يكتب الناقد المصري أن القاص يصحبنا في رحلة مع الثورة المصرية، مسجلا أحداثها، وباحثا عن أسباب قيامها، وما حدث من فوضى بعدها، مؤكدا لنا أن الثورة، أو التغيير هو حتمية التاريخ، ورغم ما بدا من جبروت السلطة، وبطش الأمن، كان لابد أن تفلس دولة الظلم والقهر. كما كشف كيف أصبح الشباب وسيلة المجتمع لارتياد المستقبل.

الثورة المصرية في «تاكسي أبيض»

شوقي عبدالحميد يحيى

منذ أن خرج الشباب في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، واستطاع تغيير رؤية المجتمع له، حيث لم يعد ذلك الشباب المستهتر السطحي، الباحث عن الوقتي من المتع. فلم يعد الكاتب الشاب أيضا هو الذي يغرق كتاباته بالدارج من التعبيرات، وربما الفاحش من الألفاظ. الغارق في همومه الشخصية، ومشاكله الحياتية. فيكفي أن يطالع القارئ مجموعة "تاكسي أبيض"1 للقاص الذي لم يتجاوز مرحلة الشباب بعد "شريف عبد المجيد". ليجد أن هموم الوطن، ومشاكله الحالية هي محور تفكيره ورؤاه، ليؤكد أن الكاتب بالفعل هو ابن محيطه وبيئته ومجتمعه. يستقي منه مفرداته، ليردها إليه كخلاصة معايشة، وتجربة حياة. وكيف انصهر الشباب في المجتمع ليصبح وسيلته لارتياد المستقبل، علي أجنحة الحديث والتطوير.

ما بعد الثورة
فإذا ما بدأنا بالقصة التي منحت المجموعة عنوانها "تاكسي أبيض" فسنجد أن التاكسي الأبيض، هو أحد العناصر التي تضع التجربة في المعاصرة، حيث أن هذا النوع من التاكسيات، طراز حديث ونظام جديد، لم يمر علي استخدامه وقت طويل. وكما أن التاكسي، بصفة عامة، هو وسيلة تجمع أفرادا، وقد يكونون بعض الأفراد، إلا أن كلا منهم يظل صندوقا مغلقا علي ذاته. فهو جماعي، وفردي في ذات الآن. علي العكس من وسائل المواصلات الأخري، مثل الأتوبيس أو القطار مثلا، التي تجمع الكثير من البشر، وتخلق بينهم نوعا من التلاحم، وربما التعارف.وهو ما نتبينه في هذه القصة، حيث الساعة قد جاوزت الثانية من بعد منتصف الليل، حيث تخف الحركة، ويتزايد الحذر والتوجس، وربما الخوف، في كل من نقابلهم في الطريق. فما بالنا لو جمع صندوق صغير متحرك هو التاكسي، أكثر من فرد، كل منهم مجهول من الآخر؟

بهذا الجو الخارجي المتوتر، يرسم لنا "شريف" عناصر شخصيات ثلاث، السائق، وراكب ذاهب إلي المريوطية، والذي يكتشف بعد ركوبه أنه ليس الوحيد في التاكسي مع السائق، وإنما يفاجأ بوجود منتقبة معه، ليزيد الأمر توترا، وتوجسا، إذ يظن السائق أن المنتقبة ربما كانت عشيقة السائق، أو ربما كانت تشكل معه عصابة للسطو علي الركاب، وربما وربما، ويلعب "شريف" علي زيادة جرعة الخوف والترقب، بأن جعل المنتقبة تلبس عباءة سوداء، ونقابا أسود، مما يزيد الأمر غموضا وخوفا. في ذات الوقت الذي يراجع فيه السائق نفسه. ما الذي يمنع أن يكون الراكب يشكل مع الراكبة عصابة لسرقة التاكسي، وأن لقاءهما جاء مدبرا؟ خاصة بعد أن تعددت أحداث سرقة أصحاب التاكسيات، في الفترة الأخيرة، والتي نعلم نحن القراءة أن الآمان فيها لم يعد كثيرا. ويزيد التوتر أيضا، عندما يعرض الراكب علي السائق علبة عصير، فيخشي فتحها، إذ ربما كان بها مخدر، أو منوم، لينام السائق وتتم عملية السرقة. ولكن السائق يخشي رفض علبة العصير، ويخبر الراكب أنه سيفتحها بعد أن يتناول عشاءه. ويتصاعد الخوف والتوتر عندما نكتشف أن المنتقبة، ليست مع هذا ولا مع ذاك، بل الهواجس والخوف والقلق، يطحنها هي الأخري. فربما كان السائق قد اتفق مع الراكب من قبل وأنهما يخططان لسرقة الغوايش في البوك، فأخرجت (الكتر) من البوك ووضعته تحت النقاب، استعدادا لأي محاولة لسرقتها، أو ربما الاعتداء عليها، فكل شحذ أسلحته استعداد لملاقاة هجوم الآخر عليه.

فنحن إذا أمام ثلاث جزر منعزلة، بل كل منهم يتحفز للآخر، ويتوقع منه الشر.

وبتأمل المفردات في القصة، والتي تؤكد أنها تقع في الوقت القريب أو الحالي، مثل الانترنت، الخروج المبكر علي المعاش. فضلا عن انتشار عمليات الخطف والسطو في الفترة الأخيرة. لنعلم أن شريف عبد المجيد، قد أراد، واستطاع التعبير عن حالات التوحد والتشرذم والتخويف والتخوين بين أفراد المجتمع، وجماعاته في الفترة الأخيرة، بطريقة إيحائية، وبلغة عصرية ممتعة.

 

وإذا ما عدنا إلي القصة الأولي في المجموعة، قصة "الطرد" سنجد أن الكاتب استغل الأجواء المحيطة، والاضطرابات التي يعيشها المجتمع في الفترة الحالية، من إرهاب وتطرف. إلا انه لم يتوقف عند رصد الحالة، وإنما سعي لتأصيلها، وتجذيرها، ليوضح الأسباب التي أدت إلي هذه الحالة، بطرقة إبداعية، هامسة، رغم عنف الحالة والفزع الذي تثيره. 

 

يفتح الوزير باب شقته ليذهب إلي عمله، لكنه يفاجأ بطرد موضوع أمام الباب. يتم استدعاء الحرس الخاص بالوزير ويتم استدعاء قوات الأمن والإسعاف، وخبير المفرقعات، الذي لم يجد الطرد سوي.... جمجمة لشاب في نحو الثلاثين من العمر.

وعندما يذهب "عم محمود" ليفتح دكانه، يفاجأ أيضا بطرد علي باب الدكان، ليسفر الطرد أيضا عن احتوائه علي جمجمة لشاب في نحو الثانية والثلاثين من عمره.

وتتوالي الطرود من نفس النوعية أمام العديد من الأماكن لتشمل المؤسسات الرياضية، والثقافية، والدينية، والبرلمان والقصر الجمهوري، وغيرها حتي أصبحت ظاهرة عصية علي الفهم.

 

إلا أن نظرة لأعمار أصحاب تلك الجماجم، والتي تنحصر في نحو الثلاثين من العمر، تكشف أن تلك الجماجم ليست جماجم حقيقية، وإنما هي جماجم الشباب، الذي أُفرغت رؤوسهم، ولم تعد سوي هيكل عظمي خال من الفكر، ومن المعرفة، فسهل استغلالها لتكون قنابل موقوتة في يد الإرهاب. وأن المجتمع كله مسئول عن إفراغ تلك الأدمغة وتحويلها إلي جماجم، لتصبح قنابل، تهدد الجميع، بينما هي مسئولية الجميع. بِدأً من الوزير، الذي يرمز لأعلي سلطة، ويتبعه كل المؤسسات التابعة. كل ساهم بدوره في صنع هذه الجماجم، أو هذه الأدمغة القنابل. 

 

ويواصل شريف تعريته لأمراض المجتمع في قصة "العمل" ، وكيف أن الخرافة تسيطر عليه، وأنها –الخرافة- هي التي تقوده للدمار. فنتعرف علي سيدة بلغت الخامسة والستين من عمرها، ماتت صديقتها من فترة بعد أن كانت قد تزوجت وأنجبت العديد من الأبناء. والعجوز تصر علي أنها كانت قد عملت لها عملا، حال دون زواجها، بل تصورت أنها من خطفت منها الزوج الذي تفترض أنه كان لها، وأن الأبناء كان المفترض أنهم أبناؤها هي لا أمهم. وتظل العجوز تنبش عن مكان العمل، وكأنها تنبش في الماضي الجاثم علي صدرها، بل الماضي الجاثم علي صدر الأمة. حتي يقودها البحث إلي الجنون. ويتمادي الكاتب في سخريته حتي يقتنع الناس بأنها إنما تفعل ذلك وفاء لصديقتها. وعندما يكشف اللحاد عن حقيقتها، يُتهم بالكذب، وأنه يبحث عن الشهرة، متبعا مبدأ خالف تعرف. وهكذا يبدو متهما كل من يخالف السائد، حتي لو كان هذا السائد مجافيا للعقل. وتُنسَج حول العجوز الأساطير التي تحولها من مريضة إلي قديسة، وكأن الفكر الغيبي الخرافي هو أيضا أحد روافد صناعة القنابل المدمرة للمجتمع، وأحد أسباب انقلاب القيم والمعايير فيه، فدنست الأبرياء، وقدست السفهاء، وهو ما تؤكده قصة "طير الأبابيل".

قبل الثورة      
وفي بدايات الثورة، وكانت الأحلام لم تزل نابضة في العروق، والآمال مطلة من العيون. نظرنا للوراء في غضب.  فيعود بنا "شريف " إلي الوراء قليلا، بتكنيك الفلاش باك  ليلقي نظرة علي المجتمع، قبل الثورة ، وكأنه يبحث عن الأسباب التي أدت، أو كانت حتما لتؤدي إلي قيام الثورة. حيث يقفز صاحبنا في قصة "طير الأبابيل" من الدور الثامن، في البناية التي تطل علي النيل العظيم، مبني أمن الدولة. وحيث يري من علي البعد تلك الصورة الكاشفة {كنت محاطا بطير أبابيل تستعد لرمي حجارتها علي المدينة، وللمرة الأولي أري القفص الحديدي الكبير الذي يحيط بالمدينة من كل جانب.. هل كنت أعيش في ذلك السجن كل هذا العمر وأنا لا أعرف؟}.

 حيث يتم تحويل صاحبنا للتحقيق، وقد اقتيد إليه دون أن يعرف تهمته، فيخمن {لقد تكلمت في هذا الموضوع مع أحد زملائي في العمل، فهل يمكن أن تكون كاميرات المراقبة قد سجلت آرائي واعتبروني مخالفا لسياساتهم؟ منذ تلك اللحظة انقلبت حياتي رأسا علي عقب}. كاشفا عن دولة أمن الدولة التي فيها يستطيعون {الضغط عليك بوسائل لن تخطر علي عقلك، نستطيع أن نجعلك المتهم الرئيسي في تسرب بقعة الزيت إلي النهر، وربما نتهمك بمسئوليتك عن قتل المتظاهرين وربما أشياء أخري لا تخطر علي بالك، وأنت تعرف ماذا نريد منك}. فتدور رأس صاحبنا، و يختلط الحابل بالنابل، فلا تعلم إن كنت تعيش الواقع المعاش، أم أنك في حلم سخيف، أم أن ما تعيشه وتراه ليس إلا كابوسا، سوف ينتهي بعد وقت. وتعم حالة الفوضي في الشوارع، أصبح الموت مجاني، فلا تعرف من قتل من؟ ومن قُتل هل هو فعلا مات أم أنه اختفي في ذلك الجُب المجهول الذي اختفي فيه بعض الصحفيين. ومن يضحك في وجهك، هل هو بالفعل يبش لرؤياك، أم أنه يضمر لك الشر، ف{قتل ناس وهم يمرون بالطرق، بل ينظرون من شبابيك بيوتهم، وبدا الأمر كأنه مصادفة، وهناك من تقتله عربة ما، وفي التحقيقات يمرَر الأمر علي أنه حادث عابر تسببت فيه عربة طائشة}. ويطارد اللصوص الأوفياء، ويحيكوا لهم الدسائس التي تقودهم إلي مستشفي المجانين. كل ذلك يقع في مخيلة صاحبنا، أو في واقعه، فقد كان من أولئك غير المرضي عنهم. حيث تكشف زوجته عن شخصيته في حديثه {عن فُرص الترقي الضائعة وعن المواهب الأخري التي تصل بزملائه إلي المناصب العليا، لكنه لا يستطيع تملق رؤسائه، ولا يستطيع أن يسرق أو يحتال}.

يخرج صاحبنا، ليبحث عن "بامبرز رقم1 لابنته. وفي الشارع، تسيل الدماء علي الأرض، ويري من يقتل، ويتحول هو أيضا لقاتل، ويصحو القتيل ليحاكمه، ويهدده، فيقتله مرة أخري. ومن خلال تلك الرحلة الكابوسية يعري "شريف" سوءات المجتمع وفوضاه، في تكنيك سينمائي، كابوسي، يحرره من كل قيود المنطق، ومن كل حدود الزمان والمكان. لينطلق، وكأنه يقف في الشارع ويطلق رصاصاته العشوائية في كل اتجاه، خاصة تلك الموجهة إلي أمن الدولة، بعد أن كانت {ضرباتهم سريعة متلاحقة تأتيك بشكل مفاجئ وغير متوقع}، وبعد أن أصبح { الناس يحاصرون شركتنا، تلك الشركة الرائدة التي كانت ملكا للقطاع العام، وكانت أكبر شركة لتسويق منتجات نصنعها في مصانع شركتنا .. وبعد ذلك أصبحت من شركات قطاع الأعمال، ثم تم بيع المَزَارِع. ثم صارت الشركة تقريبا ليس لها عمل فعلي}.

وبعد أن نعيش ذلك الكابوس، الذي كان، نكتشف، في مواصلة لكشف أوجه الفساد في البلاد، أن ما قرأناه لم يكن إلا قصة فيلم، كان الطرف الأضعف في عناصره، هو المؤلف، أو أول واضع للبنة تلك الصناعة الجبارة { لقد وقع لنا العقد بأجر أقل كثيرا مما توقعت أن يطلبه

-      هكذا يحلم كا المؤلفين بأن تحول أعمالهم للسينما}

ولا يريدنا "شريف" أن نتوقف عند الخيال السينمائي، وشطحاته الخيالية، فيعود بنا إلي أرض الواقع، مؤكدا أن كل هذا هو ما يدور علي الأرض. فيؤكد الحوار بين المنتج والمخرج أنه { لا بأس من صنع فيلم يشبه حياة الناس كل فترة.

-      ما رأيك لو ضغطت أكثر لنري ماذا لو كان الذي يحدث له ليس حلما، وبعد انتهاء التحقيق معه تم تحويله للمحكمة؟!}.

ليؤكد لنا أن ما كنا نعيشه، واقع، ولكنه أكثر فنتازية من الحلم ومن الكابوس. ويفوق خيال السينمائيين أنفسهم.

ويستمر "شريف" في كشف أسباب الثورة، بفضح دولة الأمن التي كانت من أولي أسبابها فيما قبل 25 يناير، وبنفس إسلوبه الساخر المبطن، وهي السخرية السوداء،  في قصة "القبض علي سمكة" حيث يكشف العنوان من البداية تلك السخرية السوداء، لفانتازية وهزلية الفعل، القبض (علي سمكة). غير أن السمكة تحولت إلي قرش، وأصبح القرش يلتهم السائحات، ويهدد السياحة، ويضرب الاقتصاد في مقتل، ولا ننسي بالطبع ذلك الاصطلاح الذي ساد تلك الفترة عن أثرياء العصر، وناهبي قوته (الحيتان).

 

ورغم أن خبراء في تخصصات أخري تدخلوا لبحث الأمر، مثل الخبير الاقتصادي الذي  حذر من الخسائر التي ستعود علي السياحة والاقتصاد بسبب هجوم أسماك القرش} إلا أن الصوت الأمني ظل هو الصوت الأعلي (في حماية) حيتان العصر المباركي، والذين التهموا الأسماك الصغيرة فكان هو سبب المشكلة، الحقيقية والهزلية { حاول أحد العلماء إخبار أجهزة الأمن أن السبب العلمي الوحيد لهجوم أسماك القرش هو الصيد الجائر لصغار الأسماك، وهو ما جعل اسماك القرش تشعر بالجوع وتهجم علي الناس، لكن لم يستمع إليه أحد}. ليظل الصوت الأمني هو الأعلي ويتم {ترقية المسئول الأمني} بعد إعلانه السيطرة علي الموقف. وفي إشارة إيحاتئية لسطوة (الحيتان)/سمك القرش، و المستضعفين من أبناء الشعب/ السمك الصغير. 

 

 

ويخرج الرمز إلي أرض الواقع، فتتحول سمكة القرش في "القبض علي سمكة" لشخص من حيتان البشر، الذين يسعون للعب في البورصة والثراء السريع في "السيد الذي لا يحب الطيور" ، حيث يتعرض السيد المبجل، الذي برع "شريف" في تصويره كرجل المجتمع، أو كرجل الأعمال، يتعرض هو وساكني البرج لما يشبه "طير الأبابيل" . فتتلسلط عليهم الطيور بقذف فضلاتها عليهم. ولا يفلح تقطيع الأشجار ، ولا أسلاك التليفونات والإنترنت في إيقاف هجوم الطيور عليهم، وكأنها ثورة الطبيعة علي فسادهم. وليفلح "شريف" في توصيل رؤيته بطريقة إبداعية إيحائية، ومتعة في قراءة التفاصيل الموحية الهامسة، لتحدث صخبا وعنفا غير دموي. 

 

ويستمر أيضا في كشفه عن لصوص المجتمع في "اعترافات سارق الونش" في إشارة لتلك الواقعة غير المتصورة، والتي تفوق تخيلات صانعي الخيال السينمائي، حين سُرق الونش بضخامته من موقع العمل في حفر مترو الأنفاق، غير أن السرقة هذه المرة ، تحمل من السخرية ما يبدع فيها "شريف" حد التصريح ليجد في  المفارقة بين ما يحدث، وما اشتهرت به مصر (المحروسة) {مصر المحروسة.. يا لها من مفارقة! مصر المحروسة لم تعد كذلك}. فالسرقة هذه المرة سرقة الهرم الأكبر، وما يحدثه ذلك من مردود علي وكالات الأنباء العالمية، وعلي وفود السائحين. ويتوالي كشف الفساد في تلاعب الأمن مع رجال الصحافة ، حيث تضع لهم الجزرة أمام الحصان بالوعد مرة وبالوعيد أخري. وتتوالي السرقات غير الطبيعية التي تؤكد سيادة الفساد وانتشاره {الفساد انتشر في مصر، من الاحتكار في اسعار السلع الأساسية إلي احتكارات رجال الأعمال لمواد البناء من الحديد والأسمنت، وبعد سرقة لوحة الخشخاش وكابلات السد العالي والقمر الصناعي المصري، وبعد قيام ثورتين، ها هو الهرم الأكبر يُسرق في عز النهار}، فالسرقة هذه المرة هي سرقة الهرم الأكبر، والذي فضلا عن ضخامته، وهو ما يشكل جانب السخرية، فهو رمز مصر أمام العالم، وما تتباهي به أمام الأمم.

الثورة
من الأشياء التي برزت بشكل واضح في أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي وجد فيها الشباب متنفسا لهمومهم، وإخراجا لمواهبهم، الجرافيتي، التي راح الشباب يسجلون به مطالبهم، ويخلدون شهداءهم، فتحولت الحيطان إلي لوحات كبيرة، كتبوا عليها شعاراتهم وأشعارهم، ورسموا عليها صور الراحلين منهم. وكأنهم يسجلون التاريخ لحظة بلحظة. مثلما كان الكثير من الأعمال الإبداعية الصادرة في تلك المرحلة، أقرب إلي التسجيل. خاصة من تعجل منهم في محاولة إخراج عمل روائي.

غير ان القصة القصيرة، ونظرا لقربها من الشعر، واعتمادها علي اللحظة وتفجيرها، فقد كانت ثاني الفنون القادرة علي تسجيل تلك المراحل.

ولم يكن ذلك ليتجاوزه شريف عبد المجيد الذي اشتهر بالأعمال التسجيلية، وطمح منها أن ينشئ "وصف مصر" بأيدي وأقلام وكاميرات مصرية. ولم يكن ليفوته أن ينحت قصصا منها، حتي وضع عنوانا لقسم من مجموعته باسم "جرافيتي"، حيث كان العنوان موفقا، فكان، ما جاء تحته أقرب إلي الجافيتي في شكله ومبتغاه.

 ففي قصة بذات العنوان "جرافيتي" يسجل فيها انتشار الثورة في ربوع الوطن، من شماله إلي جنوبه، عن طريق ذلك الذي راح يوثق ما رُسم من جرافيتي الثورة،. فانتقل من المحلة، مشيرا إلي مطالب العمال بالحدين الأدني والأقصي للأجور، والإفراج عن المعتقلين، ولينتقل بعد ذلك إلي {السويس ثم الإسماعيلية ثم بور سعيد ثم طنطا ثم المنصورة ثم الأقصر ثم أسوان}.

 

كما عرض لبعض الشعارات التي ترددت كثيرا في أيام الثورة مثل "أفرجوا عن المعتقلين"، "مفيش حرية ببلاش"، "مكملين"، وكذلك بعض الصور من أرض الواقع، مثل تلك الأم التي بكت وأقسمت أن أحدا لا يستطيع رفع جرافيتي معين إلا علي جثتها، ولما استفسر عن السر، علم أن الجرافيتي صورة لابنها الشهيد الذي لم يكن قد جاوز العشرين من عمره. وذلك الشاب الذي كان السارد قد إلتقط له صورة وهو يحفر علي الجدار شعار "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم". ثم شاهد – السارد – صورة ذات الشاب علي الجدار بعد موته بأربعين يوما ، وقد كتب زملاؤه تحت صورته "لو واحد مات لسه كتير". ليؤكد تلك التكلفة الفادحة التي دُفعت وصولا للحرية، والتصميم علي الوصول إليها. وهو ما حاول التأكيد عليه أيضا في قصة "كونكور فايف" حيث تم سحب هذا الدواء "كوكنور فايف" من الصيدليات، في إشارة إلي ارتفاع ضغط الكثيرين أثناء تلك الثورة، وحيث اعترضت المظاهرات، والاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، اعترضت ذلك الموظف الذي لم يترك الميدان، إلا لإحضار زوجته التي ترافق ابنته في عيادة الطبيب لإجراء عملية اللوزتين، وكان قد نسي أخذ "الكونكور فايف" الذي يتناوله علاجا لضغط الدم، ولتعذر وصوله إلي بيته، راح يبحث عنه في الصيدلية، لينصحه طبيبها بعدم البحث عنه، لسحبه من السوق، فضلا عن تزايد عدد القتلي والمصابين في اشتباكات الشوارع {شغل الراديو مرة أخري.. اكتشف ارتفاع عدد الضحايا إلي أربعة}. 

 

وهو ما نستطيع أن نجده أيضا في قصة "صاحب الساق" والتي يعرض فيها كثرة الأشلاء الآدمية التي انتشرت في كل مكان، يعرضها "شريف" بطريقة لا تخلو من خيال إبداعي، يبتعد بها عن المباشرة، ويخلق بها متعة القراءة والتشويق. حيث يعثر أحدهم علي ساق ملقاة في صندوق القمامة. فيعرض لنا ذلك المرض اللعين (الخوف) الذي يصيب كل من يري جريمة، ويخشي الإبلاغ عنها، حيث تُدخله التحقيقات فيما يمكن أن يصل حد الاتهام بأنه – المُبلِغ – هو الفاعل في الجريمة. وبعد سلسلة من البحث وراء الاحتمالات عن صاحب الساق، يبلور القضية في فقرة صارخة، يخص بها سيناء،  بعد بحث في البلاد، ليشير إلي كثرة الأشلاء الآدمية التي انتشرت، لعسكريين ومدنيين، في الحروب من قبل، وفي الثورة من بعد، وكأنه يكشف عن المواجهة التي تدور بين المتظاهرين من جانب، وقوات الأمن من جانب آخر، وكأنها معركة. وللأسف، فإن طرفيها هذه المرة ... مصريون: {في اللحظة التي وصلوا فيها إلي سيناء، كانت السيول قد اجتاحت المكان، وبينما كان متجها مع المشتبه في أنه صاحب الساق للمقبرة احتميا ببيت الّلحاد، حيث جرفت السيول جثثا لا حد لها: جثث بملابس عسكرية لشهداء حرب ، وجثث لبدو قتلتهم قوات إسرائيل، وبقايا لأجزاء آدمية: أقدام، ورؤوس، وهياكل عظمية....... أيقن أن تلك الساق التي تُركت في القمامة هي دليل أكيد علي وجود جريمة لم يعرف أحد علي وجه التحديد من قام بها} وليظل التساؤل قائما .. من قتل المتظاهرين؟ .

الخاتمة
وبعد أن صحبنا "شريف" في رحلة مع الثورة المصرية، مسجلا أحداثها، وباحثا عن أسباب قيامها، وما حدث من فوض بعدها، يؤكد لنا أن الثورة، أو التغيير هو حتمية التاريخ، ورغم ما بدا من جبروت السلطة، وبطش الأمن، كان لابد أن تفلس دولة الظلم والقهر. فيظهر الكاتب بشخصه، ويعلن عن نفسه، في اقتراب شديد من شخصيته، وظروف ونشأة عمله.

 في آخر قصص المجموعة "ستوديو طولون" وبطريقة لاتخلو أيضا من التمويه والتشويق، الذي يدخل القارئ في مغامرة البحث عما وراء السطور، ومثلما تميزت المجموعة بصفة عامة، حيث يصف لنا السارد كيف بدأ حبه للتصوير، وكيف تعلمه مع "عم سمير المصوراتي" في حي الخليفة، والذي كان {يقوم بتحميض وطبع الصور في الغرفة السيراميك البيضاء} بصورته العتيقة، وبعد أن كانت شركة كوداك الضخمة ، وصاحبة السيطرة علي سوق التصوير في العالم، وفي خبر لم يستغرق أكثر من نصف دقيقة علي الشريط السفلي للأخبار، يقرا صاحبنا خبر إفلاس شركة كوداك. لتثير فيه ذكريات أول كاميرا، كوداك" أُهديت له بعد حصوله علي الإعدادية. وذكرياته مع عم سمير، فيقرر شراء كاميرا حديثة، يذهب بها إلي عم سمير ليقدمها له هدية، غير أنه يكتشف أن عم سمير قد باع الاستديو من فترة طويلة. ويستسلم صاحبنا ليد الشاب صاحب الاستديو الجديد، ليصوره منفذا كل تعليماته، ويقرر أن يهديه ذات الكاميرا التي كان سيهديها لعم سمير. وكأنه استسلم (للشاب) صاحب التغيير، ليبدأ – ومعه كل الشعب المصري- في مسيرة جديدة، مسيرة الشباب، ومسيرة التحديث، علي أثر انهيار وإفلاس ذلك الكيان ... الذي كان ... كبيرا.

                                                           Em:shyehia48@gmail.com

 

هوامش:

(1)    شريف عبد المجيد – تاكسي أبيض –الدار المصرية اللبنانية –  ط2. 2014.