يرى الناقد أن الفلسفات المجردة تعتبر "الذوق" ملكة فطرية قبليّة، بينما هي جسب رؤية بورديو مرتبطة بالوسط الاجتماعي، وبالموقع الذي يحتله الفرد فيه، كما أن التمييز في الأذواق عملية تتطلب جهدا كبيرا في محاولة تحديد المعايير والميكانيزمات المتاحة التي تحدد ذوق الفرد.

مفهوم الذوق عند بيير بورديو

إبـراهيم السهلي

إذا كانت الفلسفات المجردة تعتبر الذوق ملكة فطرية طبيعية ترتبط بالإنسان. فإن رؤية سوسيولوجية بسيطة قام بها بورديو أدت به إلى الاعتراض ونقد هذه الفكرة. فليس الذوق ملكة فطرية طبيعية عند الإنسان، وليس معطى طبيعيا في الذات الإنسانية. بل إن الذوق عند الإنسان يرتبط بوسطه الاجتماعي. فبالملاحظة والبحث السوسيولوجي الذي قام به. تبين له أن عملية التذوق تتحدد انطلاقا من الموقع الذي يحتله الفرد داخل المجتمع، ومن ثمة فالتمييز في الأذواق والألوان عملية تتطلب جهدا كبيرا في محاولة تحديد المعايير والميكانيزمات المتاحة التي تحدد ذوق الفرد.

إن تحديد ذوق الفرد داخل المجتمع أرجعه بورديو إلى الممارسات الثقافية مثل المسرح. الفن المتحف .. وكلها تبقى غير متساوية للأفراد داخل المجتمع الواحد كونه مجتمعا طبقيا بامتياز. فالانتماء الاجتماعي لطبقة معينة هو الذي يحدد ذوق كل فرد على حدة. فإذا وقفنا على مثال الفن لكونه يرتبط بشكل وثيق بالتذوق لدى الأفراد. فإن ملاحظة بسيطة تبين لنا التقابل الصارخ بين جمالية فئة شعبية ترتكز على استمرارية الفن والحياة التي يعيشها ويحياها الفرد، فهذه الفئة تفضل النهاية السعيدة، وبين فئة أخرى راقية تحاول أن تضع مسافة كبيرة بين الفن والحياة.لأن هذه الأخيرة تمتلك الرموز والآليات لتفكيك الخطاب. هذه الرموز اكتسبها الفرد من محيطه العائلي ذي التنشئة الاجتماعية القوية ثم نوعية التعليم الذي تلقاه الفرد.

إذن فالذوق الفني كنشاط ثقافي يبقى بعيدا عن التحديدات الذاتية. ولا يعتبر الفرد مسؤولا عنها. بل إنها سلوكات اجتماعية وكفايات استدمجها الفرد من محيطه الاجتماعي. وهذا يظهر لنا إذا لاحظنا بأن أبناء الطبقات الشعبية يتصورون الفن ملتصقا بالحياة اليومية. فيستمر تأثير الفن على حياتهم وهو الشيء الذي يستمر كذلك في أنشطتهم الثقافية. في حين أن أبناء الطبقات المحظوظة يرون أن الموقف الفني والنشاط الثقافي ينمان عن وجود تنشئة اجتماعية تحمل ميكانيزمات ثقافية علمية. كما ينمان عن تكوين مدرسي تعليمي عالي تجعله يضع مسافة بين الفن والحياة. أضف إلى ذلك كونهم يتوفرون على رأسمال ثقافي يمكنهم من امتلاك القدرة على فهم الخطاب المجرد وتفكيك الخطاب وتأويله وفك الرموز، وهذا ما يعكس وجود تمايزات في الأذواق وتمايزات في الأنشطة الثقافية. هذه التمايزات تعتبر رمزية. وهي انعكاس لواقع مادي اجتماعي بين طبقات المجتمع. ويضيف بورديو بأن هناك مجالات ثقافية متعددة تعكس التمايزات في الأذواق بين الأفراد. فنجد الموسيقى الكلاسيكية. الرسم. النحت. السينما. الصور. الأغنية. وداخل هذه الأنماط الثقافية توجد تمايزات متباينة في الأذواق. فإذا أخذنا الموسيقى الكلاسيكية فيمكن أن نميز فيها بين ذوق شعبي وذوق متوسط وذوق راقي. فهذه التمايزات تتجاوز الموسيقى وتظهر كذلك في الممارسات الثقافية العادية كاللباس. التزيين.الرياضة. الطبخ.. فإذا وقفنا عند المطبخ فنجد الفئات الشعبية تفضل الأكل الكثير وأكل اللحم عن السمك. وتظهر بأنها تحديدات ترتبط بالتنشئة الاجتماعية وبأخلاق الفرد وليست بتحديدات اقتصادية كما يعتقد. نفس الشيء نجده في الممارسات الرياضية. فنجد الطبقات الشعبية تحب الرياضات الشعبية ككرة القدم. الملاكمة.. وكلها رياضات تتطلب جهدا بدنيا وتضحية. بينما نجد الطبقات الراقية والمتوسطة. تمارس الكولف. ركوب الخيل. التنس.. وكلها رياضات تجعلك تضع مسافة فردية بينك وبين الخصم وتتميز باختيار الشريك.

يظهر لنا إذن بأن العامل الاقتصادي له دور حاسم في تحديد الذوق، ويحاول أن يحدد موقع الفرد داخل السلم الاجتماعي. من هنا يرى بورديو بأن مكانة الفرد تحددها ثلاث أبعاد رئيسة:

1- الحجم العام للرأسمال الذي يملكه الفرد.

2- توزيع هذا الحجم بين الرأسمال الاقتصادي والرأسمال الثقافي.

3- تطور الخاصية الأولى والثانية مع صيرورة الزمن. بمعنى أن الفاعلين يحصنون مواقعهم الاجتماعية من خلال استثمارهم لرأسمال الاقتصادي لتحقيق السيطرة داخل المجالات الأخرى.