تكشف الناقدة العراقية المرموقة في قراءتها الحصيفة لهذا الديوان كيف أصبح التجريب والتداخل بين اللغات والتناصات أداة التجسيد الشعري للمعنى والرؤية في عالم مثقل بالفوضى والخلل، يعاني فيه الوطن العراقي من ويلات الفساد والطائفية وفقدان الأمان، ولا يمكن التعبير عن أوجاع إنسانه الفادحة بغير التهكم والسخرية.

شعريّـة التَّجريــب بالتداخل

قراءة فِي نموذج شعري معاصر

بشرى البستاني

1

يُميز الكسندر كويري بين التَّجربةِ والتَّجريبِ، كون التَّجربة جزءاً مِنْ المعرفة الَّتِي تسبق العلمية بسبب خلوها مِنْ الشّـروط العلمية والموضوعية، فِي حين يشتغل التَّجريب عَلَى المساءلة المنهجية للطبيعة الَّتِي تفترض جملة مِنْ الشّـروط والمبادئ المنهجية الَّتِي تجعل منه منهجاً علمياً منظماً(1) ومن الحقل العلمي انتقل التَّجريب مُصطلحاً ليدخل فِي فضاء الأدب والفنون عاملاً مُهماً مِنْ عوامل تطورها عبر سيرورتها التَّاريخية، ولاسيَّما فِي الأزمات الَّتِي تشكل مآزقَ فِي حياة الأمم والشّعوب؛ مما يجعلها ويجعل فنونها بحاجة حاسمة لتغيرات نوعية قادرة عَلَى محايثة الواقع الجديد.

باشتباكاته المربكة وشّديدة التعقيد. فالتَّجريب قرين الإبداع؛ لأنَّهُ يسعى إِلَى ابتكار أساليب جديدة فِي طرائق التَّعبير الفني، إنه جوهر الإبداع وحقيقته عندما يتجاوز الاعتيادي والمألوف ويغامر فِي تشكيل الجديد والمثير؛ ولذلك فهو بحاجة إِلَى الشَّجاعة والصَّبر لأنَّه لا يَقترنُ بشعورٍ مؤكدٍ بالنَّجاحِ، فهو يَخترقُ مساره ضد السَّائد بصعوبةٍ شديدة، ولا يظفر بقبول المتلقين دفعة واحدة، بل يتغلغل فِي أذواقهم بهدوء وتوجس، محركا فيهم جماليات الاختلاف(2)، عَلَى أن يلامس هذا التجريب «رؤية متكاملة تتبلور وتسير نحو التناسق كلما تصرمت حقبة مِنْ حقب الكتابة الإبداعية، مما يعطيه مشـروعية الوجود والاستمرار»(3) ومن سمات التجريب انه لا يشكل مذهبا أدبيا ولا تيارا معينا، بل هو مناخ وميل مغروز فِي شخصية الكاتب، لهذا لا تتشابه أعمال التجريبيين فِي الشّعر، ولا فِي الرواية، لأنهم يرفضون الانضواء أو السير فِي خط واحد، ويفضلون الاختلاف فيما بينهم واستقلالية عمل كل واحد منهم، عَلَى أن ما يجمعهم فقط هو خروجهم عَلَى المألوف، واعتمادهم خيارات واعية تعمل عَلَى خلخلة البنى التقليدية للفنون، وكسر طمأنينة المتلقي القرائية معاً(4). ولذلك كان التجريب عموما لا يرتبط بأيديولوجيا ولا مدرسة ولا تيارات معينة؛ لأنه نابع فِي الأصل مِنْ هواجس الفنانين أولا، ومن داخل حركية الفن ذاته حينما يجد نفسه غير قادر عَلَى الوفاء بمهماته ضمن الاشتراطات القديمة، فيسارع للتحول بحثا عن شـروط جديدة تمنحه القدرة عَلَى المواكبة الإبداعية بالاستمرار، تواصلا مع معطيات الحياة الجديدة؛ ولذلك يتعين عَلَى التجريبي أن يكون واعيا بالدواعي الَّتِي تملي عليه الشّـروع بالتجريب؛ لأنَّ إيجابية النتائج قائمة عَلَى عمق الوعي بالفن مِنْ جهة، وبالظروف الَّتِي تكتنفه مِنْ جهة أخرى، وأن يكون قادرا عَلَى ابتكار أشكال وفضاءات جديدة لم تكن متداولة مِنْ قبل، أشكال قادرة عَلَى الحضور شعريا وتحقيق التميز، وان يكون المبدع قادرا عَلَى الدفاع عن نموذجه الجديد، حين يكون هذا التغاير المتجاوز ناتج رؤيا واعية، وليس لعبا لفظيا ميكانيكيا باللغة لا يتجاوز التجريب اللفظي المنقطع عن امتلاك الواقع والوعي بتناقضاته، وذلك يحتاج لقدرة عَلَى اكتشاف مستويات لغوية متجاوزة فِي التَّعبير الإبداعي، ويجرى ذلك عبر شبكة مِن التَّعالقات الَّتِي تتراسل مَعَ توظيف لغة التّراث الشّعري وما يتخلله من لهجات دارجة أو مفردات من لغات أجنبية صارت تحضر في النص حضورها في حياتنا اليومية ، أو أنواع الخطاب الأخرى لتحقيق درجات مختلفة مِنْ الشّعرية. مِنْ هنا وجدنا التهجين الذي تم فِي دائرة اللغة ملمحا مهما مِنْ ملامح التجريب فِي مجموعة (مدري يا هو)، وقد تم مِنْ خلاله كسـر سور العزلة بين الشّعر والواقع، والصدق مَعَ مجريات الأحداث، وتوظيف الألفاظ الَّتِي لم يكن استعمالها يروق للشاعر، ولا هو مستحسن عند المتلقي. فضلا عن الجرأة فِي استعمالها عارية مِنْ أي ترميز أو كسوة أو غطاء، والغوص فِي الواقع ذهابا إِلَى الطبقات المسحوقة عَلَى المستوى المعاشي والثقافي والتعامل معها بلغتها الفجة والمبتذلة أحيانا(5).

ولأنَّ التَّجريب نتاج التَّعقيد والاشتباكات الواقعية والمعرفية والفنية والحضارية؛ فهو مفهوم خلافي يجمع ويفرق، وينشأ فِي سياق فني غني بالوعود وعارم بالتوترات، ومحفز عَلَى المغامرة، يهدف إِلَى النقض والاحتجاج عَلَى طول تراكم الأفكار والقيم، والأشكال الموروثة التي غدت راكدة من طول التداول عَلَى وتيرة تكاد تكون واحدة، فهو ينشأ فِي الحالات الَّتِي لم يعد الفن بتقاليده الصارمة قادرا عَلَى التعبير عن تناقضات الأفكار وجدل الأشياء فيها؛ ولذلك لا يمكن إدراك مدى التجريب إلا بقياس مدى كسره للقديم والتمرد عليه، وهذا الصراع القائم بين القيم الَّتِي غدت ساكنة والأخرى الحركية الجديدة، يسعى فِي جدله إِلَى التجاوز والتغيير انسجاما مَعَ السياق التاريخي الراهن الذي حركته إرهاصات جديدة، حرصت عَلَى الخروج مِنْ السّـرب ونبذ الطَّرائق النَّمطية البالية، فالنُّصوص التَّجريبية كما ينقل حمادي صمود عن المدني، بنية ثنائية تقوم عَلَى التَّعارض بين طرفين بينهما جدل الإقصاء والإثبات، إقصاء بنية مهيمنة لم تعد تمتلك القدرة عَلَى امتصاص تناقضات الواقع للبوح بها أدباً وفناً، وإثبات نهج جديد قائم عَلَى الصّـراع مَعَ الثَّابت، يبشـر بنهجه التَّجريبيون ويدافعون عنه، والنُّصوص التَّجريبية حسب المدني لا تشكل هيكلاً مُنتظماً مِنْ الأفكار والنَّظريات، وإنّما هي مُتجادلة مُتصارعة مُتعادية يكمل بعضها بعضاً، وعليه فهي ليست معصومة ولا جاهزة، بل مُتَراكِبة كَتَجارب الحياة، وَمتداخلة تداخل مغامرات الإنسان.(6) ونتيجة ذلك الاختلاف بين ما ورثنا مِنْ أدبٍ وشعرٍ وَفَنٍّ وَتَقَاليد فَنية، نجم اختلاف بين جماليات ذلك الأدب المعتادة عن هذا التَّجريبي الجديد، فجماليات الشّعر المستقر القواعد قائمة عَلَى المعيارية والانسجام والتناسق المتعالي فِي سموه الباذخ، بينما تنطلق جماليات التَّجريبي الجديد مِنْ الواقع بكل تناقضاته، بسموه وابتذاله، بمقدسه ومدنسة وما فيه مِنْ منتهكات، فليس ثمة قواعد جمالية ثابتة، وهو بهذا يقترب مِنْ الواقع ومن الهوامش والعشوائيات، ومن حياة الإنسان البسيط الذي يكابد أنواعاً شتى مِنْ المكابدات فِي حياته المربكة بالفاقة وفقدان القدرة عَلَى العيش بأمن وكفاية؛(7) مما يجعل التَّجريب مدفوعاً ولا شك بأسبابٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وَثقافية مُتداخلةٍ.

يُواصِلُ الشّاعرُ الثَّمانيني فضل خلف جبر** فِي مَجمُوعَتِهِ الأخيرة الموسومة (مدري ياهو)(8) مَعَ عنوانٍ فرعي (تباريح ما بعد وقوع الفأس بالرَّأس)، مشروعه التجريبي بَعْدَ أرْبَعَةِ دَواوين كما هو مثبت فِي الصَّفحَةِ الثَّانيةِ مِنْ ديوانه قيد الدَّرس، وبعد ديوانه (طق اصبع) بيروت، 2011، ذلك المشروع الذي عمل عَلَى التقاط الشّعبي والكامن فِي الذَّاكرة العراقية ولغتها الشّعبية، ليرفعه إِلَى مستوى الشّعري، فضلاً عن تفهمٍ لمجريات ما بعد الحداثة فِي انفجار البؤر، والتَّشظي والتَّداخل، وتكسـّر الأزمان، وضياع التَّحديدات المكانية، والإفادة مِنْ التَّناص والسَّخرية والتَّهكم؛ لكن ليس بروح التَّبني لتلك المعطيات بل لمواجهتها بالآليات ذاتها، معتمداً فِي بنائه عَلَى السَّـرد الشّعري، والحكاية، والتَّوتر الدَّرامي المُدهش أكثر الأحيان.

وجبر فِي تواصله مَعَ مشـروعه التَّجريبي يؤكد مِنْ منطلق الوعي بأهمية التَّجريب الواعي أن الممكنات فِي قصيدة النَّثر ما تزال مُتاحة وَمَفتُوحة أمام المُبدعين، شَـرط أنْ يَلتَزِمَ التَّجريبُ بما يحصِّنه مِنْ السّقوط فِي هوة العَبَثِيَّةِ، وهذا الأمر سيظلُّ مَشـرُوطاً بقضيتين أساسيتين فضلاً عن الموهبة هُما، الرُّؤية والمعرفة مؤزرة بالتَّجربة العارمة بالحقائق الَّتِي تكتنف الْحَيَاة الإنسانية بما يعتريها مِنْ هَزَّاتٍ وإيجاب وانكسارات، ولم يكن هبوط المتراكم مِنْ نماذج قصيدة النثر فِي هوَّة الركاكة إلا بسبب غياب رُكنٍ مِنْ أركانِ هذه الأساسيات الَّتِي تُبنى عليها الفُنون.

مِنْ هُنا فإنَّ مجموعة (مدري ياهو) تعيدنا إِلَى السَّؤال عن الأدب ووظائفه مِنْ جديد فقد (طرح هذا السُّؤال سارتر فِي العام 1947 فِي كتاب حمل عنوانه السُّؤال ذاته (ما الأدب؟) وخلص فِي نهايته إِلَى أن الأدب تمظهر لحرية الإنسان. ثم طرحه بعده بثلاث سنوات الناقد الأمريكي ليونيل تريلنغ Lionel Trilling (1905-1975) فِي كتابه (التصوّر الحر)- 1950- وخلص إِلَى أنه مصالحة بين استحقاقات السياسة وبين الفن، وهو ما سيعني بالتالي أن الأدب حاضنة لقيمة مستقلة، وإيمان بالواقعية أعمق مما تحتضنه الصيغة السياسية. وربما سبقت الاثنين الماركسية الَّتِي طرحت السؤال، وزجت الجواب فِي خضم مسيرة الايدلوجيا، فرأت بالتالي أن الأدب أداة لبلوغ أهداف بعينها)(9). وتباينت نظريات الأدب فيما بعد بين سجن وانفتاح؛ حتى هيمنت نظريات القراءة والتأويل عَلَى الموقف؛ فصار ملكا للقارئ، ثم توازنت الأمور ليصير الموقف تجاذبا بين النص والقراءة وليعود الشّعر منهمكا بإشكاليات الواقع الَّتِي تهم الإنسان وتسهم فِي تشكيل مصيره.

2

يجنس الشّاعر فضل جبر مجموعته فِي الجزء الأسفل مِنْ الغلاف تحت اللوحة مباشـرة بـ(شعر) ليعفيَ المتلقي مِنْ حيرة البحث عن تجنيس لنصوص ترتكز فِي بنيتها عَلَى جماليات السـَّرد، وتتضمن عناصره مِنْ شخصية وحدث وزمان ومكان، وتتحرك مِنْ خلال توتر درامي حاد يشتغل فِي معظم النُّصوص اشتغالاً مُثيراً؛ لأنَّ الموازي النَّصـي الذي ذيل به العنوان، يفصح مِنْ خلال قراءة المتن والعمل عَلَى ربط العنوان وتذييله بالوقائع الداخلية. إن النصوص كلها تقول الحدثَ المفجعَ الذي يعيشه وطن الشّاعر، بعد وقوع الفأس فِي الرأس، أي بعد حلول الفجيعة وشمول الخراب.

لم يكن الشّاعر – ومثله كل المبدعين - قد وضع أمامه منظومة جيرار جينيت فِي تفسير الشّعرية عبر معاييره الخمسة أمامه وهو يكتب قصائد مجموعته الجديدة (مدري يا هو)، لسبب موضوعي هو أن جينيت ومعظم النقاد الكبار الذين توجهوا إِلَى التأمل فِي شعرية الشّعر والنثر الفني كليهما، كانوا يستلمون اشتراطات الشّعرية وسماتها مِن النص الجيد نفسه، ذلك النص الذي يُملي عَلَى القارئ حقيقة كونه شعرا أم لا، وليس عسيرا أن نجد ما لاحظه جنيت مِنْ اشتراطات التَّناص بأنواعه الخمسة موجودا فِي قصائد هذا الدِّيوان: بدءا مِنْ تداخل النصوص، والموازيات النصية الَّتِي تشتغل عَلَى المقدمات والإشارات، والعنوانات الرئيسة والفرعية، والأغلفة والمقدمات والتمهيد والإشارات والإهداءات والتنبيهات والرسوم والملاحق والهوامش والتعليقات، ثم الميتا نص الذي يشتغل عَلَى ما حول النَّص وفي الكتابة عنه، فجامع النَّص الذي يهتم بالعلاقة الَّتِي تربط النَّص بجنسه، فالتعلق النصي الذي يعمد فيه المبدع إِلَى اشتقاق نصه مِنْ نص آخر، بطريقة التحويل أو المحاكاة مَعَ نص سابق له، وقد غدا هذا المصطلح شائعا فِي ميدان التفاعل النصي وفي إطار المتعاليات النصية. وقد لا يتم بين نص تراثي حسب وآخر حديث، بل قد يكون الحوار بين نص قديم أو حديث وآخر معاصر.

وتؤكد النصوص أن هذا التداخل لا يحدث بين النُّصوص وأحداثها الكلامية حسب، بل قد يتجلى فِي التداخل بين الواقعين الحقيقي المعيش والنصي، مما تؤكده نصوص هذا الدِّيوان، فالنص مدونة حدث كلامي تحركه الأحداث الواقعة فِي زمان ومكان، سواء أشار لهما النص أم أغفل الإشارة بمقصدية. وهذه العلاقة بين الواقعة والأشخاص والزمان والمكان تجعل منه تواصليا تفاعليا له بداية ونهاية ويتولد مِنْ وقائع وظروف خارجية مختلفة ولا ينبثق مِنْ عدم(10). مِنْ هنا جاء الاهتمام بدراسة السياق الداخلي للنص وعلاقته بالسياقات الخارجية الَّتِي هي الظروف المحايثة للمبدع ومحيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي، والتي يعد (فيرث) واحدا مِنْ مؤسسي هذه النظرية السياقية الَّتِي تؤكد أهمية الترابط بين المفردات والجمل ببعضها، ناهضة عَلَى عناصر منها الذاتي، الذي يتعلق بالمبدع ومراميه، ومنها الخارجي الظرفي، ومنها ما يتعلق بعملية التَّلَقي.

إنّ قراءة أولية لديوان (مدري ياهو) ترينا أن التَّناص حاصل بين عنوان المجموعة وعنوانات القصائد، من خلال إيحاءات التَّساؤل الكامنة فِي العنوان الرئيس، والشّك الذي يضمره السؤال، والإعلان عن شيء غير محدد، مَعَ أن الشّاعر أعرف النَّاس به، بدلالة العنوان الفرعي (تباريح ما بعد وقوع الفأس بالرَّأس) الذي يؤكد المعرفة بما وقع وبأسبابه ومسبباته، لكن بعد فوات الأوان، تلك الأسباب الَّتِي أدت إِلَى حالة مِنْ الفوضى تكاد تنسـرب بشكل مباشـر وغير مباشـر لمعطيات المضامين الداخلية، مِنْ شك وحيرة ونقد وانتقاد ورفض وتهكم، وسخرية وثورة وخلط للقيم وتداخل بين المركز والهوامش، مما يمنح القارئ فكرة عن حضور معطيات أدب مرحلة ما بعد الحداثة لكن بوعي شعري يدرك سلبيات هذه المرحلة، لكنه يقاومها متشكلا بالآليات الَّتِي حكمتها مما يحيل عَلَى إبداع مِنْ نوع جديد لا يتبع ولا يستسلم بل يستوعب ويتمثل ويقاوم. ولذلك نجد التَّداخل قائماً باستمرار بين الشّك واليقين، بين المركز والهامش، بين اللغة الفصيحة والعامية، بين العربية والأجنبية، وبين الرَّصين واليومي الاعتيادي، بين الجد والهزل، إذْ يُعبِّر النَّص عن مرارة الواقع بأقصـى قدر مِنْ السخرية والجد والتهكم؛ مما يؤكد قدرة عَلَى التجاوز ووعيا بشعرية النص الحديث غير المحكوم بنظام محدد، لكنه محكوم باندغام الموهبة بالوعي والمعرفة معا، مهيمنا عَلَى كل ذلك بقدرة الرؤى الشّعرية عَلَى توجيه كل الأنظمة الَّتِي تداخلت فِي القصيدة بنظامها الخاص الذي يجعل هذه القصيدة منمازة عن أي نص آخر.

عنوان (مدري ياهو) يقوم عَلَى جملة شعبية عامية عراقية، تنفي فِي مضمونها فعل الدراية، وهي فِي فصاحتها ستكون، ما أدري أي واحد هو، أو ما أدري أي شيء أو أي أمر هو. وفي كلا الجملتين يكون الفعل الذي بنيت عليه الجملة مضارعا يعبر عن الحال منفيا بأداة النَّفي (ما) الَّتِي توغل بنفيها أكثر مما تفعل لا النافية؛ لأنها تنفي الفعلين الماضي والمضارع، بينما تنفي لا الفعل المضارع لتحمل فِي طياتها نفي الفعل فِي الحاضر والمستقبل معا، وهي إذ تدخل على المضارع تتحول إِلَى ناهية، ويبقى تنفيذ الطلب معلقا عَلَى استجابة المخاطب، فان لم يستجب لنهيها بطل عملها دلاليا . وحذفُ ألفِ مدها فِي العامية يدمجها بالفعل بحيث يلغي الزمن الكامن فِي مدِّ الألف لتكون مكثفة فِي نفيها لأي تحقق للفعل، وحذف همزة الفعل (أدري) يزيد مِنْ عملية دمج النفي بفعل الدراية فِي مادة جذره (درى) ودرى بمعنى علم، ونفيه يعني نفي العلم وغياب اليقين؛ مما يؤدي إِلَى الشّك، ومعه الحيرة واستمرار البحث، وربما الإرجاء المستمر للحقيقة الَّتِي تسعى إليها القراءة؛ مما يجعل التوتر الدرامي قائما عَلَى مجمل القصائد الَّتِي سترد فِي الدِّيوان، وهذا ما يجعل مهمة العنونة هنا مهمة مركبة، فهي دلالية استقصائية إغرائية وصفية ملبسة ومضللة ترتبط بمقاصد المتن وتنفصل عنه فِي أن واحد، فهي بالرغم مِنْ كونها بنية صغيرة مكثفة إلا أنها ثريا النص كما عبر جاك دريدا، وهذه الثريا لا تفارق إضاءتها مهما اختلفت الوظائف والصفات الَّتِي عددها النقاد للعنوان.

في الدِّيوان إحدى وعشـرون قصيدة، ستة عناوين منها بلغة شعبية عامية أو تقترب منها بضمنها عنوانان مِنْ ابتكار الشّاعر فِي تشكيلهما وهما (كههي بههي) و(7000 بههيهايت) وقد أحسن الشاعرُ حقاً فِي شـرح العنوانين بهامش (ص 39) لعدم قدرة القارئ عَلَى فك أية دلالة منهما مِنْ دون ذلك التوضيح، لاسيما وان هذه المفردات قد اختفت مِنْ التداول فِي المرحلة الأخيرة أو تكاد، وعنوان واحد بلغة أجنبية هو (بوليتكس) علم السياسة، أما العنوانات العامية الَّتِي تعبر عن روح شعبي فقد كانت : حكاية الحاج شسمه العراقي، سيرة شخصية للسيد مدري ياهو/ أكو فد واحد/ عليوي يحلم/ مما يعني أن ما يقرب مِنْ ثلث عناوين الدِّيوان هو أقرب إِلَى العامية بروحها الشّعبي الأقرب إِلَى روح الطرفة لكنها طرفة أليمة، صادرة عن رؤية معينة وتضمر مقصدا بعد أن تشـربت بمفارقات تخفي بالتفاعل مَعَ متونها مشاعر متداخلة مِنْ الألم والتهكم، وحتى الحكمة كما فِي تدلي الكف اليمنى للحاج شسمه العراقي مِنْ الكفن. لكن العامية لا ينحصر حضورها عَلَى العناوين، بل يتعداها ليتخلل متن النصوص بين آونة وأخرى، وذلك مفْصَل مهم مِنْ مفاصل تجريب الشّاعر فِي اللغة «فالتعارض اللغوي بكل أنواعه أحد العوامل الكبرى فِي استمرار التجديد فِي الثروة اللفظية للغة؛ وذلك بالإضافة إِلَى ما له مِنْ تأثير فعال فِي المعنى»(11). ومن المهم الإشارة إِلَى أن الشّاعر لا يستعمل العامية هنا بمفهومها الساذج فِي التداول الاعتيادي، بل يعمل بكل ما أوتي مِنْ قدرة عَلَى ضمها إِلَى فضاء اللغة الفصيحة والسمو بها لتكون فِي صميم نبض الشّعرية المعبر عن وجع إنساني عميق، وهو يستفيد مِنْ اللهجات الطبقية والسوقية ومن اللغات الأجنبية كاشفا عن روح كل جماعة مِنْ لغتها ومن طبيعة حوارها، فالاقتراض الاجتماعي كما يسميه ستيفن اولمان حقيقة قائمة بين المجموعات الإنسانية، والشّاعر لا يكتفي بالعامية بل يلجأ كذلك لاستبدال بعض الحروف بأخرى كما فعل بمفردة (المعرقة) فِي قصيدة (طرقتك يا باب)، فهذه المفردة (المعْرَقَة) ليست قاموسية بل مستحدثة. إنها منحوتة من مفردتي (العراق) والمحرقة لخلق صيغة مبالغة جديدة على وزن (مَفْعَلَة) ومثالها: مَعْرَكَة.

فقد تم تكييف وتعشيق ومواءمة المفردتين، لخلق معادل لغوي ودلالي وصوتي ونفسي لما حدث في العراق عام 2003(12) وحتى يومنا هذا، ويمكن لي أن أضيف مفردة ثالثة هي المعرفة التي حولتها الحضارة المادية الغربية من هدفها النبيل، في إسعاد الإنسان، إلى آلات دمار لحرقه وتعذيبه :

ومنذ عام المعرقة

حيث غُلقت الأبوابُ ونَفَقَت النسائم

وأنا ملتصق بعروتك أيها الباب. 10

ويلجأ فِي اعتراكه مَعَ اللغة إِلَى اشتقاقات ليس لها فِي المعجم الفصيح صيغ مرجعية كما فعل مَعَ صيغ مادة الفعل نفض فِي قصيدة (منفضة سكائر حتى يتم العكس) حين استعمل الفعل (منفضونا) ومصدره (منفضة) عَلَى وزن مفعلَ مفعلة كمنهجَ منهجة، بمعنى جعلونا منافض:

نحن منافض سكائر، ليس إلا

مَنفضونا كما يشاؤون

منفضونا فِي الدستور

وفي برامج السياسيين والقتلة

......

يستطيع كل مِنْ أراد منفضتنا أن يفعل... 45

ولعل أسباب هذا الاشتقاق وذلك الإبدال فِي الحرف الذي غير المفردة مِنْ جذرها الأصلي لجذر جديد، ومن ثم لمعنى أخر هو الحاجة لكلمات جديدة تكون اقدر مِنْ غيرها عَلَى التعبير عن المقصود(13)، ومهما اختلفت الآراء فِي مدى قدرة هذه الصيغ عَلَى التجاوز، فان الشّاعر امتلك الجرأة عَلَى تطويعها وضمها لتركيب النص الكلي، بل كانت واثقة بقدرتها عَلَى التعبير عن سوء حال الإنسان الذي أهين كثيرا فِي إنسانيته وحقوقه، وعلى تحريضه عَلَى التمرد والثورة عَلَى مبتزيه، فالشّاعر يدرك أنه مقيد بلغته الموروثة لأن اللغة معطى اجتماعي مشترك محمل بالمعنى الناجم عن تراكم الاستعمال والتداول، فهي ملكية مشاعة للناس لا للكتّاب وحدهم، وإنها عنصر سلبي بالنسبة للمبدع، لأنها لا تخصه وحده وهو يستعملها مِنْ دون أن تكون له حرية كبيرة فِي تغييرها، وأن ما يستطيع فعله ضد اللغة، هو أن يخلق لها سياقا آخر، يبعدها عن الاستعمال المألوف فِي مجال التَّواصل،(14) بكل الطَّرائق المتاحة، وهذ ما يدركه كل مبدع حقيقي فِي الأدب ومنهم شاعرنا، فراحوا يتعاملون مَعَ اللغة بجرأة التجريب فِي الميادين البصرية والاشتقاقية واللغة اليومية والشّعبية شـرط قدرتهم عَلَى ادماج كل ذلك فِي جوهر الشّعر وحركيته العارمة، فالنَّقد يُدرك عبر العصور أن كل تطور فِي الشّعر إنما هو تطور فِي كيفية اشتغال اللغة، والشّاعر لن يكون مبدعا بما يحمل مِنْ فكر ومشاعر ومعنى حسب، وقد سبق الجاحظ الجميع فِي طرح ذلك؛ لأن تلك العناصر ملك البشـرية كلها، بل هو شاعر بقدرته عَلَى تحويل هذه الأفكار والمشاعر إِلَى لغة شعرية، إِلَى شعر. فاللغة الشّعرية تكتسب أهميتها مِنْ قدرتها عَلَى التجاوز الدائم، مِنْ اجل تشكيل صور معقدة لسلسلة مِنْ الأفكار تشتبك معنى ومبنى، بحيث يستطيع الأداء الجديد ان يفجر دلالات ذات إيحاء ثري ينتج مِنْ الانهمار الوجداني تحت سيل تلك الصور الَّتِي تتشكل داخل القصيدة دون الانصياع لمعايير مقننة أو أسلوب منطقي، بل عن طريق الهدم الخارجي للفظة لتنهض مِنْ ورائها أبنية العلاقات الداخلية مشيرة إِلَى الجوهر المضمر خلف ركام الظاهر، بعيدا عن جهامة المنطق فِي صرامته وحدته(15).

3

يستهل الشّاعر المجموعة بقصيدة (طرقتك يا باب) وهو عنوان يتصل اتصالا وشيجاً بعنوان الدِّيوان، إذْ لا يمنح متلقيه أي إشارة تزيل اللبس عن تشخيص الباب المقصود، لأننا حالما نحيل المعنى على مرجعية دينية أو واقعية يتصدى لنا النص في تواصلنا مع القراءة لينعطف بنا عن تلك المرجعيات دينيةً أو واقعية، مما جعل "باب الحوائج" مرجعية لغوية شكلتها تجربة الشاعر التي حولت إشارات الواقع التي تحيل على الإمام موسى الكاظم لمنجز إبداعي من تشكيل الشاعر نفسه، وليس نقلا لحقيقة موجودة بزمن ومكان معيشين، بل كثيرا ما يكون النص رفضا لذلك الواقع وكشفا عن عوامل سلبه من أجل الدعوة لرفضه وتشكيل واقع رؤيوي جديد، يسمو عليه ويتجاوزه لأنه من صنع الفن الذي ينتقي وينمذج بوساطة اللغة والرؤيا الفنية، ولذلك ظل الباب خلاصا مُلبسا، حينما صار ذريعة لفئة قادرة على التلون وارتداء الأقنعة؛ مما جعل الناسكين في محنة دائمة حتى بعد انتهاء زمن كتابة القصيدة؛ ومحنتهم أنهم محكومون بسلطة خيط وهمي لا يرتضيه عقل؛ ولكنه بالرغم من ذلك امتلك سلطة القسر عليهم :

لكن طائفة الناسكين محكومة بذلك الخيط

الذي لا يمسك بطرفه عاقل أيها الباب .. 11

والباب فِي كل الأحوال حاجز بين حالتين، الأولى واضحة لحد ما هي الخارج، والثانية غامضة مجهولة هي الداخل، حاجز بين حالة الضياء وحالة العتمة، بين الخارج المنتهك بشتى أنواع القسـر والعذاب وضياع حقوق الإنسان المعاصر فِي الأمن والشّعور بالكفاية وبين الداخل المأمول بما يحمل مِنْ حلم بالمقدس. فهو إذاً ليس مدخلا للعبور لأنه مغلق، بل هو دعوة للعبور ورحلة نحو العالم البعيد الذي يصل فِي عتمته حد الإبهام أحيانا؛ ولذلك ظل دعوة مصحوبة بالتوجس غير المؤزر بومض يؤشـر سماته مما يجعله بابا موغلا بالغموض، لكن غموضه إغراء بالكشف، ودعوة للفتح، ومحاولة للتعلم والرؤية والإطلال عَلَى معارف جديدة، ويتقدم رمز الباب ليكون دعوةً لتجاوز الفردي إِلَى الجمعي، والسمو مِنْ عالم الأرض المادي الغاطس بدم الإنسان، إِلَى السماء وعدل قيمها.

فهو أول الرحلة مِنْ الْحَيَاة إِلَى الموت، موت الجشع الفائض فِي الحواس ليكون الإنسان متحررا مِنْ أسباب العبودية، وقهر شهوة الباطل المهيمنة عَلَى الرغبات غير المشـروعة الَّتِي تعمل عَلَى ابتزاز الآخر، وهو فِي رحلته الصعبة هذه يهفو نحو الحرية قيمة عليا لا تدانيها غير قيمة الإنسان ذاته، فالخارج قيد والداخل تحرر، مِنْ هنا كان للسماء أبواب، ولدور العبادة أبواب، للجوامع والكنائس والأديرة، حتى لقد حدا الأمر ببعض الفلاسفة أن عدُّوا الإنسان بابا، يقول جيوم دوسان تيري: (أنا الباب) وهذا الباب مِنْ أقدس الأبواب عَلَى الأرض، لكنْ كان للسلاطين أبوابٌ كذلك، أبواب فتحوها لتخريب أبواب الإنسانية كلها، ومنع الهواء النقي مِن الدخول إليها. فهل كان لهذه الدَّلالات علاقة بباب شاعرنا، وإن لم يكن فيها الباب المقصود فِي النص، فماذا عنى الشّاعر فضل جبر ببابه وهو يطرقه بمثابرة وإلحاح؟ ومعه الناسكون الذين لا تُفتح لهم الأبواب بسبب حرصهم عَلَى وجوههم، وعلى القيم الَّتِي علمتهم فضائل القيمة:

جئت كمأزوم يقصد باب الحوائج

احمل ارث المعرقةِ/ وقرابين الانتماء ووصايا الراحلين

ومنذ عام المعرقة/ حيث غلقت الأبواب ونفقت النسائم

وأنا ملتصق بعروتك أيها الباب/ لديَّ طائفة هائلة مِنْ الناسكين

وهم يمتشقون أحلامهم شوقا لرؤية أم السنين

 لابد أنه بصدد الكشف عن سـر باب آخر يدخله أصحاب المواهب (الخاصة)، الذين يدخلون أنى شاءوا دون طرق ولا انتظار، ويخرجون حين يريدون ليعاودوا الدخول ثانية، وهم يمتلكون أسـرار الدخول والخروج. وبالرغم مِنْ كون الشّاعر يعترف صادقا بغموض بابه، الا أن قراءة المتن ستدلنا عَلَى هذا الباب الذي لا يتسم باللبس، غير لبس داخليه والخارجين منه، لأنه باب تاريخي تكرر عبر العصور كما تكرر أصحاب الأقنعة الذين اختصوا بالدخول والخروج عبره، لكن ما ظل غائبا عن الشّاعر، وحاملي القيم ممن يرفضون ارتداء الأقنعة، هو كيفية قدرة أولئك عَلَى التواصل مَعَ الباب عبر العصور وتلوناتها فتظل مفتوحة أمامهم مَعَ انغلاقه التام وغموضه أمام الشّاعر:

لكنك يا بابُ تلازم غموضك

تنسـرب مِنْ بين يديَّ كشهوة الراهب

وتناورني بانغلاقك الكثيف، كأحجية

إن متن القصيدة الذي تكتنفه الغلالات هو الآخر يحاول أن يمنحنا فَتْوةً دلالية فِي تأمل كل ما سبق مِنْ دلالات مكثفة فِي مفردة (باب) مِنْ الَّتِي ذكرناها آنفا لنرى أيها الأقرب مِنْ مقاصد النص؛ لكننا لم نجد فِي المتن بغيتنا. فتلك الدلالات السامية لا يستطيع ذوو الأقنعة أن يرتقوا لعرشها لأن فيها ضياعَ مصالحهم . وعبر السـرد الشّعري الذي اعتمده النص وهو يلتف عَلَى دلالاته نجد أن هؤلاء الذين أشار الشّاعر لمواهبهم فِي القنص والصيد السـريع، والذين يفتح لهم الباب متى شاؤوا، والذين نخال كل واحد منهم خارقا وفريدا، يكشف النص عن حقيقته لنراه في صورة مُشينة، يقذف وجهه فِي حاوية فضلات قرب الباب ثم يدخل، ويتناوله مِنْ الحاوية ليرتديه وهو خارج، يعاني من ازدواجية مرضية وأخلاقية ومبدئية، فاقدا وجهه الأصلي وهويته وانتماءه، فالوجه هوية الإنسان الذي يمتاز به عن الآخرين لانه يُعرف به، يفصله عن غيره من البشر فهو (حقيقة وحيدة لانسان وحيد) وهو (الجزء الأكثر فردية والأكثر خصوصية في الجسد، ان الوجه رمز الشخص... والارتقاء التاريخي للفرد يشير بشكل موازٍ لارتقاء الجسد وبخاصة ارتقاء الوجه)(16)، وخلعه عند الباب دليل على إخفائه ولما كان الوجه رمزا للفردية الذاتية فان الداخل إذ يرمي وجهه فهو يتخلى عن ذاته وعن هويته معا، راميا إياها في سلة مهملات، وما أبشع مثل هذه الحال:

لكني لم أرَ وجها لداخل أو خارج مِنْ الباب

الجميع يدخلون أو يخرجون دون وجوه

ثمة حاوية فِي ركن الباب

يطرح فيها الداخلون وجوههم

تماما كما يطرح الضيف قبعته/ ويتلاشون فِي الغمر

كما يدخل القمر غيمة مترامية الأطراف

ثم يخرجون متقاذفين تقاذف الفقمات مِنْ البحر

يرتدون وجوههم كما الممثل القناع

إن تداخل المتضادات يزيد المتلقي إغراء فِي الإمساك بخيط الدلالة، فالمشبه مستقر هو (الداخلون وهم يطرحون وجوههم) بينما نلاحظ التحول يجري عَلَى المشبه به، فمرة يشبه حالهم بالضيف يطرح قبعته احتراما ويدخل فِي الغمر، والغمر هو الليل الشّديد الظلمة، وهو معظم البحر، والماء الكثير(17) والغمر هو ما كانت عليه الخليقة قبل أن يوجد النور والإنسان وقبل وجود القيم، إن الشاعر فضل جبر يحيلهم على العدم، إنه يقصد بوعي مكثف كل كلمة يصفهم بها، أولئك الذين تخلوا عن كرامتهم الإنسانية، وما يكتنفها من مبادئ واحترام للحياة، بخلع وجوههم. والتشبيه الثاني يحمل بالرغم مما فِي القمر مِنْ جمالية سمة الاشتراك فِي الغياب حالما يدخل القمر فِي غيمة مترامية الأطراف تحجب أنواره، لكنه يعود ليستدرك فينفي عنهم أية سمة مِنْ سمات جمالية القمر حين يشبههم بالفقمات، وهي نوع مِنْ الحيتان البحرية مخروطية الشّكل وليس لها أنياب(18) مما يشير لضعفهم وسوء تهافتهم.

وتتسع دلالات الرمز لتكون شمولية حين سيكون الباب رمزا لكل مأمول مغلق يسعى الإنسان لارتياده واقعيا كان أم مجازيا، محسوسا أم ذهنيا، فهو باختصار وكما يريده الشّاعر رمزاً للخلاص الإنساني وهو يسعى بنبل نحو غاياته الشّـريفة دون زلفى ولا انهيارات أخلاقية، وبملاحظة السياقات الَّتِي ورد فيها الباب فِي النص نجد الباب يتكرر تسع عشـرة مرة فضلا عن المفردات الَّتِي تدور فِي حقوله الدلالية كالانغلاق والدخول والخروج والطرْق والانتظار والانفتاح والغلق والعروة، لكن كل هذه المفردات فِي السياقات الَّتِي وردت فيها لا تعطينا دلالة حاسمة للمقصود مِنْ الباب الذي طرقه الشّاعر، ولذلك كانت الخاتمة منسجمة مَعَ الترميز الذي بني عليه النص بكامله، لاسيما وانه اعتمد فِي القفل (تكرار التلاشي) الذي يوحي بهبوط الأمل رويدا، رويدا حتى يتلاشى فِي الفعل الناقص (كنتُ) الذي يعبر بنقصانه عن هيمنة حالة السلب والإفقار، بينما تنتهي القصيدة الَّتِي اعتمدت بنية دائرية كما بدأت دون انفراج:

وكنت كلما طرقتك يا باب

كنت كلما طرقتك

كنت كلما

كنتُ. ص 11

ليتوحد التشكيلان الدلالي بالإيقاعي، بعد رحلة انتظار مصحوبة بمعاناة ومكابدة انتهت كما بدأت بغلالة مِنْ الغموض المغري بالمتابعة مَعَ استمرار أزمة المحنة، فالبداية باب موغل بالصمت، والصمت غياب هوية ونقصان ملازم لضمير الـ(أنا)، والنهاية شاعر يمسك بالعروة ضارعا، كمأزوم يقصد باب الحوائج.

إنَّ قصيدة (طرقتك يا باب) مَثَّلَتْ مَعَ الدِّيوان شعرية اللا يقين واللا خلاص بِكُلِّ تَجلياتها عبر المَتَاهَاتِ الَّتِي يُعاني مِنْها عَصرٌ مأزومٌ مُخاتلٍ، تلك الشّعرية الَّتِي ابتدأت بسـرد حكاية المحنة مُنذُ الأزلِ، حيث لم يتعلم آدم الأسماء بعد، وإذ لم تكن أسماء يعني لا وجود للغة، وغياب اللغة يعني غياب الوجود أصلا فاللغة بيت الوجود حسب هيدجر، وهو يعني بوجه مِنْ وجوهه غياب الفكر وغياب التَّاريخ صنيعة اللغة، بكل أحداثه ووقائعه حين كان البحر محض غيمة تطفو عَلَى زرقة الفضاء، وحتى عام المعرقة، حيث يتلاعب الشّاعر بلغة المتشابهات الدلالية والحدثية والوقائعية الَّتِي شكلت مكابدة الإنسان عبر العصور، والتي توجته بالخسـران ومكابدة الألم وقسوة الواقع، فهل المراد بالمعرقة هو المعرفة بعد استبدال حرف فيها، تلك المعرفة الَّتِي أدَّت بالإنسان إِلَى الهلاك وكان المؤمل أن تسعده، لكنها صنعت له الصَّواريخ وقذائف الموت والحروب والحرائق بَدَلاً مِنْ الأمن ومتعة الألفة والمحبة. أم المراد بها المحرقة، وإذا علمنا أن معرفة العصر الرَّاهن هي الَّتِي أدت إِلَى المحرقة، إلى اختراع الأسلحة والصواريخ والبارجات والنيران، فستكون الدلالتان سيان، معرفة/ محرقة/ معرقة بكوارثها العراقية، لتكون القصيدة وهي تعالج مرارة القهر فعلا أخلاقيا؛ لا يكتفي بالجمال إلا مُنْدَمِجَاً بِزَمَنِيَّتِهِ وانحيازه للخلاص الإنساني عبر واقعٍ يزخر بالعذابات. فهو مكروب ضارع يمسك بعروة باب الخلاص، مما يؤكد أن النص يفرق بين بابين، باب أصحاب الأقنعة، وباب الخلاص الذي لا يُدرَكُ الا باشتراطات التحرر والوعي والعلم واحترام القيمة ومستقبل الإنسان، وهذا ما يعززه النص عبر حالتين:

وأنا أمسك بـ(عروتك) عروة باب الخلاص الحقيقي الذي لا يشتغل الا بالعمل والسعي والجهد ومكافحة الظلام بإصرار العلم والمعارف والعمل؛ لكن المفارقة تأتي لتفعيل التضاد تفريقا عن المشبه به وتعريضا به: كمأزوم يقصد (باب الحوائج) متواكلا منتظرا الغوث من الأئمة والصالحين دون علم بما بذل أولئك الصالحون من مكابدة وتضحيات من أجل الدعوة للنور والتنوير، وإنماء عوامل الخصب والإيجاب في الحياة، وخدمة الإنسان ليكون أكثر فرحا وأقرب إلى الله والإنسانية.

4

المفارقة واحدةٌ مِنْ أهم الآليات الَّتِي قامت عليها بنية الدِّيوان، ذلك أنَّها تقنية تُملي عَلَى المُتَلَقِّي دوماً ضرورة الذَّهابِ إِلَى ما وراءها، لأَنَّ ظاهرها مَلغُومٌ لا يُعبِّر عن المُرادِ مِما يستدعي استنهاض الذَّاكرة بكل مخزوناتها وما تحمل مِنْ آفاق التَّلَقي ومن خبرات ومعارف وعلائق فِي حالتي الانقطاع والاتصال معا، وعلى النَّاقد أن يجيد اختيار أفق التلقي الذي يَرَاهُ مُناسِبَاً للسياق الذي تشتغل فيه تلك المفارقة داخل النَّص لأنَّه أمام مدلولات لا تتسم بالاتساق فِي بنيتها السَّطحية كونها تجمع الأضداد وتوحد المُتناقضات وتمزج الألوان والأزمنة والأمكنة وتقدم غير المألوف وغير المُتعارف عليه بشكل يجعل أمر مألوفيته ممكنا بعد التأمل في النَّص، سواء كان صعباً أو مستحيلاً فِي الواقع، مما جعل حضور المفارقة فِي الأدب مُتصلاً بتغير مفهوم الجمال وتجاوز معاييره الكلاسيكية المُستقرة، ولذا قسموا المفارقة عَلَى أنواعٍ مُتعددة منها مفارقة النَّقيضة التي تقوم على أنواع التضاد والَّتِي تكاد تهيمن عَلَى أنماط المفارقات الأخرى، ومفارقة السُّخرية الَّتِي تشكل ردَّ فعلٍ مُعاكسٍ للمطلوب، ونمط التَّهكم، والإنكار الذي يتحقق بوسيلتي السُّخرية والسُّؤال، وتتحقق الوسيلة الأولى بالأسلوب الخبري والثَّانية بالإنشاء، ومفارقة التَّحول الَّتِي تبدو الصُّورة فيها بدلالات معينة، لكنها تتحول إِلَى دلالاتٍ جديدة مغايرة للمتعارف عليه فيتحول المقدس إِلَى منتهك، ومفارقة التضاد والتقابل، والمخادعة حين يقابل الإيجابي بالسلبي، ومفارقة الأدوار حين يتخلى العنصر المعروف بايجابيته عن صفاته المعروفة ليغادرها فِي النص، أما مفارقة التقابل فتقوم عَلَى موقفين متضادين يتبنّى كل موقف منهما نظرة تنقض الأخرى وتحاول إلغاءها، ومفارقة الاستحقاق الَّتِي لا تمنح الحقوق لأصحابها، ومفارقة الفجاءة الَّتِي تقوم عَلَى كسـر التوقعات وهكذا (19).

إن أهمية المفارقة تكمن فِي فتح أبواب النص عَلَى التعدد والجدل وحوارية الدلالات، حتى وهي تتعامل مَعَ الواقع وأحداثه، فاللغة الشّعرية فِي تعاملها مَعَ ما حولها تشتغل مِنْ خلال رؤيا المبدع وقدرته عَلَى اختيار واعٍ لمناطق مِنْ الواقع تنمذجها بوساطة اللغة، إنها تستلم إشارات مما حولها مِنْ وقائع وأحداث لتحولها إِلَى فن تشكله لغة خاصة تباين لغة التواصل المعيارية؛ لأنها حريصة عَلَى أن تشكل ذاتها تشكيلا إبداعيا خاصا مستلا جوهر الواقع سلبا وإيجابا من جهة ومحققا جمالية الأدب من جهة أخرى بما يطلق عليه بالتطبيع بين النص والواقع أولا، وبين المبدع والقارئ ثانيا، والمراد بالتطبيع هنا منح النص مكانة في العالم الذي تحدده الثقافة المحايثة، (20) بمعنى أنها لن تسلم دلالتها للقارئ إلا حين توضع في سياقها، بحيث يصير النص نموذجا فنيا للعالم يمتلك قيمته الجمالية، وليس هو الواقع المعيش كما يشير النقاد المهتمون بالتعبير عن اشتباكات الواقع وإشكاليات الإنسان فيه.

يتنقل الدِّيوان عبر القصائد بين الجد والسُّخرية، بين العذاب والتَّهكم، دامجاً حزنه الجارح مِنْ واقع مُرٍّ تهيمن فيه عَلَى مقدرات الإنسان مفارقاتٌ حادة متأتية مِنْ غرابة منظومة حكم تتصارع دون وعي بالمبادئ ولا بطبيعة الوطن الذي تحكمه ودون تفهُّمٍ لطبيعة مكوناته، أو حوار مَعَ معارف العصر وطرائق الحكم المتقدمة فيه، ولا شعور بالمسؤولية تجاه قضية الإنسان، حتى يصل الأمر بالشّاعر أن يلوذ بالموتى حين استسلم الأحياء واستكانوا، وصار الانتظار بلا جدوى، فهو فِي ركضة وادي السلام (مقبرة كبيرة في النجف) يخاطبهم فِي القبور:

هذا يومكم أيها الموتى الأحياء

ليس عليكم انتظار يوم القيامة

أقيموها انتم اللحظة والآن

لم يعد الانتظار حلاً، بل مشكلة

..................

إنه يومكم المقدس/ لتدكوا قلاع العتمة

من أجل تحريرنا نحن الأحياء الموتى

 مِنْ غياهب المجهول وقبضته الضارية..

إن التعبير بالأحياء الموتى يوجز كل الانتقادات الَّتِي يمكن أن توجه لشعب يُسـرق، ويُقتل أبرياؤه، وتُنتهك حرماته، وتشوه معالم حضارته، ثم لا يثور عن بكرة أبيه، فالتعبير المفارقي هنا يشير لأكثر مِنْ نوع مِنْ المفارقات، ففيه معنى تبادل الأدوار ومعنى الإنكار ومعنى التحسـر مِنْ موت الأحياء، واستدعاء المستحيل مِنْ عودة الموتى، وغير ذلك مما يلائم السياق:

حين تقيمون القيامة/ ضعوا البهي عليا بن ابي طالب

وابنيه الفذين الحسين والعباس

في مقدمة الزحف الجارف/ وانتم تطلقون مسيرتكم الكبرى

ان المجاز العقلي فِي أسماء آل البيت هنا يدعو إِلَى تفعيل القيم الَّتِي استشهد مِنْ اجل تحقيقها الأجلاء الرائعون، الإمام علي وابناه الشّهيدان الحسين والعباس، ويتألق النص بالقفل الذي أنهى القصيدة مِنْ خلال التوازي النحوي والدلالي فِي السطرين الأخيرين:

من هدأة العتبات المقدسة فِي وادي السلام

 من، حرف جر + مجرور مضاف + مضاف إليه مجرور + حرف جر + مجرور مضاف + مضاف إليه:

حتى صخب الأزمات المكدسة فِي غياهب الخضراء /ص 15

إنَّ توازي التقابل الذي تجلى فِي اجتماع الأضداد بالسطرين سيؤدي فِي النهاية إِلَى انسجام تركيبي بتناقض دلالي عَلَى الوجه الآتي:

من، حرف جر يفيد البدء.

حتى، حرف جر يفيد انتهاء الغاية.

هدأة/ تضاد مع صخب.

العتبات المقدسة/ تضاد مع الأزمات المكدسة

 وادي السلام/ تضاد مع غياهب الخضراء

فضلا عن الجناس البلاغي الناقص ما بين المقدسة والمكدسة الذي يحمل فِي داخله دعوة إِلَى نسف قيم متخلفة وظلمات مكدسة، تلك الَّتِي تمثل جوانب المنتهك المهيمن، بديلا عن قيم الخير والحق والعدل الَّتِي تمثل المقدس. إذ يشير المضاف والمضاف إليه فِي السطر الأول إِلَى الأمن الذي تشيعه العتبات المقدسة بنفحاتها الروحانية الإيمانية والمصاحبة لما تمنحه الأديان مِنْ أمن وسلام، بينما توجز غياهب الخضراء المفارقة الضدية بين الغياهب الَّتِي تمحو خصب اللون الأخضر وما فيه من إشارات ديمومة الحياة وفاعليتها لتضفي عليه بؤس الواقع الذي انطلقت قسوته مِنْ ظلامية مَنْ فيه مِنْ صانعي قرارات غاشمة لا علاقة لها بما سطرته القصيدة مِنْ مكابدة الإنسان العراقي. ان المجاز المرسل فِي تركيبي وادي السلام وغياهب الخضراء يؤكد ما للمكان مِنْ أهمية بنيوية فِي قفل القصيدة وما له مِنْ قدرة عَلَى بث الدلالات الَّتِي أرادها النص لأنه استمد فاعليته مِنْ عذاب الجموع الَّتِي يئست مِنْ فعل الأحياء فلجأت إِلَى الموتى طالبة الخلاص مِنْ خلال التقابل الدلالي فِي السطرين الأخيرين وهو يعرض مشهدين يفصح الأول عن جمالية روحانية بينما يبدو الثاني تراكما لأزمات وفساد وتأزمات نجم عنها ظلمة داكنة ورزايا شعب ممزق الأوصال.

لقد حرص الديوان على التعبير بالمفارقة لأنها من خلال ثرائها الدلالي قادرة على التعبير عن المتناقضات والجدل والعنف والاصطراع الذي يسود واقع العراق اليوم، فكانت النقيضة والتهكم والإنكار الذي يتحقق بوسيلتين السخرية والسؤال، وتتحقق الوسيلة الأولى بالأسلوب الخبري والثانية بالإنشاء، ومفارقة التحول الَّتِي تبدو الصورة فيها بدلالات معينة، لكنها تتحول إِلَى دلالات جديدة مغايرة للمتعارف عليه فيتحول المقدس إِلَى منتهك، ومفارقة التضاد والتقابل، والمخادعة حين يقابل الإيجابي بالسلبي، ومفارقة الأدوار حين يتخلى العنصر المعروف بايجابيته عن صفاته المعروفة ليغادرها فِي النص، أما مفارقة التقابل فتقوم عَلَى موقفين متضادين يتبني كل موقف منهما نظرة تنقض الأخرى وتحاول إلغاءها، ومفارقة الاستحقاق الَّتِي لا تمنح الحقوق لأصحابها، ومفارقة الفجاءة الَّتِي تقوم عَلَى كسـر التوقع (21)، وكثيرا ما يندمج أكثر مِنْ نوع فِي نص واحد ليكون النص مركبا مِنْ تناقضات واشتباكات عدة. مِنْ مفارقة التقابل نجد قصيدة (إلى مِنْ يهمه الأمر) الَّتِي يشكل عنوانها نصاً يكمن وراءه نص واقعي مسكوت عنه، يُفهم مِنْ تلميح العنوان ومن سياق الْحَيَاة الَّتِي يعيشها الشّاعر وشعبه فِي ظلام دامس لفقدان الطاقة الكهربائية سنين طويلة، فِي بلد زاخر بكل أنواع الكنوز، بينما يصنِّع بلدٌ فقير مثل سنغافورة الكهرباء مِنْ نفايات وقمامة:

في سنغافورة/ تخرج القمامة يومياً

من البيوت والأسواق والشّوارع

لتصبح فِي اليوم التالي/ طاقة كهربائية

تضيئ سنغافورة كلها

إنَّ العنوان يحمل مِنْ التأنيب للحكام المسؤولين عن ظلام وظلامية الوطن ما تفصح عنه دلالة التقابل بين حالين ونموذجين، حال ثاوٍ فِي العنوان ومضمر فِي ما يشير إليه مِنْ غياب مبدئي صارخ وعبث بحقوق الإنسان مِنْ خلال حرف الجر (إلى) الموجهة إليه، ونموذج إيجابيي يعلن عنه المتن ويحثُّ عَلَى تأمله والاقتداء به. فالإيجاز فِي العنوان المشير للنموذج السيئ إعلان عن الإعراض عن التصريح بالقبح ورفض التفاصيل الَّتِي عرّى سوءتها الواقع، والتفصيل في المتن يوحي بالاعتزاز بتجربة تحترم الإنسان والحياةَ والزمن معا، فضلا عن إيحاء آخر يوحي بنظافة سنغافورة وتحضُّرها مِنْ خلال الاهتمام بالبيوت والأسواق والشّوارع بينما تسكت البنية السطحية للنص عن المقصود لتوحي له فِي بنيتها العميقة عما يعيشه العراق مِنْ خراب حضاري ودمار فِي كل شيء، حتى يمكننا عدُّ مثل هذه المفارقة مفارقة تناصية بين واقعين، واقعٍ مضيء مصرح به على الورقة وآخر مظلم غائب ومسكوت عنه.

إن أهمية المفارقة تكمن فِي قدرتها عَلَى إثارة الجدل مِنْ خلال اللبس الذي يفتح باب التأويل عَلَى دلالات متباينة، يمتزج فيها كل شيء بكل شيء، ولعل أهم مزايا المفارقة ما يمكن تسميته بلذة البحث والتأمل وتقليب النص للكشف عن المعنى أو المعاني التي يمكن أن يوحي بها السياق النصي المدروس، وليس مِنْ شك فِي أن قارئ المفارقة يجد نفسه أمام مهمة صعبة؛ فهي تعبر عن المعنى غير المحدود باللغة المحدودة، وتتسم بجدلية دائمة؛ لأنها تكمن فِي سعي الإنسان المحدود بقدراته وهو يعمل عَلَى فهم الطبيعة فِي صيرورتها وجدليتها وقدرتها عَلَى الخلق والإفناء معا، مما دفع الإنسان لمقابلتها بالمثل، وذلك مِنْ خلال الفن الذي يمتلك الطاقة عَلَى الخلق والإفناء كذلك عبر التجاوز الدائم لما انجزه الإبداع(22).

ولسعة أفق المفارقة وانفتاحها عَلَى دلالات غير محددة فقد لجأ إليها الشّعر فِي محاولة للانفتاح عَلَى الممكنات؛ فتعددت أنواعها ومقاصدها ومرجعياتها، حتى لنجد اكثر مِنْ لون منها يتجمع فِي نص واحد، جاءت معظم نصوص مجموعة "مدري ياهو" ضمن هذا النمط العنقودي الدلالي مِنْ المفارقات. ولعل ما عزز المفارقة هنا اندماجها بكثير مِنْ سمات أدب ما بعد الحداثة فِي السخرية والتهكم والبعثرة والتشتيت والتشظي والشّك وضياع الحقيقة والتناص، سواء مِنْ خلال تداخل النصوص أو تداخل الأحداث واشتباك الوقائعي بالشّعري، فِي قصيدة " لو عاد الزمن إِلَى الوراء" يجتمع اكثر مِنْ مفارقة مندمجة بسمات واضحة مِنْ أدب ما بعد الحداثة:

لو عاد الزمن إِلَى الوراء/ لكنت توجهتُ إليك عَلَى الفور

وأنت تجلسين منتظرة بكامل بنفسجك الريان

ولأخذتُ بيدك بعيدا عن أروقة الجامعة

ولقلتُ لك فِي الحبِّ ما لم يقله يعقوبُ فِي الحزن

إذ يعبر النص عن زمنية مشتبكة تتجلى فيها معالم الدمج وخلط القيم وتفجير المركز والاهتمام بالهوامش ومزج الجد بالهزل، فمن لغة الأدب الراقي الذي تمثل بالمقاطع الثلاثة الأولى حيث الجد والوجد والزمن الأكاديمي والمكان الجامعي، إِلَى انقطاع كامل حين يتحول السـرد الشّعري مِنْ حلم إِلَى واقع تتحطم عَلَى صخرة بؤسه الأماني الراقية الَّتِي كانت ترنو فِي المخيلة لرسم عالم مرهف يليق بحبيبة أكاديمية، لتهبط الأمنيات هبوطا يدعو لإثارة مزيج مِنْ المشاعر الملتبسة بالسخرية والألم والتهكم والإحباط ، ويجيد الشّاعر فِي توظيف حسن التخلص لمغادرة مقاطعه الجادة مفيدا مِنْ التناص والتراث الشّعبي وكسـر التوقعات:

ولغادرتُ معك الباص المتجهَ إِلَى قنديل الأحلام

وطلبت يدك بشفاعة أبي الفضل العباس

 وتزوجنا فِي قصر الفقراء

ودعونا كل المحرومين إِلَى وجبة حب تغني مِنْ جوع

من هنا تنعطف القصيدة انعطافة حادة، مِنْ الحلم الرائع المشـروع، إِلَى حكاية الواقع الذي سيدحر الحب ويشتته؛ لتتمزق أوصاله عَلَى عتبة التمزق السياسي والاجتماعي والتشـرذمات الَّتِي يعيشها شعب تشظت أوصاله فِي كل أرجاء الدنيا؛ فانهار وتساقط كلُّ ما كان فيه راقيا:

ولسمينا أبناءنا: حنتوش وخربيط ومطنش

وبناتنا تسواهن وحنتوشة ولهلوبة وطركاعة

أقول لك: الولد عاشق/ وتقولين: البنت شقية

وتعملين أنت خياطة فِي مجلة المرأة/ واعمل أنا شـرطيا فِي مركز حسن عجمي

ونرفض خطيبَ ابنتنا البكر تسواهن/ لأن اسمه حميّد بن أبو الدبس

وكنا نريد عريساً مِنْ آل طرشي/ ولهربتُ بعدها إِلَى الشّمال وعملت بيشمركياً

وسكرت كثيرا عَلَى حساب الإخوة الأكراد / كي أنسى هل تقبلينه بعلا لك..

ان العَلَمَ فِي المعاجم هو الجبل، سمي الجبلُ علما لوضوحه بالارتفاع عن المكان الذي هو فيه ومدلوليته فِي الإبانة، وهو للأشخاص دالٌ عَلَى الشّخصية وتحديدٌ لها عن غيرها، وإشارة عليها، وقد يفصح فِي النص الأدبي عن مهمات دلالية ومفارقية أخرى يكشف عنها بطريقتين، الأولى بذاته سواء كان واضحا أم غامضا، والثانية بعلاقته مَعَ المرجعية مِنْ جهة، ومع المتن مِنْ جهة أخرى، وتلعب الدلالة المرجعية لاسم الشّخصية دورا مهما فِي التماثل مَعَ دلالات الوقائع فِي المتن كما حدث مَعَ دلالات الأعلام فِي هذا النص، فقد اختار الشّاعر فضل خلف جبر أسماء شخصياته بقصدية تتلاءم وعبثَ الْحَيَاة المحيطة به وبعثرتها، كما تنسجم وفوضى الخرابيط والفوضى السائدة فِي المرجعية الَّتِي استمد منها النص متوالياته، فكانت أسماءُ خربيط وطركاعة ومطنش وغيرها خيرَ تعبير عما يسود الحَيَاة مِنْ ابتذال قيمي واضطراب وتداخلات، وغياب الشّعور بأي مسؤولية تجاه كل القيم الَّتِي مِنْ شأنها النهوض بواقع الإنسان وصون كرامته. فكانت الأسماء تشتغل اشتغالا مثيرا وكاسـرا للتوقع، ضمن كتل حاشدة مِنْ المفارقات الَّتِي تحكي ارتباك الواقع وانفجار إيقاعاته الزمنية، والعمل عَلَى مغادرة اللغة الراقية الَّتِي كانت مهيمنة على مقاطع القصيدة، وعَلَى الأدب وفضائه النخبوي، حين تحول إِلَى هوامش مفككة مِنْ خلال الغاء المركز وكل ما كان يتسم به مِنْ مزايا التماسك والانسجام، فضلا عن روح التهكم الَّتِي حكمت النص، وتداخل روح المفردات الشّعبية بما تحمل مِنْ نبرات انتقادية قادرة عَلَى مواكبة النص والانضواء فِي تشكيلات شعريته بحيث عملت عَلَى الإيهام بالواقع والتعبير عن الاشتباكات الكارثية الَّتِي يعيشها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، لكنها ليست هو لأنها نص أدبي.

لقد تباينت الآراء وتنوع الجدل حول قصدية أسماء الأعلام واعتباطيتها، كما حدث مَعَ العلاقة بين الدال والمدلول فِي تحديد الدلالة، لكننا نميل إِلَى القصدية؛ إذ لا اعتباطية فِي التشكيل اللغوي عموما، ولا فِي أسماء الأعلام فِي النص الأدبي عَلَى وجه الخصوص، وإنما كل اسم كان يحمل فِي التركيب مقاصدَ ودلالات ترتبط مَعَ المتن بوشائج تتجلى للمتلقي حال التأمل بها. إن جملة " كي أنسى هل تقبلينه بعلاً لك " تشير إِلَى حدة العذاب الذي يعيشه الإنسان العراقي وهو يقدم عَلَى الزواج وتكوين أسـرة، في ظل ظروف تتناقض ومتطلبات حياة كريمة، إنها جملة تدين وترفض وتتعذب وتحتج، وتسعى للهرب. وتواصل القصيدة تحولاتها وتمزقاتها معا، بين الهزل المرير والجد والسخرية والألم، عبر الانتقالات الحادة بين المتناقضات فالمقطع التالي سيبدأ بـ:

عزيزتي شندوخة/ "أحبك... موت...."

اكتب إليك مِنْ كلكتا فِي الهند/ حيث اعمل عتالا بأجرة يومية معتبرة

الحياة هنا جميلة/ والهنود طيبون وأولاد حلال

رغم أنهم سـرابيت وسـرسـرية ويحبون التوابل الحارة

لا تخافي عليَّ لأنهم يعتبرونني واحدا منهم./ بعد حصولي عَلَى الجنسية الهندية

..............

من هذا السرد الذي يبدو جادا، ينعطف الاسترسال الشعري إلى كسر توقع حاد، إذ ينتهي المقطع بــ:

سأرسل لك وثيقة الطلاق كمرفق فِي ايميل آخر

لن أدفع لك نفقة ولو طلعتْ روحُكِ

واعلمي أني صفَّيْتُ حسابي فِي paypal

وغيرت رقم الموبايل/ باي باي، توحة / send

تتغير الأسماء بين مطلع المقطع ونهايته، فمن شندوخة إِلَى توحة. وتتغير الأماكن مِنْ بغداد إِلَى الشّمال، إِلَى الهند، ثم ما هو المراد بمعنى شندوخة وما معنى توحة، وهل هما أسماء دلع، ما الأصل فيهما؟ لا شيء غير جواب واحد يلوح وراء الأسماء والأحداث، هو عدم قدرة الواقع الراهن عَلَى تأسيس أي معنى لما يجري مِنْ كوارث، وغيابُ المعنى هو الخواء والهباءُ والعدم، وهو الكارثة الكبرى الَّتِي تهدد الإنسان وحضارته الراهنة. ان المفردة اللغوية تمتلك القدرة عَلَى استدعاء البيئة الَّتِي تنتمي لها أصلا، فالخلط بين الأسلوبين الراقي والشّعبي، وإن أوحى بالاضطراب والتنافر الا انه فِي حال استعمال الكلمات المهجورة أو الأجنبية يوحي بالتفوق والامتياز حينا، واحيانا بالتكلف أو التعاظم حسب السياق الذي ترد فيه، وقد تزيد التعبيرات الدارجة واصطلاحات اللهجات العامية فِي بهجة الأسلوب وحيويته اذا استعملت استعمالا لبقا، غير أن ذلك يحتاج لحسٍّ مرهف واختيار انسب بعيدا عن الشّطط والمبالغة(23). وهذه السمة استطاعت أن توفر لنصوص الدِّيوان الحيوية والطرافة والنشاط وأضفت عليها نوعاً من الجدة والمفاجأة وكسر التوقعات.

إن بنية القصيدة الَّتِي قامت عَلَى دلالة حرف الشّـرط (لو) الذي يفيد فِي معناه النحوي امتناع الجواب لامتناع الشّـرط، والذي ظل فعل الشّـرط فيه مستقرا فِي عدم قدرته عَلَى العودة للوراء، ويتبع هذا العجزَ أمرٌ آخر مسكوتٌ عنه لا يقلُّ خطورة عنه هو عدم القدرة عَلَى تغيير مسار انهيار الأحداث وانحطاط الوقائع الَّتِي ستلي، إذ جرت التحولات كلُّها فِي الجواب، فالحرف (لو) فِي تشكيلته الشّـرطية هو الذي أتاح استمرارية الانهيارات المتتالية للوقائع الَّتِي سـردها النصُّ الشّعري فِي كتل حاشدة حركية وسـريعة الجريان فِي تماثلها مَعَ إيقاع العصر الراهن وما جرى فيه مِنْ كوارث، فضلا عن البنية الدائرية للحلم الذي بدأ به الشّاعر مِنْ أقصى درجات السمو، لكنه راح بفنٍّ يسجل طرائق تداعياته لو تحقق فِي ظرف لا ينسجم والأحلامَ الكبيرة، ثم انتهى عائدا إليه فِي المقطع الأخير بتمكن جعله قادرا عَلَى التشتيت داخل إطار متماسك والبعثرة داخل الوحدة؛ مما جعل مِنْ التشتيت ليس أداة هدم وإرجاء، بل تقنية تشويقية تشاكس تشذير ما بعد الحداثة وتشظيتها بتقنياتها المعروفة لكن بما يقابلها مِنْ تشتيت دلالي ليتضاد معها، بل ويقاومها ليظل قادرا عَلَى تشكيل المعنى المراد، إذ نجد العامية بجانب اللغة الفصيحة واللغة الإنكليزية بجانب العربية واللغة الراقية بجانب المستهلكة والمبتذلة والأسماء الهابطة الَّتِي لا تليق بأسماء أولاد أم وأب جامعيين كطركاعة وخربيط ومطنش وحنتوش، مما يؤكد مفارقة السخرية والتهكم والعذاب والتناقضات الحادة، فالتناقض وإن كان جزءاً مِنْ الوجود الطبيعي للمخلوقات، كالتناقض الذي يتم فِي صميم خلايا الأحياء، كالموت والحياة والخير والشّـر والمرض والعافية، وكلُّ ذلك يتكرر داخل الأحياء بتواتر دائم مِنْ اجل حماية الْحَيَاة ذاتها، لكنه مرفوض حين يكون عاملا مسلطاً على الحياة لهدمها، والقضاء على عوامل الإيجاب وإحلال التوازن فيها .

ويواصل السـرد الشّعري القفز مَعَ البطل مِنْ حدث لآخر دون سببية ولا تعليل، لأن الأسباب مضمرة، وهي فِي مضمراتها تحرك الوقائع وتلون السـرد وهو يجري بالتداعيات السـريعة، وهي تمزق الحبكة الَّتِي يحاكي تمزقُها بعثرة الواقع، وتمزقَ الأسس الَّتِي تقوم عليها المجتمعات السليمة، لتنشـر مقاصدها الدلالية الهادفة لرفض ما يجري مِنْ كوارث مزقت الشّعب الواحد وشوهت نسيجه، وإذا كان شوبنهاور يرى فِي السخرية مزيجا مِنْ الطرافة والحماقة؛ فان هذه القصيدة تخفي فِي طياتها مقاصد شتى، وان جرى السـرد فيها متضمنا مفارقات بطرائف تبدو شبيهة بالفكاهة، لكنها عارمة بالحزن والأسى وبؤس الواقع، فسوء الأحوال يحيل عَلَى ما آل إليه حالُ المجتمع مِنْ تناقضات، ومن انكفاء مستقبل الشّباب وما تبع ذلك مِنْ تردي الأحوال الثقافية والاجتماعية وتفكك الأسـر، فخريج الجامعة بدل أن يواصل تطوير نفسه وحياته مِنْ خلال عمل محترم تتكفل به الدولة لمواطنيها، نراه يذهب ليكون شـرطيا عَلَى الأدباء فِي مقهى حسن عجمي، وجاسوسا يرتزق عَلَى قمع الحريات ومطاردة الكلمة، وتذهب الخريجة الجامعية لتكون خياطة فِي مجلة المرأة، هذه المجلة التي يُفترض بها الحثّ على إعطاء حق المرأة وتوفير فرص العمل الجديرة بكفاءتها. وحين نعلم أن مجلة المرأة قد تعطلت منذ أكثر مِنْ عشـر سنين فإن المفارقة ستتضح فِي تعطيل طاقة المرأة وانكفائها فِي البيت، وما يسببه ذلك للأسـرة والمجتمع الإنساني مِنْ إفقار وخسائر وتعطيل لنصف الطاقة البشـرية، وتكريس لحالات السلب والفاقة؛ مما يؤكد هيمنة الذكورة هيمنة كاملة مَعَ انهيار قيم الرجولة والأبوة والمروءة؛ لإبادة كل إشارة مِنْ إشارات التحضر والمعاصرة فِي القفل الذي انتهت اليه القصيدة:

سأرسل لك وثيقة الطلاق كمرفق فِي ايميل آخر

لن أدفع لك نفقة ولو طلعت روحك

واعلمي أني صفيت حسابي فِي paypal

وغيرت رقم الموبايل/ باي باي، توحة / send

إن هذه القصيدة كمعظم نصوص الدِّيوان تندرج تحت ما يطلق عليه مفارقة الموقف الَّتِي تقسم بدورها عَلَى أنماطٍ عدة، ما يعنينا منها ثلاثة هي، مفارقة التنافر والأحداث، والمفارقة الدرامية الَّتِي وجدناها زاخرة فِي النص بحركية عارمة، تثبت وتنقض، تعلو وتهبط، تتألم وتسخر عبر أحداث طافحة بالتضاد والمفاجأة وكسر التوقع والتهكم والخلط بين اللغات،حتى تصل إلى الحضيض فِي استعمال مفردات الرعاع تعبيرا عن حال بحال آخر:

والهنود طيبون وأولاد حلال،

رغم أنهم سـرابيت وسـرسـرية ويحبون التوابل الحارة

والمفارقة واضحة فِي التقابل بين (طيبون وأولاد حلال/ وسـرابيت وسـرسـرية). إن مفردات كـ "سـرابيت وسـرسـرية" الَّتِي تعني باختصار انهم مِنْ ذوي الشّبهات، لا ينتمون لعوائل متماسكة منحتهم ما يحتاجون مِنْ تنشئة وتهذيب، وهم يتسكعون في الشوارع، مما يؤكد التدهور الاجتماعي الذي يعاني منه الشّعب، لكن الشّاعر تمكن مِنْ وضع المفردتين فِي السياق المناسب بحيث لم تشكلا نشازا عَلَى التشكيل، والمقطع لا يشير إِلَى حياة الهنود حسب قدر ما يؤشـر بؤس الحال العراقي، الذي اضطر جامعيا لكل هذا التشـرد، والعيش مَعَ هذا المستوى مِنْ السـرابيت والسـرسـرية ومحبي التوابل الحارة، بكل ما فِي هذا التركيب مِنْ تلميحات جنسية يقصدها النص.

وينتهي النص نهايةً دائرية بالعودة إِلَى الحلم محذرا إياه مِنْ التحقق، لأن التحقق يعني سقوطه وموت كل الأشياء الجميلة المنتظرة معه. إن الانعطافات الحادة الَّتِي قامت عليها بنية القصيدة ما بين البداية والمتن والقفل توسلت بكل الآليات الَّتِي عملت عَلَى تنشيط النص، وإشاعة الفاعلية في مستوياته، مِنْ خلال التداعي الذي عمل عَلَى تلوين خطوط سير التشكيلات بالتقلبات السـريعة الَّتِي جرى بها الزمن، مما أنتج تشكيلاً مهمته هذا التناقض الذي عمل فيه الخطابُ على تفتيت الحدث وتشظيته، فكانت العلاقة التي سادت وحدات النص علاقة تناقض وتنافر، تنفي القدرة على تشكيل الانسجامات، مما جعل التوتر الجدلي هو السمة التي هيمنت على حركة النص ، كون الوقائع اشتغلت عَلَى المقابلة بين الحلم بجمالياته والواقع بقبحه وسقوطه.

وتنشط مفارقة السخرية والتهكم وهما يضمران أقصى أساليب الانتقاد ملغوما بالألم، وقد وجدنا كل ذلك متداخلا فِي النصوص، ومشتغلا فيها، فكيركيجور يعد التهكم ضمن المركبات الوجودية، وهو عنده قادر عَلَى إلغاء الواقع مِنْ خلال انتقاده، حين يجده مفتقدا لأية سمة مِنْ سمات النبل والأخلاق والفضيلة، يُلغيه بوسائل التعبير بالمُغاير المُلبس، ولذا يرى أن التهكم لا يأبه إلا بلعبة الممكنات الَّتِي تؤول إِلَى العديد مِنْ التفسيرات الافتراضية لظاهرة ما، دون الركون إِلَى تحديد معين مما يعني أن المعنى قد ضاع وتشتت لافتقاره إِلَى التحديد، ودخوله عالم النسبية الذي تنهض داخله الأسئلة(24)، فالتهكم غالبا ما يتسم بالسخرية فِي نصوص المجموعة، هادفا لكشف حالات السلب، لافتا الانتباه إِلَى ضرورة الإصلاح، والتقويم ما دام السواد مهيمنا عَلَى المشهد، ووضع الواقع بفساده موضع النقض والمساءلة.

ففي (حكاية الحاج شسمه العراقي) يؤكد النصُّ عدم الحاجة للتشخيص الدقيق لبطل الحكاية، ولا تسميته بعلَم مِنْ أسماء الأعلام؛ إذ يكفي أنه عراقي يتكرر فِي هذا الزمن باستمرار، عراقيٌّ زاده التنكير شمولية، وهو بالرغم مِنْ كونه نكرة وموغلا بالماضوية والجهل، إلا أنه يجوب العالم بما يحمل مِنْ نقود وظلامية، دون وعي بالعصر وما يجري فيه مِنْ تقدم وعلم وتحول وتطورات، وليس له علاقة بحاضر الأمكنة الَّتِي يزورها، إن النقد هنا يطول الواقع الذي يمثله (شسمه مِنْ عائلة شسمها) مما يفصح عن واقع بعيد عن العلمية والموضوعية، يسوده فكر العشيرة ومنظومات قيمها المتخلفة (من عشيرة شسمها المعروفة) وغياب التسمية يعني غياب الهوية، إذ حالما يغيب الوعي تهتز أركان الهوية، كونها تقوم عَلَى الثابت والمتحول معا فان ركد التحول وانتفى تحجرت الهوية ولم يعد مِنْ أهمية ولا قيمة لها:

ليس مهما مِنْ يكون الحاج شسمه العراقي

المهم انه مِنْ عشيرة شسمها المعروفة

رجل فِي مقتبل العمر/ قد يكون خمسينيا أو ثمانينيا عَلَى الأرجح

حيث تنتفي الفوارق الزمنية مادامت العقلية راكدة فِي نقطة ساكنة لا تتحرك، ليؤكد ركودها سكونية زمنية لا علاقة لها بالعصر الذي تعيشه ولا بحركية حضارته المتفجرة كل يوم عن جديد. ان الشّاعر لا يقف فِي انتقاده عند أمر معين، انه ينتقد فِي الجهات كلها ويؤشـر السلبيات الجمة الَّتِي تنخر جنوب الكون كله من تخلف وعشائريات وقيم متهرئة، عملت وتعمل على تدمير الوطن الذي يحرص عَلَى تسميته وتشخيصه، العراق المنهوب بالظلم الذي أحالَ حياة الإنسان فيه عَلَى عذاب دائم:

فالأعاصير مكشـرة الأنياب فِي النصف الأسفل مِنْ الكرة الأرضية

وقلب الحاج شسمه يرعد مثل محرك طائرة قديمة

مما يفسح مجالا للأمل بنهاية هذا الزمن بموبقاته وخطاياه، زمن لم تدعه الحروب قادرا على التواصل مع ماضيه بشكل متفاعل يسير للأمام ويتطور بوسائل حديثة تطورا طبيعيا:

ربما ألهبته أغنيةٌ لداخل حسن أو حضيري أبو عزيز

وسالفةٌ عن السلاطين القدامى كان يرويها لحفيده

انقطعت بسبب القصف متعدد الجهات

قبل عشـرين كارثة ونيف مما يعدون

انه يشير ولا يفصح، ويفيد مِنْ معطيات الْحَيَاة اليومية ومن الموروث الشّعبي وفنانيه فِي الأغاني المعبرة عن المشاعر الجمعية، (داخل حسن وحضيري أبو عزيز) ويصل الأجداد بالأحفاد، مُدينا العدوان الذي يهدف إِلَى القطع والقطيعة والنفي، فهو لا يوجه السلاح لجهة واحدة، لأنه يستهدف به الجهات كلها والمجتمع بكل أطيافه ومكوناته، ويتلاعب الشاعر بالتناص معبرا عن طول زمن الكارثة، مفيدا مِنْ دلالة الآية الكريمة "إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون" سورة الحج 47.

وفي مفارقة السخرية يتحول المقدس إِلَى منتهك، فالمسبحة العراقية المتمثلة بحكومة ما بعد الاحتلال حولت التسبيح بالله وتمجيده الذي يفترض أن يؤول إِلَى هيمنة العدل والنبل والحق ورعاية الشّعب والصدق مَعَ الواجب بمسؤولية عالية، حولت كلَّ ذلك إِلَى الدوران فِي دوامة الأسماء والطوائف والميليشيات والعصابات الَّتِي قطعت علاقاتها بالقيم الوطنية الراقية، صارفة العامة مِنْ الجهلة والبسطاء نحو الدوران فِي فلكها: ففي نص "مسبحة عراقية " صارت المسبحة في ظل السياسة الجديدة أداة لتمجيد الأشخاص، فقد نسي الحكامُ اللهَ سبحانه، وأوامره في تأكيد المعروف وعمل الخير، والنهي عن المنكر، ومقاومة الباطل والشر والفساد، وصاروا يسبحون كلا باسم الشخص الذي يعتنق رؤاه للحصول على اكبر حجم من المكاسب دون التفات لشعب يتعذب ولا وطن يتمزق:

علاوي ام المالكي

المالكي ام الجعفري

الجعفري ام عادل عبد المهدي

عادل عبد المهدي ام علاوي

................ ص 19.

وهكذا تظل المسبحة تدور دوران المحنة التي تسجن الوطن والأبرياء داخل قضبانٍ لا خلاص منها. ويندمج التهكم بالسخرية حين يخاطب البرلمان العراقي: في نص "البرلمان العراقي":

حسنا فعلتم حين علقتم الجلسة إِلَى اجل غير مسمى

لماذا العجلة/ البطيخ فِي أرشيف الوزارة/ والطماطم عَلَى الإنترنت

 والرز فِي البلاك بيري... 23.

وتندمج المصطلحات الأجنبية بنسيج النص حين يكون الناسج هو الألم الناتج عن تقصير مريع فِي أداء الدولة تجاه مواطنيها ووطنها، وانصراف عن المصلحة العامة إِلَى الذرائع الشّخصية غير المشـروعة. إن الانصراف كليا إِلَى الانشغال بالمضمون قد يكون عَلَى حساب الشّعرية، والشّاعر يدرك ذلك؛ ولذا نجده يفاجئنا بالانتقال مِنْ المباشـر إِلَى واحدة مِنْ آليات التحول كاستعارة أو رمز أو تناص أو تلاعب باللغة:

عزيزي المواطن، عزيزتي المواطنة

طوبى لكَ وطوبى لكِ أيضا

وفقا لدستور البلاد النائم/ فنحن مجرد منافض سجائر

يستعملنا الساسةُ لرمي أعقاب سجائرهم وبصاقهم

لكن الشّاعر يسارع للتحول مِنْ هذه المباشـرة الَّتِي لم يكسـرها غير الإيحاء بالسخرية وكسـر التوقع اللغوي بالاستعارة فِي الدستور النائم، والتشبيه الواضح، إِلَى الحلم الذي ينهض بالنص نحو تشكيل واقع حلمي إبداعي يبتعد عن السـرد الأفقي ليرسم صورا جمالية تتناسل بشكل عنقودي عمودي مركب يعبر عن تناقض قائم بين مراد شعب، مضطهد وحكومة تصادر الحلم وتعمل عَلَى تدميره:

ذات يوم/ حلمت منفضة منا أنها ليست منفضة سجائر

وإنما شجرة وارفة/ شجرة فِي بستان مترامي الأطراف

البستان يمر بوسطه نهر/ فوق النهر جسـر/ عَلَى الجسـر يمرُّ اناسٌ كثيرون

لكن الحكومة تبادر بليلة غاب عنها القمر

إِلَى قطع الشّجرة ونسف الجسـر وتدمير البستان

وتزداد السخرية بالحكومة حدة مِنْ خلال المفارقات واللعب باللغة واللعب بتصريف الأفعال ليكون فنُّ الشّعر ليس قريبا مِنْ الحقيقة التاريخية، بل فِي صميمها وهو يعمل عَلَى تعرية الواقع وتثوير الإنسان المسـروق والمنكوب بحريته وكرامته. وهكذا يكون الفن نشاطا إنسانيا يتمكن مِنْ نقل أحاسيس عاشها الفنان بإشارات خارجية معينة كما أكد مِنْ قبلُ تولستوي، وهذه الأحاسيس يتأثر بها المتلقون ويعيشونها عن طريق ما سماه العدوى. ويقترب تولستوي هنا مِنْ نظرية وردزورث عن الشّعر فِي إصرارهما المشترك عَلَى وضوح الفن وإمكانية فهمه وتداوله، إذ يصف وردزورث الشّاعر بأنه إنسان يتحدث إِلَى الناس معتمدا فِي أسلوبه عَلَى " لغة الناس العادية "(25). لكن الأمر تغير فيما بعد وتنوعت الآراء حول اللغة الشّعرية تحولا وتطورا حتى وصلت حد التعقيد، ونشهد هنا فِي تلوين مستويات التعبير فِي المجموعة ان فضاء الشّاعر يمتد مِنْ قمة الترميز الذي يتسم بالغموض فِي نص (طرقتك يا باب، وقوس الغزالة مثلا) إِلَى لغة صوفية تتهدج بعليائها مضرجة بحنين الوجد كما فِي قصيدتي (الدرويش فِي تغريبته الأخيرة، وقوس الغزالة)، وحين يذهب إِلَى اللغة المباشـرة لا يدعها وشأنها، بل يحيلها عَلَى ما ورائية تبعدها عن المباشـرة بعد الاشتغال عَلَى بنيتها العميقة، فإذا بها مفارقة ماكرة، أو لعب عَلَى علم السياسة الذي جعله الجهلة والمجرمون مأساة وكوارث كما فِي نص (بوليتكس والبرلمان العراقي ومسبحة عراقية) الَّتِي تشتغل عَلَى التحويل والسخرية والتهكم معا.

إن ضياع الحقيقة وبعثرة الْحَيَاة وإرباكها، والتشتت وانفراط القيم وضياع الحقوق، وتسلط الجهلة، هي السمات الغالبة عَلَى الدِّيوان، لكن الشّاعر وهو يكشف ويعري ويفضح عوامل السلب لا يفتح أي باب لليأس؛ ولذا نجده فِي قصيدة (عليوي يحلم) يحرض الإنسان البسيط عَلَى الحلم مِنْ اجل بناء الحياة، فالجمالية الَّتِي يحرص الإنسان عَلَى تحقيقها هي نتاج الوعي الإبداعي التركيبي فِي بنية الحياة، وان للفن تأثيرا فعالا فِي خلق اللحظات الانتقالية وارتقائه إِلَى أطوار أكثر عمقا وشمولية وتعقيدا مما سلف، وذلك يؤكد أن الفن قضية صيرورة وتحول، وليس ثورة مفاجئة وانه ظهور لحظات جديدة عَلَى لحظات قديمة فِي بنية الشّيء الواحدة بفضل سلطة التحول(26)

إن العودة إِلَى عليوي اسم العلم الشّعبي ايمانٌ بأهمية مقصدية الاعلام، لأنها هنا عودة للبناة الحقيقيين، عموم أبناء الشّعب الذين يمتلكون شهامة الفعل والذين لا يخصون أنفسهم بمصالح شخصية يعملون مِنْ أجلها، بل يتمركز اهتمامهم فِي العمل عَلَى مصلحة الجموع والأرض وقيم السمو، وكل المعاني الَّتِي يجدون فيها سعادة الجميع وديمومة حياتهم بتطور ومثابرة، والشّاعر يدرك ذلك بيقين، فأكبر هدف للفن هو بناء الإنسان مِنْ خلال الحرص عَلَى توفير حاجاته ليتحول يأسُه إِلَى عزيمة وإحباطهُ إِلَى تصميم:

واصل الحلم يا عليوي/ فِي طريقك الكثير مِنْ العقبات

وعليك أن تقفز فوق حواجزها المعقدة

الواحدة و تلو الأخرى/ باتجاه ذروة الحلم

اقفز يا عليوي اقفز

شمر عن زنديك وأطلق مخيلتك للريح

استبدل مكبات النفايات بالحدائق

...............

العجل، العجل يا عليوي

اقفز إِلَى المستقبل،/ اقفز يا عليوي

كي لا تتسمر قدماك بلزوجة الوهم الرهيب.

إن تضافر أفعال الأمر الَّتِي تضمر فِي دواخلها التوتر ودراما الفعل فِي الطلب عبر حالتي الاستجابة والرفض، مَعَ النداء الذي يضمر الحركية وإشاعة النشاط الدرامي، مِنْ خلال استدعاء المنادى للتداول فِي ما يبدو مهماً فِي النص، هما اللذان حركا القصيدة باتجاه الحثّ نحو تحقيق الحلم الجمعي الذي تكمن فيه فكرة رفض هذا الواقع البائس وما يكتنفه مِنْ عذاب وفساد وخراب؛ لتشييد الفرح والحدائق رمز الديمومة والخضرة والجمال والانسجام، ودحض مشـروع الإبادة الذي يُنفَّذ ضد شعب اعزل الا مِنْ الإرادة، وهي دعوة لمغادرة وهم الانتظار ممن لا يُرتجى منهم خير غير الوعود الكاذبة . ان الشّاعر يدعو لاستبدال زمن يشتعل ليضيء بزمن راكد مُشين يعيش انكساراته، فاعتماد الزمن الكوني التقليدي المتسرب والمنساب دوما نحو الفناء، لا يؤدي إلا إِلَى الرتابة والسكونية والموت في الحياة، بينما يشتغل الزمن الإبداعي عَلَى الحركية الفاعلة المنجزة، وهو وحده الزمن الذي يشكل الحضارة وينجز مستقبل الإنسان.

إن اللغة الشّعرية هنا وإن كانت تكشف عوامل السلب والتفتت النفسي، وتعري القبح مِنْ خلال السخرية والإيهام والتمويه والتشظي، والقدرة عَلَى التوليف بين اللهجة وروحها الشّعبية اليومية والرموز الدالة بكثافتها الذاتية، وهي تحيل عَلَى رؤية أبعد، إلا أن هذه اللغة اتسمت بتماسكها فِي حرصها عَلَى أداء وظيفتها الشّعرية، ولذلك ظلت فِي علاقة تجاذب حسب رومان جاكوبسن. إن أبشع الألم ذلك الذي تضمره السخرية المُرة، وهذا ما لمسناه فِي مجموعة فضل خلف جبر، فهو بالرغم مِنْ الطرافة الَّتِي تبدو فِي طبيعة شعره، إلا أنه يحمِّل لغته ألم روحه، ألما نابضا بعذاب يعي المفارقة الجارحة بين حلم الشّاعر وبين الواقع الذي يعيش، بين الوطن المنشود والوطن الذبيح عَلَى أرض الواقع، بين ما وصل إليه العالم مِنْ تقدم ورؤى حوارية متفتحة عَلَى الْحَيَاة وعلى تقبل الرأي الآخر بالحوار والتفهم والمحبة فِي تطلع إنساني نحو الغد، وبين صراع لا نعرف له بداية ولا نهاية بسبب الظلامية وفوضى الغوغاء والجشع حول الشهوات والجهل المحيط بنا، وما يحيق بعقول بعضهم مِنْ انغلاق حول الأنا المنكفئة عَلَى ماضٍ انقضى ولم يعد قادرا عَلَى تحريك اللعبة المعاصرة باشتباكها وتناقضاتها وتداخل رؤاها. وذلك ما دفع الشّاعر إِلَى الكيد بهذا الانغلاق المفرط بالجهل مِنْ خلال انفتاحه المغامر عَلَى التجريب بالدمج والتداخلات والتعريض والتهكم والسخرية مما آلت اليه الظروف من بؤس وانحرافات.

 

هوامش:

(1) التَّجريب، مجزوءة المعرفة، نت، 10/1/2014.

http://www.achamel.info/Lyceens/liencours/index.php?id=854&idc=1

(2) . التَّجريب فِي الإبداع الروائي، د. صلاح فضل، ضمن كتاب الرواية العربية، ممكنات السـَّرد، 103، مهرجان القرين الحادي عشـر، 2008، الكويت.

(3) . ظاهرة الشعر المعاصر فِي المغرب، مقاربة بنيوية تكوينية، محمد بنيس، 208، دار التنوير للطباعة والنشـر، بيروت، المركز الثقافي، الدار البيضاء، ط 2، 1985.

(4) .تعقيب عَلَى بحث د. صلاح فضل، د.لطيف زيتوني، 119- 120، ضمن كتاب الرواية العربية،ممكنات السرد، مصدر سابق.

(5) . التَّجريب وتوظيف التَّاريخ والموروث فِي رواية الجنوب، عبد الحافظ بخيت متولي، نت، 8/1/2014.

http://www.kanadeelfkr.com/vb/showthread.php?t=25821

(6) . مِنْ تجليات الخطاب الأدبي، قضايا نظرية، حمادي صمود، 62 دار قرطاج للنشـر والتوزيع، تونس، ط1، 1999.

(7) . المصدر نفسه.

(8) . مؤسسة شـرق غرب، ديوان المسار للنَّشـر، الفرات للنشـر والتَّوزيع، ط1، 2013.

(9) . ما الأدب، بشار عبد الله، موقع الشاعر بشار عبد الله، 1 / 1 / 2015.

https://bashaq.wordpress.com/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B1/

(10) . تحليل الخطاب الشعري، (استراتيجية التناص)، د. محمد مفتاح، 120 ومصادرها، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1985.

(11) . دور الكلمة فِي اللغة، ستيفن أولمان، ترجمة، د. كمال محمد بشـر، 169، مكتبة الشباب، مصر، ط 10، 1986.

(12) . حوار مع الشاعر فضل خلف جبر على النت في 5 / 2 / 2014 .

(13) . دور الكلمة فِي اللغة، 169.

(14) . درجة الصفر للكتابة، رولان بارت، ترجمة : محمد برادة، 13، دار الطليعة للطباعة والنشـر، لبنان ـ بيروت، ط1، 1980.

(15) . لغة الشعر، د. رجاء عيد، 80، منشأة المعارف بالإسكندرية، 1985.

(16) . انثروبولوجيا الجسد والحداثة، دافيد لوبروتون، ترجمة محمد عرب صاصيلا، 39، 41، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1993 .

(17) . لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين ابن منظور، مادة غمر، دار صادر، بيروت، ط1، د. ت.

(18) . المصدر نفسه، مادة فقم .

(19) . فضاءات الشعرية، د. سامح الرواشدة، 20-28. المركز القومي للنشـر، اربد ، الأردن، 1999.

(20) .المفارقة الروائية، الرواية العربية نموذجا، صالح محمد عبد الله، 31- 32، أطروحة دكتوراه، تربية الموصل، 2001 .

(21) . فضاءات الشعرية، 20 – 28 . مصدر سابق.

(22) . المفارقة الروائية، الرواية العربية نموذجا، 26. مصدر سابق.

(23) . دور الكلمة فِي اللغة، 106. مصدر سابق.

(24) المفارقة الروائية، الرواية العربية نموذجا، 27 ومصادرها .

(25) . معنى الفن، هربرت ريد، ترجمة سامي خشبة، 276، مراجعة مصطفى حديد، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 2، 1986، بغداد.

(26) .المعيار الجمالي فِي فن اللامعقول، منير الحافظ، 77، دار الفرقد للطباعة والنشـر والتوزيع، ط1، دمشق، 2003.

 

المصادر والمراجع:

**شاعر وكاتب ومترجم عراقي ، مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية،عمل محررا في الصحافة العراقية حتى مغادرته الوطن عام 1992، صدرت له الدواوين : حالما أعبر النشيد بيروت، 1993 آثاريون، عمان، 1997 / من اجل سطوع الذهب، البحرين، 2011 / طق إصبع، بيروت، 2011 /

1              .التجريب فِي الإبداع الروائي، د. صلاح فضل، ضمن كتاب الرواية العربية، ممكنات السـرد، 103، مهرجان القرين الحادي عشـر، الكويت، 2008.

2              التجريب وتوظيف التاريخ والموروث فِي رواية الجنوب، عبد الحافظ بخيت متولي، نت، 8/1/2014. http://www.kanadeelfkr.com/vb/showthread.php?t=265821

3              التجريب، مجزوءة المعرفة، نت، 10 / 1 / 2014.

http://www.achamel.info/Lyceens/liencours/index.php?id=854&idc=1

4              تحليل الخطاب الشّعري، (استراتيجية التناص)، د. محمد مفتاح، ومصادرها، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1985.

5              حوار مع الشاعر فضل خلف جبر على النت في 5 / 2 / 2014 .

6              درجة الصفر للكتابة، رولان بارت، ترجمة: محمد برادة، دار الطليعة للطباعة والنشـر ط1، ـبيروت، 1980م .

7              دور الكلمة فِي اللغة، ستيفن أولمان، ترجمة، د. كمال محمد بشـر، مكتبة الشّباب، ط 10، مصر، 1986.

8. الرواية العربية، ممكنات السـَّرد، ، مهرجان القرين الحادي عشـر، 2008، الكويت :

أ‌.              التَّجريب فِي الإبداع الروائي، د. صلاح فضل .

ب‌.            .تعقيب عَلَى بحث د. صلاح فضل، د.لطيف زيتوني .

9. ظاهرة الشّعر المعاصر فِي المغرب، مقاربة بنيوية تكوينية، محمد بنيس، دار التنوير للطباعة والنشـر، بيروت، المركز الثقافي، الدار البيضاء، ط 2، 1985.

10.فضاءات الشّعرية، دراسة في ديوان امل دنقل، سامح الرواشدة، المركز القومي للنشر، اربد، 1999.

11. لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط1، د. ت.

12 . لغة الشّعر، د. رجاء عيد، 80، منشأة المعارف بالإسكندرية،1985 .

13.ما الأدب، بشار عبد الله، أنترنت، موقع الشّاعر بشار عبد الله، 4 / 1 / 2014.

14.مدري ياهو، فضل خلف جبر، مؤسسة شـرق غرب، ديوان المسار للنشـر، الفرات للنشـر والتوزيع، ط1، 2013.

15           . معنى الفن، هربرت ريد، ترجمة سامي خشبة، مراجعة مصطفى حديد، دار الشّؤون الثقافية العامة، ط 2، بغداد، 1986.

16           المعيار الجمالي فِي فن اللامعقول، منير الحافظ، 77، دار الفرقد للطباعة والنشـر والتوزيع، ط1، دمشق، 2003.

17           المفارقة الروائية، الرواية العربية نموذجا، صالح محمد عبد الله، ومصادرها، أطروحة دكتوراه، آداب الموصل، 2001.

18           .من تجليات الخطاب الأدبي، قضايا نظرية، حمادي صمود، 62، دار قرطاج للنشـر والتوزيع، تونس، ط1، 1999.