عندما نتتبع خطوات فكر الفيلسوف الفرنسي، الذي يعتبر في جوهره العميق نقداً جذرياً لأسس الثقافة الغربية منذ أفلاطون، نكتشف مدى شغفه بمحاولة إعادة بناء هذه الثقافة على أساس جديد. فقد انتبه بحدس فلسفي منقطع النظير، وبجهد فكري قد يُحسد عليه، مدى توغل النظرية الفرويدية، التي تعتبر بحق المنعرج الحاسم في التفكير الغربي، في "المركزية القضيبية" Phallocentrisme، على الرغم من ادعاء فرويد بأنه بناها على أساس عقلي محض. وعلى الرغم من أن دريدا يعترف لفرود بفضله عليه، وبالخصوص فيما يخص تحرره من الفينومينولوجيا الهوسيرلية، فإنه لم يتردد في تعرية تمسك فرويد بـ"المركزية العقلية"، لأنه لم ينجح، على الرغم من أدوات وتقنيات التحليل التي كان يملكها، من تجاوز "المركزية الصوتية"، وبالتالي "المركزية القضيبية". هناك إقرار واضح المعالم لدريدا، بأن مجموع التراث الغربي مؤسس على مرجعية وبديهية "القضيب" منذ أفلاطون. فالسعادة عند هذا الأخير هي إدراك التطابق القبلي بين العالم واللوغوس. من هنا يبني مسلمة الأصل المثالي في فلسفته وتفضيله، بل دفاعه عن الحقيقة مقابل الخطأ، والكلام مقابل التدوين، والصوت مقابل الحرف. ونجد تأثير هذا التنظير الأفلاطوني كخيط ناظم للفكر الغربي إلى ما بعد فروم. وهو تفكير يعزز "المركزية القضيبية"، بل يجعل منها أصل ومصدر الفكر الغربي. وهذا بالضبط ما رفضه ديريدا وحاول تقديم بديل له، لأنه في نظره يبني تصورا أبيسيا للعالم، يكون فيه الرجل هو رمز الإيجاب والمرأة رمز السلب. من هذا المنطلق، لا يكون "اللوغوس" إلا رمزا "للقضيب"، للرجل، لله.أو ما سماه بالخير الشامل. فالأب هو الذي يتحكم في الكلام ولا يمكن بناء أي معنى إلا بالرجوع إليه. وهذا بالضبط ما حاول ديريدا هدمه وتقديم بديل عنه، يعني إحلال النص عوض الكلام، أي هدم فكرة الأصل الأول، المرجع الأصلي، لأن هناك حسب دريدا إمكانيات متعددة للأصل، يعني في آخر المطاف تأويلات ورموز كثيرة لفهم وشرح الأصل.
انتبه ديريدا إذن إلى أن نظرية الليبيدو الفرويدية منغمسة في المنطق الأبيسي/ الذكوري، تماما كما انتبه إريك فروم لذلك قبله، ومن تم يطرح مشكل العقدة الأديبية بكل ثقله. اختارت النظرية الفرويدية حل هذا المشكل بقتل الأب، يعني التخلص من جبروت سلطته، في حين اقترح دريدا تجاوز البنوَّة la filiation، لأن هذا التجاوز هو الضمانة الوحيدة للإختلاف والمكسر العتيد لوهم الأصل، أي لأصل الثقافة الغربية، المؤسسة على الأبيسية في أبشع مظاهرها.
إذا تمعنا قصيدة: "هنا طاح اللويس" من ديوان "أرض الفراشات السوداء" للشاعرة المغربية ليلى بارع، على ضوء فلسفة دريدا، فبالإمكان لمس تطرقها إلى أحد أسس العقلية الأبيسية في الثقافة الشعبية العربية عامة، والمغربية بالخصوص. فموضوع "ليلة الدخلة" هو في العمق تعبير صارخ على تمسك الرجل العربي بالإرث الأفلاطوني لفهم العلاقة بين الرجل والمرأة، وبالتالي تحطيم المرأة في حياتها الحميمية، أي تدجينها بنوع من الإغتصاب الجماعي الفيزيقي والرمزي، تشهد عليه كل القبيلة، بل ترحب به وتشجع عليه. إذا افترضنا أن المرأة المتزوجة تقوم "ليلة الدخلة" بأول تجربة حميمية لها، فيمكن تصور الألم النفسي والجسدي الذي تتعرض له، نتيجة عقلية متخلفة، سابحة إلى النخاع الشوكي في أتون جهلها بأقدس حق للمرأة في حقها في جسمها. وقد صورت الشاعرة هذه اللحظة تصويرا شعريا أصيلا عندما قالت:
"سقطت هي كنجمة على جبل أسود/ [...] و حين رن صداها/ كخلخال عاهرة الحي/ [...] هنا حين مضينا غنت شجرة اللوز ساخرة:."اوهنا طاح اللويز اوهنا نشطحو عليه".
تستهزء شجرة اللوز، رمز الأمل، لأنها أول شجرة تزهر في الطبيعة، من العقلية الأبيسية وكأن لسان حالها يقول بأن المعاملة الحيوانية للمرأة "ليلة الدخلة"، وسلبها كرامتها الإنسانية بتواطئ الجميع، تحت ذريعة لا أساس لها، لا أخلاقيا ولا دينيا، هي عربون كون لا حب يمكن أن يقوم بين المرأة والرجل.
تطالب العقلية الشعبية المرأة أن تحب من اغتصبها علنا وبتزكية من جميع سجيني الأبيسية، آخذة في عين الإعتبار المصالح النرجسة للرجل، وضاربة عرض الحائط حق المرأة في العيش الكريم. من هنا، يمكن اعتبار القصيدة نوعا من لحظة وعي كون أهزوجة: "هنا طاح اللويز.." هي لحظة هدم علاقة يُراد منها تلحيم شخصين، وهو تلحيم مفروض بالقوة على جانب منهما على حساب الجانب الآخر: "هنا اقتسمنا القطعة القديمة/ نصف لي ونصف لك/ وبالتساوي أزلنا الأثر الذي خلفه رقصنا الأعرج/ على الطريق".
إذا كانت الثقافة الغربية مؤسسة حسب ديريدا على العقلية الذكورية، فإن تأثير هذه العقلية ملموس، من خلال القصيدة، في الثقافة الشفاهية المغربية. وبهذا تعتبر هده القصيدة نقدا مباشرا لسلوك جماعي متخلف، غير مقبول، لأنه يحمل علاقة حميمية بين شخصين من مستواها الفردي الخاص، إلى مستوى جماعي/ عمومي، ليرقص الجميع كقبيلة بدائية على قطعة قماش، ملطخة بدم الجريمة المشتركة ضد المرأة.
(النمسا)