هو ذا الأديب الكوردي بدل رفو المزوري، يواصل العمل الدؤوب على مشروعه الكبير، في ترجمة عيون الشعر النمساوي، إلى اللغتين العربية والكوردية، منذ أن وطأت قدماه أرض بلاد النمسا الجميلة، التي أبهرته، كجغرافيا، وكشعب، لتكون وطنه الثاني، بعد كوردستان العراق، مهد الطفولة والحلم الأول.
وبدل الذي تذوّق أكثر من حرمان، منذ أن انفتحت عيناه على الحياة، ليفتقد أشياء كثيرة،كضريبة لوجوده ، دفعة واحدة: الوطن، الأب ، الفرح، مادام وطنه مكبلاً ، بأصفاد من نار، تحت نير قبضة، دكتاتورية، استبدادية، شمولية ، قلّ نظيرها في العالم بأسره، وقد حكمت بالنار والحديد، وكي تخطف يد المنية أبيه، وهو لا يزال يتهجّأ الألوان والمفردات، ويُشطب في معجمه على الفرح، ولا يبقى لدنه إلا الحلم، بوّابة مشرعة، على اللانهايات، توازن في روحه معادلة الحياة الأكثر صعوبة على الإطلاق.
من هنا، فإن أديبنا بدل وجد في اللّغة أساطين يمكن للحظته أن تستوي عليها، بعد أن تخيّر رسم عمارتها وفق ما يراه، كي نكون أمام هرولاته ولهاثه، تحت وطأة الحلم، وتغدو هذه المفردة وسيلة اتصاله بمن حوله، في إهاب قصيدة، بمختلف أشكالها، إبداعاً، وترجمةً، وروحاً، قبل ذلك كله .
وبدل رفو توأم الحلم، لم يجد بداً حين ضاقت به أمكنته الأولى الأثيرة، مسقط رأسه، وقصيدته ، وغدت قاب قوسين وأدنى من الانتهاء في دهاليز- غرف الأسيد- وهو المبدع الذي لم يهادن راياتِ اللّحظة، ولم يعرف في حياته غير قول كلمته ، كلمة أعماقه ، لذلك فهو لم يجد بداً من الانخراط مكرها ً في لجّة – الهجرة المليونية-في استهلالة العقد الأخير من الألفية المنصرمة، مع أبناء جلدته من الكورد، حين لاحقت الكورد رائحةُ موت جديد ، على مقربة زمانية من مأساة حلبجة،كي ينجو بأعجوبة من بين براثن أظفار الموت ، ويتجاوز فخاخ الحدود التي تجزّىء خريطته، ويحط ّالرّحال بعد رحلة المتاعب في أرض بعيدة، سرعان ما يألفها، ويجد فيها الأم الرؤوم، والصدر الحنون، بعد أن غدا على ُبعد آلاف الأميال من أمه التي يحتفظ كلّ منهما بصورة الآخر في بؤبؤ العين، ومسامات الروح، أو بين ثنيات الحلم آفاقه المفتوحة على الأسئلة.
ولعلّ ظروف الحياة الجديدة، والإصرار على البقاء، بل البقاء واقفا ً، من قبل أديبنا ، عاضّاً على الجراحات الشاسعة في أديم الروح، لم تمنعه من تعلم لغة موطنه الثاني، وهو الذي يتقن في الأصل لغات أخرى، إلى جانب لغته الكوردية الأم كالعربية والإنكليزية والروسية، لتكون الألمانية اللّغة التي ستأخذ بلبّه ولبابه ، ويتجاوز عالم التحدث والكتابة بها إلى الإسهام في اللعبة الإبداعية بها ، كما العربية والكوردية ، ولتصبح هذه اللغة أداةً للتواصل مع من حوله في محيطه الجديد ، يتوغل في أعماق لحظتهم ، ويقف على الينابيع الثرّة لإبداعاتهم، ليعرب أخيراً عن اندغامه في تذوّق جمالياتها ، منبهراً بها أيّما انبهار ، كي يسعى بعدئذ ، ليترجم وفاءه لهذا الشريط الزّمكاني ، الذي آواه من منفى، ودثّره من برد، وحماه من جلاد ، و غسل روحه من جراح ، ومنحه مفاتيح الدفء والحب ، والتفاؤل ، رداً على واقع الاستلاب الذي يهدده ،كي تتشكّل النقلة الإبداعية لعموم تجربته الكتابية، وهو يعيش وطأة الصّدمة الجديدة في الخطّ البياني الحياتي لديه، فكان أن أقدم على إنجاز – أنطولوجيا الشعر النمساوي في العام 2008 ، مترجمةً إلى اللغة العربية ، ليعرّف قراء هذه اللغة بالشعر النمساوي ، عبر لغة جميلة، سلسة ، مشوّقة، كي تنحفر في أذهاننا كقراء لها أسماء قامات إبداعية نمساوية عالية، ولنعرف النمسا إبداعاً ، وهو لعمري أبهى ضروب المعرفة،كما نعرفها جزءاً ذا خصوصية في خريطة أوربا، والعالم، في الوقت نفسه الذي قدم أنطولوجيا مماثلةً لهذا الشّعر النمساوي بلغته الكوردية، الأم، مترجماً ما تهجس به روحه، من حب سرمدي للشعر ، قبل أن يترجم محض نصوص إبداعية، كي يكون حاضراً في شتى النصوص المتخيرة ، وكأنه محض شريك لمبدعيها واحداً واحداً .
وأديبنا بدل الذي عرفته على امتداد سنوات طويلة ، شاعراً وصحفياً ومترجماً، ذا حضور لافت ، عاملاً معه عن قرب في أحد المنابر ، ومن ثم صديقاً عزيزاً ، أعده من أسرتي ، بحق ،وسفيرا ً- بالتالي – لأهله ، وأبناء جلدته إلى العالم ،سفيراً فوق العادة ، للعالم إلى العالم ، هو من أولئك الذين لا يملّون من ترجمة تفاصيل حلمهم ، ولعلّ ذلك كله ما دعاه لئلا يكلّ أو يملّ ، حيث يواصل عبر هذا السفرالجديد الذي يقدمه لنا ،تحت عنوان – قصائد حب نمساوية للأرض والإنسان ،وهو عبارة عن أنطولوجيا جديدة ، حتى وإن لم يدرجه تحت هذه التّسمية ، كي نكون أمام عدد كبير من الشعراء ، والشواعر النمساويين، في إبداعات من قصائد تتمحور في إهاب الحب ، حب الأرض والإنسان ،وهما أسطونا الحب الحقيق ،وقوامه على الإطلاق.
ولعلّ قراءة تشكّل هذه الحديقة الإبداعية التي يضعها أديبنا بين يدي قارئه، تبين أن هذه المختارات المائزة في المفردات المكونة لها ، تنمّ عن ذائقة مائزة ، وهي بالتالي :قصيدة مترجمها، خاصة وهي تبدو وكأنها مكتوبة – في الأصل – باللغة المترجم إليها ، وتظهر تدرّجات لغتها خصوصية كلّ تجربة ، بل وكل اسم على حده ، وهو ما يدلّ على أن المترجم كان ينقل هذه النصوص إلى اللغة المترجم إليها بحبّ عارم ، حب هو من دعامات الترجمة الناجحة التي نشعر في حضرتها أننا إزاء نصوص تنبض بالحياة ، على خلاف الكثير من النصوص المترجمة- آلياً – هنا وهناك ، و التي تفتقد إلى مقوّمات الشعرية .
وتأسيساً على ما سبق كلّه ، إن الجهود الكبيرة التي يبذلها المترجم لبناء الجسور بين آداب وثقافات الشعوب- وبخاصة أن الشعر روح الثقافة والفن - من خلال الترجمة بين عدة لغات ، ومن بينها هذه النافذة المضيئة على الشعر النمساوي ، لهي دليل كبير على سمو روح هذا الأديب والمترجم ، الذي يجد في الشعر نسغاً لروزنامته اليومية، وهو ما يحدو به، لكسر أية سدود تحول دون التواصل بين أبناء القرية الكونية ، القرية التي يشدو سكّانها بأغنية واحدة ، كلّ بصوته ، بيد أنها – في النّهاية – قصيدة الحبّ الكبير، وهل من حبّ أعظم وأسمى من حب لبناته الرئيسة : الأرض والإنسان ؟
تحية – الحبّ- إذاً إلى الأديب الكردي العالمي اللامع بدل رفو وهو يضع بين أيدينا هذه السّوناتات الجميلة ، لتكون هويّة روح شعب ، وعصارة إبداعه العظيم ، ولندرك – مرّة أخرى – أنّ الإبداع الإنساني واحد ، وإن تلونت أصداؤه، وتناءى صانعوه ، مكانياً ، مادامت خريطة الشعر واحدة ....!
الامارات