«الأنامل الصينية لا تعرف أن تنتج شيئا غير جميل»
بابلو نيرودا
الأدب الصيني، نهر إبداع ـ يضاهي جمال وعظمة النهر الأصفر، شموخ وخلود سور الصين العظيم احدى عجائب الأرض السبع. الصين هذا الهول البشري الملياري الجبار، هذا الشعب الذي قهر الجبال وروض الطبيعة وانبت الصخور، هذا الشعب الذي خلد الحياة وتفكر العالم فولد واستولد الكنفوشيوسية والتاوية هذه الفلسفة الخالدة والحكمة المتجددة
هذا الشعب محب الحياة وصانع الجمال، وكما يقول الشاعر الكبير بابلو نيرودا «لا تعرف الانامل الصينية ان تصنع شيئا غير جميل» هذا الشعب الذي استطاع قهر الاستعمار الياباني وما سواه، الذي شيد اكبر بلد اشتراكي في العالم .... الشعب الذي تشبع بروح الكونفوشيوسية فلسفة الحياة والعمل والامل، الشعب الذي ولد في رحمه العظماء.... ومنهم القائد الشيوعي العظيم ماو تسي تونغ الذي احبه شعب وقدسه حزبه، احبه بجنون وانتقده بعقل وكفاءة كبيرة، فشيد اكبر اعظم دولة في عالم اليوم من حيث القوة الاقتصادية والاستقرار السياسي والاجتماعي .... هذا الشعب الذي له اكثر من وشيجة علاقة بالعالم العربي من حيث الثقافة والادب حيث قال الدكتور صبري حافظ «الأدب الصيني كرديفه العربي، له تاريخ طويل وعريق، يحاوره الأدب المعاصر، ويقيم علاقاته النصية معه.» مجلة الدوحة العدد 61 نوفمبر 2012.
وقد احتفى الشعب العربي وبالاخص ادبائه ومثقفيه بحصول «مو يان)» الروائي الصيني على جائزة نوبل، كما فرح ادباء ومثقفي الصين بحصول العالم العربي ممثلا بنجيب محفوظ لهذه الجائزة
ورغم تحيز عالم الادب لقوى الراسمال العالمي وهيمنته على لجنة جائزة نوبل وبالخصوص بالضد من الكتاب والادباء والمفكرين ذوي التوجهات اليسارية والاشتراكية وحتى من المستقلين ولكن غير المعادين لانظمتهم الاشتراكية الحاكمة، نقول رغم ذلك استطاع التنين الاصفر ان يخترق حاجز الحضر ضد ادباء الصين ليحصل على جائزة «نوبل» للادب لعام2012 للروائي الصيني "مويان"
وبجدارة تستحق التقدير والاعجاب، حيث اتحف الاديب الصيني العالم بروائعه الخالدة في مختلف الاجناس الادبية
وهنا لابد لنا من الاشارة الى ان نعلن اسفنا بسبب قلة النتاجات الادبية الصينية المترجمة الى اللغة العربية قياسا الى ما ترجم من اللغات الاخرى كالانكليزية والالمانية والفرنسية والروسية ... نتمنى ان يهتم الادباء والكتاب العرب من المترجمين الى اتحافنا بالنتاج الادبي الصيني الرائع حقا .... ولا ادري هل هناك ترجمة لكل اعمال الاديب الصيني "مو يان" الحائز على جائزة نوبل لعام 2012 او لا؟
في مقالنا هذا سنقف عند احد المبدعين الكبار في عالم الثقافة والادب الصيني ألا وهو الاديب «لاوشه» (1899-1966)، الذي يعتبره بعض النقاد والادباء العرب بانه «من أشهر أدباء الصين المعاصرين و من أعظم وأجل الأدباء الواقعيين في الأدب الصيني الحديث و من أعلام المسرح الوطني الصيني المعاصر ... ويتمتع بشهرة عالمية
.. و قد أثنى الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ على الثقافة الصينية والأدب الصيني حيث أبدى إعجابه بكتاب المحاورات الكنفوشيوسية و رواية الجمل شيانغ تسه للكاتب الصيني الشهير لاو شه و ذكر محفوظ أن رواية الجمل شيانغ تسه أعجبته كثيرا وهي تتفق مع المجتمع العربي (موقع الركن الاخير الاربعاء 3-3-2010)
لاوشه المنحدر من عائلة فقيرة، رغم ذلك استطاع ان يحصل على دبلوم دار المعلمين سنة 1918، كما اتاحت له اقامته طوال خمس سنوات في العاصمة الانكليزية مطالعات عديدة فتحت امامه افاقا واسعة على الادآب الاوربية والامريكية، عاد الى الصين في اواخر العام 1949، لم يتردد في ان يضع موهبته ككاتب مسرحي في خدمة النظام الصيني الجديد، منح عام 1951 لقب «فنان الشعب» في 24 اب من عام 1966 وجد ميتا على مقربة من بحيرة في العاصمة بكين.... (اندريه ليفي – معجم الادب الصيني – ترجمة محمد حمود ص303.)
من وهم الخلاص الفردي الى الوعي الطبقي، او مسيرة نضوج الوعي
سنحاول ان نلقي نظرة فاحصة على رواية (الجمل شيانغ تسي) التي كتبها «لاوشه» قبل التحرير ... حيث يجسد الراوي بصدق وحيادية كبيرة معاناة المواطن الصيني الفقير وكفاحه المرير من اجل حياة افضل بمتابعة فطنة ومدهشة دالة على تماس كبير للكاتب بحياة ابناء شعبه من الفقراء والمعدمين وانحيازه الواضح لهم ولتطلعاتهم للحرية والسعادة والرفاه، ويمكننا القول ان مجمل مضمون روايته انما هي تحريض هذه الطبقات للتضامن فيما بينها والثورة ضد الظلم،ونبذ الحلول الفردية الانانية والعمل من اجل كسر قيود القهر والاستغلال الذي ترزح تحت سوط قسوته الاغلبية من فقراء لمدينة والريف ....
يسرد الكاتب حياة كادح صيني بسيط يحترف جر عربة «الركشا» في العاصمة بكين من اجل ان يحصل على لقمة عيشه ... هذه الركشا المحملة والمثقلة باصحاب الثروة والكروش لتقلهم حيث يريدون هم وعوائلهم ومحظياتهم، وكانه يقول ان سعادة وهناء وحركة اصحاب الثروة انما تحمل على ظهور واكتاف فقراء الشعب المقهور، مقابل لقمة عيش خشن مهدد في اية لحظة وفي اي وقت وزمان دون اية رحمة او وازع من ضمير. فقد قرر هذا ال «شيانغ تسي» الذي لقب لاحقا ب «الجمل شيانغ تسي» نتيجة لصبره وتجلده وتحمله وقوته، فقد قرر ان يحترف مهنة جر ((الركشة)) «وجد ان جر الركشات هو اسهل الطرق لكسب المال» ص5 وان يوظف كل قواه الجسدية والعقلية من اجل ان يتخلص من عبودية ملاك ((الركشات)) المستبد، حالما بامتلاك ركشته الخاصة والعمل لصالحه الخاص متخلصا من استغلال السيد «الرابع ليو» وسطوة ابنته المسترجلة الملقبة بـ«النمرة».
ولكن هيهات ان تتحقق امنيات وطموحات الكادحين عبر الجهد الفردي الشخصي لانه من يرتهنه انما هو نظام متماسك من ذووي الثروة والسطوة والجاه المتكافل مع الطبقة السياسية الحاكمة ومؤسساتها القمعية، فبعد ظفره بركشة جديدة، ركشته الخاصة بعد ان انهك نفسه بالعمل وحرم نفسه من المتعة من اكل وشرب ولبس، وحلق في عالم الخيال حالما بالحرية والعيش الكريم والاستقلالية ملبيا حاجاته واحتياجاته الخاصة بعيدا عن سطوة الملاك «اصبحت يد شيانغ تسي تهتزان بقوة اكثر عندما استلم ورقة الضمان، ولما اخرج ريكشته شعر انه سينفجر بدموع الفرح» ص12. ولكنه لم يتمتع طويلا بركشته الجميلة حيث وقع تحت قبضة قوى الجيش المتوجه نحو الحرب فتصادر ركشتهـ ويتعرض للضرب والاهانة من قبل هؤلاء الاوباش حيث يتعرض الناس للإهانة ومصادرة املاكهم وحيواناتهم وتسخيرهم كرقيق وعبيد في خدمتهم واغلاق ابواب الافلات من قبضتهم القاسية القذرة . «فقد نشلوا كل شيء منه، ثيابه وحذاءه وقبعته وريكشته وحتى حزامه القماشي» ص20
رافق هذه القافلة العسكرية دون ان تفارقه فكرة الخلاص من ايديهم، رغم المه الذي لا يوصف لفقدانه لركشته، فقد استطاع ان يغامر في ليلة مظلمة ان يفلت من الاسر مصطحبا معه ثلاثة جمال تركها الجند هربا من نيران مدافع غير مرئية، مما مكنه بعد مسيرة شاقة في اقتيادها عبر طرق وممرات خطرة ووعرة، تمكن من بيعها لاحد اغنياء الريف ليسترد جزءا من سعر ركشته المصادرة .... ويدخر ثمنها مواصلا عمله بجر ركشة الاستاذ «تساو» باجر شهري مقطوع، متأملا جمع ثمن «ركشة» جديده حلمه الذي لا ينقطع بالاستقلال والحرية ... ولكنه يقع ثانية في يد قوى القمع السلطوي ويعاد ثانية للضياع وسلب مدخراته على يد شرطي الامن السلطوي الذي كان يطارد ويلاحق سيده «تساو»، ليقضي على احلامه من جديد، مما يضطره للوقوع في شباك «النمرة» ابنة مالك الركشات لتمتص جسده وروحه عاملا بلا كلل على جسدها وعلى ركشتها، اي رجع الى قيود العبودية والارتهان الروحي والجسدي في معاشرة مخلوقة لا يحبها نموذج طبقة طفيلية مستغلة منحلة انانية، رغم ذلك تعرضت حياته لهزة عنيفة بموت «النمرة» هي وجنينها اثناء المخاض العسر، كدلالة لعدم نجاح عملية التهجين بين البرجوازية والكادحين في ظل ظروف الصين الاجتماعية والاقتصادية آنذاك ....
بعد هذا الكم الهائل من المعاناة استطاع ان يعيد النظر في سلوكه السابق، منتقدا سيرته المبنية على الانانية ومحاولة الانغلاق على الذات ومحاولات الخلاص الفردي المرتدة عليه بالفشل والخذلان في كل مرة عليه بالخيبة والخذلان، فالموضوع هنا اكبر كثيرا من قدرة وارادة الذات الفرد مهما بلغت من الجرأة والاقدام، مما جعله اكثر تلاؤما مع محيطه وبيئته وعلاقاته مع زملائه متضامنا مع زملائه وابناء طبقته في السراء والضراء متخليا عن حلمه في امتلاك ركشة جديدة خاصة به متخلصا بذلك من اوهام البرجوازية الصغيرة في الامتلاك والخلاص الشخصي، خصوصا وقد اخترقت شغاف قلبه واشعلت مصابيح الحب في صدره «العاهرة» الصغيرة المستغلة والمرتهنة كرامتها مثله بسبب الفقر والقهر «شياو فوتسي»، مجسدا صورة وواقع القهر الطبقي الممثل باستلاب الروح والجسد للطبقة الفقيرة من قبل اصحاب الثروة والجاه، مقتنعا ان «كل الغربان سود، وهو لا يريد ان ينفرد بلون ابيض» ص252.
عن طريق الصدفة تعرف عليه ثانية السيد ((تساو))، الذي قرر اعادته للعمل عنده باجر شهري وبركشة مستاجرة وفاءا لأمانته واخلاصه في خدمته، كما انه وعده بإعطائه غرفة تجمعه مع حبيبته «شياو فوتسي» بضمانته فسيدة الدار بحاجة الى خادمة اضافية في المنزل ... فكاد ان يطير من الفرح والسعادة حيث فتح له باب الامل والعمل من جديد، قرر البحث عن الحبيبة التي توصل الى قرار بانه سيعيش معها بسعادة وحب ووئام فهما من طبقة واحدة وتحت وطأة ظلم وقهر ومعاناة واحدة، ناهيك عن جمالها ورقتها ومحبتها له، لكنه صدم ثانية حيث اخبر بعد عناء بحث مضن ان «شياو» وجدت مشنوقة على جذع احدى اشجار الغابة المحاذية للمبغى الذي اجبرت للعمل فيه، لأنها ما عادت تطيق مثل هذه الحياة الحقيرة المبتذلة.
وهنا لازالت قوى الموضوع القهري هي المهيمنة على الارادة الفردية الطامحة بالاستقلال والحرية والانعتاق، مما تسبب له المزيد بالقناعة بان الحلول والمساعي الفردية للخلاص عقيمة وغير مجدية، فعاد ثانية الى احضان طبقته وزملائه متخليا عن العمل في حضرة السيد «تساو»، ليكون حرا طليقا بجسده وقوته مازال قادرا على جر «الركشة» عسى ان تشرق الشمس يوما على اكواخ الفقراء والمعدمين والكادحين لضمان حرية الجميع وفك اسارهم من عبودية العمل المأجور وجشع قوى الرأسمال والاستبداد، وكأنه ينتظر اشراقة انتصار ثورة الشعب الصيني العظيم في 1949 بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، وقائده الخالد ماو تسي تونغ.