تشير الباحثة المغربية في أحدث دراسة صدرت لها في مصر الى ظاهرة الكتب الممنوعة بفعل قرارات جائرة صدرت في حقها من طرف أنظمة يرهبها المثقف، وتوضح أن التحولات الداخلية والخارجية التي واكبت الخطاب العربي، أنتجت خطابات النقد والبحث عن أدوات جديدة مواكبة لحراك التطور وحركة اكتشاف الذات والآخر، وهو ما نتج عنه بروز خطابات معبرة عن الهوية في كل أبعادها وعلائقها.

ملاحقة المبدعين والمفكرين ما تزال مستمرة في عصرنا

محمد الحمامصي

اهتمت الباحثة المغربية د. وفاء سلاوي في كتابها "الكتب الممنوعة بين الإبداع والمحاكمة: الخطاب والتأويل" الذي جاء في جزءين صدرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، بالآليات التي يقرأ بها القانون النص الأدبي والفكري من خلال ما اشتهر بالمحاكمات الأدبية، والمصادرات القانونية للإبداع، ومن ثم قامت بتحليل وتفكيك بنية هذا الخطاب القانوني المحاكماتي بدءا من البلاغ والتحقيق إلى المرافعات ثم نص الحكم والتي وافقت نصوصا أدبية وفكرية، وأفرزت قراءات وتآويل قانونية تعتمد على فصول وأحكام، ومن هذه الزاوية يتأطر هذا الكتاب ضمن دراسة لغوية تأويلية لبناء لغوي قانوني يرسم تآويله وأحكامه على نص إبداعي متخيل أو نقدي وفكري يطرح أسئلة وافتراضات نسبية.

وأكدت أن ملاحقة الكتّاب بتنوع توجهاتهم ورؤاهم جعلتهم عرضة لمحن متفاوتة حسب العصور، وهي إشكالية يطبعها نفس المسار لقضايا واتجاهات محددة ترتبط بالمناخ العام الذي تواجدت فيه، تحكمـها تأويلات ترتبط درجة مقروئيتها بحدة القضايا الكبرى التي يحركها الحاكم أو رجل السياسة أو الدين أو مؤسسات ذات سلطة ما.

وأضافت توالت إشكالية ملاحقة المبدعين والمفكرين بحدة، في العصر الحديث، ذلك أن الخطاب في العالم العربي عرف تحولات، داخلية وخارجية، متأثرا بالتطور الحضاري الذي عرفه الغرب على مستوى المناهج والعلوم والخطابات الفاعلة في النهضة والتقدم، وإزاء توالي النكبات والهزائم التي شهدها العالم العربي، تاركة ندوبها في الفكر والذات العربيتين، ولازمت خطاباته المتنوعة والمتراكمة تحت تأثير ضغط السؤال النهضوي الذي أصبح حاضرا بقوة للإجابة عنه في كل الخطابات وإن اتخذ صيغا وأشكالا مختلفة تحددها ضرورات تاريخية واجتماعية وسياسية.

وأوضحت أن التحولات الداخلية والخارجية التي واكبت الخطاب العربي، أنتجت خطابات النقد والبحث عن أدوات تجريبية جديدة جاءت لضرورة فرضتها حركة التطور وحركة اكتشاف الذات والآخر، تولدت عنها خطابات ميزت الظاهرة الثقافية والإبداعية والفكرية برغبة ذاتية للكشف والمغامرة واختراق الممنوع والمسكوت عنه، وهي رغبة نشأت عن حاجة فعلية في فهم تشكيل معرفة تؤسس خطابات جديدة انطلاقا من حقيقة البحث عن أشكال وأنواع معبرة عن الهوية في كل أبعادها وعلائقها. مثلما ساعدت التحولات التاريخية المثقف العربي، الذي يمتلك المعرفة، على صياغة خطابات ذات منظومات فكرية وإبداعية تؤسس لواقع جديد يعبر عن أزمة ماض منحسر وحاضر لا يوفر البديل، وإعادة صياغة مفهوم الهوية العربية بناء على نظرية معرفية شاملة تعالج كل القضايا وتحلل الأزمة وتجيب على كل الأسئلة على المستوى الفكري، في حين تصوغ رؤية جامعة للأحلام والمتناقضات على مستوى التعبير الفني.

وقالت سلاوي: "رافق هذا التحول، في الخطاب العربي، مستويين متباينين في القراءة: المستوى الأول: التعبير بجرأة عن الذات والواقع عبر النقد والمكاشفة واجتراح الواقع بالأسئلة. المستوى الثاني: مراقبة هـذه الخطابات ومحاصرتها بواسطة الرقابة المباشرة أو غير المباشرة وتعريضها للمساءلة القضائية. فاتخذ الصراع بين الأفراد والمؤسسات وجها آخر انتقل إلى صدام الأفكار والقضايا والنظريات تجسدت صوره بشكل مباشر في الخطابات الأدبية والفنية والفكرية.

ومن بين الخطابات التي عبرت بوضوح عن هذين المستويين في القراءة والتأويل، الخطاب الأدبي الذي استطاع استيعاب وتمثل الواقع والتعبير عنه بالكشف عن مظاهر الفشل والقوة ونقد النهج السياسي العربي والنظرة التقديسية للدين، إضافة إلى إبراز الوجه الحقيقي للعلاقة بين الفرد والمؤسسات السياسية والدينية والاجتماعية والقانونية.

ولفتت سلاوي إلى أن شكل الخطاب الأدبي المعاصر بأجناسه وأنواعه نموذجا لثراء النصوص الغنية بتأثير المرجعيات مثل خطابات الأزمة والهوية والقومية، على الذات (المبدعة) في إعادة بناء نفسها، وإعادة صياغة العالم وفق رؤية جديدة تستوعب التغيرات المتسارعة المختلفة التي حدثت في العالم العربي.

ساهمت هذه الرؤية في جعل الأدب يرتبط بأسئلة النهضة، والبحث عن قوالب جديدة تواكب مشروعه النهضوي، متمثلا في التجربة الشعرية بالتجديد في أغراض الشعر وصوره وبنياته، وطرح صيغ تركيبية من خلال ثورة الشعر الحديث الذي كان نتاجا لفكر عربي يتنامى إزاء أزمة الواقع العربي، فاستطاع أن يجسد الذات العربية وطموحاتها وإخفاقاتها، وأن يعبر عن علاقته بالماضي والحاضر والمستقبل من خلال نموذج جمالي مختلف.

وعن التجربة السردية أكدت سلاوي أنها أفلحت في تكسير القواعد، وخلق تجارب جديدة للإبداع والخلق وتشخيص الواقع العربي، ولعل تبلور الرواية وتحول مسارها نحو التجريب ثم الارتباط بحساسيات متنوعة يرجع إلى طبيعة اللغة التي قادت نحو ابتداع أساليب في الكتابة وفتح آفاق ومسارب جديدة لاحتواء تعدد الدلالات والمضامين مقابل الدلالة الواحدة.

وبذلك وضع الأدب نفسه في مواجهة مع المؤسسات الحيوية خاصة، السياسية والدينية والاجتماعية من خلال زعزعة الثوابت الشكلية وتفجير الذات عبر تغيير شكل النص وخلق أساليب لغوية جديدة مما يؤدي بطريقة ما إلى تحويل العالم. وتتمثل المواجهة في قدرة اللغة الإبداعية وتجديد نفسها باستمرار للانفلات من مراقبة السلطة السياسية التي تحاول خنقها وترويضها.

وجاء في مقدمة الكتاب كلمة للشاعر الراحل حلمي سالم تحدث فيها عن ضرورة الإبداع دون حواجز وأن يكون ضمير الكاتب هو الفيصل، ثم عبر ثلاث فصول درست المؤلفة في الجزء الأول من كتابها المحاكمات القانونية السلطوية التي طالت الأدب والفكر من زوايا النص والمرجع ثم عناصر الخطاب وآلياته وأخيرا القراءة والتأويل.

أما في الجزء الثاني فقد استعرضت نماذج من الكتب التي تعرضت للمصادرة، منها "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، و"فقه اللغة العربية" للويس عوض، و"ألف ليلة وليلة"، وتضمنت بعض المحاكمات والمصادرات - محاكمة "مقدمة في فقه اللغة العربية" - محاكمة مؤلف "الإسلام وأصول الحكم" - محاكمة نصر حامد أبو زيد، وغيرها من الكتب الممنوعة، إضافة إلى ملحق لعدد من النصوص والأحكام والتقارير النادرة التي حوكمت بها المؤلفات الأدبية والفكرية خلال القرن العشرين. ومن بينها تقريران لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة حول رواية "أولاد حارتنا" 1968 و1988، ونص مرافعة عبدالعزيز جاويش خلال محاكمة ديوانه الشعري 1910، ونص الحكم الصادر في حق رواية "الفراش" سنة 1992، ومذكرة النيابة العامة بخصوص رواية "يوميات ضابط في الأرياف" 1998، ثم نص الحكم الصادر في حق فيلم "خمسة باب" 1983.

ولفتت سلاوي إلى أن كتاب "في الشعر الجاهلي" حاول فيه د. طه حسين الدفاع عن منهجه التطبيقي الذي قارب بالبحث والتحليل الشعر الجاهلي في علاقته باللغة واللهجات وبالسياسة والدين والقصص متوقفا عند قضية الانتحال والشعوبية في الشعر الجاهلي، وأنه لا يمثل الحياة الدينية والسياسية والعقلية والاقتصادية حسب بعض النتائج المتوصل إليها، غير أن ما أثارته هذه القضايا والتحليلات كان سببا في إشعال فتيل نقاشات اتهمت طه حسين بتجاوزه حدود الدراسة الأدبية والمس بالمقدسات الدينية، وهو ما شكل محور العديد من البلاغات المقدمة ضده، وبذلك أثار الكتاب قضية كبرى شغلت الرأي العام بحيث نوقشت في البرلمان المصري وفي مجلس الوزراء، وبعد ذلك جاء دور رجالات الدين والدولة لتقديم بلاغات إلى النيابة العامة تتهم طه حسين بالطعن في الدين الإسلامي في مواضع أربعة من كتابه تتضمن الكذب ونسب الخرافة إلى القرآن ثم الطعن في نسب الرسول صلى الله عليه وسلم وإنكار أولية الإسلام في بلاد العرب.

وتناولت د. وفاء سلاوي عدة إشكاليات وهي: آليات الخطاب القانوني ومرجعيات قانون الحريات العامة، عناصر المحاكمة الفكرية من خلال عدة نماذج، حيث بحثت في الآليات القانونية التي قرأ ويقرأ بها القانون: "قانون الحريات العامة والقانون الجنائي في الأعم" النصوص الأدبية، شعرا ورواية ومقالة، والنصوص الفكرية من خلال محاكمات طالت العديد من الكتابات خلال القرن العشرين، مما جعل الكتاب ملتقى شبكة متقاطعة من الخطابات التي كانت تقف عندها المؤلفة خطابات اجتماعية وقانونية وسياسية وثقافية.

وقد زاوجت الكاتبة بين رؤيتين وثقافتين، القانونية والأدبية، حتى تتمكن من تحليل وتفكيك بنية هذا الخطاب المحاكماتي، باعتباره حكما وقراءة على نص إبداعي متخيل أو نص نقدي وفكري يطرح أسئلة وافتراضات نسبية لمتخيل ووجهة نظر ووعي محقق من جهة أخرى، وبالتالي فإن النص القانوني هو قراءة معيارية ومن رؤية أخرى دراسة لغوية تأويلية للتأليف الإبداعي والفكري، بنياته ونسقه التداولي ومدى تجذر معرفته في ما هو مجتمعي.