نعود مع الباحث اللبناني المرموق إلى أجواء نضهوية نقترب فيها إلى مي زيادة (1886-1941) الشاعرة والأديبة، الخطيبة والناقدة، والرائدة في الحركة النسائية العربية، والمبدعة التي عانت في حياتها الكثير من الآلام، بالرغم من كل ما قدمته من أعمال في سبيل إنماء الثقافة العربية ونهضة المرأة العربية.

مي زيادة ريحانة الشرق

وفيـق غـريزي

مي زيادة، الشاعرة والأديبة، والخطيبة، والناقدة، والرائدة في الحركة النسائية؛ هذه المبدعة عانت في حياتها الكثير من الآلام، بالرغم من كل ما قدمته من أعمال في سبيل إنماء الثقافة العربية ونهضة المرأة العربية.

لقد عاشت مي في ظل أجواء نهضوية، حيث تفجر في ذاك العصر الإنطلاق الأدبي، وكان توهجاً من توهج هذا العصر، وقد برهنت أن الأديب لا ينسلخ عن عصره، ولا يمكنه أن يتوهج في عصر منطفئ.

حقاً، لقد عاشت مي زيادة في حقبة تاريخية نهضوية، في عصر مخضرم، أنتج عمالقة النهضة الحديثة في الشرق العربي، وأعلام هذه الحقبة أدباء كانوا أم علماء، تميّزوا على وجه الإجمال بالتفرّغ لنشاطاتهم الإبداعية، فأتيح لهم من وسائل التعمّق والإتقان ما لم يُتح للذين جاؤوا بعدهم.
كما كان هذا العصر أيضاً، عصر رائدات النهضة النسائية، منهن سابقات لمي، وقد مهدن الطريق لأخواتهن ومنهن: الشاعرة عائشة التيمورية، وزينب فواز العاملية وهدى شعراوي وملك حفني ناصيف المعروفة بباحثة البادية والشاعرة الدمشقية ماري عجمي والصحافية اللبنانية لبيبة الهاشم، والأديبة عفيفة صعب وسلمى صايغ وغيرهن.

الولادة والهجرة
ولدت مي زيادة في الحادي عشر من شهر شباط العام 1886 من أب لبناني هو الياس زخور زيادة، من قرية «شحتول» الكسروانية، وأم فلسطينية هي نزهة خليل معمر، في بلدة الناصرة، التي هاجر إليها الياس وعمل مدرساً في مدرسة الأرض المقدسة.

تلقت مي مبادئ القراءة والكتابة في الناصرة، ثم في مدرسة عينطورة «مدرسة الراهبات» وكانت في الثالثة عشرة من عمرها، في القسم الداخلي، بين عامي 1900 و1903. وفي هذه المدرسة نشأت في ظل التعاليم الدينية. وعندما تسلطت روح الإستبداد والقهر، والإضطهاد العثماني في لبنان، كانت في المقابل الحريات سائدة في مصر التي هاجر إليها الياس زيادة مع عائلته في العام 1908.

توافقت هجرة مي الى القاهرة مع إكتمال أنوثتها، فأصبحت إمرأة ناضجة آسرة الجمال، وقد راقت الحياة الجديدة لها، رغم المصاعب التي واجهت أسرتها في بداية حياتها في القاهرة.

دخلت الجامعة ودرست تاريخ الفلسفة العامة وتاريخ الفلسفة العربية، وعلم الأخلاق على المستشرق الإسباني «الكونت دو جلارزا» وتاريخ الآداب العربية على الشيخ محمد المهدي وتاريخ الدول الإسلامية على الشيخ محمد الخضري.

صالون مي الأدبي
عبت الصالونات الأدبية دوراً مهماً في نشر الثقافة، وإلقاء الضوء على إنتاج الأدباء والمفكرين والتعريف بالآداب المختلفة، ودفع الأدباء المغمورين الى النجاح والشهرة.

بدأت مي بعقد صالونها عام 1913، في منزلها الكائن في شارع عدلي، كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع. ثم انتقل عام 1921 الى إحدى عمارات جريدة الأهرام واستمر حتى الثلاثينات من القرن الماضي.

ومن روّاد صالون مي، أعلام النهضة العربية ومنهم: إسماعيل صبري، منصور فهمي، ولي الدين يكن، أحمد لطفي السيد، أحمد زكي، رشيد رضا، مصطفى عبد الرزاق، يعقوب صروف، شبلي شميل، سلامه موسى، إسماعيل مظهر، أحمد شوقي، خليل مطران، ابراهيم المازني، عباس محمود العقاد، أنطوان جميل، صادق الرافعي، طه حسين وغيرهم.

حقق هذا الصالون نجاحاً كبيراً، وذلك بسبب الخصائص الذاتية لشخصية مي، فإخلاصها وشبابها وتألق نبوغها وسحر حديثها، روى ظمأ روّاد الصالون، فأثّرت في أدب عصرها من الناحيتين الإنسانية والفنية. وكان الصالون يزدحم، وتناقش فيه الكتب الجديدة والقصائد الحديثة.

أدب ونضال
تنوعت الفنون والآداب التي عالجتها مي على اختلاف موضوعاتها، ولم تكتف بفن أدبي واحد، وتميّزت بالشعر والترجمة والخطابة والمقالة والنقد، ويرجع ذلك الى مواهبها المتعددة وملكاتها المنفردة، وهي تعتبر ظاهرة فذّة في عصرها، اتّسم أدبها بسمات كثيرة.

نبغت مي في عصر النيوكلاسيكية، أي في عصر جرى فيه بحث الأسلوب العربي الأصيل، وروعي فيه مقدار من التجديد البعيد عن التطرّف والتكلّف، وكان حرص النقّاد آنذاك على سلامة اللغة وأصالتها حرصاً شديداً جعلهم ينتقدون تجديد شوقي ويحاسبونه على هفوات لا نحسب لها اليوم حساباً.

حياة مي العشقية
الحب حسب رأي مي، هو الذي يجعل العالم هيكلاً تخشع فيه النفوس، فتجثو للعبادة والصلاة والاتحاد الروحي مع جميع قوى الكون، هو هذا الذي نعنيه عند ما نتكلم في الحب ونعظّم عواطف الحب.

الجانب العاطفي -العشقي- الوجداني في حياة مي زيادة هو أكبر الجوانب التي احتلت حيّزاً واسعاً من إهتمامات الباحثين والكتاب، ولكن رغم كل ذلك فقد بقي هذا الجانب غامضاً ومبهماً، وطرح الكثير من علامات الإستفهام.

ولا ريب أن هذا الجانب ترك آثاراً واضحة على مسار حياتها، وترك أيضاً بصماته على نتاجها ونتاج المفكرين والمحبين لها.

وحفلت حياة مي بالعشاق والمحبين كما كانت حياة جبران خليل جبران الذي أحبها وأحبته عبر الأثير والرسائل المتبادلة، وجبران واحد من عشّاق مي الكثيرين، وهي واحدة من عشيقاته الكثيرات، وثمة تشابه في التوترات النفسية وعقدها بين الإثنين.

مي وجبران
كانت شهرة جبران قد اجتازت المحيطات وبلغت الأراضي العربية ومن ضمنها مصر. وقرأت مي كتبه، فشعرت أن كتاباته تنم عن عاطفة إنسانية عالية ونادرة، وأخذت تتبع أخباره وما ينشره بإهتمام كبير، وأحست بجاذب خفي يشدّها نحوه، رغم بعد المسافات. وبعد تردد كتبت له رسالة عام 1912، تعرّفه فيها بنفسها وبنشاطها الأدبي، ظناً منها بأنه سيهمل هذه الرسالة. وبعد فترة، تلقّت مي رسالة جوابية منه، فكانت فاتحة باب العلاقة بين الإثنين. بدأت هذه العلاقة مبنية على أساس إعجاب مي بمؤلفات جبران رغم أنها في كثير من النواحي كانت تخالفه الرأي.

أعجبت به إعجاب المناقضة، ومع مرور الزمن تحوّل الإعجاب الى صداقة، فإلى حب، علاقة روحية عشقية متبادلة، وكل ذلك عبر الرسائل المتبادلة.

لقد أحبت مي في جبران ميثاليتها هي، وميثالية جبران في مؤلفاته ورسائله، ومع ذلك قاومت، وأرادت ان تحكّم عقلها في علاقتها بجبران، ولكن عاطفتها غلبت العقل والتعقّل.

وفي حياة مي أكثر من رجل، سهرت الليالي من أجله، تدبّج له خطابات طافحة بالعشق، وتظهر له عاطفة نيران العشق والشوق، ومن هؤلاء: عباس محمود العقاد، واسماعيل صبري، واحمد لطفي السيد، والرافعي وانطون الجميّل وامين الريحاني، وشبلي الشميّل ويعقوب صرّوف وولي الدين يكن.

واجتازت شهرتها حدود مصر والعالم العربي، وبلغت حدود الهند، فبعد أن راسلها الشاعر العراقي كاظم الدجيلي، أهداها شاعر الهند الأكبر طاغور إحدى قصائده الإنكليزية التي تحمل عنوان «طائر الصباح».

وكانت مي تصبو الى العيش في صميم الحياة ولا ترضى مطلقاً بأن تحيا على الهامش، وترغب في أن تترك أثراً منها حيثما حلت، وأن تطبع كل ما تمسه بطابع خاص. وكل هذا بغية تحطيم القوانين التي وضعها الرجل، والتي أعطته السيادة على المرأة، ووضعت المرأة في خانة الدونية. ولكن هذه الشخصية المتمردة ما

كانت تستقر على حال، كانت أبداً في غليان مستمر، وفي حيرة دائمة. تمقـت الــيوم ما اشتهته بالأمس، كانت عذبة وضارية في وقت واحد. وكل هذا انعكس سلباً على حياتها العاطفية.

نكبات مي
ما بين عام 1929 وعام 1932، تراكمــت النكبات على مي زيادة، بموت والدهــا الياس زيادة عام 1929، بعد موت إسماعــيل صبري 1923، وولي الديـن يكن 1921، ثم جبـران عام 1931 ووالدتها عام 1932، وهـذا، فجّر لديها بركان الخوف والقلق، وزاد من إضطرابها النفسي، خاصة بعــد أن أفاقت من خدر آلامها، فداهمها الواقع الضاري بكل ما انطوى عليه من أسى منغّص ويأس ناهش، فوجدت نفسها مستوحدة، لا حنان يهدهد أعماقها الصارخة، ولا عزاء يضمّد الكبد العليلة، ولا شيء يعيد إليها سحر الشباب ونضارته وإشراقته، وقد وصف الدكتور حالتها بقوله: «أخذ ميلها الى العزلة يظهر بعد أن فقدت والديها، وبعد أن غمر الحزن قلبها ونفسها ولكنها لم تقطع صلتها بالناس فجأة، وإنما قلّلت لقاءهم.

بعد عام 1932 أترعت كأس الألم، وأخذت تفتش عن الأحياء فلا تجد حولها إلا ظلاماً يتراءى خلاله شبح تنعق فوقه الغربان، حسب رأي الدكتور جميل جبر، وما زاد من هواجسها وتشاؤمها استغلال أقاربها لوحدتها، ليظهروا أطماعهم بثروتها وممتلكاتها وأخذوا يتحينون الفرص للانقضاض عليها.

رحلاتها الى أوروبـا، لم تخفف من مشكـلتها، بل تفاقــم شعـور الإضطهاد لديها، حتى أخذت تهلوس وتصـرخ: «لا.. لن تأخذ مالي»، وهي في تلك الحالة بعثت رسالة الى قريبها يوسف زيادة، تشرح له فيها حالتها وآلامها. ذهب الدكتور زيـادة الى مصر، وعاد برفقتها، وإذ رأى أن أعصابها لم تهدأ نقـلها الى العصفورية (مركز للمجانين)، وتم الحجر عليها وعلى أملاكها بحجة أنها مجنونة، الأمر الذي حدا بالصحافة للإحتجاج على هذه الفعلة السيئة تجاه ريحانة الشرق. وإثر الضغوط الرافضة لهذا العمل تم نقلها الى مستشفى ربيز، حيث زارها المفكر أمين الريحاني، فأضربت عن الطعام استنكاراً لسوء معاملتها.

بعد خروجها من المستشفى سكنت قرب الجامعة الأميركية، ودُعيت في عام 1938 الى إلقاء محاضرة حول «رسالة الأديب الى الحياة العربية» في الجامعة الأميركية، فسمع الحضور أعذب صوت وشاهدوا أجمل وجه، واتزانها العقلي دحض كل المزاعم المغرضة عن جنونها. وبعد ذلك انتقلت مع الريحاني الى الفريكة، ومنها عادت الى مصر، بعد أن فُك الحجر على ممتلكاتها، وقد قالت: «الحرية الشخصية هي التي هاجمني فيها جرّدني منها أولئك الأقارب الذين رموني بالجنون، ونشروا عني الإشاعات المتنوعة في الشرق والغرب طمعاً بالمال وفي المتاع الفاني».

في الثامن عشر من تشرين الأول العام 1941 ماتت ريحانة الشرق مي زيادة قهراً ويأساً. وعندما أسلمت الروح لم تجد حولها لا صديقاً ولا نسيباً ولا رفيقاً، بل رأت سقفاً مظلماً تدلت منه خيوط العنكبوت، وكانت جنازتها مثالاً في البساطة، «نعش قاتم سار وراءه لطفي السيد، انطوان الجميل، خليل مطران، إيمي خير ونفر قليل من الأصدقاء».

وكان القبـر الذي وارى جسدها يتحدث بلسانها: «هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي لبها الآلام والغصّات... قد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت ثم قضت».

كانت مي زيادة الأديبة والناقدة والشاعرة شاهدة عصرها، وعكست أمانيه، في صفحات إن أعوزها أحياناً ول النفس، ورصف البناء، فلم يعوزها لا الشعور العميق، ولا حرارة التعبير ولا صدق التجربة. والشعب الذي ضحّت من أجله الكثير لم ينصفها لا في حياتها ولا في مماتها.