يقتفي المقال أثر "صورة الفنان في شبابه"، والانبهار بصورة المبدعين الشخصية في ريعان الشباب. ويرى أن الواقع المعيش يشير لحركة الزمان، ليتبقى العزاء في مطاردة تأثيرات صور الماضي في الأعماق آن التلقي وتشريح أصدائها، والعوامل النفسية وراء الانبهار.

صورة الكاتب في شبابه

محمد أنقار

ما من شك في أن عوامل نفسية متداخلة تقف وراء انبهارنا بالصور الشخصية للأدباء وهم في ريعان شبابهم. لا أظن أن الأمر يختلف كثيراً عن انبهارنا بصور نجوم السينما ولاعبي كرة القدم على وجه التحديد. فالإحساس بالفتوة والبطولة هو القاسم المشترك وإن اختلفت المجالات اختلافاً نوعياً. ففي مجال الرياضة يتركز عنصر التأثير في القوة العضلية للاعب وتمتعه بالرشاقة والخفة والقدرة على المراوغة والشيطنة. أما في حقل الكتابة فتنماز سمات البطولة الفكرية والتصويرية وتعمل سحرها في إثارة الانبهار، حيث يربط القارئ بين تلك السمات وما في الرسم أو الصورة الشخصية للكاتب من عناصر تسهم في تشكيل قيمته. وليس قصدنا في هذا المقام الرصد النظري لما بين السمة الشخصية والقيمة من علاقة، وإنما نمضي مباشرة لنضرب الأمثلة فنتساءل: ألا يتذكر عديد من أبناء جيلي تلك الصورة الجانبية لنيتشه وقد بدا فيها بشاربه الكث ونظرته المنحرفة كأن به حوَلا وجنوناً؟ وصورة الشاعر الروسي الشاب يسنين الذي توفي وهو في ريعان الشباب؟ وصورة جبران بشاربه الطويل ونظرته السكرى؟ وصورة المنفلوطي اليتيمة المتميزة، إلى جانب الشارب، بالعمامة الخفيفة والجلباب المصري؟ والحقيقة أن السمات المهيمنة في الصورة الشخصية للكاتب تلعب دوراً أساساً في رسوخها في ذهن القارئ أمداً. من ذلك على سبيل المثال الجمع بين الريادة الفكرية والعاهة في صورة طه حسين (النظارتان السوداوان)، وبين القوة والنقد العنيف في صورة العقاد (الشارب الكثيف)، وبين الفكر العميق والريادة المسرحية في صورة توفيق الحكيم (البـريه والشارب والعصا)، وبين الفتوة وسرحان الخيال في صورة نجيب محفوظ (الزبيبة والنظارتان والضحكة)، وبين السكينة والتشبث بالطابع المحلي لدى عبد الله كنون (وداعة الوجه والرأس المغطى بقَبّ الجلباب).

* * *

في الستينات تعرفنا إلى كولن ولسون عن طريق ترجمات دار الآداب. علمنا أنه نشر كتابه "اللامنتمي" وهو في حوالي الخامسة والعشرين من عمره فانبهرنا بهذا الحدث غير العادي واستحوذ علينا العنوان. وحينما قرأنا الكتاب لم تثرنا كثيراً الفلسفة الوجودية الجديدة التي كان قد بشر بها قدر ما أثارتنا صورة المؤلف ذاته التي رحنا نبحث عنها في كتب وروايات أخرى للكاتب ذاته خاصة "ضياع في سوهو". الفكرة الأساس في كتاب "اللامنتمي" تدور حول سؤال طريف: كيف صورت بعض أعمال الأدب الغربي الإنسان اللامنتمي الذي يرى أكثر من اللازم. إلى جانبها اكتشفنا القدر الضخم من الكتب التي قرأها ولسون من أجل صياغة تصوره. كما لفتتنا قوة التحليل والقدرة على توليد الأفكار المركزة. أما الصور الشخصية للمؤلف فقد كانت قليلة على الرغم من الضجة الكبيرة التي أثارها هذا الكاتب الشاب في مختلف البلاد العربية. ثمة صورة فوتوغرافية بعينها ظهر فيها كولن ولسون بشعر مقصوص على طريقة الممثل الأمريكي طوني پـيركنـز، ونظارتين كبيرتين تنمان عن نهم القراءة، وابتسامة لطيفة توكد السمة الطفولية لوجه صاحبها. في تلك الصورة بدا المؤلف هادئاً كأنه لم يحرق قط نور عينيه في التهام آلاف الصفحات وهو بعد غض. كانت تلك هي الصورة الرسمية التي روجتها دار الآداب. ثم كانت هناك صورة ثانية ظهرت في الغلاف الأخير لـ"ضياع في سوهو"، خلالها بدا الكاتب صحبة ابنته وكلبه الأبيض؟ وعلى الرغم من أن هذه الصورة الثانية جعلتنا نتساءل عن قدرة هذا الشاب على تأليف الكتب والإنجاب في زمن قياسي؛ فإن سحر الصورة الأولى كان الأقوى ولا يزال يرافقني شخصياً إلى يومنا هذا.

* * *

لم تكن المجلات الأدبية العربية في عقد الستينات ذاته وما بعده بقليل تحتفي احتفاءاً كبيراً بصور كتابها من المبدعين والنقاد. فالصورة عزيزة ونادرة وأحياناً منعدمة. ثم إن ندرتها كانت تثير فتنة القراء الشغوفين وتجعلهم يحلمون ويبنون أكواناً ملؤها الانبهار والإعجاب والنشوة، على غرار ما يبوح به هنري ميلر في كتابه "الكتب في حياتي". أقصد بصفة خاصة الصحافة الأدبية التي كانت تُنشر في مصر ولبنان والعراق وتونس، من دون أن ننسى بالطبع المجلات المغربية. يكفي في هذا السياق أن نتصفح المجلات المصرية: "الكاتب" و"المسرح" و"المجلة" و"الشعر" و"الهلال" و"القصة" و"الأدب" و"الرسالة" و"الثقافة" و"غاليري 68"، و"تراث الإنسانية"، والملحق الأدبي لـ"الطليعة"، ومجلات "الأديب" و"الآداب" و"العلوم" اللبنانية، ومجلتي "الفكر" و"القصة" التونسيتين، ومجلات "دعوة الحق" و"البـيِّنـَة" و"مجلة للقصة والمسرح" المغربية. وعلى الرغم من أن "الهلال" واكبت العصر حثيثاً وأبدت اهتماماً ملحوظاً بالصورة الفوتوغرافية والرسم خلال تطورها الأخير؛ إلا أنها لم تلح عبر أعدادها على ترسيخ صورة المبدع والناقد في ذهن القارئ اعتماداً على التنويع والتجديد وسياسة الترويج المدروسة. فما زلنا نتذكر بصعوبة شديدة في "هلال" عقد الخمسينات صوراً متقشفة لبعض المشهورين، يأتي على رأسهم العقاد وطه حسين. كما أن الصورة لعبت، منذ العشرينات وظيفة أساساً في تشكيل صفحات مجلة "المصور" المصرية، إلا أنها لم تكن ذات تخصص أدبي بالمعنى الدقيق للكلمة. أما مجلة "الآداب" البيروتية فكانت تنشر بين الحين والحين وبتقشف صوراً شخصية لبعض كتابها خاصة في أعدادها الممتازة. حدث ذلك قبل أن تجتاح الأسواقَ العربية الصحافةُ العراقية خلال العقدين اللاحقين ببذخ صورها وثراء رسومها، ثم ها هي الصحافة الخليجية تنسخها في ذلك حالياً وتتجاوزها.

ويمكن القول إن المجلات الأدبية حوالي منتصف القرن الماضي لم تكن تتحمس كثيراً لمثل هذا الوسيط التواصلي. ربما كانت مجلة "الكتاب" المصرية برئاسة عادل غضبان استثناءاً في هذا المجال، خاصة في لوحات أغلفتها. لكن المجلة لم تعمر طويلاً. ومع ذلك فقد كانت الصحافة في عمومها معذورة، إما بسبب القصور في الإمكانات المطبعية، أو لتفادي الزيادة في النفقات. وكانت ثمة مجلات أدبية تعوض الصور الشخصية للكُتاب بالرسم اليدوي المستلهم من المادة الأدبية فتحقق بذلك نوعاً من التوازن الجمالي بين المكتوب والمرسوم مثلما هو شأن مجلة "المجلة" القاهرية التي بلغت في هذا المضمار شأواً عالياً بفضل رسوم الفنانين حسن سليمان وسعد عبد الوهاب.

* * *

في عقد الستينات كانت مجلة "الآداب" البيروتية ترفق بعض نصوصها بصور النقاد والمبدعين. كانت صوراً شمسية متقشفة وصغيرة، بالأبيض والأسود، أثارتنا منها، ونحن بعد طلبة، صور عبد الجبار عباس، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، والناقدين المصريين رجاء النقاش، وصبري حافظ. ويرجع سبب الإثارة إلى أن هذين الأخيرين كانا في ريعان الشباب ومع ذلك نشرا مقالات نقدية مكثفة، عميقة الرؤى، متسمة بالطول، عالجت قضايا نقدية شغلت المهتمين آنذاك، وتناولت أعمال مبدعين كبار. كانت الصورتان بالأبيض والأسود إن لم أقل رماديتين. في إحداهما بدا رجاء النقاش نحيفاً، جميل التقاسيم، بشعر خفيف مرجل، وربطة عنق غير محكمة العقد. وبعد سنوات لاحقة ذاعت شهرة رجاء النقاش فبدا في صور أخرى موفور الصحة، ممتلئ الوجه، مورد الخدين، تعلو شفتيه ابتسامة الرضا. وكان لصديقنا محمد بوخزار تعليق ساخر على هذا التحول الكبير:

- لقد عملها دجاج الاتحاد الاشتراكي.

أما في الصورة الثانية فقد ظهر صبري حافظ صغير السن كأنه فتى. وجه رزين وطويل، يميل إلى النحافة هو الآخر. تقاسيم طفولية. شعر أسود ربما كان أكرت. قميص جيد الكي، وربطة العنق محكمة العقد، وسترة أنيقة متناسقة. لكن وجه الغرابة والإعجاب تجلى في قدرة هذا الفتى على تدبيج مجموعة ضخمة من المقالات الكثيفة، الطويلة، ذات الفقرات المسترسلة التي لا تكاد ترجع إلى السطر. (وهي عادة لا تزال تلازم صاحبها إلى اليوم). من يقرأ تلك المقالات عن تشيكوف ونجيب محفوظ وقصيدة النثر يحسب أن كاتبها شيخ طاعن في السن بحكم تماسك الأفكار وغزارتها.

* * *

ثمة فرق كبير بين الأمس واليوم. في زماننا الحالي يستطيع تلميذ في الثانوي لا يحسن تركيب جملة أن ينشئ مجلة، ويوصل كتابته إلى أقصى أصقاع العالم مرفوقة بصورته الشخصية الملونة. بل إن الأمر لا يقف عند حدود الألوان وإنما يتعداها إلى الأحجام والأوضاع، واستثمار مختلف أنماط التصوير من محمول، وفيديو، ويوتوب، وسينما. وعندما أبحث اليوم في غوغل عن الصور الشخصية لمواهب حقيقية سطعت في سماء تلك العقود لا أكاد أعثر على شيء. إني أتذكر في هذا المقام مقالات الكاتب المغربي المهدي البرجالي في مجلة "دعوة الحق" ومقالات الكاتب السوري م. كامل كرباج في مجلة "العلوم" وهي مفعمة بفكر دسم وأسئلة تستشرف المستقبل وحتى المطلق. كما أتذكر مقالات ماهر حسن بطوطي وترجمته الرائعة لتحفة جويس "صورة الفنان في شبابه". هل يعني ذلك أن عصراً انقضى وآخر جديداً قد انطلق؟ إن الواقع المعيش يؤكد ذلك بصورة لا تقبل الشك. أما بالنسبة إلى جيلنا فالعزاء المتبقي هو مطاردة تأثيرات تلك الصور في أعماقنا وتشريح أصدائها، كما لو أننا نطارد عزاء هارباً.