يؤكد الكاتب اللبناني أن شباب لبنان استعاد صوته، وعودة روح التمرد والرفض والنضال إلى المدينة، وأثبت أن لبنان دخل في مرحلة جديدة اسمها مابعد الانقسام الطائفي الذي جسدته كتلتا 14 و8 آذار، اللتان اثبتتا كفاءة مدهشة في النهب، وعجزاً كاملاً عن تقديم الحد الأدنى من الكرامة للمواطن اللبناني.

بيروت 2015

إلياس خوري

السبت 29 آب/ أغسطس 2015 عادت بيروت إلى بيروت، فشهدت ساحة الشهداء مصالحة الناس مع مدينتهم، وعودة روح التمرد والرفض والنضال إلى المدينة التي استباحها أمراء الحرب ومافيات النظام الطائفي الاستبدادي.

-1-

أهم إنجاز للمظاهرة الحاشدة التي صنعتها إرادة شباب تمردوا على النظام الطائفي بكل رموزه، هو مصالحة اللبنانيين مع وطنهم. فالوطن المخطوف منذ عقود، والذي قامت طبقة رجال الأعمال والمافيا المتحالفة مع النظام الميليشيوي باستباحته، وتقديمه أضحية على مذابح نهبها وارتهاناتها الإقليمية، بدا وكأنه يستفيق من غيبوبة طويلة. كره الناس وطنهم وبلادهم، بل كرهوا أنفسهم، وهم يرون كيف انحدر بهم الزمن وتلاعبت بأقدارهم المافيا الطائفية، ليجدوا أنفسهم في النهاية مطمورين بالزبالة.

وعندما استفاق الوعي، وهي بالمناسبة ليست استفاقة من عدم بل هي تراكم بطيء لنضالات نقابية واجتماعية ومدنية، صنع صبايا وشباب لبنان مفاجأتهم الكبرى، تصالحوا مع وطنهم عبر التمرد والثورة والانتفاضة، وصالحوا كل الأجيال مع هذه البلاد المنكوبة بطبقة سياسية تُباع وتُشترى لأنها لا تعرف سوى قانون واحد هو قانون النهب.

في ساحة الشهداء امحت الطائفية من الشعارات والنفوس، وارتفع الصوت المدني العلماني، ورُفعت شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، وانصبت اللعنات على جميع اعضاء نادي النهب والكذب من دون استثناء. سقطت حصانات من اعتقد انه محصن ضد النقد، وتهاوت هيبة زعامات اعتقدت انها تملك الشارع بخطاب طائفي.

لكن المهم هو أن شباب لبنان استعاد صوته ورفع شعاراته، وأثبت أن لبنان دخل في مرحلة جديدة اسمها ما بعد الانقسام الطائفي والمذهبي العمودي الذي جسدته كتلتا 14 و8 آذار، اللتان اثبتتا كفاءة مدهشة في النهب، وعجزا كاملا عن تقديم الحد الأدنى من الكرامة للمواطن اللبناني.

ما بعد يعني اننا أمام منعطف سياسي وثقافي واجتماعي جديد. وهذا هو التحدي، تحدي صوغ أفق لبناني ديموقراطي علماني، يبني بديل سلطة القمع والقهر والذل.

-2-

أفلس نظام الحرب الأهلية بشكل كامل. فمنذ تأسيس الجمهورية الثانية في ظل الانتداب السوري، تشكل بنيان العجز، وصار التمديد عادة، وأصبح النظام عرضة لأزمات دورية لا حلول لها. في زمن الوصاية الانتدابية كان نظام الاستبداد في دمشق يلعب دور الحَكَم والشريك المضارب. يغطي النهب، ويحكم بين اللصوص ويتقاضى حصته الثابتة. لكن بعد انهيار نظام الانتداب على إيقاع انتفاضة الاستقلال، أُعيد تشكيل نظام الحرب الأهلية من جديد، بدءا من الاتفاق الرباعي وصولا إلى ورقة التفاهم بين حزب الله والعونيين، وانتهاء بانقسام عمودي طائفي شلّ البلاد بشكل كامل. ميزة هذا النظام انه يقوم على ثلاث ركائز:
لامركزية في السياسة الخارجية، بحيث يكون لكل مكوّن طائفي حريته في رسم سياسته الخارجية بما يتلاءم مع القوى الإقليمية التي تحركه و/ أو تموله و/ أو تحميه.

مركزية شديدة في النهب، تقوم على تقاسم دقيق لسرقة المال العام، عبر مافيا رجال الأعمال وقادة الميليشيات، هذه المركزية تقود إلى أزمات متعددة، يجري تطويقها وتسويتها بصعوبة.

أزمات دورية، بمعدل أزمة سنوية، يجري البحث عن تنفيس لها بطرق شتى. أفضل وصف لهذا الشلل هو انه يشبه مطمر النفايات، الذي يحتاج إلى مسارب لإخراج الغاز من جوفه كي لا ينفجر. الشلل يعني أن لبنان يعيش على شفير الحرب الأهلية من دون أن يدخلها بشكل واضح. انها حرب نائمة تسمح لأمراء الحرب والطغمة المالية–العقارية بأن تهدد الناس في حياتهم، كي تجبرهم على القبول بما لا يُقبل. الكرامات تُمتهن، الفقراء يزدادون فقرا، المطالب الاجتماعية يُطاح بها، وثروات يكدسها ناهبو المال العام في الكسارات والشواطئ المصادرة والرمول المشفوطة والعقارات والدين العام.

الأزمات الدورية تجتاح البلاد، وإذا كان الانفجار الكبير مؤجلا فهذا يعود إلى حكمة اللبنانيين الذين ذاقوا ويلات الحرب الأهلية من جهة، وإلى رؤية القوى الإقليمية للبنان بصفته ساحة جانبية فقدت أهميتها.

الاسم الملائم للنظام الحاكم هو نظام الحرب الأهلية. انه نظام سياسي يبدو فاقداً لأبسط مقومات السلطة، لكن سلطته الخفية بالغة القوة، لأنها بنية شبكية اخطبوطية تستطيع ان تتعايش مع أي شيء، من قيام حزب الله باحتلال أجزاء من سوريا دفاعا عن نظام الاستبداد، إلى عدم انتخاب رئيس للجمهورية.. إلى آخره.

-3-

اعتقد قادة نظام الفساد والنهب انهم يستطيعون الاستمرار إلى الأبد. يورثون الأبناء والأصهار، يتلاعبون بالوتر الطائفي من أجل حشد الأنصار، يتاجرون بالخوف من الآخر، ينهبون الدولة ويقيمون زبائنية الفُتات. لا شك أن هذه الطبقة الأخطبوطية التي نجحت في تدمير العمل النقابي وأفرغت المجتمع من دفاعاته التنظيمية، كانت تعتقد انها تستطيع الاستمرار في لعبتها إلى الأبد. وفجأة، وفي غمرة صراع الحيتان على «كنز النفايات» أفلت الموضوع من أيديهم، و"طلعت ريحتهم". كانت لحظة تحويل لبنان إلى مزبلة هي الشرارة التي التقطتها مجموعة من الشبان والمناضلين البيئيين كي تشعل احتمالات بناء رؤية جديدة وآفاق جديدة.

كان المشهد مدهشاً وحيوياً وخلاقاً. بدأت الهيمنة الطائفية تنكسر، وبدأ الناس يشعرون انهم يملكون بلادهم، وأنهم قادرون اذا قرروا على إحداث التغيير.

يجب ان لا نستهين بقوتنا، ولكن أيضاً يجب أن لا نضخمها، فالذي بدأ هو مشروع لكسر فجوة في جدار الاستبداد، والقوى المهيمنة لن تتراجع، قادة ميليشيات في أعناقهم ألوف الضحايا لن يستسلموا بسهولة، وسيقاتلون بشراسة ووحشية. من هنا يجب الوعي بأن ما بدأ هو مسار تغييري وليس التغيير نفسه. ان تحقيق مجموعة من المكتسبات الصغيرة أشار اليها البيان المشترك الذي أعلنته الحملات جميعا، كفيل بأن يفتح الباب أمام قانون انتخابي نسبي وخارج القيد الطائفي، سيكون بداية التغيير.

السبت 29 آب/ أغسطس هو البداية التي آن لها أن تبدأ، وهذه البداية تحتاج إلى الوعي والصلابة من أجل إدارة معركة وجود القوى المدنية والعلمانية والديموقراطية، لأن وجودها صار اليوم اسما آخر لوجود لبنان كوطن.

-4-

افتقدنا في ساحة الشهداء الرفيقين الشهيدين سمير قصير وجورج حاوي. سمير قصير بشبابه الدائم وحيويته وذكائه وقدراته الفكرية والتنظيمية، وجورج حاوي بما يمثله من استمرار لخط نضالي مديد، هذا الخط الذي بنى النضال النقابي وأسس للمقاومة الوطنية. افتقدناهما رغم أنهما كانا معنا، سمير يكتب اليافطات ويطلق الشعارات ويدعونا إلى العودة إلى الشارع، وحاوي يصوّب الاتجاه ويعطي المناضلين جرعات الأمل.

الدم المسفوك لم يذهب إهداراً، انه يورق اليوم في حركات شبابية ترفع راية النضال السلمي وتؤسس لوطن آن له أن يولد من ركام الحروب والخيبات.