يرى الناقد المصري أن الحدث 25 يناير 2011 يوجد في هذه الرواية بشكل مباشر، ومبطن في الوقت نفسه، كما يلعب التخييل فيها الدور الأساسي، إن لم يكن هو البطل الفعلي في العمل. ويعتبرها أقرب إلى المتتالية القصصية لدورانها منذ البداية وحتى النهاية حول موقف أو مشهد واحد، هو اكتشاف جثة «عربي» مقطوع الرأس.

«عكاز» سمير فوزي .. بين التاريخ والرواية

شوقي عبدالحميد يحيى

تعددت الآراء بين النقاد والدارسين حول مفهوم "الرواية التاريخية". فمنهم من ربط المصطلح بنوع الخطاب ، ومنهم من ربطه بالفترة الزمانية بين الفعل أو الحدث وبين زمن الكتابة. والحقيقة أن اعتماد التسمية علي الفارق الزمني وحده بالنسبة للرواية ، ليس تحديدا دقيقا، إذا ما أقررنا بأن الرواية هي أبطأ الأعمال الأدبية تعبيرا عن واقعة محددة، وأن فترة زمنية لابد أن تمر بين الحدث والكتابة، حتي يمكن – أولا – إعتبار العمل رواية. والأمر هنا يتطلب تحديد رؤية مشتركة بين الجميع لمفهوم الرواية، رغم الاختلافات العديدة وغياب تعريف محدد للرواية . أما ما يمكن أن يكون محل اتفاق حولها، فهو أن الرواية عمل سردي، ينبني علي حدث واقعي، مسرود بصورة تخيلية. وبغياب أحد العنصرين، يخرج العمل من زمام النوع الأدبي (الرواية).

وانطلاقا من قناعتنا بأن الرواية هي المؤرخ الحقيقي، أو الصادق، لمسيرة الشعوب، فإن تناول الرواية لأحداث معاصرة، سوف لا يمر عليها كثير من الزمن لتصبح،  تاريخا، أو إخبارا بما كان. ولا شك في أن ما (حدث) في العام 2011، في العالم العربي عموما، وفي الخامس والعشرين من يناير في مصر تحديدا، وإن لم يكن ما مر عليه كثير من الزمن، لهو تاريخ سجله المؤرخون في صفحة الزمن، وسجله الروائيون في صفحة الأدب. وما سطره كلاهما أصبح تحت مبضع التشريح، وعلي مائدة الدرس، للفرز والتصنيف.

فإذا ما تأملنا ما أخرجته المطابع من أعمال كتبها كتابها علي أنها أعمال روائية، وعرضناها علي القاعدة السابقة، فسنجدنا أمام تجارب تنوعت. حيث نجد أن البعض قد تسرع وكتب عن ما حدث، ولم يكن الحدث قد بانت معالمه بعد ، فجاءت الكتابة تحت ما يمكن تسميته بـ "المرحلة التسجيلية". حيث اكتفت بتسجيل ما كان يحدث في الميدان، مثل "ليلة التحرير" لمحمد العون. أو حاولت استخدام التخييل، غير أن الحدث فيها لم ينصهر في المتخيل، فبدت كما الزيت علي الماء، مثل "أشياء عادية في الميدان" لسيد نجم. حيث تحولت هذه الأعمال إلي مجرد الإخبار بما حدث، وكأننا نسجل التاريخ.

 

وأعمال أخري حاولت تجذير الحدث، بخلق نوع من عوالم متخيلة، إلا ان غلبة الجانب التسجيلي عليها –أيضا- يقربها من "المرحلة التسجيلية"، مثل "السعار" لعطياط أبو العينين"، حيث أقامت محاكمة للأباء الذين قصروا في الثورة علي النظام ، فحملها الشباب علي أكتافهم. ومثل "أوقات للحزن والفرح" للراحلة ابتهال سالم، والتي لعبت علي خطين متوازيين، خاص وعام، مثلما فعلت مني الشيمي في "مثل حبة عنب". إلا أن الخطين عند ابتهال ظلا متوازيين، ولم يمتزجا فظلا منفصلين. غلب علي العام فيه جانب استعراض شعارات الميدان، فكانت أقرب للمرحلة التسجيلية.  

 

ومرحلة ثالثة جاءت بعد مرور بعض الوقت علي الحدث، تناولت، أو حاولت ترجمة الحدث (25 يناير)  بتجسيد شعاراته في نماذج بشرية حية، تنطق بتلك الشعارات، تلميحا، لا تصريحا. فكان التخييل في الظاهر، والحدث في الباطن، مثل "الحريم" لحمدي الجزار، "سيرة الناطوري" لمصطفي البلكي، وبشكل ما كانت "شجرة اللبخ" لعزة رشاد، و "مثل حبة عنب" لمني الشيمي والتي ربطت فيها بين واقعين، شخصي وعام، وكان التخييل في قوة الربط بينهما. وهو ما يمكن أن نطلق عليه "مرحلة النضج" تجسيدا لقول تولستوي، صاحب رواية "الحرب والسلام" التي أعتبرت النموذج في تناول حدث تاريخي بطريقة إنسانية، لا تسجيلية، حين قال { إن المؤرخ الذي يدرس الدور التاريخي الذي قام به شخص في تحقيق هدف واحد من الأهداف، يقع على أبطال. أما الفنان الذي يدرس أفعال فرد من الأفراد في كل ظروف الحياة، فإنه لا يمكنه، ولا يجب عليه، ان يرى أبطالاً وإنما هو يرى بشراً}.

ثم كانت رواية " العكاز" لسمير فوزي، والتي تواجد فيها الحدث بشكل مباشر، ومبطن في ذات الآن، كما لعب التخييل فيها الدور الأساسي، إن لم يكن هو البطل الفعلي في العمل. حيث تقوم الرواية علي تجسيد (الفساد) في شخصية "عربي" الذي وجد مذبوحا، مختفي الرأس، ولم يتبق من جسده سوي البقية الضئيلة، حيث كان في حياته مقطوع الساقين، ولا يستطيع السير إلا بعكازين.

حيث تبدأ الرواية بإهداء، يبدو ملغزا في البداية، لكننا نكتشف دوره الرئيس في النهاية. وفيه يهدي الكاتب عمله "إلي من قتل عربي .. طبعا". فنتبين رؤية الكاتب من خلاله، حيث يمنح الوسام لذلك الذي قتل "عربي" أو (أبو الفساد) ، وإضافة (..طبعا) لتأكيد وـتأييد عملية القتل، بل وقطع الرأس واختفائها، وكأنها رأس الحية، لا راس عربي. والتي يجسدها سمير فوزي في جملة ناطقة حين قال في وصفه {ضحك بشدة، فبان داخل فمه الخالي تماما إلا من نابين طويلين}.

 ولا يخفي ما يضمره الكاتب من استخدام إسم "عربي" تحديدا، كإشارة رامزة أيضا.

تتشكل الرواية علي شكل تحقيق نيابي حول إكتشاف مقتل "عربي" استدعي فيه وكيل النيابة، المسكوت عن ذكره، كل من كانت له صلة بالقتيل. لنكتشف أنه مصدر تعاسة وبؤس للجميع، من عمليات نصب ونهب، وتجارة في كل الممنوعات، من نساء ومخدرات، واستغلال ..إلخ. وفي أثناء شهادة الشهود، يسرب الكاتب إلينا بعض أمراض المجتمع ومعاناة الناس. تأتي في سياق الحديث، وكأنها أشياء عابرة. دون أن يصرح لنا بأنها المسامير التي كانت تدق في نعش النظام الذي ثارت عليه الجماهير في ثورتها، في الخامس والعشرين من يناير. مثل البطالة والنفاق، والرشوة، والمبيدات الملوثة التي أمرضت الناس، وسطوة زوجة الرئيس، والنعوش الاتية من العراق(كدليل للفقر والحاجة وهجرة الشباب)..إلخ. { معلش يا خالي، إنت شايف حال البلد، هو فيه دولة في العالم يحكمها شخص واحد 30 سنة؟}.

يكشف سمير فوزي عن المفاجآت التي كشفت عنها ثورة يناير من ثروات كانت مخبأة لدي من لم نكن نتوقع منهم كل تلك الثروات. فنفاجأ ، بتلك الثروة التي كانت لدي "عربي" مخبأة لا يعلم عنها أحد شيئا، رغم مظاهر البؤس البادية عليه، من عرج وعدم تغيير ملابسه –أبدا- ونومه في زاوية الصلاة. حيث يكشف المحامي "عاذر أبادير" الوحيد الذي أطلعه "عربي" عليها وهي:

{تبين من الأوراق أن عربي يمتلك ثلاث عربات ميكروباص ، وتوكتكين، وتاكسيا حديثا ماركة لانسر، وقطعتي أرض علي الطريق الصحراوي، وبيتين، أحدهما في بهتيم، والثاني في روض الفرج، وجدت شيكات علي بياض وإيصالات أمانة بمبالغ كبيرة، موقع عليها من عدة أشخاص.....}ص10.

ويكشف الكاتب عن وجهته التي أرادها، وما نراه بؤرة العمل كله حين، أجبر "عربي" ابن صاحب الجراج الذي يعمل به "عربي" علي ترك شهادته - "بكالوريوس علوم" - والعمل كسائق علي ميكروباس، للصرف علي والده (صاحب الجراج) المريض، بعد أن غدر به "عربي" واستولي علي كل دخل الجراج. وفي أثناء سيره بالميكروباس في أحداث 25 يناير، يتجه الإبن إلي التحرير، ليواجه معركة الطوب بين المتظاهرين والشرطة، فيخرج مكنون نفسه، ومكنون كل من خرج في الثورة المصرية:{لا أذكر انني كنت يوما طرفا في خناقة، ولم أشتبك بالأيدي يوما مع أحد، حتي في الأيام الأولي للثورة، كنت أقرب إلي المتفرج المشارك بقلبه، ولا أعرف من أين جاءتني هذه الحمية، وجدت نفسي يوم الواقعة مندفعا إلي الصف الأمامي، أكسر بلاط الرصيف مع الشباب، وأقذفه تجاه كوبري أكتوبر، وأختبئ خلف ألواح الصاج التي نخلعها من سور الميدان، كان الطرف الآخر مجرد أشباح، فأراهم عربي والشيخ ومدير مستشفي الصدر الذي يصر علي أن يخرج أبي من المستشفي ليموت في البيت ليخلي سريره}.فكانت هذه هي الإشارة الوحيدة التي تحيل القضية كلها إلي ذلك الحدث الضمني المختبئ وراء التحقيق من البداية. وتتحول كل الشخوص أو الشهود إلي عوامل مساعدة للفساد الذي ثار عليه الجيل الثاني (ابن صاحب الجراج، أو ابن صاحب البلد –في الرؤية العامة- ، فهو الذي رفض انتهاج خاله وكيل وزارة الأوقاف في تأييد الحاكم وتحريم الثورة عليه ، وهو الذي رفض (نهب) محتويات الأقسام بعد حرقها. وهو الشباب الضائع الذي لم يستطع ولم يجد العمل الذي يتناسب ومؤهله الدراسي. والذي لم يكن يملك غير بلاطات الرصيف، يضرب بها الفساد في الخامس والعشرين من يناير. ولتنضاف  رواية "العكاز" إلي مسيرة الرواية المصرية بعد 25 يناير 2011، متميزة بالجمع بين التاريخ والرواية.

التقنية الروائية
ليس حجم الرواية البالغة  خمسة وثمانين صفحة من القطع المتوسط – فقط هو ما يجعل الرواية أقرب إلي المتتالية القصصية، ولكن دورانها منذ البداية وحتي النهاية حول موقف أو مشهد واحد، هو اكتشاف جثة "عربي" مقطوع الرأس، فلا نشهد تطورا دراميا يصاعد بالحدث فوق ذلك. ولهذا أصبح علينا أن ننظر إلي كل إشارة ترد فيها لابد أن يكون لها دور ، ومهمة.

من تلك الإشارات، تلك التي وردت علي لسان "نبيل" ابن صاحب الجراج، في وصفه لمشهد الميدان في 25 يناير والتي يقول فيها:

{ كانت حشود من الناس أمام مدخل القسم الذي وجدته مستباحا، رأيت الكثيرين يكبرون وهم يسحلون شابا من داخل القسم، خلعوا ملابسه تماما، كتفوا يديه وقدميه وربطوه في عامود الكهرباء، منهم من كان يبصق في وجهه ومن يركله بقدميه أو يصفعه علي وجهه، والشاب مستسلم تماما. سألت فقال لي أحد الشباب الملتفين حوله: دا ابن الشرموطة محمد أبو حشيش ظابط المباحث...}.

ولا يخفي علي الجميع أن ثورة يناير قامت بالدرجة المباشرة علي الشرطة التي كانت أول المضارين من ضرباتها، وفي يوم عيدها، كرد علي إعتبارها القوة التي يعتمد عليها النظام في الحكم، أو في البطش بالشعب، أي العكاز الذي تستند عليه السلطة في وجودها، وضربه رمز لتكسير عكازها وتعجيزه عن الحركة.

فإذا ما عدنا إلي مشهد "أم أحمد" التي استدرجها "عربي" وقام بتصويرها عارية، لاستغلالها في أغراضه. وعندما تمكنت منه وهو نائم أبعدت عكازيه عنه بمسافة كبيرة، فبدا عجزه الحقيقي، حيث أخذ يستعطفها، ولم يستطع الوصول إليهما إلا زحفا علي بطنه، فكان العكازين هما نقطة ضعف ذلك المتجبر، الذي لا يقف في طريق شروره  أي وازع من ضمير أو أخلاق. فهنا نعود إلي عتبة الرواية الأولي وهو العنوان، لنتبين الرابط بينه وبين الرواية. حيث قد يبدو للوهلة الأولي أنه اختير فقط إشارة إلي عكاز "عربي" والذي له دور فعلي في صمود الطاغية، الفرد، ولننفذ منه إلي أنه عكاز الطاغية الأكبر، وهو السلطة. ولنقترب أكثر به من دوران الرواية حول ثورة يناير، رغم محاولة الرواية أن تقترب من ثورات الشعب المصري في العصر القريب (مثل ثورة الأمن المركزي ).

وعلي الرغم من التأييد الكاسح لفعل الثورة في 25 يناير، إلا أن أحدا لا يستطيع القول بأن التأييد كان بنسبة مائة بالمائة. تلك النسبة غير البشرية، أو غير الإنسانية. فكل ما هو إنساني، هو نسبي. والعمل الروائي –كما أشرنا سابقا – هو العمل القائم علي البشر، لا علي النموذج المطلق. وحيث أن "العكاز" تدور كلها حول البحث عن قاتل "عربي" وقطع رأسه، الأمر الذي يجعل الرواية أشبه برواية الأصوات. تلك التي تعتمد علي اختلاف وجهات النظر حول موقف معين ، أو شخص معين. وإن انحصرت أقوال كل شاهد من الشهود –إن جاز لنا ذلك التعبير- حول علاقته بالمجني عليه (الجاني الأصلي)، ولم تكن وجهة نظر، إلا أن شهادة أي شاهد، تعتبر تعبيرا عن رؤيته هو للحدث أو الواقعة، أو الشخص، أي أنها تعبر بشكل ما عن وجهة للرؤية. غير أننا وجدنا أن كل الأصوات، ساهمت وأضافت إلي تشويه "عربي" فوق تشويهه الجسماني. فتحول "عربي" من شخص، إنسان. له سقطاته وسوءاته، إلا أن الأمر لايخلو من وجود بعض اللفتات الإنسانية، حتي وإن ندرت، وقد كانت سانحة للكاتب في علاقة "عربي" بابنته، الوحيدة التي كانت تقبل يديه ورأسه، والوحيدة التي حاول مساعدتها في زواجها. خاصة –أيضا- بأن رواية الأصوات قامت علي أساس رفض المطلق، واليقين. فتعددت فيها الرؤي التي قد تكون متعارضة. وقد أدي هذا إلي وصول الرسالة الروائية مباشرة، دون الاحتياج لقراءة ثانية أو ثالثة، علي الرغم من غياب الكثير من التفصيلات، أو كثرة المسكوت عنه، والذي كان يمكن أن يفتح نافذة التأويلات، ويزيد من فضاء التخيل لدي القارئ.

فضلا عن أن إسلوب السرد وطريقة الحكي، جاءت جميعها علي ألسنة الرواة المتعددين، هي ذاتها، فلم نشعر بتغير ما بين سرد "أم أحمد" أو "أم صابر" وبين سرد "الشيخ منصور عتمان وكيل وزارة الأوقاف" أو "منير توفيق" المدير العام بالسكة الحديد. وهو ما أدي إلي غياب الحراك الدرامي، رغم نجاح الكاتب في خلق عملية التشويق، واللهاث، الناتج عن الاقتراب من إسلوب الرواية البوليسية، وكثرة المسكوت عنه حتي نهاية الرواية، والتي تخلق حالة الترقب والبحث عن ذلك المسكوت عنه.

نقطة أخيرة جاءت في إشارة الكاتب للكلب مرتين.. حين ذهب "نبيل" ابن صاحب الجراج ليطالب بحقه وحق والده في إيجار الجراج، فوجدنا الكلب ينبح بإصارا علي "عربي" الأمر الذي استفزه كثيرا.

والمرة الثانية والتي تأتي في نهاية الرواية، حيث يجد "منير توفيق" الكلبة وقد تركت صغارها أسفل السيارة، وعندما يتراجع توفيق عن طردهم من أسفل السيارة، يتقدم "عربي للقيام بالمهمة، فتهجم عليه الكلبة وتحما أبناءها (اتنين اتنين) وتذهب بهم بعيدا، ثم تعود لتفترس رقبة "عربي" بإصرار، الأمر الذي يذهب به إلي المستشفي.

والربط هنا بين ظهور الكلب في الحالتين، وبين أن الكلب هنا – تقريبا- هو الفعل الإيجابي الوحيد ضد "عربي" . الأمر الذي يوحي بدلالة مرفوضة منطقيا، سواء كان منطق القارئ، أو منطق الكاتب ذاته الذي أضاف في إهدائه عملة لقاتل عربي "طبعا".

فلو أن الفعل كان من أحد الشباب، وليكن نبيل مثلا لاتفق ذلك مع منطق الرواية، ومنطق الكاتب "طبعا".

غير أن ذلك لا يمنع أن تكون رواية "العكاز" إضافة جديدة ومتميزة في مسيرة الرواية المصرية بعد الخامس والعشرين من يناير 2011.

 

Em:shyehia48@gmail.com