يؤكد الباحث أن تطبيقات الديمقراطية التشاركية تؤدي لردم الفجوة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني والمواطن، وتجدد قيم المواطنة، عبر إعادة ثقة المواطن بالدولة لمشاركته الفعلية في صنع القرار السياسي، لتمكنه من الاقتراح والمراقبة والتقويم، والمساهمة في إصلاح الديمقراطية التمثيلية.

دور الديمقراطية التشاركية في تكريس مقومات المواطنة

عـثمان الزياني

تقديم:
تعتبر الديمقراطية التشاركية شكل من أشكال توزيع السلطة تقوم على أساس الرفع من قدرات المواطنين للمشاركة في بلورة السياسة العامة، وهي عبارة عن مجموعة من التنظيمات المؤسساتية والقواعد الاجرائية التي تعمل على التوسيع من دائرة اشراك المواطنين في تدبير شؤونهم وتنمية أدوارهم في عملية اتخاذ القرارات، وهي خاضعة لمعطى جوهري جسده الفيلسوف بول ريكور بقوله: "أنه فيما يتعلق بالمشاكل الاساسية والجوهرية، الخبراء لا يعرفون ما يعرفه المواطنون، حيث يكون المواطن أكثر اطلاعا على احتياجاته وأولوياته"(1).

ولعل الفكرة الظاهرة هي أن الديمقراطية التشاركية هي دعوة صريحة نحو "دمقرطة الديمقراطية" في حد ذاتها لما عرفته من شوائب ونواقص على المستوى العملي، ومع استحضار معطى قائم وثابت وهو الديمقراطية التشاركية لا تتناقض مع الديمقراطية التمثيلية وهي مكملة لها وجاءت من اجل اصلاح وتقويم اختلالات الديمقراطية التمثيلية.

إن التنصيص الدستوري في المغرب على آليات الديمقراطية التشاركية ينسجم مع التوجهات الحديثة للدساتير المقارنة(2)، بالنظر لما لها من ايجابيات كثيرة خاصة انها تعزز من محورية المواطن في عملية صنع القرارات، فعلى المستوى الوطني، هناك إمكانية التأسيس للبرلمان التشاركي بفعل تمكين المجتمع المدني من آليات قانونية تساعده في صناعة التشريع والمواطن أيضا، وعلى المستوى المحلي تمكين المواطن من الانخراط الايجابي في العملية التنموية وتدبير السياسات الترابية بصفة عامة.

كما إن الديمقراطية التشاركية تبقى بمثابة الدرب الاسلم للخروج من مأزق الديمقراطية الذي تنبأ به "دي توكفيل" ببعد نظر في كتابه الاساس "الديمقراطية في امريكا"، والمتمثل في ان المذهب الفردي الذي انبنت عليه الديمقراطية هو المسؤول الاول عن حرية المجتمع وعن عدم مبارحة الفرد لشرنقته الضيقة التي تجعله اسير مصلحته الخاصة، معصوب الاهتمام عن الصالح العام، وما يرتبط بالمجتمع في كليته وقد خصبت هذه السلبيات في مجتمعاتنا التي لم تسمح الظروف باكتمال تطورها التاريخي بشكل ذاتي، بتضافر بقايا القبلية والعشائرية، لتنتج في الاخير مسخا هجينا عرضه الابرز فقدان الالتزام العام الذي تقتضيه المواطنة، لذا اقترح دي توكفيل تشجيع الحرية المحلية لان المواطن يتلقى داخل هذا المجال تدريبه الاولي على استخدام الحرية، ويتشرب من خلال الاهتمام بمسائل تدخل في دائرة اختصاصه، المبادئ الاولى للمسؤولية العامة، فالحي هو الرحم الذي يشهد تحول المصلحة الذاتية إلى الوطنية، كما إن الأجهزة المحلية هي الكفيلة بتحويل الأفراد الأنانيين إلى مواطنين يشكل الخير العام همهم الاول(3).

إن مقاربة موضوع الديمقراطية التشاركية ودورها في تكريس مقومات المواطنة تقوم على أساس استجلاء جملة من الاستبصارات التي تفيد في إيجاد علاقة ترابطية بين الاثنين، وهي تكتسي منحى طردي حيث ان تطبيقات واليات التشاركية من شأنها أن تعيد الاعتبار لنسقية مقومات المواطنة، وتزيح الكثير من الشوائب التي بزغت في ظل المتغيرات التي حملتها رهانات عصر العولمة ومجتمع المعرفة، التي كان لها تأثيرا حتى على القيم المؤطرة لفعل المواطنة، وأيضا مختلف التراكمات السلبية التي نتجت عن الديمقراطية التمثيلية، وعليه فالانتقال الى الفعل التشاركي في تدبير شؤون السلطة والحكم من شأنه أن يحدث نقلة حتى على مستوى مضامين مقومات المواطنة، وتعطي لها دفعة جديدة وتنتشلها من براثن الانتكاسة وفق متغيرات وسياقات يمكن تبيانها على النحو التالي:

العنصر الاول: تمحور الديمقراطية التشاركية حول "المواطن".أو قاعدة "الانطلاق من المواطن وبالمواطن ومن أجل المواطن".

يشكل المواطن محور الارتكاز في معادلات وبناءات الديمقراطية التشاركية حيث يشكل أس منطلقاتها النظرية والتطبيقية، وهذا يجعلها في مستوى الرهان على تحقيق مقومات المواطنة، فهي تضع المواطن في محور اهتماماتها، وتعطي لكل مواطن كيفما كان "n'importe qui" مكانة مركزية في السيرورة الديمقراطية، دون استحضار لأي سلطة كيفما كانت نوعيتها مالية أو معرفية أو تقنية، وتضع كل المواطنين على قدم المساواة في إبراز الآراء وإبداء الاقتراحات(4). فهي لا تحدث اي تفاضل او تفاوت بين المواطنين ولا تستهين بقدراتهم وإمكانياتهم العقلية بل تضعهم على قدم المساواة في التمتع بالحقوق والقيام بالواجبات.

ولذلك فإن الديمقراطية التشاركية غالبا ما تكون "ديمقراطية قرب"، تسمح مثلا بمناقشة الرهانات الخاصة بحي أو جماعة دون أن تتجاهل أسئلة المصلحة الوطنية أو المصلحة العامة، فمبدؤها في جميع الحالات هو تنظيم نقاش فيما بين المواطنين من جهة، وبينهم وبين الخبراء والمنتخبين من جهة أخرى، حتى تضمن لمجموع المشاركين مساواة في الاعتبار ومعلومات كاملة حول المعطيات المعالجة(5).

ولعل في نهج سياسة القرب ما يعزز ثقة المواطن في صانع القرار ويعزز أكثر قيم المواطنة مادام ان الديمقراطية التشاركية توفر منهجية جديدة في تدبير السلطة والحكم، وتدبير السياسات العمومية بما يكفل المشاركة الفعلية للمواطن، وليس الاستشارة الشكلية فقط التي تنقضي وتحول بموعد الاستحقاق الانتخابي.

فالديمقراطية التشاركية تنطلق من المواطن ومن اجل المواطن، كما أنها تعمل مد جسور التواصل والتفاعل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي على أساس تيمات التعاون والتكامل وليس التنافر، وما هو أكيد أن تطبيقات التمثيلية التقليدية أفرزت العديد من الاختلالات، وساهمت إلى حد كبير في حدوث أزمة على مستوى الوطنية والمواطنة، سواء في علاقات الفرد بالدولة أو على مستوى حتى العلاقات الاجتماعية، كما أنها وسعت من حجم الهوة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وبين المواطن والدولة، لكونها ترتكز على قاعدة "صوت واسكت"، إلى حين حلول موعد الانتخابات، حيث يحضر المنظور الأداتي للمواطن في كثير من الاحيان، فعلى العكس من ذلك نجد الديمقراطية التشاركية تضع المواطن في صلب أدبياتها وأبجدياتها، وتحاول إصلاح ما قد أفسدته تطبيقات الديمقراطية التمثيلية، حيث يصبح المواطن فاعلا وليس مفعول به.

كما إن آليات الديمقراطية التشاركية تمكن المواطن من الحضور الدائم في صناعة القرارات التي تهمه على خلاف اليات الديمقراطية التمثيلية التي يكون فيه حضوره ظرفي ومؤقت، كما ان التشاركية تمكن المواطن حتى من اليات مراقبة من يمثله في البرلمان والجماعات الترابية، من حيث انها تشكل لجان ومجالس تشاورية وتحاورية موازية، وبالإضافة الى كونها فضاء رحب للنقاش وتبلور الافكار والتعبير عن الاراء بمختلف اطيافها وتنوعيتها، فهي تشكل جسرا للتواصل مع صناع القرار، وأيضا لممارسة نوع من الرقابة والتتبع والتقويم مما يجعل المواطن هو الركيزة الاساسية في صناعة السياسات العامة، وبالتالي يتعزز لديه الارتباط الوجداني/ العاطفي بالدولة والإحساس بمواطنيته، مادام يمارس ويحوز على حقوقه المختلفة ويجد مجالات رحبة لتصريفها والتعبير عنها وهي كلها امور توفرها الديمقراطية التشاركية بفعل طابعها القاعدي/ التصاعدي.

إن الديمقراطية التشاركية تقوم على أساس تحقيق قيم المساواة والعدالة والرفاه الاجتماعي، وحل مشكلات المواطنين عن قرب، من خلال الانصات لانشغالاتهم وتطلعاتهم، ودفعهم ايضا الى الانخراط الايجابي في حل هذه المشاكل والمعضلات الاجتماعية والاقتصادية، وفق منظور تشاركي تعاوني، وتشجيع ايضا المبادرات الذاتية التي قد تفيد في تجاوز الإكراهات المالية والبشرية أيضا، وعلى ضوئها يدرك المواطن مواطن حقوقه ومكامن واجباته.

إن الديمقراطية التشاركية باعتبارها "ديمقراطية القرب" تؤدي إلى تحقيق المساواة بين المواطنين في الاستفادة من المنافع الاجتماعية والمساواة ايضا امام المرافق العامة مادام ان المواطن له امكانية تقديم العرائض التي تضمن وتكفل له المساهمة في تقويم اداء هذه المرافق وجعلها تخدم المواطن بالدرجة الاولى على قدم المساواة دون تمايز او تفضيلات.

وعليه فالديمقراطية التشاركية تطرح مفهوما جديدا للسلطة والدور الممنوح للمواطن، فهي ترتكز كما يقول الفيلسوف جون ديوي John Dewey على مواطنة فعالة ومكونة، وأيضا على تكوين جمهور نشيط وله القدرة على البحث والتقصي على ايجاد الحلول لمشاكله، مع استحضار ان مشاركة المواطنين مرتبطة اساسا بالحق في الحصول على المعلومات(6).

كما يحضر في ظل الديمقراطية التشاركية او التحاورية مفهوم الفضاء العمومي ويتشكل هذا المفهوم الذي هو من اختراع الفيلسوف الالماني كانط مفتاح الممارسة الديمقراطية في نظر هابرماس الذي عمم استخدامه منذ السبعينات من القرن الماضي وهو يعرفه كدائرة التوسط بين المجتمع المدني والدولة فهو الفضاء المفتوح الذي يجتمع فيه الافراد لصوغ رأي عام والتحول بفضله وعبره الى مواطنين تجمعهم اراء وقيم وغايات واحدة(7).

وفي ظلّ غياب مقياس واحد أو موقف معياري موحد يحدد معنى "المواطن الصالح"، يبدو أنه وفي عالم يعتمد على وسائل الإعلام أكثر من أي وقت مضى، يملك المواطنون الذين يتمتعون بمهارات المشاركة والتعاون والتعبير الإلكتروني فرصةً أكبر للتحوﻝ إلى مفكرين نقديين ومبدعين ومتصلين وأدوات تغيير اجتماعي: يساعدون في تمكين الأصوات المدنية لمستقبل ديمقراطية مستدامة ومتسامحة وتشاركية في العصر الرقمي(8).

وتبني المهارة التعاونية للمواطن الفاعل على الثقافة التشاركية لجينكينز لتحديد كيف يمكن "لمجتمعات التعليم الإنتاجي أن تؤدي إلى الاشتراك في خلق المعنى والذي تشمل المهارات التعاونية التواصل وربط رأس الماﻝ.(engagement) بدوره يؤدي إلى الارتباط الاجتماعي، للمساعدة في وضع المواطن الفاعل في بيئات تعترف بالقدرات التي يمتلكها لإقامة الروابط وتوسيع التواصل إلى مجموعة كبيرة من الأقران المهتمين. إلى ذلك، تزيل المهارات التعاونية الحواجز التي تمنع الأقران من المناقشة أو التعاون في قضية مشتركة(9).

العنصر الثاني: الديمقراطية التشاركية والبناء القاعدي/ الأفقي والتصاعدي لمقومات المواطنة.
إن تحقيق هدف تفعيل المشاركة في عملية صنع القرار يجدر أولا تنظيم برمجية تسمى الطريقة التنازلية/ الطريقة التصاعدية، مما يخلق تفاعلا مستمرا بين الشعب وصانع القرار يسمح هذا التفاعل إذا بتنوع وسائل التعبير عبر منح الأفضليات للإنصات والحوار والنقاش وتشجيع تبادل الاراء المدعمة بالحجج والاقتراحات المحفزة، وبالتالي تحديد المصلحة العامة بشكل دقيق.

فالمقاربة التشاركية يختصر مفهومها في عبارة "العمل مع" عوض "العمل من أجل"، بمعنى عمل في إتجاه أفقي عوض الاتجاه العمودي من أعلى إلى أسفل، كما تعمل أغلب الحكومات والمؤسسات العمومية في الأنظمة المركزية التي تفرض على شعوبها سياسات فوقية دون استشارتها ودون إشراكها في التنفيذ والتتبع والتقويم.

وبفعل البناء القاعدي يمكن تحقيق المقومات التالية(10):

1-المساواة وتكافؤ الفرص:
إن قيمة المساواة بين المواطنين هو المقوم الاساس في الدولة الحديثة ولا تتحقق المواطنة إلا بتساوي جميع المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات، وتتاح أمام الجميع نفس الفرص، ويعني ذلك التساوي أمام القانون الذي هو المرجع في تحديد تلك الحقوق والواجبات، كما ان اليات الديمقراطية التشاركية تعطي الإمكانية لمشاركة المواطنين أكثر في إبداء رأيهم وتصوراتهم سواء فيما يتعلق بتدبير الشأن العام على المستوى الوطني والمحلي دون احداث تمايزات أو اقصاء طرف تحت أي مسوغ كيفما كانت طبيعته.

2- المشاركة في الحياة العامة (تجاوز أزمة المشاركة السياسية):

تدفعنا المشاركة بالتالي إلى إعادة النّظر في أُسسنا الديمقراطية من أجل منح الشّعب الوسائل التي تسمح له بالمشاركة أكثر فأكثر في الحياة السّياسيّة. ويبدو أنّه من الضّروريّ إدراج بعض الآليّات التّشاركيّة، من دون إعادة النّظر في مفهوم الديمقراطية التمثيلية نفسه. ولا يجدر بنا أن يضع المواطن نفسه مكان صانع القرار، إنّما أن يسعى إلى التّأثير عن القرارات التي يصنعها"، "فالمواطنة في إطارها العملي تعني الممارسة الكاملة للحقوق والواجبات المدنية والسياسية ومن ضمنها المشاركة في وضع القوانين وفي القواعد التي ترعى هذه الحقوق من دون أي تمييز ولا استثناء والمواطنة -في هذه الحال- تعبر عن الإنسان ككائن سياسي له دور فاعل في إدارة الشأن العام"(11).

ولا يكفي ضمان المساواة والتكافؤ في القوانين المسطرة، والأنظمة المتبعة، وفي الممارسة، لكي يتجلى مبدأ المواطنة، وإنما لابد كذلك من المشاركة الفعلية للمواطنين والمواطنات في الحياة العامة والتي تضمنها بشكل من الإشكال تطبيقات الديمقراطية التشاركية.

في الواقع، حفّزت إعادة التفكير هذه بمفهوم المشاركة المدنية نقاشاً واسعاً حول المشاركة المدنية والسياسية في المجتمعات الرقمية. فأشاد الباحثون بالفرص الجديدة التي وفّرتها التكنولوجيات الاجتماعية لزيادة الإنتاجية التعاونية، وللنشاطات المدنية التي يتم حشدها إلكترونياً ولزيادة القيمة المحققة في نماذج التعاون بين الأقران حيث بات "الناس المشار إليهم سابقاً بالجمهور.. يخلقون القيمة لبعضهم البعض يومياً" ويشير يشير كل من جينكينز وبوروشتوما وويغل وكلينتون وروبنسون إلى الحاجة إلى تعزيز المهارات والمعرفة الضرورية في عصر المشاركة: "بدأت ثقافة المشاركة تظهر مع استيعاب الثقافة واستجابتها لانتشار تكنولوجيات الإعلام الجديدة التي تسمح للمستهلك العادي بأرشفة وكتابة وامتلاك وإعادة نشر المحتوى الإعلامي بطرق جديدة"(12).

فالمشاركة تؤدي إلى تكريس(13):

* شفافية العمل العام: بما ان المشاركين على اطلاع بالموضوع ويتمتعون بحق الاشراف والمراقبة

* فعالية العمل العام: بما ان المواطنين يشاركون باتخاذ القرار، فالقرارات العامة تتكيف اكثر لتلبية احتياجاتهم.

*عدم التمييز في قطاع العمل العام اذ ان المشاركة متاحة للجميع.

*محاسبة العمل العام، إذ سيصبح المواطنون المشاركون في اتخاذ القرار اكثر تشددا ازاء ممثليهم.

لا يمكن أن تنبلج دولة المواطنة دون أن يكون المواطن فاعلاً مؤثرا فيها وفي تحديد مصيرها عن طريق مشاركته السياسية الفاعلة والدائمة بفعل اليات الديمقراطية التشاركية وبمناى عن فروض واعتبارات للقيم والأعراف المتناقضة مع ركائز دولة المواطنة. ولن تتأتى له هذه الفاعلية ما لم يشعر ويحس بأنه في موقعه الحقيقي الذي يفتح أمامه فضاءات واسعة وفسيحة للتعبير والخلق والإبداع، عندئذ تتحول المواطنة إلى معادلة أساسية في تعريف الدولة وسيرورة تشكلها وبنائها وركيزة أساسية لتماسكها وإشاعة قيم التعايش السلمي والسلم الاجتماعي الحقيقي، فمفهوم المواطنة مرادف لمفهوم المشاركة والتشارك في الإنتاج الاجتماعي وفي الشأن العام والمساهمة في صياغة مستقبل الوطن.

3- الولاء للوطن:
بالنظر إلى الفضاء العام للنقاش والحوار الذي تفرضه الديمقراطية التشاركية، ويعني الولاء للوطن أن الرابطة التي تجمع المواطن بوطنه تسمو عن العلاقات القبلية والعشائرية والحزبية، ولا خضوع فيها إلا لسيادة القانون، وأن هذه الرابطة لا تنحصر في مجرد الشعور بالانتماء وما يطبع ذلك من عواطف، وإنما تتجلى إلى جانب الارتباط الوجداني، في إدراك واعتقاد المواطن بأن هناك التزامات وواجبات نحو الوطن لا تتحقق المواطنة دون التقيد الطوعي بها.فالنقاشات والحوارات حول القضايا العامة يحدث نوع من الانسجام واللحمة الاجتماعية بغض النظر عن الانتماءات العرقية او القبلية وحتى الانتماءات الحزبية والإيديولوجية.

4- الالتزام:
إن الديمقراطية التشاركية تخلق نوعا من الالتزام من لدن المواطن والمجتمع والدولة وذلك في تمسك كل من موقعه في القيام بمختلف المسؤوليات والأدوار المنوطة به، بحكم ان الديمقراطية التشاركية تحقق نوع من التفاعل المستمر بين مختلف هذه المكونات مما يعزز اكثر من ثقافة الالتزام التي تعبر عن قمة المواطنة.

فالالتزام يأخذ أيضا منحيين التزام المواطن تجاه وطنه والتزام الدولة تجاه المواطن مما يعزز عناصر الثقة والاستمرارية في اذكاء روح وقيم المواطنة.

5- عنصر الانتماء للوطن:
يعتبر الانتماء عنصر جوهري وذي ارتباط مفصلي مع المواطنة، فلا يمكن الحديث عن المواطنة الحقة دون وجود احساس بالانتماء الى الوطن الذي يرتكز على اسس وروابط عاطفية ووجدانية تتغذى بجملة من العوامل، من بينها بالدرجة الاولى الاحساس بالانتماء للجماعة ضدا على النزعة الفردية والعزلة، والتي تكرست بفعل عاهات الديمقراطية التمثيلية وقيم الليبرالية التي استطاعت ان تنزع عن الفرد طابعه الاجتماعي، وتختزل كينونته في بعدها المادي جريا وراء المصالح الشخصية، دون اعارة الاهتمام بحاجات المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، ولعل مسألة التفكير في ترسيم قواعد واليات التشاركية في تدبير شؤون السلطة والحكم، تأتي في سياق تجاوز محن عنصر الانتماء للوطن الذي اصبح في الوقت الراهن يرتهن في كثير من الاحيان بمقدار ما يتحصل عليه الفرد من حاجيات، حتى وان كان ذلك على حساب الاخر، فالديمقراطية التشاركية بفعل إعتمالاتها، ترسم مشهدا آخر للتالف الاجتماعي بفعل نقاشات الفضاء العام والتفاعل بين افراد الجماعة، حيث يكون هناك المشترك في الهموم والمشاكل، وبفعل تضافر الفعل الفردي يتشكل فعلا جماعيا يتعزز بآليات التوافق أكثر، مما ينتج عنه الانتماء للجماعة الذي يعتبر المرتكز ايضا في تغذية وتنمية الانتماء للوطن.

فالتفكير الجماعي في حل المشاكل من خلال فتح نقاشات عامة تستوعب كل الاراء والأفكار، ومختلف التشكيلات الاجتماعية يقوض كثيرا من طباع الفردية والعزلة والإحباط وعدم تماسك النسيج الاجتماعي والاغتراب، فالتواصل بمضمونه التشاركي افقيا وعموديا يشكل اس انبعاث الانتماء الى الجماعة والوطن ويعيد له هويته الحقيقية، التي ضاعت مع كدمات واكراهات العصر، وبفضل التواصل تقوم ايضا المحاججة والوصول الى حقائق متفاهم بشأنها.

العنصر الثالث: الديمقراطية التشاركية وتكريس البعد القيمي للمواطنة.
إن القيم تعتبر بمثابة الامن الوقائي للمواطنة وتلعب دور المحصن حيث تحميها من عوامل التداعي والاندثار، وهي التي تشكل الحافز ايضا في بلورة السلوكيات التي تعبر عن المواطنة الحقة، لأنها تتركز بصورة أو اخرى في الشعور واللاشعور على حد سواء مما يجعلها موجهة للسلوك الايجابي في كثير من الاحيان سواء في علاقة المواطن بالمواطن أو علاقة المواطن بالدولة.

وتعد منظومة القيم من هم مقومات المواطنة في الدولة الرشيدة كما انها من سمات المجتمعات المتطورة ومصدرا للسلوك الحضاري كونها المعيار المحدد للحقوق والواجبات بل هي المحرك الرئيس للوصول الى ترجمة المواطنة على ارض الواقع وبالتالي فان تطور المجتمع واستقراره يتوقف على مدى ممارسة قيم المواطنة الكاملة من قبل جميع شرائح وفئات المجتمع(14).

وعليه فإن الديمقراطية التشاركية لا يمكن اختزالها فيما هو مؤسساتي وتنظيمي، وإنما تتشكل من منظومة قيمية قادرة على التأثير الايجابي في قيم المواطنة بفعل اعتمادها على قاعدتين اساسيتين وهما طبعا :

* قاعدة الالتحام تؤدي إلى تعزيز مسألة الانتماء إلى الوطن أكثر بفعل المشاركة الواسعة للمواطنين في صنع القرار التي تؤدي حتى الى سلامة اتخاذ القرار، وأيضا تساهم في تكريس قيم المسؤولية الذاتية.

* وقاعدة التواصل التي تحدث تفاعلات بين الفاعلين وباتجاهات مختلفة مما يؤدي إلى تبادل المعلومات في شكل دائري ارتجاعي، وهذه المعلومات عنصر مغذي للثقة بين الفاعلين بمختلف تشكيلاتهم.، فالتشاركية تخلق نموذج للتواصل الفعال والايجابي الذي يهدف الى تهذيب الاراء والتصورات من اجل وضعها في قالب وبوتقة واحدة تخدم الجماعة والفرد.

- بفعل اليات وتطبيقات الديمقراطية التشاركية يتم القيام بعملية تنشئوية وتربوية للمواطن حيث يتم انتاج قيم المواطنة الايجابية، وليس قيم المواطنة السلبية بمعنى ذلك المواطن الذي يستهلك الحقوق دون ان يقوم بواجباته، ذلك ان التعلق العاطفي بالوطن يوجد لدى الإنسان بالفطرة، فإن الوعي بمقومات المواطنة، وما يتبعه من إحساس بالمسؤولية، والتزام بالواجبات نحو الوطن، يكتسب بالتعليم والتأهيل.

- تعمد إلى تكريس مسألة الوعي بالحقوق والواجبات فلا مجال لتجسيد مفهوم المواطنة بما يعنيه من مشاركة ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ في تدبير الشأن العام، ومسؤولية تجاه الوطن، دون وجود مواطن يُدرك بوعي حقوقه وواجباته، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويشعر بأنه معني بما يجري داخل الفضاء الذي يسمى الوطن، فلا مواطنة بدون مواطن، ولا مواطن بدون ولاء للوطن، وتفاعل إيجابي مع قضاياه، وانخراط حقيقي في شؤونه.

- فعن طريق منتديات النقاش واللجان التشاورية يمارس نوع من "التثاقف السياسي التشاركي" خصوصا على المستوى المحلي التي تنمي "ثقافة المشاركة السياسية"، ايضا على المستوى الوطني، ولا نعني في هذا المقام المشاركة بمفهومها الضيق المبنية على الاستشارة المبدئية وإنما التشارك الذي يرتكز على المشاركة المرحلية والنهائية والتقويمية لعملية صنع السياسة العامة، حيث يكون دور المواطن أعمق وأكثر حضورا وإيجابية، بمعنى المشاركة الفعلية والفاعلة، حيث المشاركة تكتسي بعدا ديناميكيا وحيويا تجعل من المواطن ركيزتها الأساسية.

- نبذ قيم الوصائية وقهر الاقصائية في التعامل مع المواطن، واعتماد الفعلية على مستوى التشارك من أجل تعزيز قوائم التعاون والتآزر والتضامن في سبيل تجاوز مكامن الخلل والقصور في تدبير السياسات العمومية والشأن المحلي.

- الديمقراطية التشاركية، تساهم الى حد كبير في تقويض قيم الاغتراب السياسي، وتكفل امكانية ايجاد مواطن مبادر وفعال ونزع كل قيم التواكلية والانتظارية، بما ينتج عنه من عقلنة وترشيد لعملية صنع القرار.

- تنمية الشعور والإحساس بالمسؤولية ونكران الذات والتضحية وخلق الدافعية لدى المواطن في الانخراط الإيجابي في تدبير شؤونه.

- تعمل على غرس قيم خدمة المصلحة العامة وتقويض ايضا قيم الفردية وخدمة المصالح الشخصية الضيقة.

- كما إن الكثير من الدراسات الميدانية والأبحاث السوسيولوجية التي شملت بعض الدول أكدت بالملموس ارتفاع منسوب الثقة الاجتماعية بفعل التفاعلات النقاشية والحوارية، الافقية والعمودية، مما كرس نوعا من الروابط مبنية على التضامن والتآزر والتكافل، والتي تخدم بالدرجة الاولى تعزيز قيم المواطنة.

- الديمقراطية التشاركية تعزز أكثر من قيم المواطنية التي تعتمد على تكريس الروابط الاجتماعية اكثر بين المواطنين، وليس فقط فيما يتعلق بعلاقة الفرد بالانتماء إلى الأرض، أو في علاقته بالسلطة، وهذا بفضل التفاعلات والنقاشات والقضايا المجتمعية ذات المصير المشترك.

فالديمقراطية التشاركية بفعلها تؤسس لمسألة الثقة الاجتماعية كقيمة وكرصيد داعم لإعادة تشكيل علاقات جيدة مع الدولة ومؤسساتها ايضا، وداعمة لتغذية المكون القيمي للمواطنة حيث تزيد حتى الثقة في الدولة ومؤسساتها، مادام المواطن يجدها في تناغم وانسجام محكمين مع طموحاته وتطلعاته ومعبرة عن خوالجه ودواخله، على عكس انعدام الثقة يولد حالات العزلة والاغتراب والمغالاة في خدمة وتمجيد الذات دون التذاوت (التفاعل والتواصل بين الذوات)، الذي يعبر عن التواصل بين الأفراد بحسب تعبير يورغن هابرماس، وبالتالي يكون الثمن او النتيجة تفكيك نسيج مقومات المواطنة.

إن رهان البناء القيمي للمواطنة هو الضامن في تجسيد وتثبيت مقوماتها وضمان سيرورتها وديمومتها، وجعلها بمنأى عن معاول الهدم، بحكم انها تغذي البناء النفسي لفعل المواطنة، الذي يتولد عنه الاقتناع الداخلي والإحساسات الدافعة لتبلور تعبيرات سلوكية راقية عن المواطنة الفعلية، وليس المواطنة الزائفة المصابة بحالات الفصامية والازدواجية، وبالتالي استثمار أدوات الديمقراطية التشاركية وببناءاتها التصاعدية وإعتمالاتها التربوية والتنشئوية يمكن ان تكسب رهان البناء الجيد والرشيد للبعد القيمي للمواطنة.

العنصر الرابع:جدلية الديمقراطية التشاركية والمواطنة في سياق دستور 2011.

يرتبط واقع الديمقراطية التشاركية كممارسة جد متواضعة داخل التجربة المغربية بتقاطع ديناميتين: الأولى تتعلق بتزايد الطلب المجتمعي والمدني على المشاركة خاصة في المستويات المحلية والثانية تتعلق بإرهاصات النزوع التشاوري والتشاركي لبعض السياسات العمومية، إذ انطلاقا من الحوار الوطني لإعداد التراب ووصولا إلى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كثيرا ما لجأت السلطات العمومية إلى إطلاق مسلسلات للتشاور حول سياسات ذات بعد أفقي أو قطاعي كما أن هندسة بعض السياسات العمومية نفسها قد تتضمن بعدا تشاركيا يسمح لممثلي المجتمع المدني أو للساكنة المحلية من الإسهام في تحديد الأولويات وخيارات التنمية خاصة في المجالات الاجتماعية(15).

ولقد خلق التطور السياسي المغربي العديد من الالتباسات حول حدود العلاقة بين وظائف المجتمع المدني ووظائف الأحزاب السياسية، كما أن تدبير بعض السياسات الأفقية على المستوى المحلي، قد رسخ فكرة اعتبار المقاربة التشاركية مجرد امتداد للتدبير السلطوي القائم على الاستخفاف بشرعية المنتخبين المحليين، كل هذه الإشكاليات لا يجب أن تغيب عن أذهاننا، ونحن نعالج هذا الموضوع، الذي لاشك انه دخل تاريخا جديدا مع دستور 2011، الدستور الذي أقر بالديمقراطية التشاركية والمواطنة كإحدى مقومات النظام الدستوري المغربي، هذا النظام أصبح يسمح بانبثاق "المواطن"، ولم يعد ينظر للدستور كوثيقة للسلط والمؤسسات فقط(16).

وبالنظر إلى المقتضيات الدستورية لـ2011، نجد أن المنطق الذي يحكم تصدير الدستور هو حرص المشرع الدستوري على توكيد معطى المشاركة بالإضافة إلى التعددية والحكامة الجيدة، التي تشكل كلها مرتكزات لا محيد عنها في بناء الدولة الحديثة، من خلال مواصلة توطيد وتقوية مؤسساتها، بالإضافة إلى التأكيد على مقومات المواطنة المضمونة للجميع، كالأمن والحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة.

ولعل مبلغ الذروة في استحضار ذلك التلازم المفصلي بين التشاركية والمواطنة هو الفصل الأول الذي نص فيه على إن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس"الديمقراطية المواطنة والتشاركية"، بالإضافة طبعا إلى المحددات الأخرى القائمة على أساس مبادئ الفصل ما بين السلطات وتعاونها والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، ومع الفصل السادس تتأكد نية المشرع في ضرورة ضمان حرية المواطنين والمساواة فيما بينهم وتأكيد مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي كلها مقتضيات تسير في اتجاه بوتقة مفهوم "المواطنة الفاعلة والصالحة" من خلال الإشراك الفعلي للمواطن في بلورة السياسات العمومية والتي تتم عبر تقنيات مختلفة تدعم الفعل التشاركي الايجابي.

ولعل في دسترة المجتمع المدني من خلال الفصل 12، من جهة، تلعب منظمات المجتمع المدني دورا مهما في تشكيل السياسات والقوانين، وفي الترويج لاحتياجات المواطنين في خضم هذه العمليات. إن حق المواطنين في المشاركة في إدارة الشأن العام واحد من المبادئ الأساسية للديمقراطية الذي يضمن تمكن الناس من التعامل مع المشاكل التي تؤثر على حياتهم بشكل مباشر. فضلا عن ذلك، فإن مشاركة المواطنين تمكن السلطات من تفعيل قدراتها بكفاءة أكبر. وحيث أنه في الغالب يصعب على المواطنين الوصول بشكل فردي لصناع القرار والتأثير على العملية، ينظر لمنظمات المجتمع المدني على أنها الجسر بين المواطنين والسلطات العامة ما يساعد على توضيح آراء المواطنين المعنيين بطريقة بناءة(17).

والواقع أن السلطات الحكومية تدرك أن المجتمع المدني الحيوي و المستدام يسهم في عملية الاستجابة للاحتياجات ويكملها، إضافة إلى أنه يسمح للمواطنين بأن يصبحوا مشاركين فاعلين في المجتمع. هذا وتلعب منظمات المجتمع المدني دورا رئيسا في هذه العملية؛فمن خلال هذه المنظمات يعمل المواطنون على تنظيم أنفسهم ويعبرون عن مصالحهم المشروعة بشكل أكثر فاعلية. بشكل عام، تنطلق منظمات المجتمع المدني من حاجات جمهورها، وتسعى للوصول لأفضل الحلول للمشاكل الناشئة. وغالبا ما تجدها تعمل على ابتداع واستخدام أفكار ابتكارية يمكن أن يتم توسيعها لاحقا لتشمل جوانب متعددة من الفعاليات وتقديم الخدمات(18).

هذا وتعمل بعض منظمات المجتمع المدني على وضع مخطط لحاجات المواطنين بشكل مستمر يكون قادر على الاستجابة الفورية للحاجات الناشئة بدون المرور بإجراءات بيروقراطية مطولة. وبذات الوقت، تعمل على جذب الموارد وعلى بناء القدرات في الجوانب التي تعمل بها. من أجل ذلك، تحيل وتوكل السلطات العامة بعض المهام الحكومية لمنظمات المجتمع المدني؛ فهي تدرك أن منظمات المجتمع المدني تعمل على مسافة أقرب من القواعد الشعبية، وأنها أكثر فهما للاحتياجات المحلية، وأن عملها أكثر فاعلية من حيث التكاليف وأكثر مرونة(19).

ومن جهة أخرى قصدية السير في إطار تعزيز ليس فقط دور المجتمع في مجال صناعة السياسات العمومية، وإنما منحه إمكانية انجاز مهام تربوية وتنشئوية على قيم المواطنة، بمعنى الاستثمار الأجدى لهيئات المجتمع المدني في القيام بمهام التربية على المواطنة، مادامت هي الأقرب إلى المواطن.

وأيضا ومن أجل تأكيد محورية المواطن من خلال استثمار آليات الديمقراطية التشاركية، مكن المشرع الدستوري المواطنين من الحق في تقديم ملتمسات التشريع وأيضا الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، وهذه الآليات تجعل المواطن في قلب معادلة صناعة السياسات العمومية، والتي تستجيب لتطلعاته ومطالبه، وبالتالي تقويض جسور القرارات الفوقية التي تكتسي نوع من المركزية الشديدة، مع اعطاء الفعل التشاركي المواطني بعدا محليا، في تجلي التنصيص على ضرورة وضع الجهات والجماعات الترابية الاخرى اليات تشاركية للحوار والتشاور لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في اعداد برامج التنمية وتتبعها، مع تمكين المواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم العرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله(20).

وعليه فقد تغير الفكر التنموي ابتعادا عن المركزية وابتعادا عن الفنيين، متوجها نحو اللامركزية ونحو مزيد من المشاركة الشعبية، فقوام المنظومة الجديدة: بناء القدرات لا بناء المؤسسات، المشاركة الشعبية لا الدور المتعاظم للحكومة، التخطيط الإقليمي والمحلي لا التخطيط المركزي، الاعتماد علي الكفاءات المتاحة لا مزيد من التكنوقراطية، لن يحل كثير من مشكلاتنا حتى وإن جلبنا لها خبراء من كل مكان ما لم يشارك الناس في التخطيط والقرار، الناس أدرى وأوعى من الخبراء، إنما يحسن الخبراء طرق النظر وأساليب العمل، لكن لابد أن تنبع من الناس وأن تحظى بترحيبهم لا مجرد تلقيها(21).

إن من شأن تفعيل آليات الديمقراطية التشاركية وتطبيقاتها، أن تسهم إلى حد كبير في بروز "المواطنة الواعية"، التي تجعل من المواطن يعي أن له حقوق على الدولة لا يقبل التنازل عنها مهما كانت الأسباب، وعليه مسؤوليات من واجبه السعي لتأديتها مهما كانت الصعوبات والإكراهات في وجه ذلك، وأيضا انبلاج "المواطنة المسؤولة"، أي المواطن المسؤول المستعد للدفاع عن حقه والقيام بواجبه، وليس ذلك الإنسان الذي عهدناه في العقود الماضية غير المبالي بالمشاركة في الشأن العام، والمتنازل عن حقوقه، والمستسلم لأنواع الظلم والاضطهاد، أي بمعنى ترسيخ ثقافة المواطنة المسؤولة التي تدفع الإنسان إلى الاهتمام بقضايا بلده ومستقبله ومصير شعبه، عبر ما يمكن أن نطلق عليه المواطنة الايجابية المسؤولة الفاعلة والمتفاعلة التي تتجاوز حدود الحقوق والواجبات إلى العمل على تطوير المجتمع والسعي لمكافحة الفساد وسلطة الاستبداد(22).

لن تستقيم ممارسة المواطنة، وتتوطن قيمُها في الثقافة السياسية بمجرد إقرارها في نصوص الدساتير، حتى وان حظيت صياغتُها بالحوار والتوافق الوطنيين. فبقدر ما يلعب القانون أدوارا مفصليةً في التنظيم والضبط Régulation وفرض حكم المؤسسات، يحتاج بالقدر نفسه إلى روح الإرادة العامة التي تُحوِّل قواعده ومبادئه إلى قيم جماعية مُنبَثّة في العقول والنفوس. لذلك، تحتاج المواطنة، بهذا المعنى، إلى تربية، أولى والى مراس دؤوب، واختبار منتظم لقيمها(23).

* * * *

خاتمة:

إن المطلوب الآن هو التفكير في صيغ تعمق البعد الإشراكي للمواطن المغربي وتربيته عليه بالشكل الذي يعيد مصالحة ذاته، ويطالب بشروط مواطنة حقيقية بدل التعويل على احزاب منهكة، والمستحدث منها يرث عطالة القديم بل يعمقها عبر "مسامير الميدة" التي لا تفتأ ترحل بحثا عن الكلأ تاركة الصدأ وراءها اينما حلت وارتحلت للانتجاع(24).

إن تطبيقات الديمقراطية التشاركية والياتها التي تعمد بالأساس إلى تجسير الفجوة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني والمواطن بالدرجة الاولى، هي قادرة على بعث نفس جديد في قيم المواطنة، من خلال اعادة الثقة لدى المواطن في الدولة ومؤسساتها على اعتبار انها "ديمقراطية القرب"، حيث هي على عكس الديمقراطية التمثيلية التي تكون فيها مشاركة المواطنين ذات طابع موسمي أي فترة الانتخابات فقط، وإنما المواطن يحظى بالمحورية في مراكز اتخاذ القرار، ويتمكن من المشاركة الفعلية في مختلف مراحل صنع القرارات في مجال السياسات العمومية، سواء على المستوى الوطني او المحلي، بالنظر لما توفره من اليات تمكن المواطن من الاقتراح والتتبع والمراقبة والتقويم، وهي مسألة يمكن ان تساهم في اصلاح ما أفسدته تطبيقات الديمقراطية التمثيلية، وتضفي نوع من الفعلية على مستوى المشاركة السياسية والتي تتخذ طابع الديمومة أي بنوع من التفاعل بين المواطن والسياسات المعتمدة والمتخذة، مما يضفي ايضا نوعا من العقلانية والترشيد في عملية اتخاذ القرارات.

وعلى هذا الاساس يتولد الاحساس الايجابي للمواطن تجاه الدولة ويتعزز عنصر الانتماء لديه ليس فقط على مستوى علاقته بالدولة، وإنما في سياق العلاقات الاجتماعية التي تتركز وتتثبت أكثر مما يغذي العقل والتفكير الجمعيين بقيم المواطنة، التي تعد الحصن الحصين للفرد والجماعة وتقيها من كل عوامل الهدم التي تحاول النيل او المس بكنه وجوهر المواطنة.

فدستور 2011 له من المقتضيات ما يمكن أن تؤسس بشكل فعلي لمواطنة فاعلة وواعية ومسؤولة وفعالة حالة تفعيلها واستثمارها بشكل جيد، وهي اليات تجعل المواطن في صميم صنع القرار، مما يمكن ان يعيد له الاعتبار في مختلف مدارج التدبير العمومي، و تجعله فاعلا محوريا يقوى على صناعة راهنه ومستقبله وليس ذلك المواطن المتفرج والإتكالي/ التواكلي، على اعتبار انها مقتضيات تجعل منه عنصرا مبادرا ومقترحا وأيضا معترضا ومتتبعا ومراقبا، مما يعزز من فروض اعتباره كائن قائم الذات والكينونة ويحس بأنه مواطن فعلي يمارس حقوقه بشكل فعلي.

 

(أستاذ بالكلية المتعددة التخصصات، الرشيدية، جامعة مولاي اسماعيل، مكناس، المغرب)

الهوامش

(1) Democratie participative,voir le site web suivant;

http://fr.wikipedia.org/wiki/D%C3%A9mocratie_participative

(2) هناك مجموعة من فصول الدستور المؤسسة للديمقراطية التشاركية والتي من شان تفعيلها والعمل بها ان تحدث نقلة نوعية في علاقة المواطن بالدولة، وستعيد الثقة في مؤسسات الدولة، بالنظر إلى فقدانها، والذي أضحى واقعا يلازم نظرة المواطن الى السياسة والسياسيين، مما ساهم في كثير من الاحيان الى نشوء أزمة حقيقية على مستوى فعل المواطنة، فهذه الفصول من شانها ان تحدث مصالحة بيم المواطن والدولة وتبعث بحراك سياسي /مجتمعي تنتج عنه تجليات المواطنة الحقيقية بفعل ما ينبلج من حقوق وواجبات تضمنها تطبيقات الديمقراطية التشاركية، حيث نص دستور 2011، في الفصل الاول والفصل 14والفصل 15، والفصل139 على حق المواطنين في تقديم ملتمسات في مجال التشريع او تقديم العرائض الى السلطات العمومية بالإضافة الى تمكين المواطنين والمواطنات والجمعيات من تقديم العرائض لمطالبة مجالس الجهات والجماعات الترابية بإدراج نقطة تدخل في اختصاصاته في اطار جدول اعماله.

(3) يحيى بوافي، أسئلة الديمقراطية التشاركية، مجلة رهانات، العدد13، 2010، ص5

(4) Democratie participative,voir le site web suivant;

http://fr.wikipedia.org/wiki/D%C3%A9mocratie_participative.op.cit.

(5) يحيى بوافي، أسئلة الديمقراطية التشاركية، مجلة رهانات، مرجع سابق، ص5.

(6) Democratie participative,voir le site web suivant;

http://fr.wikipedia.org/wiki/D%C3%A9mocratie_participative.op.cit.

(7) انظر بتفصيل حول هذه النقطة، حسن مصدق، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، النظرية التواصلية، المركز العربي، الطبعة الأولى، الطبعة الأولى، 2005، ص78.

(8) بول مهيليديس، بنجامين تيفينين، التربية الاعلامية: كفاءات أساسية للمواطنة الفاعلة في ديمقراطية تشاركية، انظر الرابط الالكتروني التالي:

http://mdlab2013.files.wordpress.com/2013/07/d8a8d988d984-d985d98ad987d8a7d98ad984d98ad8afd98ad8b3-d988-d8a8d986d8acd8a7d985d98ad986-d8abd98ad981d98ad986d98ad986.pdf

(9) المرجع نفسه.

(10) انظر حول مقومات المواطنة بتفصيل، عبد القادر العلمي، المواطنة، انظر الرابط الالكتروني التالي http://www.elalami.net/index.php?option=com_content&view=article&id=54&Itemid=37

(11) شفيق المصري، المواطنة في ضوابطها الدستورية، مجلة التسامح، العدد العشرين، خريف 2007، انظر الرابط الالكتروني التالي: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=462

(12) بول مهيليديس، بنجامين تيفينين، التربية الاعلامية:كفاءات أساسية للمواطنة الفاعلة في ديمقراطية تشاركية، مرجع سابق.

(13) تقريرحول الديموقراطية التشاركية في التنظيم المدني، انظر الرابط الالكتروني التالي:

http://www.transparency-lebanon.org/reports/majallta1ar.pdf

(14) عبد الله بن سعيد ال عبود القحطاني، قيم المواطنة لدى الشباب وإسهامها في تعزيز الامن الوقائي، ، اطروحة مقدمة استكمالا لمتطلبات الحصول على درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم الأمنية، كلية الدراسات العليا، جامعة نايف للعلوم الأمنية، الرياض، 2010، ص32.

(15) حسن طارق، السياسات العمومية في الدستور المغربي الجديد، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مؤلفات وأعمال جامعية، 92، الطبعة الأولى، 2012، ص:48.

(16) نفس المرجع، ص ص:47/48.

(17) نماذج لتعزيز التعاون بين المجتمع المدني والسلطات العامة، تم وضع هذه الورقة بناء على البحوث التالية: كاترينا هادزي ميسفا إيفانز: الممارسات الأوروبية المتعلقة بتنفيذ أوراق السياسات ومكاتب التنسيق التي تدعم تنمية المجتمع المدني. المركز الأوروبي لقوانين منظمات المجتمع المدني والمركز الدولي لقوانين منظمات المجتمع المدني 9002. المركز -الأوروبي لقوانين منظمات المجتمع المدني والمكتب الصربي للتعاون مع منظمات المجتمع المدني، 9002 الحفاظ على الزخم: تحسين التعاون بين السلطات الحكومية والمجتمع المدني في غرب البلقان وتركيا. إستر هارتاي: تحليل مقارن لمؤسسات وصناديق المجتمع المدني، المركز الأوروبي لقوانين منظمات المجتمع المدني والمركز الدولي لقوانين منظمات المجتمع المدني 9009. كاترينا هادزي ميسفا إيفانز: لمحة مقارنة للمعايير والممارسات الأوروبية المتعلقة بتنظيم مشاركة العامة.رسالة طلبها مركز التعاون والأمن في أوروبا والمركز المقدوني للتعاون الدولي، 9000يضم مصطلح منظمات المجتمع المدني المنظمات غير الربحية والمنظمات غير الحكومية كالنقابات والمؤسسات والأحزاب السياسية ونقابات العمال والإعلام والمنظمات الدينية وما إلى ذلك. أما الأغراض هذه الورقة فإننا نعني بمصطلح منظمات المجتمع المدني فئة ضيقة منها النقابات والمؤسسات الخاصة والتعاونيات غير الربحية. تستخدم هذه الورقة مفهوم المنظمات غير الحكومية والذي عادة ما يستخدم كم ا ردف لمفهوم منظمات المجتمع المدني فقط في الحدود التي يكون بها هذا التعبير جزءا من الاسم الرسمي لصك مؤسسي محدد للتعاون.انظر الرابط اللكتروني التالي:

http://www.icnl.org/programs/mena/afan/Docs/Models%20to%20Promote%20Cooperation-%20Arabic.pdf

(18) نماذج لتعزيز التعاون بين المجتمع المدني والسلطات العامة، مرجع سابق.

(19) المرجع نفسه.

(20) انظر الفصل139، من دستور2011.

(21) عبد المطلب احمد غانم، التخطيط ومشاركة المواطن أو التخطيط التشاركي، انظر الرابط الالكتروني التالي:

http://www.pidegypt.org/download/Local-election/ParticipatoryPlanningAdvocacy%20Dr.El%20Sayed%20Ghanem.pdf

(22) ديدي ولد السالك، تكريس قيم المواطنة مدخل لترسيخ الممارسة الديموقراطية، المواطنة في المغرب العربي، مجموعة الخبراء المغاربيين، مركز الدراسات المتوسطية والدولية، عدد 09، نوفمبر2012، انظر الرابط الالكتروني التالي:

http://www.cemi-tunis.org/medias/files/bulletin-cemi-09.pdf

(23) امحمد مالكي، الاندماج الاجتماعي وبناء مجتمع المواطنة في المغرب الكبير، المؤتمر السنوي الثاني للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، انظر الموقع الالكتروني:

http://www.dohainstitute.org/file/Get/dc92d519-2cb0-4204-bc7b-d9890448d517

(24) يحيى بوافي، أسئلة الديمقراطية التشاركية، مجلة رهانات، مرجع سابق ص5.