لا يكف مهرجان أفينيون المسرحي السنوي، وهو أهم حدث مسرحي في أوروبا، عن إدهاشي دوما بجديده، وبما يطرحه من رؤى وأفكار، وبتنامي شغف آلاف الجماهير به. وكانت أولى منابع الدهشة هذا العام هي شعار المهرجان هذه السنة في دورته التاسعة والستين: «أنا الآخر». وكأن المهرجان يرد به، وعن وعي حقيقي، على طنطنات السياسة السطحية وفرقعاتها عقب الهجوم على «شارلي إيبدو»؛ وتبنى مظاهراتها الصاخبة التي شارك فيها أكثر من زعيم سياسي، بمن فيهم مجرم الحرب الصهيوني بنيامين نتانياهو، لشعار «أنا شارلي». وأذكر أن المرة الأولى التي زرت فيها باريس عقب تلك المظاهرات أن تحدثت مع سائق التاكسي الذي أقلني من محطة القطار حول رأيه في تلك المظاهرات، وقد بدا عليه أنه من أصول مغاربية رغم اعتصامه بفرنسيته، فاعترض على ذلك الشعار السياسي؛ وأكد على أنه ليس «شارلي» بأي حال من الأحوال. لذلك سعدت بهذا الرد الضمني من المهرجان على ضيق الأفق السياسي، ورفعه هذا الشعار الأعمق والأرحب: «أنا الآخر». فدور الفن هو رسم الطريق للخروج من مأزق الهويات القاتلة والمتصارعة التي يسيطر فيها التعصب والعداء للآخر على عالمنا المعاصر؛ وحتى على أبناء الوطن الواحد؛ والطموح إلى ضرورة فهم الآخر، بل التماهي معه.
إذ يعلن أوليفييه بي Olivier Py مدير المهرجان في تقديمه له، أن واقعه يناير المأساوية جعلت فرنسا تدرك من جديد أهمية الثقافة، ودور الفن في الخروج بها من مأزق السياسة. ففرنسا تعي في المستوى العميق لوعيها الجمعي، أو لبنية المشاعر الجمعية المضمرة في ثقافتها العميقة، أن الثقافة هي مصدر قوتها الأساسي. فلم تعد فرنسا دولة استعمارية كبرى يمتد نفوذها من الهند الصينية وحتى لويزيانا الأمريكية وكيبيك الكندية وشرق القاهرة الأفريقية كما كان الحال في القرن التاسع عشر. ولم تعد لغتها هي لغة الدبلوماسية الأولى في العالم كما كان الحال حتى هزيمتها أمام زحف النازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وحلول اللغة الانجليزية مكانها، مع صعود الولايات المتحدة الأمريكية، كلغة ثانية للعالم كله. ولم تعد حتى من القوى الاقتصادية الكبرى في عالم اليوم، ولا حتى داخل أوروبا التي تزعمت بقيادة ديجول مشروع اتحادها الذي يزداد مع الزمن قوة ورسوخا. ولكن ما يبرر مكانتها كقوة أساسية في أوروبا، وفي عالم اليوم الذي لاتزال تتمتع فيه بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن، هو قوتها الناعمة في مجال الثقافة. ووعيها الذي صاغته باسكال كازانوفا في عنوان كتابها الشهير (جمهورية الآداب العالمية) بأنها، أو بالأحرى عاصمتها باريس، هي عاصمة جمهورية الآداب العالمية تلك، بما في ذلك الأدب الأمريكي ذاته الذي لابد أن يمر أعلامه بباريس وجودا وتكوينا وترجمة، حتى يحققوا مكانتهم في تلك الجمهورية العالمية. فباريس فضلا عن أنها عاصمة جمهورية الأدب العالمية، كما يبرهن وبإقناع كتاب كازانوفا (وهو بالمناسبة مترجم للعربية) كانت عاصمة مرحلة الاستنارة والثورة منذ القرن الثامن عشر، إذ يعتبرها والتر بنيامين عاصمة القرن التاسع عشر، ولاتزال تحافظ على مكانتها كعاصمة للسياحة في العالم إذ يتجاوز عدد زوارها في العام 57 مليون سائح، مما يجعلها المدينة الأولى في العالم من هذه الناحية.
قوة الثقافة الناعمة وطرح الحلول:
والواقع أن الفكر والفن في فرنسا يبرهنان دوما على أهمية القوة الثقافية الناعمة، في عالم يحتاج دوما، وكلما تعاظمت فيه قوة الغطرسة العسكرية التي تمثلها بفجاجة الولايات المتحدة الأمريكية (والعيد السبعين لإلقائها القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي والذي مر في شهر أغسطس الماضي يذكرنا بذلك) إلى من يطرح الموقف الأخلاقي الأعلى في مواجهة غطرسة القوة تلك. وكأنها تقوم في عالم السياسة الدولية بالدور الذي يقوم به المثقف في طرح إدوار سعيد حول تمثيلات المثقف حينما يطرح الحقيقة في مواجهة السلطة/ القوة الغاشمة. وهو الأمر الذي مارسته فرنسا حقا في اجتماع مجلس الأمن الشهير عام 2003، إبان حشد جورج بوش الصغير وتابعه القميء توني بلير الرأي العام العالمي لغزو العراق، وطرح وزير خارجيته، كولن باول، حفنة من الأكاذيب المفضوحة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية في مجلس الأمن، فتصدى له وزير خارجية فرنسا، دومنيك دو فيلبان (وهو بالمناسبة شاعر ومثقف قبل أي يكون سياسيا) بخطاب يطرح الحقيقة وسلطتها الأخلاقية في مواجهة غطرسة القوة. وهو الأمر الذي أدى لأول مرة في تاريخ مجلس الأمن إلى تصفيق كل الحضور، ما عدا بالطبع ممثلي آلة الكذب والعدوان الأمريكية أي مندوبي بريطانيا وأميركا. فقد انكشف كذبها وقد تجلت الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان كالعادة. أي بعد غزو العراق وتدمير بنيته التحتية والإخفاق في العثور على أي من أسلحة الدمار الشامل المزعومة، وإعادة العراق للعصر الحجري، حسب إحدى شعاراتهم الفجة، وقتل أكثر من مليون من مواطنية وتهجير خمسة ملايين آخرين، ولايزال الدمار مستمرا حتى اليوم.
لكن دور المثقف هو طرح الحقيقة في مواجهة السلطة/ القوة، وإن لم ينجح دوما في هزيمة هذه القوة أو الحد من غطرستها، فإنه على الأقل يعريها من المصداقية والمشروعية. هذا الدور المهم للثقافة وقدرتها على التفوق على السياسة والساسة، والارتقاء بالمتلقي والمواطن معا إلى آفاق أسمى وأرحب هو ما يلح عليه أوليفييه بي، مدير مهرجان أفنيون، في تقديمه لمهرجان هذا العام. واختياره عن وعي لشعار «أنا الآخر» شعارا له. ففي العام الماضي مثلا هدد أوليفييه بي بإلغاء المهرجان لو فاز مرشح «الجبهة الوطنية» العنصرية اليمينية بانتخابات عمدية مدينة أفينيون؛ لأنه لا يستطيع التعاون مع عمدة بتلك العقلية اليمينية ضيقة الأفق. وكانت «الجبهة الوطنية» اليمينية قد فازت بنسبة عالية من المقاعد في الانتخابات المحلية، وأوشك مرشحها أن يفوز بعمدية مدينة أفينيون؛ إذ كان أحد الاثنين اللذين أعيدت بينهما الانتخابات، فسقط نتيجة لتهديد أوليفييه بي ذاك. لأن المدينة تدرك أهمية المهرجان لسمعتها واقتصادها وحياة مواطنيها الروحية والاجتماعية على السواء.
شعار مهرجان هذا العام والتلاحم فيه بين الأنا والآخر
وها هو المهرجان يفاجئني هذا العام بموقفه الأرقى في مجال العلاقة المعقدة مع الآخر، في زمن سادت فيه تبسيطات الحرب على الإرهاب، وشيطنة الآخر وضرورة استئصاله. إذ يؤكد الشعار أن فرنسا الثقافية تدرك مدى فجاجة الشعار الذي استخدمته فرنسا السياسة لحشد التأييد الدولي لها عقب الهجوم على مجلة (شارلي إيبدو)، ورفع شعار «أنا شارلي» عنوانا لهذا الحشد الدولي الضخم، والذي شارك فيه كما ذكرت مجرمي الحرب من الصهاينة الملطخة أيديهم بالدم العربي. لذلك تهتم الثقافة هنا بزعزعته وطرح شعارها الأرقى في مواجهته. فزعزعة التمركز المقيت على الذات، وطرحها في فضاء عقلي يؤمن حقا بالحرية والإخاء والمساواة: شعارات الثورة الفرنسية الأساسية، هو الذي تطلب اقتلاع شعار «أنا شارلي» من الوعي الفرنسي، وطرح هذا الشعار المغاير «أنا الآخر» بدلا منه. لأن الشعار الذي رفعه الساسة، بوعي منهم أو دون وعي، يلعب دورا في تأجيج عنف تعصب الهويات الأعمى، واستراتيجياته المراوغة. إذ يطرح عنف الدولة المضاد، في مواجهة عنف أيديولوجيات الإسلامجية العمياء. أما المواجهة الثقافية والفنية والفكرية التي يطرحها شعار المهرجان، فإنها تتطلب التخلي عن التمترس في خنادق تعصب الهويات الأعمى، وبذل الجهد المطلوب لمعرفة الآخر بحق والحوار الندي الجاد معه، والتماهي الإنساني معه. فهذا هو دور الثقافة العقلية النقدية بشكل عام، حينما تصبح لها الكلمة العليا على السياسة.
وكان المنبع الثاني للدهشة هو ثراء هذا المهرجان المستمر، وتأكيده أن الفن يخرج افضل ما في الإنسان ويحوله إلى كائن أرقى من ذلك الذي نسمع عنه يوميا في نشرات الأخبار المثيرة للإحباط واليأس، سواء أكان مبدعا له، أو مشاهدا متلقيا لهذا الإبداع ومتجاوبا معه، أو حتى مواطنا عاديا يعتز بوجود مثل هذا المهرجان الفني الضخم في ثقافته وعلى أرض وطنه. حيث تتحول المدينة في شهر المهرجان إلى ما دعاه همنجواي مرة وفي مناسبة مغايرة بـ«الحفل المتنقل»؛ يعمر الفن شوارعها وفضاءاتها المختلفة. فإذا ما قصرنا الحديث على المهرجان الرسمي وحده، سنجد أنه يعرض هذا العام ما يقرب من خمسين عملا، ناهيك عن مئات الأعمال الأخرى التي يحفل بها المهرجان الهامشي Avignon Off والذي تتعاظم أهميته عاما بعد الآخر. وسنجد أن ما يقرب من ربع هذه الأعمال الخمسين تقدم لنا أرقى ما يتميز في المسرح الفرنسي من عروض طوال العام. فحينما تكون هناك تنمية ثقافية حقيقية، فإن الفن لا يتركز كله في العاصمة، كما هو الحال في بلداننا العربية، بل يزدهر في مختلف بقاع الوطن، بصورة تتيح للمواهب أن تتفتح وتتحقق مهما كان موقعها. فبالإضافة إلى ثلاثة عروض جاءت من باريس، وثلاثة تم إعدادها خصيصا للمهرجان في أفينيون، سنجد أن هناك فرقة رقص حديث من «إكس أون بروفانس» وعرض ممثل واحد من «فالانس»، وأخر من «تولوز»، وعمل مسرحي من «بوردو» وآخر من «فيندوم». أما بقية العروض فقد جاءت من مختلف مسارح العالم المتميزة: من وارسو، وبرلين، وموسكو، ومدريد، ولندن، وجينيف، ولشبونة، وتالين (استونيا)، وبيونس أيرس، وداكار، والقاهرة، وبيروت، وتونس، والجزائر، وغيرها.
أما المنبع الثالث للدهشة فهو في هذا الإقبال الواسع على المهرجان، والذي يتنامى عاما بعد الآخر، برغم الحر وارتفاع أسعار التذاكر النسبي، حيث متوسط ثمن التذكرة ثلاثين يورو. فكل عروض المهرجان تدور أمام مسرح مليء لآخره بالمشاهدين؛ مع أن بعضها يعرض في فضاءات تتسع، كأكبر فضاءات المهرجان وهي قاعة الشرف في القصر الباباوي، لألفي متفرج، ويستوعب أغلبها ما يقرب من الألف. وقد بيعت أغلب هذه التذاكر سلفا، وقبل بداية المهرجان. وكلما ذهبت لعرض، تفاجئني الطوابير التي تنتظر أي تذاكر مرتجعة أو لم يحضر من حجزوها لاستلامها. وقد عرفت أن بعض المنتظرين في تلك الطوابير قد جاء قبل موعد بدء العرض بأكثر من ساعتين حتى يعزز فرصته في الحصول على تذكرة في اللحظة الأخيرة. وهي طوابير تُشرح القلب، لأنها تكشف عن حرص الإنسان على مشاهدة الفن والاستمتاع به. فمناخ مدينة أفينيون التاريخية طوال شهر المهرجان أقرب ما يكون إلى عالم فاضل ينشد فيه الإنسان الفن والمتعة، ويطرح هموم العالم وتعاساته وراءه، أو حلم مبتغى يتحقق في لحظة مقتطعة من الزمن. يترك فيها أغلب من جاءوا إلى المهرجان مشاغل الحياة وعبودية العمل وراءهم، ويعيشون تحت مظلة الفن وفي أفياء عوالمه التي ترقى بهم فوق المشاغل التي تركوها خلفهم، وإن لم تقطع صلتها أبدا بها.
وكان المنبع الرابع للدهشة هذا العام، هو أن أول عروض مهرجان هذا العام وأكثرها تكرارا (حيث يعرض على مدى 18 يوما، بينما متوسط عرض العمل عادة بين 7 – 9 أيام/ مرات) وهو العرض الوحيد المجاني والمفتوح لجمهور غفير دون حجز مسبق، حيث يدور ظهرا في حديقة عامة، كان (جمهورية أفلاطون). نعم إنه عن النص الفلسفي المؤسس في الفكر الغربي، والذي ترجم إلى أغلب لغات العالم، أي (جمهورية أفلاطون)، ولكن في ترجمة جديدة قام بها ألان باديو Alain Badiou أحد أبرز فلاسفة فرنسا المعاصرين. ولكنها ليست مجرد ترجمة عادية، ولكنه عمل استغرق منه 11 عاما، كما يقول. وحاول فيه أن يدير حواره الخاص كمفكر معاصر مع هذا النص المؤسس في الفلسفة الغربية. فترجمته ليست مجرد ترجمة جديدة للنص ولكنها حوار جدلي خلاق معه، من موقفه الفلسفي الذي يناقش فيه أهم قضايا الفكر الأفلاطوني، وما جرى لما يطرحه من القضايا التي لاتزال فاعلة في الواقع المعاصر: ألا وهي قضايا الديموقراطية والعدالة والنظام السياسي والمواطنة ووضع الفلسفة في العالم والمدينة الفاضلة/ المثلى/ المنشودة. وهو حوار يؤكد، كما يؤكد الواقع الإنساني الراهن الذي يصدر عنه، أن الإنسانية لاتزال تبحث عن تلك الجمهورية الفاضلة بعد أكثر من خمسة وعشرين قرنا على بلورة أفلاطون لهذا التوق الإنساني لجمهورية فاضلة. وهي الترجمة التي نشرها عام 2012 والتي يعتبرها نص لمؤلفين وليست مجرد ترجمة جديدة للجمهورية؛ لأنها ترجمة لأفلاطون وحوار مع نصه، وعصرنة له، وإعادة كتابة لما استوعبه منه.
ألان باديو في حوار مع محاوره ومع الجمهور
وقد مسرح النص اعتمادا على البنية الحوارية لـ(جمهورية أفلاطون) ألان باديو نفسه مع ثلاثة من أساتذة المدرسة المحلية للممثلين في كان L’Ecole Regionale d’Acteurs de Cannes هم فاليري دريفيل Valerie Dreville وديدييه جالاس Didier Galas وجريجور إنجولد Gregoire Ingold، وقاموا بقراءته مع مجموعة من أساتذة المدرسة والعشرات من طلابها وطالباتها. وعلى مدى 18 يوما تتخلق أمام جمهور يزداد اتساعا مع أيامها تلك القراءة الدرامية لذلك النص المؤسس، بصورة يتحول معها فضاء الحديقة إلى ساحة للجدل الفكري والفلسفي الخلاق، وتنهض فيها محاورات أفلاطون حيّة من جديد في تفاعلها مع حوار ألان باديو الفلسفي والنقدي معها، وأمام جمهور كان يتزايد عددا مع توالي أيام القراءة، فقد لاحظت وقد ترددت عليها ثلاث مرات ازدياد عدد الجمهور في كل مرة من الواقفين إلى العشرات ثم المئات، بالرغم من امتلاء كل المقاعد المحيطة بالمساحة التي تدور فيها القراءة منذ زيارتي الأولى. وهي قراءة تتعدد فيها الأصوات بالمعنى الحقيقي للكلمة، لتبلغ العشرات في كل مرة. وقد تأسيت وانتابني الكدر وأنا أشاهد كل مرة تنويعات على التفاعل الحواري الخلاق بين الممثلين والجمهور والنص المؤسس القديم، حينما فكرت في البون الشاسع بين تعامل ألان باديو الخلاق مع تراثه الفلسفي الغربي القديم، وبين تعامل فقهائنا (فقهاء الظلام) الببغاوي الشاهد على الكسل العقلي والتخلف، ولا أقول البلاهة الفكرية والضعة أمام النص القديم، مع نصوصنا القديمة. لأن تعامل ألان باديو مع (جمهورية أفلاطون) يوطئ النص القديم لمشاغل الواقع المعاصر، ويطوّر كشوفه لخدمته، كما هو الحال مع جل العروض التي شاهدتها في مهرجان هذا العام.
صورة من قراءة جمهورية أفلاطون الحوارية
لأننا إذا ما تأملنا برنامج المهرجان (بعيدا عن الانشغال بمختلف جوانب جماليات العمل المسرحي الحركية والصوتية والبصرية، وهي من أهم معايير الاختيار في المهرجان، وتحتاج إلى مقال مستقل) سنجد أنه مترع بمشاغل عالمنا المعاصر وقضاياه؛ حتى ولو بدا أنه يعود إلى كلاسيكيات المسرح العالمي. فلو توقفنا قليلا عند المسرحيات القليلة التي استطعت مشاهدتها فيه، وهي قليلة نسبيا هذا العام لأنني تأخرت في حجز تذاكري، أي أنني حجزتها قبل ثلاثة أسابيع من بداية المهرجان، وليس قبل أكثر من شهر ونصف كما أفعل عادة. وقد استطعت مشاهدة عشرة عروض من مسرحيات المهرجان، سنجد أنها وقد عاد بعضها إلى أعمال شكسبير، شديدة الانشغال بما يدور في عالمنا، كل منها بطريقته الفريدة والخلاقة. إذ يوشك عرض أوليفييه بي لمسرحية (الملك لير) لوليام شكسبير، والذي قدمه في أكبر فضاءات المهرجان، أي في ساحة الشرف بالقصر الباباوي، أن يكون عرضا لسيطرة الفظاظة والخداع والنفعية وضيق الأفق واللعب باللغة على السياسة في عالمنا المعاصر، ولغياب القيم الحقيقية الصادقة منه، غياب «كورديليا» من المشهد الذي تعمد العرض تغييبها عنه بعد المشهد الأول المشهور الذي قسم فيه «لير» مملكته.
كورديليا كراقصة باليه اثيرية تائهة في مشهد تقسيم المملكة
لأننا هنا بإزاء (لير) معاصر يدور أمامنا بالملابس العصرية بما في ذلك الملابس الجلدية الفظة والمثيرة، والموتوسيكلات، ورقص الباليه، وفجاجة الرأسمالية المعاصرة، والشره للطعام والشراب والبذخ والجنس بكل تنويعاته السودومازوكية؛ حيث تبدو الأختان «جونريل» و«ريجان» كعاهرتين عصريتين بعدما استولت كل منهما على نصف المملكة، واتفقتا فيما بينهما على التخلص من الأب وقد اصبح هو وحاشيته عبئا عليهما. بينما تظهر كورديليا كفراشة أثيرية نقيّة في زي راقصة البالية وحركاتها الشاعرية. ومنذ المشاهد الأولى لتقسيم «لير» لمملكته، الذي جسده العرض أمامنا في صورة خريطة يتم تمزيقها والتنازع على أجزائها، وحينما ترفض «كورديليا» حديث النفاق الممجوج تتنازع الأختان وزوجاهما بقايا الجزء الباقي من الخريطة/ المملكة، والذي كان من المقرر أن يكوّن نصيب «كورديليا» منها، فلا تتركانه إلا مزقا، بصورة تستشرف من البداية فظاظة ما سيدور فيما بعد.
زوج جونريل .. في مشهد من لير أوليفييه بي
فالمسرحية تكشف لنا عن كيف يخلق معسول الكلام آليات الدمار الجهنمية، وكيف أن صمت «كورديليا» يصبح شارة نزاهتها في مواجهة العقل الذرائعي الذي يستبيح اللغة ويفرغها من معانيها. إلى الحد الذي وجد المخرج نفسه يجسد هذا الصمت بصورة مرئية حينما يغلق فم كورديليا بشريط لاصق. إنه الصمت الذي يكشف عقم اللغة وسقوط الجميع في مباءاتها التي جعلت التلاعب بالخطاب أحد أسوأ ما تعاني منه حضارتنا البشرية في الوقت الراهن. فقد سقط الجميع في مهاوي الكلمات، الأب لير والأختان، وكيف يفضي هذا السقوط في النهاية إلى العدم، في نوع من نبوءة العرض التحذيرية.
تجسيد المسرحية القوي لصمت كوردليا
خاصة وأن العرض يكشف عن فراغ لغة الأختين من أي معنى حينما يتعارض طلبهما من والدهما التقشف والاستغناء عن حراسه وحاشيته، بينما يزداد شرههما هما وزوجاهما لكل شيء، وكأننا بإزاء فراغ لغة الساسة الغربيين، في دول أوروبا الغربية خاصة والتي تمتعت شعوبها ببعض حقوق الرفاهية الاجتماعية أثناء فترة الحرب الباردة، الذين يطالبون شعوبهم على الدوام بالتقشف، والاستغناء عن الكثير من الخدمات الأساسية التي كانت توفرها لهم قوانين الرعاية الاجتماعية، كي يزداد الأغنياء عنى وشرها. كما يكشف العرض فيما يدور للير من تدهور، وعبر الترجمة الجديدة لدور مهرج الملك لير التقليدي، عن بلاهة من يصدق معسول كلام السياسيين، وعن البون الساشع بين كلامهم وأفعالهم، وعن مدى فظاظة العالم الجديد الذي يجد لير ومهرجه معه نفسه فيه. فنحن بإزاء تأويل سياسي عصري بحق لتلك المأساة الشكسبيرية، التي تتجدد معانيها وتأويلاتها على مر السنين.
مدى الفظاظة وانتصاراتها في (الملك لير) في عالم فقدت فيه اللغة دلالاتها الأخلاقية
ريتشارد الثالث وشرور السياسة المعاصرة:
أما إذا انتقلنا للعمل الشكسبيري الآخر الذي شاهدته في مهرجان هذا العام وهو (ريتشارد الثالث) الذي جاء به إلى المهرجان توماس أوسترمايرThomas Ostermeier ، مدير مسرح الشوبوهنه Schaubühne الشهير في برلين، وهو أحد أهم المسارح الألمانية، سنجد أننا بإزاء عمل آخر يؤكد عبره التأويل الإخراجي أن نص شكسبير شديد العصرية والقدرة على مخاطبة واقعنا الراهن، برغم أن مأساة ريتشارد الثالث من بين مسرحيات شكسبير الأولى، أي مرحلة ما قبل المآسي الكبرى التي تعد (الملك لير) من أشهرها. فتأويل أوسترماير للمسرحية، وحرصه على عقد ذلك التواطؤ الضمني بين بطل المسرحية الشرير والجمهور، حيث يصعد ريتشارد دوما للخشبة من بين صفوف المشاهدين، يسعى إلى أيقاظ وعي المشاهد بمسؤوليته عما يقترفه الساسة باسمه غالبا، في المجتمع الغربي المعاصر، من شرور. ولا يكتفي هذا التأويل بتواطئ الجمهور وحده وإنما يضيف إليه تواطؤ المؤسسة الدينية كذلك. فضلا عن حرص الإخراج على اقتراف أولى جرائم ريتشارد، بقتل أخيه كليرانس، والتي تتم في المسرحية الشكسبيرية خلف الستارة، أمامنا على الخشبة وبشكل تجسيدي صارخ، وإبقاء ما خلفته على الأرض من دماء شاهدا حيا على هذا العنف الظالم طوال العرض، تنبهنا بعض حركات الممثلين العارضة دوما لوجوده، حينما يحاول أحدهم ألا يلغ فيه، أو أن يقفز فوقه. كما يبرز العرض كيف لا يتردد ريتشارد، ككثير من الساسة المعاصرين، في استخدام الفظاظة والجنس والكذب والتحالفات المشبوهة في تحقيق أغراضه.
ريتشارد وتسليط الضوء على بشاعات الشر السياسي
وإذا كان العرضان الشكسبيريان في المهرجان يكشفان سيطرة الفظاظة والكذب على عالم السياسة في المجتمع الغربي المعاصر، فإن العرض الوحيد الذي جاء من روسيا إلى المهرجان، يؤكد هو الآخر أن روسيا الجديدة تنحدر وبسرعة إلى مباءة سعار الاستهلاك والجنس والتحلل الذي تعاني منه المجتمعات الغربية. لأن عرض (الحمقى Les Idiots) المأخوذ عن فيلم المخرج/ المؤلف الدنماركي المعروف لأرش فون تريير Lars Von Trier والذي جاء به المخرج الروسي كيريل سيريبرينيكوف Kirill Serebrennikov مع فرقته المسرحية في «مركز جوجول» يقدم لنا نسخة موسكوفية من عمل فون تريير الدنماركي الذي يكشف عن مدى الحمق أو البلاهة الداخلية التي تتخفى وراء شعارات براقة وخطابات خاوية. فعبر عمل يتسم بالإيقاع السريع، ويمتد لأكثر من ساعتين، ويعتمد على تجاور الاسكتشات الدرامية وتداخلها، وتحول بعضها إلى مرايا للبعض الآخر، تقدم لنا (الحمقى) صورة مقلقة للحياة اليومية في موسكو اليوم. بصورة يبدو معها أن شكل هذا العمل المسرحي وإيقاعه جزء أساسي من محتواه. وقد حرص على استخدام القضبان في ستائره المتحركة، وكأن كل شخصياته واقعه في أسر سجن استعاري، هو سجن تلك الأنماط الاستهلاكية الغربية الجديدة التي استحوذت على الجميع، وكأنها سبيل الخلاص من كل ما عانى منه المجتمع القديم من قيود. وكأن العمل يدخل بنا في غابة لا نعرف فيها أين هو الخط لفاصل بين الحمق/ البلاهة من ناحية، والتقاليد المتفق على أنها تمثل ما هو عاقل أو مقبول من ناحية أخرى. بصورة يسعى العمل فيها إلى تفكيك الدوافع الكامنة وراء الممارسات الشائعة، ويطرح أسئلته حول مكان العبث في الواقع الروسي المعاصر.
مشهد من مسرحية الحمقى وأهمية القضبان
لكن أكثر العروض التي شاقتني استقصاءاتها لواقعها المعاصر، لأنها شديدة الصلة بمشاغل عالمنا العربي، كان العرض الأرجنتيني الذي جاء من بيونس أيرس. وهو عمل مسرحي يطرح إشكاليات قضية الهوية في عالم تتميز فيه بالتعقيد والسيولة معا، ويحتفي بجماليات المسرح بصورة تجعل تلك الجماليات وجها أساسيا من وجوه الجدل الذي يديره بين الماضي والحاضر. ويحمل العمل عنوانا شيقا يجعله أقرب عناوين المسرحيات لشعار المهرجان هذا العام. لأن العمل الذي كتبه وأخرجه ماريانو بينسوتي مع فرقته Grupo Marea من الممثلين يحمل عنوانا مثيرا للتأمل (حينما سأعود إلى البيت سأكون آخرQuand Je Rentererrai à Maison Je Serai un Autre) ومفتوحا بحكم زمن الصياغة نفسه الذي يستخدم صيغة المستقبل الاحتماليةعلى العديد من التأويلات.
وينطلق هذا العمل من قصة واقعية وهي أن أب مؤلفه كان ناشطا ماركسيا في سبعينيات القرن الماضي، ولما استولى العسكر على الحكم وبدأت الدكتاتورية العسكرية في مداهمة بيوت الناشطين الثوريين واليساريين، جمع كل الكتب والأشرطة والوثائق والمنشورات التي يمكن أن تدينه في كيس بلاستيكي كبير، ودفنها في حديقة منزل والده (والد الأب أي جد المؤلف) على أمل أن ينتهي الانقلاب العسكري بعد شهور ويستردها. وقد كان الأب على حق، فقد داهموا البيت بعدها فعلا وفتشوه ولكنهم لم يعثروا فيه على أي أثر يدين الأب. وطال أمد الحكم العسكري، ونسي الأب أين دفن هذا الكيس في حديقة والده، وانقضت العقود، وتغيرت المسارات. وبعد أن مات والده قبل سنوات، وبيع البيت لحساب الورثة، تلقى الأب في العام الماضي من مالك البيت الجديد مكالمة تليفونية تقول أنهم، وهم يحفرون الحديقة لبناء حمام سباحة فيها، عثروا على الكيس البلاستيكي الضخم وما به من أوراق وأشرطة ووثائق؛ فذهب الأب لاستلامه، وخرجت منه عليه كل أشباح الماضي البعيد، التي تذكر الأب بأنه تغير، وبأنه تخلى عن الكثير من أفكار ماضيه وأصدقاء هذا الماضي، وكان من بينهم موسيقي بارع يكتب أغاني ومقطوعات ثورية.
لكن الابن كان أكثر اهتماما بما في الكيس من أبيه، فأخذ ينقب فيه، ويجعل من عملية التنقيب في هذا الماضي الموؤود موضوع مسرحيته الجديدة. وأخذ يبحث عن أسرة الموسيقي الذي كانت في الكيس تسجيلات لأغانيه، فوجد لغرابة المفارقة أن ابنته أصبحت مغنية مغمورة لم تصب حظا من النجاح، فرد لها أشرطة أبيها. وحينما قررت الابنة أن تغني بعض أغاني أبيها، دون أن تذكر أنها من زمن السبعينيات البعيد، حققت النجاح الذي راوغها طوال سنوات، لكنه كان نجاحا مؤقتا، ليس فقط لقلة عدد الأشرطة التي كانت بالكيس، ولكن أيضا لأنها سرعان ما ملت تكرار أنغام ماضٍ لم يعد له وجود. وهو الأمر الذي يتكرر مع المؤلف وهو يسعى لإعادة انتاج العالم الذي وُئد في الكيس البلاستيكي. لتطرح لنا المسرحية، وقد قسمت المسرح إلى قسمين بطول الخشبة، وحولت كل قسم إلى حزام متحرك، كل في اتجاه معاكس للآخر يتم عليه تمثيل المشاهد وهي تتحرك بسبب هذا الحزام في اتجاهين متعارضين، قضية استحالة إعادة انتاج الماضي في الحاضر؛ لأن لكل منهما مساره المغاير، بل المعارض للآخر. هنا تجيء أهمية العنوان وصيغته المستقبلية، لأنه يطرح من خلال هذا التجسيد البصري الحركي لجدل التواريخ إشكاليات العلاقة بين الأنا والآخر الكامن في تاريخ الأنا القريب، لا البعيد. وهو الأمر الذي يردنا دوما لتعاملنا العربي مع تلك التواريخ، ومدى فاعليتها في الحاضر.
إسهامات عربية في مهرجان أفينيون المسرحي
قليلة، بل نادرة هي الأعمال العربية التي تعرض في مهرجان أفينيون المسرحي الرسميFestival D’Avignon، لأن أغلب الأعمال العربية، وخاصة من المسرح المغاربي وأحيانا اللبناني تعرض عادة في مهرجان أفينيون الهامشي Avignon Off. وقلة هذه الأعمال تعكس بشكل من الأشكال تردي حال المسرح العربي الراهن، وعدم صمود الكثير من انجازاته لمعايير المسرح الفنية الجادة التي تؤهل جمالياتها أي عمل لاستقدام المهرجان له. لكن هذا العام يشكل استثناءا محمودا، فليس فيه عمل عربي واحد، كما حدث في مرات قليلة، كان آخرها في العام الماضي حينما وفد إلى المهرجان الرسمي عرض (طيور الفيوم) لفرقة الورشة المصرية بقيادة حسن الجريتلي، وعمل تونسي آخر قبله بعام هو (يحى يعيش) لفرقة فاميليا لفاضل الجعايبي وجليلة بكار، وإنما كانت هناك إسهامات عربية تتبدى في ثلاثة أعمال: هي (العشاء الأخير) للمصري أحمد العطار وفرقة «المعبد» المسرحية، و(مورسو: استقصاء مضاد Meursault, Contre-Enquête) عن نص للجزائري كامل داوود، وإن قدمتها فرقة مسرح الحرية في تولون Theatre Liberte de Toulon من إخراج فيليب برلينج، وعرض غنائي لبناني تونسي فرنسي مشترك هو (باربارا فيروز Barbara-Fairouz) للتونسية دورساف حمداني تمزج فيه عالمي الموسيقى الفرنسية عبر أغنيات المغنية والشاعرة والموسيقية الفرنسية الشهيرة باربرا (1930 - 1997) التي أضحى عددا من أغانيها من كلاسيكيات الأغنية الفرنسية، وموسيقى الأخوين رحباني وأغنيات فيروز التي صارت بعض أغانيها من محفوظ الذائقة العربية.
وإذا بدأنا بأكثر هذه الأعمال أهمية واستثارة للتفكير، ألا وهو مسرحية (مورسو: استقصاء مضاد) المأخوذة عن رواية الكاتب الجزائري كامل داوود، سنجد أننا بإزاء عمل يمكن اعتباره من أعمال أدب ما بعد الاستعمار بالمعنى الحقيقي للمصطلح الذي صاغه إدوار سعيد، وأصبح من بعده حقلا معرفيا بالغ الأهمية والخصوبة. لأن الرواية والمسرحية معا من أعمال الرد بالكتابة Writing Back بالمعنى الحقيقي لهذا المصطلح، لأنها ترد وبنفس اللغة الفرنسية التي كتبت بها الرواية الأصلية على رواية (الغريب) الشهيرة لألبير كامو، ولكن من منظور المستعمَر هذه المرة، وليس من منظور المستعمِر الذي كتبت به رواية كامو. فمارسو الذي يشير إليه العنوان هو بطل رواية (الغريب) التي جسد فيها كامو مفهومه الفلسفي عن السأم/ العبث، وعن عبء الحياة وخفتها غير المحتملة حسب تعبير ميلان كونديرا من بعده. فقد كانت (الغريب) رواية كامو الأولى التي نشرها عام 1942، ونشر معها في العام نفسه دراسته اللامعة عن (اسطورة سيزيف) التي أرسى فيها قواعد فلسفته التي يمتزج فيها العبث بالوجودية، هي التي وضعت اسمه بقوة على خريطة الأدب الفرنسي. وبلورت فكرته عن العبث والتمرد معا. لكنها كانت في الوقت نفسه رواية فرنسية استعمارية بالمعنى الذي بلوره إدوار سعيد فيما بعد في (الثقافة والإمبريالية)، بالرغم من أن كاتبها ولد في قرية جزائرية بالقرب من مدينة عنابة الحالية لأب فرنسي، مات جنديا في أحد معارك الحرب العالمية الأولى.
وكما كانت (الغريب) رواية كامو الأولى التي لفتت له الأنظار، فإن (مورسو: استقصاء مضاد) التي نشرت عام 2013 في الجزائر ثم أعيد طبعها عام 2014 في فرنسا، هي الأخرى رواية كامل داوود الأولى، والتي لفتت له الأنظار أيضا، بعدما فازت مجموعته القصصية الأولى بجائزة محمد ديب في الجزائر. فقد ترجمت هذه الرواية حتى الآن، كما يقول برنامج المسرحية في المهرجان لأكثر من عشرين لغة. وقد اعتمدت رواية كامل داوود على الطبيعة المنولوجية التي تتسم بها رواية كامو، مما يسر تحويلها إلى مسرحية، توشك أن تكون مسرحية من أعمال الممثل الواحد. لأن كامل داوود يرد بوعي على رواية كامو، وبعد مرور سبعين عاما على كتابتها. ولكنه بدلا من موسو يضع بطله العربي «هارون» في مركز السرد ومركز الوعي في الرواية. وكما غيبت رواية كامو «العربي»، ضحية سأم مورسو غير المحتمل، والذي اغتاله مورسو على شاطئ البحر دون سبب ظاهر أو خفي، ولم تذكر عنه شيئا سوى أنه «عربي» في استهانة بقدره وقيمته، غيبت رواية كامل داوود هي الأخرى مورسو من ساحتها كلية، بعد أن انطلقت منه في عنوانها، وإن عزز غيابه شعورنا بعبء جريمته المبهظة.
هارون مع أمه في المسرحية
لأن العمل كله مكرس لتجسيد وقع فعله العبثي الغريب ذاك على الضحية، وكيف دمر أسرتها الجزائرية. بدءا من الأم التي لاتعرف القراءة أو الكتابة، ولكنها برغم أميتها احتفظت بقصاصات الصحف التي تحدثت عن الجريمة التي أودت بحياة ابنها الأكبر «موسى»، أو تناولت تفاصيل محاكمة مورسو، كي يقرأها أخوه الأصغر «هارون» الذي نشأ محملا بعبء ضرورة أن يصقل قدرته على التعبير، كي يعبر عما جرى لأخيه الذي حرمه كامو من حق طرح وجهة نظره في روايته التي لم تتكرم عليه حتى بذكر اسمه، وإنما اكتفت بصفته، أي أنه عربي. كان مع مجموعة من العرب يتكئون إلى جدار، وتصدر عنهم تمتمة. أحدهم أخ لامرأة كانت على علاقة مع صديق لمورسو يعمل قوّادا. وهي امرأة لا يصفها كامو بأنها عربية كما يصف ضحية سأم مورسو العبثي، أو الرجال المتكئون على الجدار، وإنما بأنها بربرية أندلسية. وهو الأمر الذي لا يفلته كامل داوود من تأويله المغاير الذي يرى في هذا الوصف الرومانسي للمرأة استعارة تضمر أن الجزائر نفسها، أو على الأقل ساحلها، مجرد عاهرة فتحت ساقيها للمستعمر كي تسهل له الوصول إلى البلاد واستباحتها. أما العرب الذين يتمتمون وقد ارتكنوا إلى الجدار، فقد كانوا ينتظرون في تأويل كامل داوود رحيل الغرباء من المستعمرين، وهم على يقين بأن هذا اليوم قادم لامحالة. لكن غياب السياق الاستعماري الذي تدور فيه حكاية (الغريب) كله هو أمر أخذه عليه إدوار سعيد في تحليله العميق الصائب لرواياته في (الثقافة والإمبريالية) ويتبناه كامل داوود في تأويله للوقائع التي تبدو عابرة عمدا في رواية كامو، بما في ذلك العرب الذين كانوا مع الضحية قبل قتلها.
وتعزز القصاصات التي احتفظت بها الأم، قراءة «هارون» المغايرة لنص كامو وما جرى فيه، وتعمق إحساسه بالغضب والاشمئزاز حيال ما جرى لأخيه. لأنه يجد أن القاضي الذي حاكمه هو الآخر يعزو طبيعة «مورسو» الإجرامية للامبالاته بوفاة أمه، وليس لأنه قتل إنسانا بريئا لم يسئ إليه. فلم يكن العربي إنسانا لا في نظر كامو ولا في تصور قاضيه للجريمة. وتدعم هذه القصاصات رفض «هارون» لعبثية قتل أخيه التي يطرحها كامو. فيستجيب لدعوة أمه للانتقام له، ويفعل ذلك تحت وقع نظراتها المحفزة، وقد أخذته إلى نفس الموقع، في مدينة «هدجوت» (الاسم العربي لمارينجو في رواية كامو) حيث يقتل رجلا فرنسيا سمينا يرتدي قميصا ملونا، لا يبخل عليه كامل داوود بالاسم كما فعل كامو مع ضحية مورسو، وإنا يمنحه اسم جوزيف. لكن حظه التعيس جعله يرتكب الجريمة قبيل الاستقلال، وبعد الاتفاق بين جبهة التحرير والفرنسيين بشأنه، فلا يعد عمله نوعا من المقاومة، وإنما جريمة كجريمة مورسو نفسه، وإن نجا بنفسه من المحاكمة، دون أن يستطيع أن ينجو بها من تبكيت الضمير على ما اقترفه، على العكس من مورسو تماما. ويتحول إلى صوت نقدي يتأمل كل ما يدور في الواقع الجزائري من تدهور بعد الاستقلال، وكيف تخثرت كل وعوده بالحرية والتحقق. وكيف أدى صعود الإسلامجية وبحثهم عن تحقق وهمي في الدين إلى تفشي القبح في كل مناحيه؛ فمع أن سادة البلاد الجدد غفروا له جريمته، إلا أنهم لم يغفروا له عقله النقدي الذي تعلم تمحيص كل شيء، بما في ذلك نص كامو ذاته. ناهيك عن الواقع الذي يواصل التردي تحت عينيه الفاحصتين. لذلك فإنه يلتقي مع بطل كامو في أكثر من موضع، لأنه يشعر هو الآخر بالسأم في أيام الجمع، كما كان يشعر مورسو به في أيام الآحاد.
هارون وأمه في باحة البيت الداخلية
وتنطلق المسرحية من مشهد جزائري عربي خالص؛ فلسنا هنا أمام شاطئ البحر الأبيض المتوسط الذي تطل فرنسا على شاطئه المقابل، كما هو الحال في رواية ألبير كامو، ولكننا في باحة دار تقليدية عربية. دار تتسم بجماليات المعمار العربي التقليدي الذي ينفتح على الداخل ويدير ظهره للخارج مؤذنا بمنطق العمل في التعامل مع موضوعه. وفي باحة الدار الداخلية التي تتوسطها شجرة ليمون مثمرة، وينفتح عليها بابان؛ يدور العمل كله، والذي اضطلع ببطولته الممثل الجزائري المخضرم: أحمد بنعيسى في نوع من التجسيد الدرامي الذي يتسم بالتركيز والشاعرية معا. وتبدأ المسرحية، بإيقاع صامت محسوب، حينما تدخل من أحد البابين الأم فتفرش سجادة الصلاة في الباحة المفتوحة على السماء، وتصلي في نوع من تأكيد هويتها الثقافية المغايرة منذ اللحظة الأولى. بينما تعرض لنا المسرحية على جدران الباحة خلفها بعض المشاهد الدالة لما كان يدور في الجزائر وقتها، اي زمن أحداث رواية ألبير كامو في مطالع أربعينيات القرن الماضي، وهي مشاهد يتصدرها بورتريه الابن المقتول. وحينما يفد الابن الآخر، هارون، يمنح حكيه مع الأم، هذا العربي النكرة غير المسمى في رواية كامو اسما وحضورا ملموسا برغم أنه قد مات في شرخ الشباب ضحية لسأم بطله (الغريب) الذي يحقق غربته، كغربة المشروع الاستعماري نفسه، على حساب الأبرياء من أبناء المستعمرات. فنعرف كل شيء عنه، بدءا من اسمه الكامل: موسى ولد العساسي ، مرورا بواقعه وما كان يتمتع به من مواهب في العزف الشّجي على الناي، وما كان يحلم به من مشاريع أجهضها قتله العبثي، وصولا إلى أمه التي فقدت بعد صدمة موته القدرة على الكلام، أو الرغبة فيه. ولم يعد بإمكانها غير البكاء أو الصراخ والعويل أو التعديد/ الغناء تعبيرا عما تشعر به من قهر وغيظ كظيم.
أما الأخ هارون فهو الذي ينهض بعبء الحديث طوال المسرحية. ونلاحظ من البداية أن المسرحية تدخل في تناصّ مضمر مع الأسطورة الدينية حينما تختار اسم موسى وأخيه هارون اسمين لبطليها، كما تختار اسم جوزيف (يوسف) اسما للضحية الفرنسي. وتجعل اسم الأخ الذي قُتل هو موسى، وليس هارون. وكأن المستعمِر، بوعي أو بدون وعي، يقتل أصحاب الرسالات في المستعمرات. بل وتجعل من هارون نموذجا لما بلورته كتابات فرانز فانون من الأدواء النفسية والجسدية معا التي يعاني منها المستعمَر. فقد دمر قتل موسى الذي جلب عبثية العنف والقهر الاستعماري إلى قلب تلك الأسرة الجزائرية حياة أخيه هارون، ليس فقط لأنه سعى إلى الانتقام لأخيه، وانتهى به الأمر إلى قضاء قسم من شبابه في سجون المستعمِر/ الاستقلال، ولكن أيضا لأنه لم يعد قادرا، وقد تسلل عبء الاستعمار وأدوائه إلى قلب حياته الأسرية والنفسية، على ممارسة حياة عادية بعد الإفراج عنه. بل يكشف عن أن عجزه عن ممارسة حياة عادية سبق تجربة السجن. لأنه حينما تخلقت بدايات علاقة حميمية بينه وبين الصحفية التي جاءت للتحقيق في مقتل أخيه، لم يستطع الاستمرار فيها أو تحقيقها. حتى حينما أقلبت عليه مغدقة مشاعرها، وكأنها تريد أن تكفر عن خطيئة مورسو في حق هذه الأسرة البريئة، شعر معها بالعنّة الجسدية والروحية معا.
هارون ووراءه صورة موسى التي حملها على كاهله
وقد مكن حضور الأم على المسرح وقد فقدت لغة الكلام، فلم تدخل في أي حوار منطوق مع ابنها هارون الذي وقع عليه وحده عبء تجسيد كل ما يدور في الرواية من رؤى وأفكار، العمل من التخلص من العدو الأول لمسرح الممثل الواحد، وهو الرتابة والملل الذي يصيب المشاهدين لاستمرار العمل على وتيرة واحدة. فقد منح حضورها العمل حواريته الدرامية الفريدة، التي عززتها بلغات مسموعة أخرى غير لغة الكلام، وبلغة حركية أخرى يتخلق عبرها نوع من التواصل الحميمي الذي جسد التفاهم المشترك بين الأم وابنها، وانطلاقهما من موقف واحد، هو مرارة الفقد. وعنف القهر الكظيم، كما أتاح لها أن تكون في مستوى من مستويات المعنى في العمل استعارة حيّة للجزائر المكلومة. أستعارة تناقض استعارة العاهرة البربرية الأندلسية في رواية كامو.
لقد كتب كامل داوود عملا دراميا وحواريا بحق، يدعونا إلى قراءة كامو من منظور جديد وبعيون جديدة. لأنه لا يعارض النص الروائي فحسب، ويرد بالكتابة على المحذوف والمسكوت عنه عمدا فيه فحسب، ولكنه يحاور فيه أيضا فكر كامو عن العبث وأسطورة سيزيف؛ وإن كان العبث هنا ليس وجوديا ولكنه اجتماعي سياسي يكشف لنا عن عبثية ما جرى لأحلام الاستقلال الجزائرية، وخاصة بعد تنامي ضيق الأفق وتشدد الإسلامجية. فرفض «هارون» لما يقترحه عليه الإمام الذي يقترح عليه أن يجد عزاءه في الدين، يردنا إلى رفض مورسو لقاء راهب السجن في زنزانته في رواية كامو. وكأنه يرفض معه الحل الميتافيزيقي لمشكلة يقترح طوال العمل أنها سياسية واجتماعية في المحل الأول، وليست ميتافيزيقية بأي حال من الأحوال. فنحن بإزاء عمل يطرح إشكالية التعامل مع نص كامو بعد سبعين عاما من كتابته، جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسر: جسر الاستعمار، وجسر الاستقلال معا. لأنه في مستوى من مستويات المعنى فيه رجلة في مكونات الوعي الاستعماري الفرنسي علّه يحدق في ماضيه القريب، والوعي التحرري الجزائري وهو يتعامل م إشكاليات حاضره المعقد بعد تخثر أحلال التحرير بعد نصف قرن من تحقق الاستقلال.
العشاء المصري الأخير وتخثر الثورة:
فإذا ما انتقلنا إلى العرض المصري سنجد أننا بإزاء عمل مغاير كلية، ينتمي إلى مسرح شريحة الحياة التهكمية، وإن كان به شيء من إشكاليات مسرح ما بعد الاستعمار. وقد دار العرض في مسرح ضاحية «فيردن» على بعد خمسة كيلومترات من مدينة أفينيون التاريخية المسوّرة، ومع ذلك كان المسرح مليئا لآخره بالجمهور، فثمة شغف فرنسي حقيقي بكل ما هو مصري، بل عشق له. ويشبع عرض (العشاء الأخير) هذا الشغف إلى حد ما لأنه يعتمد على تقديم شريحة حية من الواقع المصري المعاصر، وتقديمها للمشاهدين بصورة تحتفي بأسلوبية العرض المسرحي، وتهتم بإيقاعاته وجمالياته البصرية والحركية على السواء. وهي الجماليات التي تتغيا، وقد قدمت لنا شريحة واقعية حية من الواقع المصري، الإجهاز على التوهيم وكسر أي ميل للتماهي معها، فهي شريحة لا تستحق بأي حال من الأحوال التماهي معها، أو مع ما يعشش في داخلها من عناكب وخواء. جماليا تسعى إلى إرهاف وعي المشاهد بضرورة التفكير في دلالات ما يراه بطريقة عقلية ونقدية، والوقوف على مسافة منه تمكنه من ذلك. لأن تفاصيل حياة تلك الشريحة التي تتجلى لنا على مائدة العشاء تفاصيل مترعة بالمفارقات التهكمية؛ تثير بتناقضاتها الفجة مزيجا من السخرية والرثاء. وتكشف عن عزلة هذه الأسرة الغريبة والحقيقية معا، ليس فقط عن الواقع الذي تعيش فيه والذي يمور بالتناقضات الاجتماعية والفكرية على السواء، فثمة إشارات واهنة إلى ما دار في مصر عقب الثورة، ولكن أيضا عن عزلة أفرادها عن بعضهم البعض. وكأن الحرص على أواصر العلاقات العائلية، الذي يصر عليه الأب في ضرورة أن يتجمع كل أفراد أسرته الكبيرة على العشاء، شارة على خواء تلك الأواصر وفراغها من أي معنى.
فظلال العنوان الدينية، بإحالته إلى «العشاء الأخير» في قصة حياة السيد المسيح وخيانة أحد حوارييه له قبل صياح الديك، تلقي بثقلها على أي تلقٍ للعمل. وتطلب من المشاهد التفكير في الدلالات الكامنة خلف المظهر البادي أمامه، وفيمن سيخون صاحب العشاء، أو بالأحرى فيمن لن يخونه. وهي الظلال التي يعززها استخدام المخرج لعملية تجميد المشهد Freeze وتغيير الإضاءة عند لحظات مفصلية في الحديث الدائر على العشاء. فعلى العكس تماما من عشاء السيد المسيح الأخير المترع بالقيم الروحية والوصايا الأخلاقية، والذي واجه بعده مصيره على الصليب، نجد أنفسنا بإزاء عشاء مشغول كلية بالمكاسب المادية، والفجاجات الحسية، واللهاث وراء الفتات الذي قد تتركه الرأسمالية العالمية على موائدها لعملائها في الهوامش. لأن المسرحية وقد تعمدت أن تخلي الخشبة المسرحية الواسعة من كل شيء، إلا من مائدة عشاء زجاجية شفافة طويلة يحيط بها الفراغ/ الخواء (فقد تعمد المخرج أن تكون مائدة زجاجية شفافة حتى لا تستأثر بأي اهتمام، وكأنها غير موجودة إلا باعتبارها أداة لتشكيل الجلسة وتأكيد الخواء معا) يتجمع حولها أفراد أسرة أب لا اسم له، يشار له دوما ب«الباشا»، جعلت المشهد المسرحي نفسه معادلا بصريا لخواء العالم الذي تعيشه هذه الأسرة في عزلتها المعقّمة. وهو التعقيم الذي ينعكس على كل شيء، بما في ذلك العشاء التجريدي نفسه الذي تجسده مفردات رمزية أو استعارية: رأس عجل على صينية وقد أخرج لسانه للجمهور، أو ديك معلق في مشبك وكأنه يستعرض ريشه المنتوف، أو جلده المسلوخ، كسلخ المسرحية الاستعاري لجلود شخصياتها.
مشهد من العشاء المصري الأخير يكشف التجريد الطامح للتجسيد الاستعاري فيه
وتتكون الأسرة إلى جانب الأب غير المسمى والأم الغائبة عمدا والتي يشار لها دوما، ولكنها لا تظهر على المسرح أبدا، ليصبح لغيابها دلالات الحضور المقلوب، من ابن وبنت. أما الإبن فهو «حسن» الذي يقال أنه فنان، برغم افتقاره لأي حساسية فنية أو أي كياسة اجتماعية، وزوجته «فيفي» وابنهما «سيكا» وابنتهما «زوكي» لاحظ دلالات الأسماء الغريبة. وأما الإبنة الأصغر فهي «مايوش» وزوجها «ميدو» الحريص على أن ييبدو أمام اسرة زوجته، وكأنه في طريقه إلى الثراء القريب. وعلاوة على الأسرة هناك صديق للأب يشار له دوما بوظيفته السابقة «الجنرال»؛ وهناك أيضا خادمان يقدمان بإيقاع محسوب ما يفترض أنه العشاء، يذكران المشاهد المعتاد على المسرح بخادم هارولد بنتر الشهير. لكن المهم في المسرحية ليس وليمة العشاء الغائبة، أو الحاضرة حضورا رمزيا، وإنما هي تلك الوليمة الأكثر غرابة من أي وليمة حقيقية والتي تتكون من الأحاديث الكاشفة عن طبيعة العلاقات بين أفراد تلك الأسرة من ناحية، وعن طريقة تفكيرها ورؤيتها الغريبة للعالم من ناحية أخرى. فالإبن مهموم باستعراض مهاراته في استخدام موتوسيكله الغالي من ماركة «هارلي ديفيدسون» وما يحققه عليه من سرعات ومغامرات، وتاريخه مع اغتصاب الخادمات حينما كان مراهقا، دون أي مراعاة لمشاعر زوجته الحاضرة، والتي تصفعه حينما يقول أنه لايزال يحب ممارسة الاغتصاب وإجبار المرأة على الخضوع الجنسي له حتى الآن. أما زوجة الابن فإنها لا تقل غرابة عن زوجها، فهي ومعها الابنة مشغولتان دوما بالتسوّق، وهل هو أفضل في نيويورك أم لندن أم باريس. وإن استعرضت لنا زوجة الابن أيضا مشاكلها مع الخادمات: الأثيوبيات منهن ثم المصريات اللواتي تتحدث عنهم بترفع واحتقار وكأنهن من كوكب آخر، بعدما تعذر الحصول على الفيلبينيات.
مشهد آخر من العشاء الأخير
وإذا كان الابن «حسن أبوعلي» غارقا في فجاجاته، فإن زوج الابنة «ميدو» مشغول بتحسين صورته لدي عائلة زوجته، وتحقيق سلامه الاجتماعي مع أفرادها، أملا في أن يحقق لنفسه مؤطئ قدم على خريطة علاقات القوى بها، وبالتالي على خريطة الثراء الذي يتوق بشده إلى تحقيقه، ولكنه توق يتسم بالتشتت لأنه يضرب خبط عشواء في كل اتجاه، وإن كشف عن ميل واضح للتعلق بأذيال أي نجاح غربي علّه يحصل على بعض فتاته. وإذا كان حديث الابناء يثير الرثاء لانفصاله الغريب عن الواقع على عدة مستويات، فإن حديث الكبار، أي الأب والجنرال، يثير السخرية هو الآخر. فالأب مشغول وقد اشترى سيارةBMW جديدة ببيع سيارته المرسيدس القديمة بأكثر من ربع مليون جنيه؛ والجنرال يؤكد مكانته في علاقات القوى بالأسرة بتسهيل عملية البيع تلك، وبالحديث مع الأب عن الصراصير، وهم عنده بقية الشعب المصري، وخاصة من شارك منهم في الثورة، وعن المؤامرات التي تستهدف مصر من جميع الجهات، بما في ذلك أمريكا التي يتوق الجميع للتمرغ في تراب الخضوع لها. وهو حديث عن الواقع السياسي من منظور ندرك مدى معاداته للثورة التي اندلعت في مصر عام 2011، ومدى كراهيته لما شكلته من تهديد لوضع تلك الشريحة الطفيلية من أثرياء الفساد والتبعية ونهب المال العام التي يسعى هو الآخر للانتماء إليها.
إننا بإزاء مسرحية تضع لنا شريحة من حياة الطبقة الثرية التي تستأثر بقسم كبير من الثروة المصرية على خشبة المسرح فنكتشف مدى بلاهتها السياسية والاجتماعية على السواء. ونكتشف مدى غياب أي همّ وطني حقيقي لديها، أو أي رغبة في تنمية البلد والحرص على مستقبلها. وندرك عبر حديث الكبار فيها عن «البلد» وما يحاك لها من مؤامرات، وعن رؤيتها للشعب المصري، الذي حقق في 25 يناير 2011 أحد أنبل الثورات في التاريخ الإنساني، على أنه مجموعة من «الصراصير» أننا بإزاء عمل فني يؤكد بطريقته المراوغة شرعية الثورة على تلك الطبقة التافهة التي استأثرت بالثروة دون أي جدارة حقيقية بها، ودون أن تكون قادرة على أن تقدم شيئا للبلد الذي تعيش عالة على خيراته.