يؤكد الفلسطيني الكبير أن فكرة فلسطين التي صاغها الفلسطينيون من تجربة الاقتلاع والنفي أبقت فلسطين حية. وها هو كتاب جديد من استراليا، آخر أطراف الشتات الفلسطيني يؤكد أن للفكرة المدعومة بالبشر والتاريخ القدرة على وضع فلسطين على الخريطة من جديد مهما حاولت دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين محوها.

الفلسطينيون في أستراليا

مؤَلَّف ينقذ فلسطينيي أستراليا من الغياب

نجمه خليل حبيب

«قبل كل شيء، ورغم أننا في الحقيقة مشتتون مفتتون جغرافياً، ورغم أننا في الحقيقة لا نملك أرضاً خاصة بنا، إلا أننا كشعب، متحدون كأقوى ما يكون الاتحاد. ففكرة فلسطين (التي صغناها من خصوصية تجربتنا في الاقتلاع والطرد الإستثنائي)، هي دعوة للترابط، نستجيب كلنا لها بحماس إيجابي».(1)                                إدوار سعيد

 

وكتاب هاني الترك (الفلسطينيون في أستراليا) ،(2) شاهد آخر على صحة مقولة صاحب الاستشراق هذه. هو لبنة تضاف إلى المشروع الفلسطيني المقاوم للمحو والإلغاء، إذ ان هذه الجالية الصغيرة المهمشة في هذا المقلب البعيد من العالم قل أن أعارها الباحثون والموّثِقون للذاكرة الفلسطينية أي اهتمام. واهتمامنا بهذا الكتاب لا يرجع إلى إقليمية شوفنية ضيقة، بل إلى خصوصية القضية الفلسطينية التي خلقها المنفى، وقطرية عربية رسمية تتبنى "القضية الفلسطينية العادلة" وتتجنب "الفلسطينيين" الذين لا يعرفون العدالة على حد تعبير الباحث فيصل درّاج.

أرض بلا شعب لشعب بلا أرض:
ظل الفلسطينيون في أستراليا حتى وقت قريب مغيبين على المستويين الشعبي والرسمي، حتى أنه لم يكن اسم فلسطين مدرجاً ضمن قائمة البلدان التي عليك أن تختار منها عند تعبئة أي استمارة رسمية أو خاصة لتشير إلى المكان الذي أتيت منه. ولم يتغيير هذا الوضع إلا منذ بضع سنوات. ما زلت أتذكر الانكسار الذي انتابني وأنا أملأ استمارة طلب الجنسية (عام 1997) ولم يكن امامي إلا ان أختار خانة restless (رحّل). وقفت مهانة ذليلة ... عندها فقط أحسست أن فلسطين تلاشت من الجغرافيا والتاريخ. وأن الدعاية الصهيونية نجحت في نشر خطابها المضلل القائل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". دفعتني هذه التجربة للتساؤل: هل قصّر الفلسطينيون بحق قضيتهم، أم ان العالم صُمت آذانه عن الحقيقة وانجرف وراء الكذبة والدعاية الكولونيالية؟

يعرف كل من له/ لها اهتمام بالقضية الفلسطينيية أن الفلسطينيين لم يقصروا في الرد على هذا التأويل الصهيوني، ورديفه خطاب الاستشراق الكولونيالي الذي يرى في فلسطين مجرد مكان لمشروع كولونيالي(3) ، فهم حاربوا الغياب بالإصرار على استحضار المكان والتاريخ. في البدء كان استحضارهم شفوياً. كأن ينقل الآباء ذاكرتهم للأبناء. ثم تنبهوا إلى ضرورة تدوين الذاكرة خوفاً عليها من الضياع، فكان أن حفل المشهد الأدبي والأكاديمي بمؤلفات تؤرخ لفلسطين قبل النكبة، وتقدم شهادات تثبت حضورها. منها: كتاب (يافا عطر مدينـة) لإمتياز ذياب يصور حياة اليافاويين من خلال مقابلات مع مختلف فئات المجتمع: عمال، طلاب، سياح ووجهاء في أماكن مختلفة: ورش، مصانع، ملاعب، وصور لمناسبات الاستقبال والترحيب بضيوف مشهورين. وكتاب ساره غراهام براون (الفلسطينيون ومجتمعهم 1880-1946) حيث تعمل الصور التي يتضمنها الكتاب على تثبيت الماضي ومحو الغياب. وكتاب وليد الخالدي (قبل شتاتهم: تاريخ مصور للفلسطينيين 1876- 1948) يعرض فيه مجموعة ضخمة من الصور تعمل على تأكيد الحضور الفلسطيني وتقاوم المحو الذي تجهد الصهيونية في تثبيته. ويشمل الكتاب مقدمة تحتوي على المعلومات الأساسية لتلك الحقبة.(4) ووعى الفلسطينيون ضرورة حضورهم في الفكر والثقافة العالميتين فرافق ولادة ثورتهم المسلحة الحديثة عام 1965 نهضة أدبية وبحثية وعلمية تجسدت في مؤسستين اتخذتا من بيروت مقراً لهما: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تأسست عام 1963، ومركز الابحاث الفلسطيني، تأسس عام 1965.(5)  ووعى غسان كنفاني أهمية الثقافة في العمل النضالي ورأى أن إرادة التحرير هي النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة بمعناها الواسع على كلا الصعيدين: الرفض والتمسك الصلب بالجذور والمواقف. وآمن بأهمية الدور الثقافي في المقاومة وبقيمته القصوى التي لا تقل أبداً عن المقاومة المسلحة ذاتها، ومن ثم فإن رصد واستقصاء هذه القيمة وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التي يرتكز عليها الكفاح المسلح .(6) هذا ولا يزال الفلسطينيون يـبحثون ويؤلفون بكل ما يوّثق تاريخهم وجغرافيتهم. فالمطابع لا تزال تطالعنا بالجديد في هذا المجال، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، كتاب (قول يا طير) لابراهيم مهوّي وشريف كناعنة ،(7) وهو حكايات شعبية باللهجة المحكية يعطي صورة كاملة عن المجتمع الفلسطيني وعاداته وتقاليده وثقافته. وقد أسهمت الانترنت مؤخراً في تقديم المعلومة وحفظ الذاكرة فأنشئت عدة مواقع لهذا الغرض، منها على سبيل المثال: شمل، بديل، باحث للدراسات، فلسطين في الذاكرة. هذا إلى جانب عشرات المواقع الفردية التي تؤرخ لمدينة أو قرية أو "حمولة".(8)

وفي أستراليا أنقذ الأستاذ هاني الترك الجالية الفلسطينية من الغياب بخطوة سباقة في كتابه الرائد (الفلسطينييون في أستراليا). هو رائد لأنه أول من أرخ لهذا الجندي المجهول الفلسطيني المنسي من ذوي القربى فلسطينيين وعرباً. ويتميز هذا الكتاب في أنه يقدم المعلومة التي تدحض التأويل الصهيوني بلغة انكليزية واضحة وسلسة، وفي متناول القارئ العادي. وبنهج حيادي بعيد عن العاطفة المسطحة، وبمنطق علمي مثبت بالحقائق التاريخية.

يثبت هاني الترك في الفصل الأول من كتابه حضور فلسطين في هذا العالم منذ ما قبل التاريخ. هي بلاد مأهولة منذ الألف السابع (7000) قبل الميلاد، جاءها الفلسطينيون من جزيرة يونانية في بحر إيجه في الألف الخامس (5000 ق.م.) كانت يومها تسمى بلاد كنعان نسبة إلى القبائل التي جاءتها من شبه الجزيرة العربية. وسماها اليونان فلسطين منذ القرن الأول ق.م. وسماها العرب فلسطين عند فتحهم لها في القرن السابع الميلادي، وظلت تعرف بهذا الاسم حتى عام النكبة 1948. وفي هذا الفصل يبين الكاتب حضور الفلسطينيين الممييز حضارياً في عصور ما قبل التاريخ، فقد عرفوا النحاس والزجاج وصنعوا الأدوات الفخارية وتاجروا مع اوروبا. وفي العصر البرونزي (الألف الثالث ق.م.) طور سكان فلسطين صناعتهم. والمثبت تاريخياً ان اليبوسيين وهم قبائل كنعانية أقاموا عاصمتهم في بلدة قديمة اسمها أورشليم. بهذا يكون سكان فلسطين في العصر الحديث هم الكنعانيون أو (العموريون) واليبوسيون والفلسطينيون.

لم يتجاهل الترك الوجود اليهودي في فلسطين فقد أرخ لهم بصدق وأمانة علمية. وبمثل ما سرد تاريخ الفلسطينيين سرد تاريخ اليهود القديم والحديث، موثقاً عمله بالمصادر المعترف بمصداقيتها دولياً. ومما نستخلصه من هذا السرد، هو ان حضور اليهود في فلسطين تعرض لهزات كبيرة وهجرات عكسية لذلك لم يتجذروا في الأرض كباقي السكان السابق ذكرهم. فهم جاؤوا الى بلاد كنعان من جنوب العراق. وعندما تعرضت فلسطين للمجاعة، هاجروا إلى مصر وظلوا هناك حتى أيام النبي موسى. وفي عام 1020 ق. م. بعد عودتهم من مصر، توحدت قبائلهم بقيادة الملك شاوول، الذي قتل في معركة مع الفلسطينيين، ثم خلفه ابنه داوود ومن بعده ابنه سليمان الذي بدأ ببناء دولة منظمة فحسن الاقتصاد وتاجر مع ملكة اليمن سبأ. وفي عام 750 قبل الميلاد غزا الكلدانيون مملكة اليهودية وسبوا أعداداً كبيرة من اليهود إلى بابل. وعندما غزا الفرس بلاد الشام أصبحت فلسطين جزءاً من سوريا. وفي عام 63 ق.م. ضم الرومان سوريا وفلسطين إلى مملكتهم وكان هيرودس حاكماً على اليهودية. وفي عام 73 ق.م. هدم الرومان هيكل سليمان وبذلك يكون بقاء اليهود الفاعل في فلسطين لم يدم إلا 70 سنة. والمهزلة تكمن في أنه على أساس هذه السبعين سنة أقامت الصهيونية دعواها بحق اليهود في فلسطين، وأسهم في جعل هذه الدعوى حقيقة الخطاب الكولونيالي المتمثل بوعد بلفور.

يبيِّن هاني الترك بالوثائق التاريخية أن نسبة اليهود في فلسطين في القرن التاسع عشر لم تكن لتتجاوز ال7% من سكان فلسطين. وأنه بسبب الهجرة المبرمجة التي سمح بها العثمانيون أولاً، والبريطانيون ثانياً، قفزت النسبة الى 12% أثناء الحرب العالمية الأولى. ثم قفزت بشكل دراماتيكي في عام 1946 الى 36 %. نستنتج مما سبق أن فلسطين لم تكن يوماً "أرضاً بلا شعب" لا قديماً ولا حديثاً. ولا كانت "مجرد مكان يصلح لمشروع كولونيالي تقيمه فرنسا بامتياز كما ادعى مارتين".

يصور الخطاب الصهيوني المتخيل منه والواقعي الفلسطينيين جبناء يهربون عند القتال ويتركون قتلاهم وراءهم. ويدعي هذا الخطاب أن الفلسطينيين لا يقيمون وزناً للأرض والوطن، فهم هجروا مدنهم وقراهم ومزارعهم دونما أسباب واجبة لذلك. ويدحض هاني الترك هذه الأكذوبة بلهجة حيادية وبتجرد كمؤرخ يسرد التاريخ ولا يحاكمه، فيعدد بعض الأعمال الإرهابية التي نفذتها العصابات الصهيونية شترن وارغون اللتان كان يرأسهما كل من مناحيم بيفن وإسحاق شامير؛ ويسكت عن ممارسات كثيرة جاء ذكرها على سبيل المثال لا الحصر في كتاب (التطهير العرقي في فلسطين) لأيلان بابي ،(9) وفي كتاب (الليل وعوّاده) لأثيل مانين .(10) ولم يذكر الترك كيف منعت السلطات الإسرائيلية عودة الفلسطينيين بعد وقف الحرب، وكيف أنها هدمت أكثر من 500 قرية حدودية لتمنع أهلها من العودة إليها، وكيف انها كانت تقضي على من تسميهم المتسللين، وعلى من يتعاطف معهم او يخبئهم من فلسطينيي الداخل.

الفلسطينيون في أستراليا:
تأخرت الهجرة الفلسطينييين الفعلية إلى أستراليا إلى ما بعد هزيمة 1967، ويثبت الترك من خلال البحث العلمي الموثق أن السبب يعود إلى أن الفلسطينيين عندما هُجّروا من وطنهم عام 1948 كانوا يعتقدون أن هجرتهم لن تدوم إلا بضعة أيام او شهور على أبعد تقدير. لذلك ظلوا في الدول المجوارة (لبنان وسوريا والأردن) متأهبين للعودة، محتفظين بمفاتيح بيوتهم حتى صار المفتاح رمزاً من رموز العودة. إلا ان هذا الأمل بدأ يضعف بعد هزيمة العرب أمام "إسرائيل" عام 1967.

يقسم الترك الهجرة الفلسطينية إلى أستراليا إلى ثلاث دفعات لم تتخط الدفعة الأولى التي حصلت عام 1946 عدد أصابع اليد الواحدة. ثم كانت الدفعة الثانية لبضع مئات في منتصف الستينييات من القرن العشرين ولأسباب تتعلق بالحالة الاقتصادية المتردية، والاضطهاد والملاحقة من قبل حكومات البلاد المضيفة. ثم كانت الدفعة الثالثة بعد حرب الخليج الأولى عام 1991 عندما هُجِّر الفلسطينيون من الكويت. يكتب الترك بحيادية واقتضاب عن أسباب الهجرتين الثانيتين. وكتب التاريخ والاجتماع حافلة بذكر هذه الأسباب، لخصتها نجمة حبيب في مقدمة كتاب بعنوان (رؤى النفي والعودة في الرواية الفلسطينية).

وبيت القصيد في كتاب هاني الترك، هو الفصل الثالث، قسمه الثاني على وجه التحديد، وفيه يحكي الكاتب معاناة الفلسطينيين مع التمييز العنصري في أستراليا. من المعروف تاريخياً أن استراليا بنيت كمستعمرة بريطانية، وانها تدور منذ إقامتها في فلك الامبريالية العالمية، وأنه منذ نشاتها يتجاذبها تياران واحد يريدها ابنة مخلصة للتاج البريطاني، وآخر يريدها عالمية تسترشد الثقافة والسياسة الأوروبيتين، الأمريكية، على وجه التحديد ،(11) ويتداول على حكمها حزبان رئيسيان هما حزب العمال التقدمي، وحزب البيراليين المحافظ.

يبين هاني الترك ان أستراليا الرسمية بحزبيها الرئيسيين (العمال والأحرار) وقفت موقفاً سلبياً من الفلسطينيين، وذلك يعود إلى ارتبطها بالسياسة الأمريكية، وحيث ان اميركا منحازة إلى إسرائيل، فلزاما جرى انحياز أستراليا. ثم إن هذه السياسة انعكست تجهيلاً للقضية الفلسطينيية على المستوى الشعبي حتى أنه إلى زمن قصير لم يكن ينظر إلى الفلسطينيين إلا على أنهم إرهابيين، الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى التكتم عن انتمائهم، ليتجنبوا الاضطهاد والممارسات العنصرية. وقد نجحت الدعاية الاسرائيلية في شيطنة الفلسطيني فساد الاعتقاد لمدة طويلة أنه إنسان عربي، مسلم، متخلف، يحتقر المرأة ويخطف الطائرات ويقتل الناس الأبرياء.

بدأت هذه الصورة تتغير في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، بدأ الأستراليون يرون عكس المشهد البشع الذي شاع في الستينيات والسبعينييات. وبدأ الفلسطينيون ظهورهم العلني بدون أي خجل أو تردد بإعلان موروثهم الفلسطيني. ومع ذلك أظهرت استطلاعات الرأي ان التمييز الطائفي والعرقي كان لا يزال شديداً في استراليا. ففي إحصائية أجرتها صحيفة (السدني مورننغ هيرالد) في 9 شباط 1988 بينت أن الاستراليين يفضلون الهجرة الأوروبية، وبالأخص البريطانية. فقط 17% اختاروا الهجرة من الشرق الأوسط. ويذكر الترك حادثتين تبيِّنان التمييز التعسفي ضد الفلسطينيين. ففي عام 1982 شيعت وكالة أخبار بريطانية خبراً مفاده، أن منظمة التحرير الفلسطينية متورطة بتدريب فلسطينيين على الأعمال الإرهابية في مخيمات في شمال أستراليا. وعندما وصلت الأخبار إلى أستراليا ساهم الإعلام المحلي في تضخيم الحدث، فنشبت موجة غضب شعبية عارمة على الفلسطينيين، كان من نتائجها تعرض بعض البيوت في مالبورن للملاحقة بالإعلام والقضاء. وبعد تحقيقات موسعة تبين ان القصة كلها ملفقة. ويعيد الترك الأسباب لهذه الحملة المضادة للفلسطينيين إلى أن الأستراليين لم يختلطوا بالفلسطينيين، ولم يتعرفوا على معاناتهم، وظلوا يجهلون حقيقة الصراع والأسباب التي دفعت بهم إلى اللجوء إلى الكفاح المسلح لاستعادة حقوقهم.

تبنت أستراليا منذ عام 1947 سياسة منحازة إلى إسرائيل، ولم تقف محايدة إلا في فترات قصيرة وغير فاعلة. حدث ذلك لأول مرة عام 1972 على عهد غولف ويتلام رئيس الوزراء العمالي، الذي عارض السياسة الأمريكية، ووقف محايداً في الصراع العربي الإسرائيلي. وفي هذه الفترة أيضاً برز نائب عمالي يدعى بل هارتلي Bill Hartley كان من أقوى المدافعين عن حقوق العرب، ومن ثم عن حقوق الفلسطينيين. والجدير بالذكر أن بوب هوك رئيس الوزراء العمالي طرد هارتلي من المجلس النيابي، قائلاً إنه عبء على الحزب، لأنه من جهة كان مسانداً للفلسطينيين، ومن جهة أخرى كان على علاقة طيبة مع ليبيا والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية. أما فيما عدا ذلك فإن حزب العمال "التقدمي" كان دائماً منحازاً لإسرائيل. فبوب هوك رئيس الوزراء العمالي كان معروفاً بعدم تعاطفه مع القضايا العربية. لقد قال عند حرب 1973 انه لو كان رئيس حكومة إسرائيل، ويملك قنبلة نووية لكان قصف العالم العربي بها. وفي عام 1974 رفضت الحكومة العمالية إعطاء تأشيرة دخول لممثل منظمة التحرير الفلسطينية، معتبرة هذه المنظمة مجرد جماعة من الارهابيين. ومما يجدر القول أن هذا التصريح أجج الغضب الفلسطيني، فقامت مظاهرة احتجاج قوية ضده كانت بداية التاريخ الفلسطيني في أستراليا.

وعندما جاء مالكم فريزر الليبرالي الى الحكم ربط السياسة الأسترالية بعجلة البيت الأبيض. وبعد اتفاقية كامب دفيد، وفي مجال التعبير عن دعمه لاسرائيل قال فريزر للمنظمات الاسرائيلية: إن اليهود استعادوا حقهم في فلسطين دون ان يذكر اية حقوق للفلسطينيين، كحق تقرير المصير، او حق قيام دولة فلسطينية.

الانتفاضة الفلسطينية والتحول في السياسة الاسترالية:
يعيد الترك الفضل في التغيير الطفيف الذي حدث في السياسة الأسترالية تجاه الفلسطينيين إلى الإعلام الأسترالي، الذي غطى بشكل موّسع احداث انتفاضة عام 1987، إذ أسهمت هذه التغطية في الكشف عن الوجه الحقيقي للإسرائيليين، الذي يتمثل بقمع واضطهاد وإنكار حقوق الإنسان. فكان أن أعربت الحكومة العمالية عن عدم موافقتها على ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية، من هذه الممارسات ضد الفلسطينيين. ودعت الى مؤتمر عالمي تحضره كل الأطراف بمن فيهم الفلسطينيين. عندها زار بل هايدن الذي كان وزير خارجية أسترالية المنطقة، وانتقد ممارسات الحكومة الإسرائيلية في رسالة وجهها إلى الكنيست الإسرائيلي. وفي نفس الوقت تبرعت الحكومة الأسترالية بمبلغ مئتي ألف دولار لجرحى الانتفاضة. كما أن بوب هوك نفسه زار المنطقة عام 1987 والتقى بشخصيات من رام الله وغزة. وبعد عودته اعلن امام البرلمان ان منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للفلسطينيين، بمن فيهم المهاجرين. إلا أن هذا التحول الإيحابي لم يكن جوهرياً، فقد ظلت أستراليا تتخذ الكثير من المواقف السلبية للفلسطينيين، فمع أنها دعت إلى مفاوضات مع ممثل منظمة التحرير، وحثت الولايات المتحدة علىى القيام بالمثل، لكنها في الوقت نفسه لم تعترف بدولة فلسطين عندما أعلنت عنها منظمة التحرير عام 1988. ويسرد الترك أحداثاً ومواقف تبين أن السياسة الأسترالية، ومن ثم الشارع الأسترالي، آخذ في التحول الإيحابي تجاه الفلسطينيين وقضيتهم. ويمكن الاطلاع على تفاصيلها في الفصل الرابع ص 36-40.

في الفصول اللاحقة يبين الترك حضور الفلسطينيين الفاعل في المجتمع الأسترالي، فيعدد ما لهم من أنشطة ونواد وجمعيات ثقافية. كما انه يترجم لبعض الشخصيات البارزة في شتى الميادين الثقافية والاقتصادية والاجتماعية مما يبين صحة ما قاله إدوارد سعيد في كتابه بعد السماء الأخيرة:

«إن نجاحهم [الفلسطينين] أصبح أسطورة لا مبالغة فيها. هم مثلاً يكوِّنون أعلى نسبة خريجين جامعيين في العالم العربي. وفي دول الخليج والأردن وحتى سنة 1982 في لبنان، يبرزون كمعلمين وأطباء ومهندسين ورجال أعمال ومفكرين. جريئون، لامعون، على شيء من عدوانية قلقة، توحي بعدم الإحساس بالأمان. هذه هي بعض صفات الفلسطينيين في مجتمعاتهم المضيفة».(12)

 

هوامش:
(1) Edward Said, The Question of Palestine, London and Henley: Routledge, 1981 [1980] p. x

(2) Hani Elturk, The Palestinians in Australia, revised 2nd edition: Sydney, The Australian Palestinian Club, 2010

(3)  قال مارتين: إن فلسطين ليست بلاداً، بل مكان عظيم لمشروع كولونيالي تحققه فرنسا (الياس خوري،"سؤال النكبة: الصراع بين الحاضر والتأويل"، الكرمل، عدد78 (شتاء 2004)، ص: 46-55)

(4) امتياز ذياب، يافا عطر مدينة، مراجعة وتدقيق هشام شرابي، ط/1، بيروت: دار الفتى العربي، 1991؛

(5) Sara Graham-Brown, Palestinians and their society 1880-1948; Walid Khalidi, Before Their Diaspora, Washington, D.C.: Institute for Palestine Studies, 1984

(6) غسان كنفاني، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1968، الآثار الكاملة المجلد الرابع الدراسات الأدبية، ص 203-204

(7) إبراهيم مهوي وشريف كناعنة، قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001

(8) الموسوعة الفلسطينية القسم الثاني- الدراسات الحضارية، جزء/3، ص 276-276، 300، 350، 579-581

(9) Ilan Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine, Oxford: Oneworld Publications, 2006

(10) Ethel Mannin, The Road to Beersheba, Chicago: Regnery, 1963

(11) للمزيد ينظر في : نجمة خليل حبيب، من أستراليا: وجوه أدبية معاصرة، ط/1، بيروت: الدار العربية للعلوم، 2006، ص 6- 7-8، 21-23

(12) Edward Said, After the Last Sky, New York: Columbia University Press, 1999 [1986] p. 115