حتي نتكلم عن دور المثقف في الاصلاح الديمقراطي لا بد من ان نبين اولا ما هي الديمقراطية؟ بحسب تعريف الموسوعة البريطاني (Encyclopedia Britannica)، فان الديمقراطية تعني حكم الشعب، وهذا المصطلح يتضمن ثلاثة معان رئيسية: الاول، نوع من الحكومة يمارس فيه المواطنون جميعاً حق اتخاذ قرارات سياسية مباشرة، ويعمل من خلال اجراءات حكم الاغلبية، ويعرف عادة باسم: الديمقراطية المباشرة . والثاني، نوع من الحكومة يمارس فيه المواطنون الحق نفسه، ولكن ليس شخصياً، وانما من خلال ممثلين مختارين منهم ومسؤولين تجاههم، ويسمي الديمقراطية التمثيلية. والثالث، شكل من الحكومة، ديمقراطية تمثيلية عادة، تمارس فيه حقوق الاغلبية من خلال اطار من المحددات الدستورية التي تهدف الي ضمان تمتع جميع المواطنين بحقوق معينة فردية او جماعية، مثل حرية التعبير والدين، ويسمي الديمقراطية الليبرالية او الديمقراطية الدستورية. واذا ما اردنا تفصيلا اكثر لمعني الديمقراطية الدستورية، التي نتناولها في هذه المقالة، فانه مجموعة من القيم والوسائل والآليات، مثل: التعددية السياسية، واحترام الرأي الآخر، وتداول السلطة، وحريات التعبير والدين والتنظيم، والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن العرق او الدين او المذهب، وحرية الانتخابات، وغير ذلك من التفاصيل التي باتت معروفة لدينا.
هل الديموقراطية قيمة أم وسيلة؟
قد يثار تساؤل حول الديمقراطية، هل هي قيمة أم وسيلة؟ كثير من الناس يعتبرون انها وسيلة، وانا من الذين يعتبرون انها قيمة ووسيلة معاً؛ وهي قيمة بحد ذاتها اضافة الي انها وسيلة. وقد يُطرح السؤال: هل هي ديمقراطية سياسية فقط ام ديمقراطية سياسية واجتماعية؟ انا ممن يعتقدون انها يجب ان تكون ديمقراطية سياسية واجتماعية، وان الديمقراطية السياسية وحدها لا تكفي. ثم هناك التساؤل: هل الديمقراطية ضرورية للتغيير والاصلاح والتقدم؟ اقول نعم، ضرورية، ولكن بالتعبير التراثي هي شرط ضرورة وليست شرط كفاية، يعني ان الديمقراطية ضرورية للاصلاح، ولكن لا تكفي وحدها لتحقيق الاصلاح. وقد برزت في القرن الماضي دول حققت تغييراً وتقدماً مادياً من دون ديمقراطية ـ كألمانيا بعد الحرب العالمية الاولي، واليابان منذ ما قبل الحرب العالمية الاولي وحتي الحرب العالمية الثانية ـ ولكن لم تستطع اي منها ان تحافظ علي هذا الاصلاح والتقدم، وانتهت الي قيام احزاب نازية وفاشستية فيها، ودُمرت بلادها خلال الحرب العالمية الثانية، ومعها دُمر الكثير مما تحقق قبلها من تقدم من دون ديمقراطية حقيقية. وقد حققت الصين اعلي معدل نمو في العالم منذ عام 1988 ولا تزال، حيث يتراوح معدل النمو الاقتصادي فيها يراوح بين 9 و10 في المئة سنوياً، رغم انه لا يمكن القول ان نظامها السياسي ديمقراطي. وتجربة النمو في الصين تضطر الاقتصاديين الي اعادة النظر في ما يسمي بالدورة الاقتصادية والكساد ... الخ، التي من المفروض بحسب النظريات الاقتصادية في النظام الرأسمالي ان تحدث مرة كل عدة سنوات، لكنها لم تحدث في الصين خلال هذه الفترة، اي في السنوات العشرين الاخيرة.
شوري أم ديمقراطية؟ وهناك الكلام عن الديمقراطية والشوري، اهي شوري ام ديمقراطية؟ انا من الذين لا تعنيني المسميات والعناوين كثيراً، بقدر ما يهمني المحتوي، اي محتوي الديمقراطية. من المهم ان نتفق علي الزامية الشوري، كما يؤكد عدد من الاسلاميين (فهمي هويدي وآخرون)، وعلي ان الخلاف اصبح خلافاً شكلياً يتعلق ببعض التعابير. لقد بعث الدكتور حسن الترابي بمقالة الي المستقبل العربي عن الشوري والديمقراطية، عندما كان نائباً لرئيس الجمهورية (في عهد النميري) في السودان، وكان رأيه انه من الممكن ان نسميها ديمقراطية، ولا ضرورة للتمسك بتعبير الشورى. وتجدر الاشارة الي انه اُدخل السجن ونشرنا له المقالة وهو لا يزال خلف القضبان.
هل يولد الناس ديمقراطيين؟ الجواب لا. وعلي الرغم من ان بعض الامور يمكن ان تنتقل من خلال الجينات بالوراثة، فان الديمقراطية لا تنتقل من خلال الجينات وحدها. يمكن ان يولد الانسان في مجتمع ديمقراطي ولا يؤمن بالديمقراطية، وفي مجتمع آخر يمكن ان ينشأ الانسان ويصبح بحكم الثقافة والبيئة والمدرسة والبيت ... الخ، ديمقراطياً. ان الديمقراطية قناعات فكرية وممارسة. والديمقراطية في الغرب لم تنشأ مرة واحدة، بل تطورت، فسويسرا التي تذكر كنموذج، لم تُعطَ المرأة فيها حق التصويت الا في الخمسينيات. كما ان الديمقراطية الحالية في بريطانيا هي حصيلة تطورات كثيرة تمت خلال قرون وبعد عهد من البطش والقمع. وفي ما يتعلق بحال الديمقراطية في الوطن العربي، لا بد من التفريق بين حالها علي مستوي الانظمة العربية وحالها في المجتمعات العربية. فالانظمة العربية تفتقر عموماً الي مقومات وممارسات الديمقراطية الحقيقية، بدرجات مختلفة، وخاصة في ما يتعلق بالتعددية السياسية، وتداول السلطة، والحريات العامة، واحترام الرأي الآخر، ومدي حرية الانتخابات، ونشوء ما يسمي بـ الجمهوريات الوراثية وغير ذلك.
اما بالنسبة الي المجتمعات العربية، فعلي الرغم من ان الديمقراطية اصبحت مقبولة كشعار في السنوات الثلاثين الاخيرة، بصورة عامة، ومرغوبة بدرجات مختلفة، فانها لم تصبح بعد قيمة متأصلة لدي الفرد العربي، ولا حاجة نحس بها كما نحس بالحاجة الي المأكل، والملبس، والمسكن. واعتقد انها اصبحت حاجة مرغوبة ومطلباً، لكنها لم تصل بعد الي حد اعتبارها قيمة اصيلة عند الفرد العربي عموماًً. هناك استثناءات بالطبع. ولكن لو كانت قيمة اصيلة، لكان لدينا استعداد ـ علي الاقل عند الاغلبية، او علي الاقل عند فئة طليعية مثقفة او حتي غير مثقفة ـ للدفاع عن حقنا بالديمقراطية، كما نطالب بالاكل اذا داهمنا الجوع، او بالملبس او المسكن اذا لم يكن لدينا ملبس او مسكن. لم نصل الي هذه المرحلة بعد، لكنني اعتقد انه يجب ان لا ننسي اننا حققنا تقدماً كبيراً في هذا المجال في السنوات الثلاثين الاخيرة، وخاصة بعد تجربة الخمسينيات والستينيات. فنظراً لتعثر تجارب الديمقراطية العربية في النصف الاول من القرن العشرين، ساد اعتقاد لدي الكثيرين انه لا غضاضة من ان نتساهل في قضية الديمقراطية ونؤجلها مؤقتاً لكي نحقق التنمية والتغير الاجتماعي سريعاً، علي ان نعود الي الديمقراطية بعد ان نحقق التغيير الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد تبين للاسف عدم صحة هذا الافتراض لان الكثير من الانجازات الكبيرة التي تحققت في مصر مثلاً في عهد جمال عبد الناصر في غياب المؤسسات الديمقراطية، تلاشت فيما بعد بسبب غياب المؤسسات الديمقراطية للمحافظة عليها، اضافة الي عوامل اخرى. وهكذا، فان الثغرة الاساسية عندنا هي ان الديمقراطية لم تتحول بعد الي قيمة ندافع عنها ونطالب بها كما نطالب بحاجاتنا الاساسية الاخري.
من هو المثقف؟
والآن لا بد من ان نحدد من هو المثقف؟ ماذا نعني بالمثقف العربي؟ من هو؟ هل نعني جميع المثقفين بمن فيهم المثقف العادي والمثقف المبدع؟ وهل نقصد بالمثقف العربي المفكر العربي ؟ وهل يندرج في دائرة المثقف العربي ايضاً الخبير المتخصص والفني، ومتي ولماذا؟ ثم ماذا نقصد بنعت العربي في تعبير المثقف العربي ؟ هل هو ايماءة جغرافية مختصرة تعني المثقفين في الاقطار العربية المختلفة، ام انه تعبير عن اتجاه فكري عربي يُقصد به المثقفون ذوو الاتجاه العربي فقط .
يقول قسطنطين زريق: المثقف العربي هو الذي أوتي حظاً من الثقافة في بلد من البلدان العربية. ماذا نعني بالثقافة؟ نعني مساهمة او مشاركة في حقول الفكر او الادب او العلم بما في ذلك الاختصاص المهني. وتُكتسب اما عن طريق التعيلم الجامعي او العالي بشكل من اشكاله، واما عن طريق الاطلاع الشخصي والاكتساب الذاتي والممارسة في حقل من حقول الثقافة. طبعاً هذا التعريف تعريف عام، والمثقفون طبقات كما ذكرتم، فمنهم من يستطيع ان يدرك ويفهم ويشارك في الامور الفكرية او الفنية او الادبية، ولكن ليس بالضرورة ان يكون مبدعاً في هذه الحقول، وهناك المبدع وهناك المثقف العادي، واظن ان جميعهم يندرجون في مفهوم الثقافة التي نعالجها اليوم. ولا شك في انه يدخل في هذا التعريف العام ايضاً المتخصص الفني او المهني، ولكن لا بد من الاشارة هنا الي ان هذا التخصص يجب ان يكون مرفقاً باطلاع عام علي قضايا الفكر، او غيره في مجالات الثقافة، ومتابعاً لقضايا العصر وكيفية مجابهتها. ولا اظن اننا نقصر في هذا الحوار، وقد يخالفني الاخوة الزملاء، مفهومنا هنا علي المثقفين الملتزمين عربياً، وانما نعني بصورة عامة المثقفين في البلدان العربية، سواء اكان التزامهم قومياً عربياً او غير ذلك . انني اتبني تعريف المثقف الملتزم، لكن فهمي للمثقف الملتزم هو الذي يملك قدراً من العلم والمعرفة، ويُعني بشؤون مجتمعه، ويعمل من اجل التغيير نحو الافضل. هذا فهمي للمثقف، وبالتالي يمكن ان يكون احدهم استاذاً كبيراً في التاريخ القديم مثلاً، او في الفيزياء او الكيمياء او في الادب ... الخ، ولكنه لا يهتم بالتغيير في المجتمع ولا يلتزم بهذه القضية.
راهن الوضع العربي
اما فيما يتعلق بالوضع العربي العام ودور المثقف في ما انتهي اليه الوضع الحالي ودوره في الاصلاح الديمقراطي، فكما تعلمون هناك من يري ان للمثقفين الذين يمثلون النخبة دوراً اساسياً في قيادة المجتمع. وهناك ايضاً التحليل الاجتماعي الطبقي الذي لا يري هذا الدور للمثقفين، ولا يعتقد انهم يمثلون طبقة متجانسة، ويعتقد ان عملية التغيير لا بد من ان تتم عن طريق الطبقة العاملة، مع امكانية ان ينضم اليها فئة من المثقفين الثوريين الذين يمكن ان يثوروا علي مصالحهم، ويتعاونوا مع الطبقة العاملة في عملية التغيير. فاذا كان بعضنا او كلنا، وانا منهم، يري ان للمثقفين الذين يمثلون النخبة دوراً مهماً واساسياً في عملية التغيير في المجتمع، واذا كنا نعتقد ان الاوضاع العربية الحالية متردية، فما هو دور المثقفين العرب ومقدار مسؤوليتهم عن هذا التردي؟ وهل هناك حالياً انحسار في دور المثقف العربي في مجتمعه؟ واذا كان كذلك، فلماذا؟ اذا ما توخينا الايجاز والتركيز علي الوضع العربي العام في الوقت الحاضر، يمكن القول ان الوضع العربي الراهن يتسم بالصفات الرئيسية التالية:
أولاً: العجز، او انعدام القدرة او علي الاقل ضآلتها، وعدم القدرة علي مجابهة الاخطار الخارجية الاغتصابية المحيطة بالوطن العربي سواء كان مقصدها الاحتلال، او اقتطاع اجزاء من هذا الوطن، او التسلل او بسط النفوذ واستثمار الموارد والتحكم اقتصادياً وسياسياً في هذه المنطقة، اذ تبدو البلدان العربية في هذا الوقت عاجزة او قليلة القدرة علي الوقوف في وجه هذه الاخطار.
ثانيا: تبدو البلدان العربية ضئيلة القدرة علي تنمية ذاتها تنمية صحيحة علي الرغم من كل الخطط التي وضعتها وحاولت تنفيذها. والتنمية في البلدان العربية معقدة ومتخلفة ومشوهة، والبلدان العربية لا تجند الموارد المادية والبشرية التي تتمتع بها في سبيل مجتمع افضل.
ثالثاً: العجز او ضآلة القدرة علي التلاحم او علي الاقل التضامن بين الاقطار العربية او المجتمعات العربية، الا في حالات قليلة نادرة هي الاستثناء وليست القاعدة، وهذا التلاحم ضروري سواء من اجل مجابهة الاخطار الخارجية او لتعزيز التنمية من اجل مجتمع افضل.
رابعاً: اننا نلاحظ ان الاوضاع العربية عموماً قد تردت خلال الربع الاخير من القرن الماضي مقارنة بما كانت عليه في الخمسينيات والستينيات وحتي العام 1973. فالمنطقة العربية لحسن الحظ، ولسوء الحظ احياناً، موجودة في موقع استراتيجي مهم للعالم، والنفط مصدر مهم للطاقة في الغرب، وقد اتسعت الحاجة اليه في الشرق ايضاً، حيث الصين والهند واليابان وغيرها، كما ان هناك موضوع اسرائيل وامن اسرائيل.
يعزو بعضهم تردي الاوضاع الحرجة الحالية الي هذه العوامل. لكن ثمة سؤال: الم تكن هذه العوامل الثلاثة موجودة في الخمسينيات، والستينيات، وحتي العام 1973، وحرب اكتوبر؟ فلماذا اذاً ازدادت الاوضاع تردياً بعد ذلك؟ اعتقد ان احد الاسباب المهمة هو غياب المرجعية القومية. لقد كان عندنا مرجعية قومية في تلك الفترة، فعندما وقعت احداث ايلول / سبتمبر في الاردن عام 1970، دعا جمال عبد الناصر الي مؤتمر قمة لايجاد حل للازمة، وهكذا بالنسبة الي قضية الجزائر، وكل القضايا الاخري. اما بعد عبد الناصر، فقد انحسر دور مصر تدريجياً حتي اصبح يقتصر في الوقت الحاضر علي تسويق السياسة الامريكية في المنطقة، ولم يستطع اي نظام عربي او مجموعة من الانظمة ان تشكل مرجعية قومية تحل محل مصر. وفي ما بعد جاءت الحرب العراقية ـ الايرانية التي شجعتها امريكا وساهمت في تمويلها بعض الانظمة الخليجية، والتي تحاول الآن ان تتبرأ من الموضوع. ثم جاءت خطيئة اجتياح الكويت من قبل العراق عام 1990 اياً كانت التبريرات، وحرب 1991 التي قسمت النظام العربي.
وبغياب المرجعية، لم يحاول النظام العربي ايجاد حل عربي لمشكلة اجتياح الكويت، كما حصل في ازمة مماثلة عام 1961، عندما تعرضت الكويت لتهديد من قبل عبد الكريم قاسم، ولكن تم ايجاد حل عربي لتلك المشكلة في ذلك الوقت. ثم جاء احتلال العراق عام 2003، بتحريض وتسهيلات عربية. وتجدر الاشارة بموجب اتفاقية الدفاع العربي المشترك، الي ان اي اعتداء علي بلد عربي يعتبر اعتداء علي الكل، ويجب ان تساهم القوات العسكرية العربية في الدفاع عنه. وهذا يعني انه كان من المفترض ان تنتقل جيوش العرب الي العراق لتدافع عنه في وجه الاحتلال الامريكي ـ البريطاني لان الاحتلال غير قانوني.
اسباب تردي الوضع العربي
ان الاسباب الكامنة وراء هذه الاوضاع هي اولاً ان كل نظام عربي يهتم باموره دون اي اعتبار للمصالح القومية. ونتيجة لاحتلال العراق، وقبل ذلك حرب عام 1991 واجتياح الكويت، اصبحت امريكا عضواً فاعلاً ورئيسياً ـ ولو بصفة غير رسمية ـ في مؤسستين: الجامعة العربية، ومنظمة اوبك. هذا هو وضع الانظمة. خامساً: ثمة عامل آخر في تردي الاوضاع العربية وتعثر الاصلاح هو السلبية البادية لدي الجماهير العربية عموماً، مع بعض الاستثناءات القليلة. اعود بالذاكرة الي جيلي في الخمسينيات عندما خرجنا في تظاهرات في الجامعة احتجاجاً علي قيام الفرنسيين بتعذيب جميلة بو حيرد في الجزائر، اضافة الي الاحتجاج علي حرب السويس وغير السويس ... الخ، اما الآن ففلسطين محتلة، ولبنان محتل، والعراق محتل، بينما الجماهير، لا اقول ساكتة تماماً، ولكن في حالة من السبات (كوما)، يعني انها تصحو احياناً، كما حصل في التظاهرات المليونية في صنعاء، والرباط، والدار البيضاء، لكن لا تلبث هذه الجماهير ان تخمد وترجع الي حالة الصمت والغفوة. ما سبب هذه الحالة من السلبية لدي الجماهير؟
اعتقد ان هناك مجموعة اسباب تختلف من بلد عربي الي آخر، منها تدهور الاوضاع المعيشية لعموم الناس باستثناءات قليلة، وانشغال الناس بصورة اساسية بامورها المعيشية. ومنها عدم ثقة الجماهير في الشعارات سواء تلك التي ترفعها الانظمة ام الاحزاب ام المثقفون، فما عاد الناس يصدقون. لننظر مثلاً ما آل اليه المرحوم ياسر عرفات وهو قائد الثورة الفلسطينية. يضاف الي ذلك انتشار الفساد بدرجات مختلفة في كل الاقطار العربية. وهكذا فان الفرد العادي الذي يشاهد الفضائيات ومقابلات بعض المثقفين والقادة السياسيين لبعض الحكام العرب، يتساءل: لماذا يجري هؤلاء المثقفون والسياسيون الذين ينتقدون بعض الانظمة وحكامها، ومنها هذا النظام مثلاً الذي انا معترض عليه، مقابلات مع بعض اركان هذا النظام ويبالغون في الثناء عليهم؟ هل انا علي خطأ؟ هل موقفي خطأ؟ هل هم علي خطأ؟ ... الخ. وهكذا تتراكم الامور وتؤدي الي فقدان المصداقية، ثم الي السلبية لدي الجماهير، وتؤدي كذلك الي سيادة الاستبداد والفساد، فضلا عن تطور وسائل وتقنيات الامن والارهاب. وهناك من يعتقد ان ازمة الجماهير وتغييبها عن ساحات العمل السياسي في اوطانها، فيما لم يكن يتصور ان تغيب تجاه حدث عربي مصيري، يمكن وصفها بانها هيكلية، اي تتصل بصلب البنية الاجتماعية ـ السياسية. ولذلك لا يمكن التغلب عليها بسرعة، ومن المتوقع ان تمتد فترة طويلة. وأهمية هذا الاستنتاج ان هناك ادواراً معينة للمثقفين في الازمات، او فترات الانحسار، تختلف بطبيعتها عن ادوارهم في فترات الصمود القومي او الاجتماعي.
سادساً: من العوامل الاخري المؤدية لتردي الاوضاع العربية، وعجز المثقفين والجماهير عموماً عن احداث تغيير وتطوير في الاوضاع، تمكن السلطات القائمة في البلدان العربية من الحصول علي وسائل استمرار لم تكن متوفرة للسلطات العربية سابقاً، سواء تمت بالاتفاق بين سلطات مختلفة ايديولوجياً ومتفقة علي ضرورة الاستمرار معاً، او في تملك وسائل تجسس وقمع متقدمة. وهذا كله يجعل السلطات القائمة كأنها غير قابلة للزوال. والامران معاً محبطان لاكثرية الشعوب العربية التي تسعي الي التخلص من هذا الوضع. وهكذا يري بعضهم ان العنصر الاساسي في المشكلة هو ان السلطات العربية: فئوية ومطلقة؛ تبدو وكأنها صعبة الاستبدال اكثر مما كان ممكناً في الاربعينيات او الخمسينيات او الستينيات. وهذا مأزق اساسي امام المعارضة العربية اجمالاً بما فيها معارضة المثقفين، وهو يحد من دور الاخيرة.
دور المثقف
في ما يتعلق بدور المثقفين العرب من الناحية المبدئية والنظرية في معالجة الاوضاع العربية المتردية بما في ذلك الاصلاح الديمقراطي، فان المثقف العربي يساهم في تعزيز القدرات العربية، ويؤدي دوراً في تكوين الرؤية الصائبة، واكتساب المعرفة الصحيحة ونشرها، وفي التوعية لان الوعي الرصين هو اساس كل تقدم. وفي هذا الجانب، يقوم المثقف بدور اساسي ومهم من الناحية النظرية. وبالرجوع الي التاريخ ودراسة الحركات التغييرية او النهضات التي قامت في الغرب، او في المجتمعات المتقدمة عامة، فقد سبقها وصاحبها توعية فكرية من قبل المفكرين. بل ان الحركات التي تقوم بها طبقات غير طبقات المثقفين لا بد من ان تستنير وتسترشد بدعوات المثقفين ومواقفهم، وعندما ينتمي المثقفون الي هذه الحركات فان وظيفتهم تنصب علي اشاعة المزيد من التوعية وتسديد الرؤية، والمزيد من اكتساب المعرفة وتطبيقها، لان المعرفة الصحيحة هي اساس النهضة، وليس الشعارات، وهنا يكون دور المثقفين في رسم الغايات، واختيار الوسائل وتصنيف الاولويات، وفي النضال الدائم داخلياً في سبيل بلوغ هذه الغايات.
خلاصة القول ان علي المثقف العربي ان يسمو فوق المشاكل التي يعيشها، وهذا يتطلب الكثير من الاقدام والتضحية، وحتي المكابرة، لكي يتحرر فكرياً من المشاكل اليومية التي يعيشها ويعرف القضية ويعيد صياغتها ويبشر بها ويدعو اليها في اطار التوعية. ويري بعضهم الا نُعظم دور المثقف العربي الي اقصي الحدود، وان دوره بالاجمال في الوضع الراهن ثانوي للاسف، اي انه لا يتحمل مسؤولية اساسية عما حصل، لانه لم يقم بالدور المطلوب منه لكي يصبح طليعياً، بل ان هناك شرائح واسعة من الفئة الاجتماعية المثقفة، في معظم البلدان العربية ان لم يكن كلها، ادت دوراً كبيراً في اسباغ شرعية مصطنعة علي السلطات، اذ قامت بدور مستحدث عصري لما كان يقوم به شاعر البلاط. وان جزءاً كبيراً من المثقفين العرب حالياً هم شعراء بلاط، اي ان السلطات عهدت اليهم بدور الوسيط الدعوي. وقد ادوا هذا الدور علي اكمل وجه، واحياناً علي حساب زملائهم واصدقائهم، وقاموا بتشريع القمع والقهر ... الخ، وفي بعض الاحيان بالمشاركة فيه. وان هؤلاء ساهموا في اسباغ شرعية غير مبررة علي هذه السلطات، مع ان مساهمتهم كانت ثانوية في قيام هذه السلطات.
كما يري بعضهم ان دور فئة المثقفين، كفئة اجتماعية، في عملية التغيير المجتمعي دور ثانوي، ولكنه لا يعني بالضرورة استبعاد ان يكون حاسماً تحت شروط معينة، فهو مثل شعلة النار الضئيلة التي تشعل فتيل اصبع الديناميت ذاته، فاذا توفرت الشعلة يمكن ان ينفجر اصبع الديناميت، لكن اصبع الديناميت هو الذي ينفجر في النهاية. اما اذا كان الديناميت فاسداً، فلن يفيد توفر الشعلة. لذا يمكن ان يؤدي المثقفون دور هذه الشعلة، مع وجود فارق بين المشبه والمشبه به بالطبع لان التغيير المجتمعي ليس مجرد انفجار.
ويري البعض الآخر انه في مناقشة انحسار دور المثقفين، يجب التمييز، سواء من حيث الدور الحالي او التطلع المستقبلي، بين شرائح مختلفة داخل فئة المثقفين، اذ تتباين ادوار كل منها بحسب مرحلة التطور الاجتماعي. هناك شريحة من المثقفين ستعمل باخلاص وتفانٍ لمصلحة المشروع النهضوي العربي، وهذه هي شريحة الطليعة. لكن يجب الا ننسي ان هناك شريحة اخري ستكون محايدة، كما ان هناك شريحة ثالثة ستكون ضد هذا المشروع. واذا كنا نعني بانحسار دور المثقفين في مرحلة ما قلة اسهامهم في انضاج المشروع النهضوي العربي، فقد يؤشر ذلك علي تزايد دور الشريحتين الثانية والثالثة من فئة المثقفين.
الصعاب الداخلية والخارجية
اما عن الصعاب الداخلية والخارجية التي تجابه المثقف العربي وتحول دون قيامه بالدور المطلوب، فلا بد من ان نحاول تشخيص الاسباب الداخلية والخارجية لانحسار دور المثقف العربي، وما هي الاسباب الذاتية التي تتعلق بالمثقف العربي نفسه، وما هي الاسباب الخارجية التي تجعل دور المثقف سلبياً؟ ونحن هنا نتكلم عن التيار العام الغالب بين المثقفين العرب مع التسليم بان هناك استثناء او قلة من المثقفين العرب الذين لا ينطبق عليهم هذا التشخيص. ويمكن اجمال هذه الصعاب في ما يلي:
1 ـ هناك الاوضاع الخارجية لمحنة المثقف العربي، وهي تشمل: الاوضاع العربية، والفئات الحاكمة، وتغليب المشاكل علي القضايا، وانعدام الحريات، واضطرار المثقف العربي الي الاهتمام بالمشاكل اليومية في اجواء التضخم المادي والقيم الاستهلاكية. وهذه كلها تقيّد فاعلية المثقف، لكن ثمة سؤال: هل يعاني المثقف العربي ـ مع اخذ كل هذه العوامل الخارجية في الاعتبار ـ من محنة داخلية ذاتية؟ وهل يقوم بمهمته؟ وهل يتصدي للاحباطات التي ترهقه وترهق مجتمعه تصدّياً صحيحاً؟ انّ هذه المحنة الداخلية لا تفرض عليه ان يكون مستكيناً لما هو عليه اليوم، والا نصبح عندئذٍ في محنة حقيقية لا خلاص منها.
2 ـ العلاقة بالسلطة، والارتباط والتداعي امام السلطة، وقد اشرنا الي ذلك بتفصيل سابقاً.
3 ـ التغريب او الارتباط بالغرب الرأسمالي سواء أكان فكراً او قيماً وسلوكاً، وينعكس ذلك عضوياً في تغليب الرفاه الخاص علي العام، والارتباط بالسلطة او التداعي امامها. وهذا الارتباط بالغرب الرأسمالي ارتباط متسلسل، يبدأ من الفكر، مروراً بالقيم، وينتهي بانحطاط السلوك، ويحدّد الدور المجتمعي للفرد. ويكاد الارتباط بالغرب الرأسمالي، فكراً وقيماً وسلوكاً، يجعل من المثقف العربي مستشرقاً.
ويبدو رد فعل المثقف العربي تجاه هذه العوامل الخارجية ضعيفاً ومتراخياً، ويغلب دوره التأثري علي دوره التأثيري. بل انّ دوره التأثيري مضلّ ومضلَّل في احيان كثيرة، اذ اصبح مثلاً عوناً للسلطة الحاكمة بدلاً من ان يكون ناقداً لها. ان المحنة الداخلية للمثقف العربي تدور حول نقطة اساسية: ان للثقافة معني وقيماً خاصة، فهل يتجسد هذا المعني وهذه القيم في تفكير المثقف العربي ام لا؟ اذا لم تتجسد، فانّه يتخلي عن دوره الثقافي والتثقيفي، وفي هذه الحالة يمكن ان يُدعي مثقفاً، ولكنه لا يقوم بالدور الثقافي الحقيقي لانه لا يمثل معاني الثقافة وقيمها.
4 ـ تدني المستوي الفكري والعلمي والمهني لدي فئة كبيرة من المثقفين في الوطن العربي. اذا كان احد الادوار الاساسية للمثقفين هو انتاج المعرفة الصحيحة، فقد اصبحت فئة المثقفين العرب، في تقدير احد المفكرين، قاصرة علي الاضافة العلمية الجادة في دراسة مجتمعاتها. ومن مظاهر ذلك قلة الاجادة في العمل العلمي، والتنكّب عن التدريب الكفء للاجيال التالية. بعبارة اخري، ان ازمة المثقفين لا تقف فقط عند التخلي عن الدور الاجتماعي الملتزم بالتنمية والوحدة والتحرر، وانما تصل الي تخلف الانجاز المهني والعلمي بالمعني الضيق.
5 ـ ومن اسباب انحسار دور المثقف العربي ومظاهره ذلك المرتبط اجمالاً بانحسار وجود المجتمع المدني العربي الراهن علي حساب المجتمع المدني الذي تفرضه السلطات القائمة. فقد تم استقطاب كل المجتمع بما فيه من مؤسسات دينية وثقافية علي المستوي الفردي والجماعي لمصلحة فئة متسلطة، وهذا الامر اثّر في المثقفين، كما اثّر في غيرهم.
6 ـ ومن الاسباب الداخلية التي ساهمت في انحسار دور المثقفين العرب عموماً: عدم القطيعة مع سلم القيم السائد في المجتمع، مثل سلم القيم التجاري المركنتيلي الذي يطغي علي السياسة، وانعدام الصدق لدي بعض المثقفين. فالمثقف العربي يكتب احياناً لمجتمعه المحلي في بلد معين، وللمجلات والصحف العربية الاجمالية، وللمجتمع الخارجي بالانكليزية او الفرنسية، كتابات مختلفة وآراء مختلفة في الموضوع نفسه، وهي صورة من عدم الصدق المتمادي اكثر فاكثر. ومنها ايضاً انعدام الشجاعة مثل انعدام التسمية، اذ يتزايد حديث المثقف العربي عن امور لا يتجرأ علي تسميتها بالاسم، مثل السلطات والبلدان والاشخاص. وكذلك موضوع الرقابة الذاتية، حيث يقول سيغموند فرويد: ان رقابة تمارس لفترة ما علي فرد تتحول مع الوقت الي رقابة ذاتية، وتنتفي الحاجة معها بعد مرور فترة من الزمن الي الرقيب الخارجي لان استيعاب النفس البشرية لهذه الرقابة يصبح كاملاً.
7 ـ انعدام الاستقلال الاقتصادي عن السلطة الحاكمة لدي غالبية المثقفين، الامر الذي يساهم في زيادة اعتمادهم علي السلطة وصعوبة الخروج عليها والدعوة الي التغيير والاصلاح.
وعندما نتساءل لماذا انحسر دور المثقف في الاصلاح والديمقراطية، نستذكر التجارب السابقة في العديد من الاقطار العربية. فالذين عاشوا او قرأوا عن دور المثقفين الملتزمين، وعن النخب العربية المثقفة في فترة التحرر من الاستعمار، اي فترة الاستقلال، لاحظوا انهم كانوا اجرأ، واصلب، وكانوا يجمعون علي قضية التحرر من الاستعمار، والاستقلال. اما الآن، فلماذا يبدو وضع المثقفين الملتزمين ضعيفاً امام الانظمة؟ احد العوامل هو موضوع الخلفية الاجتماعية او الاقتصادية للمثقفين العرب وفقدانهم الاستقلالية الاقتصادية عن السلطة. فقد كان المثقفون علي العموم في مرحلة الاستقلال او التحرر من فئات اجتماعية ميسورة، وكان بامكانهم ان يناضلوا ويعارضوا الحكومات. لذا مكّنهم الاستقلال الاقتصادي من ان يصمدوا، ويقاوموا، ويناضلوا. ولكن بعد انتشار التعليم في البلدان العربية، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، تمكنت طبقات وسطي صغيرة وفقيرة من التعلم، وذهب قسم منهم الي الخارج للتحصيل العلمي. وعندما رجع هؤلاء انشغل قسم منهم في العمل العام، ولكن لم تتوافر لهم استقلالية اقتصادية. وفي الوقت نفسه، توسع دور الدولة الاقتصادي عموماً، وتوسع القطاع العام مع اشراف للدولة عليه، الامر الذي مكنها من ممارسة ضغوطها علي تشغيل المثقفين في القطاع العام، وحتي في الجامعات والمؤسسات العلمية. وقد توسّعت وسائل القمع والارهاب لدي السلطات الحاكمة، بل انّها توسّلت التقانة الحديثة حتي اصبح الامن والمراقبة من اكثر المجالات تقدّماً من الناحية التقنية في المجتمع. وهكذا، فان المثقف الذي يريد ان يكون ملتزماً يصبح الي حدّ ما مشلولاً بسبب فقدان الاستقلال الاقتصادي، وهذا ما ادي الي ضعف دور المثقفين والتحاق قسم منهم بالسلطة، فأخذوا يبرّرون اعمالها..
8 ـ ثمة عامل آخر ساهم في ضعف دور المثقفين هو تأثير الموجة الاستهلاكية التي شملت البلدان العربية عموماً، اذ كان راتب الاستاذ في الجامعة يكفيه سابقاً لكي يحيا حياة كريمة. وكان لديه متّسع من الوقت، حتي لو كان يلقي ثماني او عشر محاضرات في الاسبوع، ليكتب ويساهم في العملية الاصلاحية. لكن في ظل النمط الاستهلاكي الجديد لم يعد دخل المثقف كافياً لتوفير متطلبات هذه الفئة، واصبح لزاماً عليه ان يقوم باكثر من عمل كأن يكتب في عدة صحف مثلا. وهكذا لم يبق للمثقّف مجال للمساهمة في العمل العام بسبب اضطراره الي العمل في النهار وبعض الليل. واذا تمكن شخصياً من الحفاظ علي نمط استهلاكه السابق، فانّ الضغوط الخارجية ستبقي في ازدياد..
9 ـ التبدل في نسق القيم وتحوله في كثير من البلدان العربية من نسق قيم مديني الي نسق قيم ريفي. وهنا لا اريد التعميم، ولكن اريد ان اتكلم عن المشرق العربي بشكل اساسي. كانت للنخب الملتزمة في مرحلة الاستقلال قيمها المدينية، ولكن نتيجة التغيرات التي حدثت ـ مثل الانقلابات العسكرية وغير العسكرية، والقيم الريفية للمؤسسة العسكرية عموماً بعد الحرب العالمية الثانية، والهجرة من الريف الي المدن ـ برزت عملية ترييف نسق القيم في كثير من المدن وتحول نسق القيم الي نسق ريفي او خليط من هذا وذاك. وهكذا دخلت معايير اخري في هذا المجال مثل الولاء للقبيلة او الطائفة بدلاً من الولاء للوطن، ومحاباة الاقارب في اختيار المسؤولين بدلاً من ان تكون الكفاءة اساس الاختيار، وغيرها من القيم الريفية مثل العقوبات الجماعية، والثأر وغياب القانون وغيرها.
وسائل تعظيم دور المثقف العربي
بعد ان تناولنا المقصود بالديمقراطية، وبالمثقف العربي، وسمات الوضع العربي الحالي، والعقبات التي تعترض دور المثقف العربي، ننتقل الي مناقشة الوسائل التي يمكن ان تساعد في تعظيم دول المثقف العربي في الاصلاح عموماً وفي الاصلاح الديمقراطي بشكل خاص، ويمكن اجمالها في ما يلي:
1 ـ الاهتمام بالمجتمع المدني، وتحقيق استقلاليته عن السلطة ما امكن ذلك، وانخراط المثقفين الملتزمين في مؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة. ولا يكفي قيام مؤسسات المجتمع المدني واستقلاليتها، فلا بد من ان يمارس المثقفون العرب الديمقراطية الحقيقية داخل هذه المؤسسات، ويجعلوا من ممارساتهم فيها قدوة لمجتمعاتهم بشكل عام.
2 ـ الاهتمام بالمؤسسة الجامعية، فهي تضم اعداداً كبيرة من المثقفين العرب، ويفترض ان تكون احدي طلائع المجتمع، وان تولد غيرها من الطلائع. ان الجامعة هي التي يفترض ان تزوّد المجتمع بفريق كبير من المثقفين وطلائعهم. واذا نظرنا الي دور الجامعة التاريخي في الدول المتقدمة، وجدنا انه كان دوراً رائداً وفعالاً في النهضات المختلفة التي شهدتها. اما الجامعات العربية فانّها تمرّ في محنة لاسباب خارجية وداخلية. ومن واجب المثقف العربي حماية الجامعة او المشاركة في حمايتها من تدخل السلطات وغيره من المؤثرات السلبية. وهذا يعني ان يكون المثقف مناضلاً، لا مفكراً فحسب. وهذا النضال قد يذهب به الي السجن، او النفي، او التشريد، او غير ذلك. فهل ناضل الجامعيون العرب نضالاً كافياً في سبيل صيانة هذا المعبد الفكري وكرامته؟ اضافة الي ذلك، يجب ان يكون هذا النضال الخارجي مدعوماً بنضال داخلي، اي ان الجامعي يجب ان يتميز عن غيره من المواطنين بنوع القيم التي يسعي اليها، ويتميز بها، ونوع السلوك المفروض عليه.
3 ـ تشجيع قيام رابطة بين المثقفين العرب، علي المستويات المهنية والعامة، اي نقل المثقفين من مجموعة افراد الي فئة اجتماعية فاعلة، وحماية مؤسساتهم ورفع مستواها، وانشاء مؤسسات جديدة ترتبط بدور طليعة المثقفين.
4 ـ اهتمام المثقفين بانتاج المعرفة، وهذا يقتضي من المثقفين البحث المعمق والملتزم بقضية التقدم والنهضة.
5 ـ الرؤية الصائبة، وهي الهادي الي الطريق، ويتطلب التوصل اليها التصدّي لكثير من الاشكاليات الفكرية المطروحة حالياً، مثل العلاقة بين المشروع النهضوي العربي والتراث في اطار التواصل مع الجماهير، والقضايا التي تتعلق بشكل المشاركة الجماهيرية وغيرها.
6 ـ ان يعمل المثقفون، كافراد وكفئة اجتماعية، علي نشر الوعي بنتائج البحث والعمل الفكري، اي بالمعرفة والرؤية الصائبة، وباساليب فعالة تصل الي قطاعات واسعة من الشعب العربي.
7 ـ العمل لبلورة طليعة المثقفين، وهذا يتطلب عملاً ملتزماً من الافراد والمؤسسات، ويمكن ان يؤدي الي نشوء مؤسسات طليعة المثقفين.
8 ـ الاهتمام بمسألة من هو المُخاطَب الاساسي للمثقف، ولمن يتوجه المثقف بخطابه؟ ومن هو مُخاطَب المثقف؟ وهل السلطة هي المخاطَب الاساسي للمثقف ام الناس؟ ان مُخاطَبه هو في الاساس الناس وليس السلطة. وعلي المثقفين اكثر من اي فئة اجتماعية اخري تطوير الروح التقدمية في المجتمع، ويجب ان يكونوا في طليعة من لا يقبل، ومن يدرس ثم يصل الي نتائج تقدمية عميقة تجاه الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والسياسية والعسكرية والحضارية. علي المثقف ان يتصرف كانسان حر يخاطب انساناً حراً آخر، وبشراً احراراً.
9 ـ علي المثقفين ان يكونوا في مجالاتهم القدوة والمثال، وان يكون المثقف في طليعة المُنحنين للروح الاخلاقية والمسلكية.
10 ـ ضرورة انشاء المؤسسات الثقافية، وعلي رأسها الجامعات والمؤسسات الفكرية والصحافية وما شابه، وحماية استقلاليتها ازاء تعديات السلطة القائمة.
11 ـ ضرورة احياء الوظيفة الاستشرافية للمثقف، وان يكون مستنهضاً للهمم، وان يكون دوره مستمراً في اظهار الامور الراهنة وكأنها امور ظرفية عابرة، وان يكون لديه القدرة علي استشراف المستقبل، اي ان يكون لديه قدر من اعمال الخيال لتصوّر ظروف اخري، وهذا ما ينقص عامة الناس.
12 ـ بذل الجهود لتوعية المثقفين انفسهم الي حقيقة مسؤوليتهم ودورهم في المجتمع.
13 ـ الارتباط بالجماهير، الاساس الوحيد الذي يمكن ان يقوم عليه موقف قوي للمثقف تجاه السلطة هو الارتباط بالجماهير. ولهذا الارتباط مستويات متباينة القوة، اضعفها التوحد الفكري مع مصالح الجماهير الواسعة.
ما دور المثقفين في التغيير والاصلاح؟
يبقي هناك سؤال هام: ما دور المثقفين في التغيير والاصلاح السياسي؟ او ما العمل؟ في السابق كان التغيير يتمّ بالثورة الشعبية، او الانقلاب العسكري بمختلف اشكاله. ربما تكون ثورة ايران العام 1979 آخر ثورة شعبية. اما اندونيسيا فقد حدثت فيها ثورة شعبية، لكن في رأيي ما كانت الثورة الشعبية ممكنة لولا دور امريكا في تحييد الجيش. ولذلك لم يعد يمكن ـ في رأيي ـ ان تقوم ثورات شعبية توصلنا الي الديمقراطية. اما بالنسبة الي الانقلابات العسكرية، فقد فشلت في احداث التغيير الصحيح، كما انّ الانظمة تعلمت كيف تحتوي الثورات الشعبية والمؤسسة العسكرية في امريكا الجنوبية، او امريكا اللاتينية، تحولت الانظمة في عشرين سنة من انظمة تفرضها الدبابة الي انظمة يحدّدها صندوق الاقتراع. كيف حصل هذا؟ الانظمة وجدت من جهة انها لا تستطيع القضاء علي القوي الوطنية والمعارضة، والقوي الوطنية والمعارضة وجدت انها لا تستطيع ان تزيح الانظمة، فجرت المحاولات والمفاوضات للوصول الي صفقة للانتقال خلال فترة معينة الي المرحلة الديمقراطية. وفي جنوب افريقيا ايضاً تمت صفقة بين الرئيس نلسون مانديلا والرئيس دي كليرك من دون اي تنازل عن الثوابت الوطنية.
بالنسبة الي ما العمل؟، انا اعتقد انّ ايّ تيار سياسي في الوطن العربي لا يستطيع وحده ان يفرض التغيير، فالوضع الذي نمر به عربياً هو كالتالي: اما ان الانظمة لا تريد ان تتحاور مع المعارضة والقوي الوطنية، او ان القوي الوطنية لا تريد ان تتحاور مع الانظمة القائمة، او ان الاثنين لا يريدان الحوار بينهما. طبعاً هناك استثناءات، في المغرب مثلا، وكذلك حصل استثناء في الاردن وفي البحرين، لكن ما لبث ان انتكس. انا اعتقد انه لا يوجد تيار سياسي في الوطن العربي يستطيع ان يحقق التغيير الديمقراطي بمفرده: لا التيار القومي العربي، ولا التيار الاسلامي، ولا التيار اليساري، ولا التيار الليبرالي الوطني. ولذلك اعتقد انه اذا اردنا فعلاً ان ننتقل الي مرحلة الاصلاح والديمقراطية، لا بد من قيام كتلة تاريخية من هذه التيارات الاربعة، علي ان تكون مؤمنة بالديمقراطية، والتركيز علي ما يجمع بينها من خلال برنامج محدد، لا علي ما يفرق بينها بعد 20 او 30 سنة. وقد طرحت في عدد شباط/ فبراير 2007 من المستقبل العربي دراسة حول الكتلة التاريخية، واشرت الي تجارب عديدة، وتحدثت عن البرنامج الذي يمكن ان يكون اساساً للاتفاق. هذه الكتلة التاريخية اذا اتفقت علي قضايا الديمقراطية وتداول السلطة وكل الاشياء والثوابت الاساسية للديمقراطية، تستطيع ان تضغط علي الانظمة وتحقق مكاسب وتنازلات، وتحصل علي الحريات ...الخ تدريجياً. وهذا ايضاً قد يحقق عملاً تراكمياً، واصلاحاً، وتغييراً تراكمياً يؤدي الي تغييرات نوعية. والآن ضمن هذا الوضع، وضمن هذه الكتلة التاريخية، ما هو دور المثقف في الوقت الحاضر؟
المثقف العربي ـ وانا اتكلم عن المثقف الملتزم ـ لم تعد تفعّل دوره الطروحات الايديولوجية التي طرحت موضوع العمال والفلاحين وغيرهم كأساس للتغيير. فهذه الامور يمكن ان تساعد كما اثبت الزمن، لكنها غير كافية لاحداث التغييرات المطلوبة. ولهذا اعتقد انه لا بد مما سماه الدكتور عبد العزيز المقالح في كلمته الافتتاحية امام الندوة: المثقف القدوة ـ اي ان هناك حاجة الي المثقف القدوة. وحول شروط هذا الدور للمثقف ـ القدوة، اعتقد ان الشرط الاول ـ لا سيما بالنسبة الي غير المنتمين الي تيارات سياسية ـ هو الابتعاد عن السلطة والتخلي عن المصالح الشخصية، ما يؤدي الي ان تكون آراء ومقترحات هذا المثقف المبتعد عن السلطة، اكثر موضوعية، لانه لن تكون لديه مصالح شخصية. وهذا الامر يجعل الحاكم اقل خوفاً منه ومطمئناً اليه اكثر. وهو يُشعر المثقف ايضا بثقة اكبر بالنفس وبالقدرة علي الحسم في المواقف.
نشير هنا في هذه الاوضاع الراهنة، الي انّ الموقف المثالي يمنح هذا المثقف الملتزم الحق في ان يطمح الي اكتساب احترام الحاكم ومحبته، لكن يكاد ذلك يكون مستحيلاً علي المستوي العربي. وكثيراً ما يكون الخيار بين الاحترام او المحبة، وفي رأيي انه عندما يتعين الاختيار بين احدهما، فلا بد من اختيار الاحترام وخسارة المحبة. وفي الظروف العربية الراهنة ايضاً، يجب ألاّ يتوقع المثقف الملتزم من الناس جزاءً ولا شكوراً، بل ان المعيار الرئيسي هو ان يكون ضميره مرتاحاً. ولعلّ هذا اقصي ما يستطيع ان يحصل عليه في مثل هذه الظروف العربية الراهنة. اما بالنسبة الي المثقفين الملتزمين المنتمين سياسياً، فانا اعتقد بوجوب ان يقوموا بممارسة الديمقراطية داخل منظماتهم ومع الآخرين، ولكن ليس بأي ثمن، وليس علي حساب القيم والثوابت الرئيسية.
والامر الآخر الذي ينطبق في وقت واحد علي المثقفين المستقلين والمنتمين سياسياً، هو انه يجب الاعتماد علي التغيير من الداخل مهما كانت الصعوبات، وعدم الاستعانة بالقوي الخارجية الاجنبية مهما بلغت وطأة النظام الذي يعيشون في ظله وقسوته. الصورة ليست وردية ولكن اذا توافرت الارادة يمكن الوصول الي الغاية. وانا اعتقد انّ الطريق يمكن ان يكون اسلم واسهل بقدر التزام نخبة المثقفين في التيارات الرئيسية بهذه الكتلة التاريخية ومساهمتها في قيامها. ولا بدّ من القول انه مهما اشتد ظلام الوضع الحالي، فانّ هناك ضوءاً في نهاية النفق، واعتقد، من دون اي رغبات لا تستند الي واقع، بان الضوء سيأتي من العراق. وهناك امل في ان نشهد في وقت قريب انسحاباً امريكياً من العراق، وزلزالاً عربياً، ومستقبلاً افضل للامة العربية.