على إثـر مقال الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي ودعوته لتكريم الشاعر محمود توفيق، وجه د. عبدالواحد النبوي وزير الثقافة الإعداد لتكريم الشاعر محمود توفيق. وقد اتفق الشاعر حجازي خـلال زيارته للدكتور النبوي، بحضور د. محمد أبوالفضل بدران الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، لإعـداد اللجنة التحضيرية برئاسته، وعضوية كل من د. عبد المنعم تليمة، شريف عطية، إبراهيم فتحي، عبدالقادر شهيب، كمال مغيث. على أن يتضمن التكريم عقد ندوة نقدية حول أعمال الشاعر محمود توفيق.
وصـرح وزيــر الثقافة أن سلسلة التكريم ستستمر لتكريم رواد الأدب العربي عبر الأجيـال بجميع البلدان العربية. وقد كتب الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي مقالا في جريدة الأهرام (الأربعاء 26/8/2015) عن هذا الشاعر غير المعروف على نطاق واسع تحت عنوان "معا.. نكرم هـــذا الشاعر المناضـل" وجاء فيه: أريد فى هذه المقالة أن أدعو المثقفين المصريين وأدعو وزارة الثقافة لتكريم شاعر من شعرائنا المناضلين لم يبخل على شعبه وبلاده بشيء يملكه، وهو يملك الكثير، ولم يطلب لنفسه شيئا يستحقه، وهو يستحق الكثير، بل قدم كل ما يملك ولم ينتظر جزاء ولا شكورا. والأصح أنه أعطى كل شيء وهو يعلم علم اليقين أنه سيجازى على ما يعطيه شر الجزاء.
لقد دافع عن المظلومين المحرومين مع الذين دافعوا عنهم من المناضلين الأشداء والمثقفين النبلاء. ولقد أعلن الحرب على الطغاة المستبدين واللصوص المتوحشين الذين سرقوا ثروات الشعب وصادروا حرياته فماذا يكون جزاؤه؟ لقد قضى عمره محاصرا مطاردا سجينا معتقلا لا ملجأ له ولا ملاذ إلا الشعر يجد فى ظله أمنه، ويبثه حزنه، ويناجى نفسه، ويسترد حريته. وها هو ينتقل فى هذه الأيام من التاسعة والثمانين إلى التسعين وقد فقد ما لا بد أن يفقده الناس حين يتقدمون فى العمر ويغذون السير فيه. الشموس التى غربت، والأحلام التى خابت، والشباب الذى ولي، والأقرباء والأصدقاء والرفاق الذين رحلوا، والعالم الذى اختفى وحل محله عالم آخر. وجوه، وأشكال، وأسماء، وألوان، ومفردات لا يجد فيها المرء نفسه لأن حياته ذهبت مع العالم الذى ذهب ولم يبق منها إلا ما نملكه من كبرياء نقاوم بها ما يمر بنا من لحظات الضعف ونوبات الوحشة. وهذه هى ثروة الرجل الذى أحدثكم عنه فى هذه المقالة.
وأضاف حجازي عن الشاعر محمود توفيق أن الكبرياء ثروته التى كانت تتضاعف فى مواجهة ما تعرض له من فقدان ونكران. لأنه كان ينظر لماضيه فيشعر بالرضا عما قدمه ويستغنى به عما فقده فى الحاضر وعما لا يجده فيه. نعم، هو الآن مكتف بنفسه مستغن عن غيره، لكننا محتاجون إليه. محتاجون أشد الاحتياج للقيم التى أخلص لها هذا الرجل وللأمثلة التى قدمها، ولهذا أدعو المثقفين المصريين وأدعو وزارة الثقافة لتكريمه.
ويوضح أن توفيق جمع بين الشعر والنضال في إخلاص يكشف فيه الإنسان عن سريرته، واكتمال يصدق فيه الفعل مع القول، ويسأل كل منهما عن الآخر فيجيب. ولعل هذا المعنى هو ما قصد إليه أحد الشعراء المعاصرين حين قال: إنه لا يكتب الشعر، وإنما الشعر هو الذى يكتبه، يقصد أن يقول: إن شعره تعبير عن حياته، وحياته ترجمة لشعره، ومحمود توفيق يعبر عن هذا المعنى فى رثائه البليغ لصديقه ورفيقه عبدالرحمن الشرقاوى فيقول:
أطلاع أجواز الثنايا، وقاهرا
مخاطرها، والفاتح المتوثب
ورواد آفاق الحياة، وكاشفا
حقائق تخفى عن سواك وتحجب
تبوأت عرش الشعر فارتد للصبا
فأنت أمير الشعر، والأم، والأب
حدائق من ورد الكلام غرستها
تفيض على الدنيا عبيرا وتسكب
خلعت عليه النبل لفظا وغاية
فصار له فى النبل شرع ومذهب
إذا الشعر لم يحيى المكارم والعلا
فلا خير فيه حين يروى ويكتب!
يقول حجازي: هكذا نقرأ شعر محمود توفيق فنراه ونرى معه جماعته. شعراء وكتاب منهم عبدالرحمن الشرقاوى وكمال عبدالحليم، وعبدالرحمن الخميسى ومحمد على ماهر، وسعد مكاوي، وأقرباء شعراء أيضا ومناضلون. والده محمد توفيق علي الذى سبقه إلى الشعر والنضال، وابن عمته وصهره يوسف صديق.
والده كان ضابطا فى الجيش، شارك فى حرب استرداد السودان بعد الثورة المهدية، ثم اصطدم مع رؤسائه الإنجليز فاستقال وعاد إلى الوطن يزرع أرضه ويكتب قصائده. وابن عمته يوسف صديق، أحد أهم الضباط الذين قاموا بحركة يوليو. لكنه كان ضابطا مثقفا مؤمنا بأن الديمقراطية هى الطريق الوحيد لتحقيق أهداف الحركة. ولهذا كان من رأيه بعد إسقاط النظام الملكى أن يعود الجيش إلى ثكناته ويسلم السلطة للمدنيين، وهذا هو الموقف الذى شاركه فيه محمد نجيب، وخالد محيى الدين، وثروت عكاشة، لكن الضباط الآخرين تشبثوا بالسلطة وألقوا به وبزملائه وبالديمقراطية فى السجون والمنافي، فلم يبق له إلا شعره الذى جمعه فى ديوان استولى عليه رجال المباحث فى غزوة من غزواتهم وضيعوه إلا قليلا من القصائد التى جمعها ذووه من هنا ومن هناك، ومنها قصيدة استقبل بها حفيده الذى حمل اسمه «يوسف صديق» ابن محمود توفيق من زوجته وبنت خاله السيدة سهير بنت يوسف صديق الكبير الذى كان سجينا معتقلا فى السجن الحربى حين ولد حفيده فى يناير عام 1955 فقال يرحب به:
أقبلت تسعى من الظلماء للنور
فأسلمتك دياجير لديجور!
أشرق بنورك فالأيام حالكة
من هول ما اقترفت فينا من الجور
ونحن نعلم أن السجن منزلنا
حتى ندك حصون الإفك والزور
جرد حسامك فالميدان مفتقد
سيفا يضيء به فى كف نحرير
والحق بقومك، أسرع، إنهم سبقوا
وخذ مكانك فى ركب المغاوير!
كأنها سلالة مصرية خاصة يتوارث أبناؤها الشعر والنضال كابرا عن كابر وجيلا عن جيل. من الآباء والأجداد إلى الآباء والأحفاد. يتوارثون الشعر والنضال ويتحملون معهما التضحيات التي لا بد أن يتحملها من يجمع بين النضال والشعر، فالشاعر المناضل لا يقنع بالممكن، ولا يرضى بحل وسط، ولا يقتسم الغنيمة مع اللصوص. وإنما يطلب المثل الأعلى ولو كان بعيدا مكلفا، ومن هنا كان «السجن منزله» كما قال يوسف صديق في الأبيات السابقة.
محمد توفيق علي والد محمود توفيق اصطدم بالإنجليز وترك الجيش. ويوسف صديق طلب الديمقراطية فاصطدم بعبدالناصر وقضى بقية حياته سجينا منفيا، وكمال عبدالحليم، وشقيقه إبراهيم، ولويس عوض، وصنع الله إبراهيم، وألفريد فرج، ومحمود توفيق الذي يحدثنا عما تعرض له هو وأسرته فيقول "اعتقلت فى جبل الطور، وعين شمس، وروض الفرج، وسجنت فى سجن مصر (قره ميدان)، والاستئناف، والقناطر، والقلعة، والواحات، وأسيوط، وأبي زعبل، والسجن الحربي، وكان ذلك بسبب انتمائي للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني أكبر المنظمات الشيوعية، ولمعارضتي للاتجاه الدكتاتورى الذى انزلقت إليه ثورة يوليو".
هذا هو ما قدمه لنا هذا الشاعر المناضل، وهذا هو ما تحمله في سبيلنا. ألا يستحق اليوم وهو في التسعين أن نكرمه؟ نحن لا نكرم شخصا. وإنما نكرم قيما رفيعة نحتاج اليوم لإحيائها. نحتاج لشعر مسئول، ونضال لا يكل في سبيل العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان.