مساحي الأحذية الأشقياء وفريسة يطاردونها حيث حلت، فينبرى موجهاً لاذع سبابه، ونافثاً زعاف سمومه في وجوههم: "مسحكم الله من أرضه الطيبة يا نسل الإثم والرجس"(2).

أما حين تحاصره مظاهر الزيف والروائح الكريهة ولغط الصبان، فإن الدنيا تتحول إلى دوامه تموج به، ليقف في ساحتها، ويستصرخ ربه، حين يتنكر له الأولياء ، عساه يرحه بنسف هذه المدينة السدومية الآثمة: "يا جهنم افتحي أبوابك وابتلعيهم واجعليهم وقوداً أبدياً لك.(...) يا سيدي راشد يا صاحب البرهان استجب لدعوة الحضري في مقهى النجمة: حركها بهم وبمنكرهم وفسقهم"(3). وتارة أخرى: "يا نسل السوء يا بذور الشر سلط الله عليكم وباء الطاعون.. وابتلعكم وادي الرمال"(4). وثالثة: "اللهم لا تبارك لهم في تجارة أو سعي، واقطع دابرهم"(5). ومن النص القرآني يستعير دعوة النبي نوح على قومه ليختتم بها خطابه الإداني الناقم: "رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكاَفِرِيْنَ دَيَّاَراَ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ ولاَ يَلِدُوْا إِلّاَ فَاَجِراً كَفَّاَرا"(6).

ولما لفظته مدينته، وتنكر له أناسها وأولياؤها وحراسها، وانقلبت عليه دعواته وبالاً، وجد نفسه مسحوقاً ومغترباً وسط ما يراه فساداً عارماً للبلاد والعباد، لم يجد إزاءه من سبيل سوى الانتحار على نمط الأبطال ثوريين، لكنه يُحرم هذه النهاية أيضاً، حين تدخَّل رجال الشرطة ومنعوه من تحقيق خلاصه بيده، وساقوه معهم واختفوا. لتنتهي الرواية على مشهد حرمان هذا البطل المستأصل حتى من الحل الانتحاري الانتصاري الذي خلدته الرواية الواقعية الاشتراكية، وشذ هو عنه انتقاماُ ونكالاً.

تبدو نكادية البطل بوالارواح مبررة فنياً وفكرياً على أكثر من صعيد، فحين يريد أن يكون أسطورياً، تخذله الأسطورة، وتخونه نماذجه البدئية(7) التي تغنى بها طوال رحلته الممتدة من الأجداد الذين أورثوه زخمهم الحضاري والثقافي إلى الأحفاد الذين يمثلهم ويطلبهم. وحين يريد أن يكون ملحمياً تخرس آلهته، التي حل الأولياء الصالحون محلها في الرواية، باعتبارها السند الميتافيزيقي للبطل، علماً أن الآلهة هي من أنقذ أبطال الإغريق في الملاحم، وحرم منها أبطال الرواية التي قال جورج لوكاتش، في حقها بأنها: "ملحمة عالم هجرته الآلهة"(8). وحين يريد الخلاص على طريقة  أبطال المدونات الروائية الكبرى، يفشل حتى في مخرج الانتحار. لتتكرس المحنة الوجودية بأقتم الألوان، وينداح التأويل بالعالم الروائي إلى الفلسفة الوجودية، لما صارت أزمة البطل في عالمه إلى هذا المآل، ولعل هذا ما أسست له الروائية منذ بدايتها، لتكرس خطاباً وجودياً ناقداً لفن الرواية من حيث بناء البطل، وللسياسة من حيث أزمة البطل، وللتاريخ من حيث اللغة الرمزية في خطاب ومخاطبة البطل.

اللاز: نداء وحيد لبطل متعدد
تشهد روايتا اللاز والعشق والموت في الزمن الحراشي، ولادات متعددة الأوجه لبطلها الإشكالي نصنفها على الشكل الآتي:
- الولادة الأولى:
تشهد رواية اللاز للطاهر وطار أول ولادة لبطلها "اللاز"، وهي ولادة غير شرعية
جعلته في منظور مجتمعه شخصاً مريضاً، مجنوناً لا سبيل إلى شفائه من شذوذه وشروره الفطرية. فمن ولد غير شرعي لا يمكن أن يكون شرعياً في يوم من الأيام. بينما يرى اللاز أنه يرزح تحت قهر المجتمع منذ رأى النور، وكونه ابناً غير شرعي فهذا ليس بيده، وهو معنى جوابه الفظ لأمه:" وهل اقترحت أنا ذلك يا عاهرة؟؟"(9). متبرئاً من عار جريمة لم يقترفها بالفعل فكيف تلتصق به بالقوة؟

وهنا يتبدى أول معاني نعمة الأصالة ومعضلة افتقادها، التي تزج بالبطل في مسيرة انتقامية من مجتمعه جعلته يعتنق خدمة عدو هذا الشعب، ولقي بنفسه في حضن المستعمر وخدمته لما فقد الأمان والأصالة والرحمة في مجتمعه. غير أن هذا المجتمع يعيد إلى هذا الولد الضال أصالته حينما يبدي الأخير ليونة في العودة إلى بيته، باحثاُ عن أصالة مفتقدة، فيمنحه المجتمع وسام الأصالة حينما كلفه المجاهدون بأول مهمة جهادية حمل فيها كلمة السر القائلة: "ما يبقى في الواد غير احجاره". الت ييشهد بها اللز ولادته الثانية الأصيلة.

- الولادة الثانية:
"ما يبقى في الواد غير احجاره". عبارة ملغمة تتلفع بمثل جزائري سائر يقول في ظاهره: بأن كل ما يدخل الوادي من محمولات دخيلة ليست أصلاً فيه فإن مصيرها الانجراف والزوال مع أول حملة من حملاته الكاسحة، ولا يبقى بعدها سوى بنات الوادي وهي حجارته الأليفة التي لا يعترف بغيرها سكاناً له. غير أن باطن هذا المثل الشعبي الذي يصول ويجول في فضاء الروايتين باحثاً عن معان ضافية يرسو عليها، يحمل دون شك أكثر من مدلوله الأنثروبولوجي المضمخ بمعاني الأصالة والتشبث بالجذور في الثقافة الشعبية الجزائرية، لأن وظيفته في رواية اللاز تعلقت باستعماله ككلمة سر بين المجاهدين أيام الثورة، وهي أول كلمة رددها اللاز حينما تم تكليفه بأول رسالة جهادية افتتح بها مشواره النضالي، فكانت رمزاً لتحول مساره من العمالة إلى الجهاد، ومن نغولة النسب إلى شرف النسب (حينما تعرف على أبيه الحقيقي زيدان في بداية مشواره الجهادي)، ومن التيه إلى وضوح الرؤية في مسيرة حياته، ولعل المعنى الأكبر الذي صير هذه المقولة مقدسة لدى حاملها (اللاز) هي أنها منحت لحياته المعنى الذي افتقده قبل أن يتقلدها وساماً منحه ولادة جديدة تعاكس ولادته المشوهة الأولى. وتقوده إلى ولادة ثالثة ترسم معالم مساره المأساوي.

- الولادة الثالثة:
تبدأ الولادة الثالثة للبطل "اللاز" حينما يشهاهد منظر ذبح أبيه الشرعي "زيدان"، هناك تهاوى اللاز على الأرض فاقداً وعيه، وفاقداً بذبح أبيه نهاية قصة أصالته وانقطاع آخر خيوطها التي تشبث بها لإثبات هويته البشرية  الأصيلة. وبهذا المشهد الذبائحي تنتهي رواية اللاز الذي يغادرنا فيها بطلها مغشياً عليه ولا يستفيق إلا في الرواية القادمة للطاهر وطار: "العشق والموت في الزمن الحراشي"، التي يمكن أن تعتبر الجزء الثاني لرواية اللاز. هناك أين نلتقي بطلنا اللاز لكن في صورة ثالثة مغايرة تماماً لصورتي الولادتين السابقتين، حيث يواجها شخصاُ مجنوناً، جراء مشهد ذبح أبيه زيدان امام عينيه.

لكنه في هذه الحالة يصبح درويشاً تتبرك به نساء القرى والمدن، وتلبسنه فوق ثيابه الرثة ثياب القداسة والبركة ليغدو قطباً ربانياً من أقطاب المتصوفة يضاهي لدى العوام شخصية سيدي عبد القادر، التي تقي من كل مكروه، وتحاك حولها أعجب الأساطير في طلب الشفاء حتى من العقم والمرض والمس: "يا سيدي يا شفيع المغلوبين، الملائكة تسبح لك والروح والجن والعفاريت، تخدمك مطيعة ذليلة، والنجوم والكواكب تنتظر كلمة منك لتعلن على ساعة الفناء. يا من لم يكن لك أب أو ولد. ولا أم ولا سند، يا من خرجت من شعاب الخلود جسداً يضم كل أرواح الطاهرين والصالحين. يا ولد سيدي عبد القادر الجيلاني، يا سيدي اللاز، يا سيد الخير، يا مولا البرهان. جئتك. قصدتك. وليس لي من مقصد. أستغيث بك وأستجير . ألطف بي وبالسبعة الذين ورائي يا سيدي اللاز"(10). وفي مشهد نوراني متعالي نلفيه هناك: "في غرب الغرب حيث لا نور إلا نوره. ولا صوت إلا صوته. ولا رحمة إلا رحمته"(11).

لنشهد في الولادات المتعاقبة لهذا البطل، ثلاثة أضرب من التسامي مختلفة التشكيل؛ حيث تسامى في ولادته الأولى عن المجتمع الظالم الذي حرمه الوجود الأصيل، ليرتقي في نظر جنود العدو الفرنسي، فيظهر شخصية متمردة لا منتمية.

ثم ما يلبث أن يتسامى عن وجوده غير الأصيل في حضن المستعمر، ليبلغ أصالته المنشودة بعودته إلى حضن مجتمعه وبين نخبة المجاهدين الثوار الذين أهدوه شرف النسب إلى أب مناضل من قيادات الثورة.

ونجده في ولادته الثالثة شخصية، نالت التعالي والقداسة  بعدما فقدت العقل، وهي آخر صور التسامي التي اعتنقها البطل ليتماهى مع كل القيم المجردة التي تهفو إليها الشعوب، لترتسم صورته النهائية في آخر صفحات رواية العشق والموت في الزمن الحراشي لتي يختتمها الطاهر وطار بقوله: " في كل قرية وفي كل مدينة لاز. ولا يعقل أبداً، أن تبقى قريتنا بلا لاز (...) أن اللاز هو الشعب. وأن الشعب هو المستقبل. وأن الإيمان بالمستقبل، هو سلاح كل مناضل ومناضلة"(12)، وهو تسام ينتقل به اللاز من ممثل لشخصية بشرية ارتحلت معنا من رواية إلى أخرى، متحولاً إلى قيمة اعتبارية متعالية مكانها بين القيم السامية التي تنشدها الشعوب المتحررة.

الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء. نداء بطل هجرته الآلهة..
في رواية يتساوى فيها الدعاء باللعنة،  في زمن التبعية والانمساخ يقول الطاهر وطار:
"هنا في زمن الوباء الذي عم، ليس فقط العالم العربي، إنما العالم الإسلامي، زمن صار فيه العرب والمسلمون جنداً للمسيحيين، يحملون أسلحتهم، ويلبسون ألبستهم، ويروجون لعقائدهم"(13). ويواصل وصف زحف الوباء على ما تبقى من قيم هذا العصر لذي انخرط في أزمنة الرذيلة: "كالجرب سرت عدوى الفسق والفجور، والاستخفاف بكل قيم الأولين. لكن الناس لم يعودوا يحكون جلودهم
..أولو الأمر بثوا أجهزة سموها تلفزات، يملأونها بذواتهم وببنات مسلمات عاريات متبرجات، وبما يمدهم به النصارى ويصنعونه هم من أفلام ملأى دعارة وفحشاً (...) هذا هو عرض الوباء الفتاك الذي ألم بنا"(14)، ولا ينهي وطاهر روايته إلا رافعاً يديه بالدعاء... دعاء يتكرر كاللازمة في كل فصل على لسان الولي الطاهر: "ياخافي الألطاف نجنا مما نخاف".."ياخافي الألطاف سلط علينا ما نخاف".

دعاءان متناقضان، لكنهما يتآلفان في خطاب الرواية ليتوحدا في المعنى والدلالة الثائرة، التي يتلبس فيها الدعاء للذات ثوب اللعنة، والدعاء على الذات ثوب اليأس الذي ينتظر للعنة أيضاً.

الشاعر في رواية "الشمعة والدهاليز".. نداء بلا رجاء
يقول بطل الرواية الشاعر (يوسف سبتي الذي أهديت إليه الرواية) في كلمات لن نعلق عليها لأن أي محاولة وصف أو تأويل من شأنها أن تشوه محمولاتها التي تغطي دلالياً مراحل تاريخية عدة، وليس فقط عشرية التسعينيات التي كتبت فيها الوراية، لذلك سنترك كلمات الرواية سائرة مسار الخطاب الثائر للروائي الطاهر وطار، الذي لم يكتب إلا ليرمي بحمم حنقه على أعداء شعبه وأمته، ويرثي خيباتهما التاريخية المتعاقبة في عبارة كتبها باكياً: "لا صدر اليوم (...) يضع عليه الشعب رأسه ويبكي، كلهم تحولوا إلى تجار ورجال أعمال ومضاربين.. إنني لا أريد أن أبكي أريد أن أقيم مناحة يشترك فيها كل من بقيت فيه ذرة من العقل"(15). ولنلاحظ بجلاء ظاهرة فريدة في خطابات أبطال الطاهر وطار التي عرضناها، متمثلة في ولادة انسجام الخطاب الروائي لهؤلاء الأبطال من صلب تفكك العالم الروائي الذي تتشظى فيه ذواتهم لتتوحد مآسيهم وخطاباتهم.

 

(ناقد وأكاديمي من الجزائر)

 

هوامش
(1) الطاهر وطار: الزلزال المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ENAG الجزائر(د-ط)، 2005، ص36، الآية من سورة الفيل: الآية: 3-4.

(2) رواية الزلزال: ص48.

(3) رواية الزلزال: ص63.

(4) رواية الزلزال: ص94.

(5) رواية الزلزال: ص119.

(6) رواية الزلزال: ص135. والآيتان 28-29 من سورة نوح.

(7) النماذج البدئية (Archétypes)، مصطلح أنثروبولوجي لكارل يونغ.

(8) جورج لوكاتش نظرية الرواية ص:– George LUCĂCS: La théorie du roman, 1963. p 49

(9) الطاهر وطار: الزلزال: ص11.

(10) الطاهر وطار: العشق والموت في الزمن الحراشي، موفم للنشر، الجزائر، ط4، 2004، ص99.

(11) نفسه ص28.

(12) نفسه، ص246.

(13) الطاهر وطار: الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء، موفمENAG  الجزائر(د-ط)، 2005، ص21.

(14) الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء: ص22.

(15) الطاهر وطار: الشمعة والدهاليز، موفم ENAG الجزائر(د-ط)، 2005، ص160.