يصور القاص العراقي الحالة الداخلية لشخصية تكلف بتصفية رفيق عمل سري خائن، من لحظة الخروج لتنفيذ المهمة، القرار، اضطراب المشاعر، التردد، الإقدام، القلق، واختلاط المشاعر الخفية التي تعصف بكيان المقدم على قتل من كان رفيقا، وما يعقب عملية التنفيذ من مشاعر وأحاسيس.

اغتيال

علي عباس خفيف

منذ أيام شعرت أنني لا اهتم لطرد الذباب الذي كان يحط على وجهي. فقد قيّدَني الإهمال بعد عملية الاغتيال كثيراً، كأن قلبي الوديع قد احترق، وذرّت رماده الرياح. إهمال بلا أسف، تخثّرَ الإهمال مع الأيام في عروقي، وتحوّل إلى نحول، أو شعور تام بالخدر.

حينما قمت من فوق كومة القش لم أزل عن ثيابي التراب وأعواد القش التي علقت بها، وكان شعر رأسي متسخاً و مشعّثاً.

 في الغرفة الصغيرة نصف المظلمة، الخالية من الأثاث، قال لي رفيقي :

-                     " مسدسك عيار 9 ملم."

شعرت بالبرد الذي تسربه البلاطات القديمة الرطبة، من تحت حصيرة سعف النخيل،إلى عظامي. برد يجمّد حتى الرغبة. موجة من استسلام باردة وحيادية.

في ضجيج (محلة البجاري) كانت الغرفة هادئة، عارية الجدران. بعض الكتب غير المرتبة في الزاوية. أوراق بيضاء مرتّبة في حافظة جلد قديمة. شيء من صفاء السماء حينما تنسكب في ذاكرة.

أعطاني المسدس.

أشعرني ملمس المعدن البارد بقشعريرة مفاجِئة. وذكّرتني رائحة السلاح المدهون بالزيت بانتمائي كرجل. تدفقت رغوة حارة في صدري، وامتلأ رأسي ببخار لذيذ قوي ونفّاذ. اغتسلت البرودة تحتي برائحة المعدن الدافقة في دمي.

تفحصت المسدس، MAB فرنسي الصنع. مرق تساؤل فجأة واختفى من دون أمسك به. تأكدت من امتلاء مخزنه بالطلقات، وسحبت أقسام الإطلاق، ودفعت مسمار الأمان، ثم دسسته بعناية أسفل السرة، بين الحزام والمثانة، ولبست السترة. كنت استحم في هدوء غريب، وفي قلبي قناعة ظاهرة.

وضع رفيقي مسدسه في قرابه تحت الإبط وخرجنا.

لمحتني المرأة التي تجلس عند الباب المقابل وهي متلفعة بعباءة سوداء، بينما كنت اقفل الباب. ارتجف المفتاح بين أصابعي، واضطرب الدم في عروق يدي. وتعرقت كفي على المفتاح البارد. خطر لي أنها تعرف. حيّيتها وأنا أنظر في عينيها، فردت بود أعاد الهدوء لعروقي. كنت اعرف أنها ثكلى.

تركنا الحي القديم، وسرنا على الضفة الشمالية لنهر العشار، إزاء (محلة البجاري). كان الجو، عصر ذاك اليوم، بارداً. بدني كله يختض، والإصرار يتملكني، وأنا امتلئ بجرأة ابن العشرين. قال رفيقي :

-                     " الأمر سهل.. إصبع على الزناد. طق، وينتهي الأمر."

أشرت برأسي موافقاً وأنا أنظر إلى بلاطات الرصيف المهشمة تحت قدميّ، وأرى الغبار ينتفض مع كل خطوة، ويعيد تكوين الاضطراب في قلبي.

-                     " لا تمسك المسدس بقوة. امسكه براحة كأنك تقبض على عصفور. "

 قال هذا، ولم اعرف بم أجيب. كنت مستعداً لقبول نصائحه كلها. رمقني وقال :

-                     " سر مرفوع الرأس. رابط الجأش، لا شيء يستطيع أن يخيفك."

 جاءت قصيدة (والت وايتمان) " أنا رابط الجأش ". لقد عرفت ارتباك التجربة الأولى. ثم حدثني عن أشياء كثيرة، عن تضاريس قديمة للمدينة ؛ عن الشارع الذي كنا نسير على رصيفه والذي أزاح فنادق ومسرّات. في تلك الأثناء، راودني سؤال (ماذا لو لم يأتِ ؟) سألت رفيقي فجأة :

-                     " أواثق أنت انه سيأتي ؟ "

-                     " نعم في الوقت الذي حدده هو بنفسه."

 عندما مررنا أمام (مقهى أبو مضر)، تشاغلنا عن الجالسين، وأحسست بالنظرات وهي تمرق وتنفذ في الهواء من حولنا. اضطرب الهواء في رئتيَ، وزفرت انفاساً حارّة. ثم صعدنا الجسر الذي يتمدد فوق نهر العشار بين سوق (المغايز) وسوق (حنا الشيخ).

-                     " هنا كانت ساعة سورين ! "

 قال يكمل حديثه عن تاريخ المدينة، تاريخ من البهجة. فوق الجسر نظر إلى ساعته، ونظرت إلى ساعتي. وقفنا، كان الوقت مبكراً. اسند صدره إلى حاجز الجسر، أسندت صدري أيضا وهدأت أنفاسي. أنقعت روحي في أعماق مياه النهر التي تنساب بهدوء نحو أسفل المدينة. وأنا اشعر باليقظة.

مازالت المياه تنساب هادئة متغضنة. لاح لي وجهي في المياه داكناً، بلا قسمات واضحة، ترجّه تغضنات المياه الباردة، كأني استيقظ من غفوة، والغيمات البيض المتفرقة فوق رأسي ترتجّ متغضنة في مياه النهر أيضا. ينتفض في قلبي طفلٌ كل لحظة، مع كل نسمة على صفحة مياه النهر، أنط مع الأسماك، ويرتفع فيّ طائر الرفراف وينقضُّ مثل سهم، فألمس الطين في قلبي. التفت رفيقي، ثم همس لي :

-                     " كيف أنت ؟ "

 شعرت أن رأس دبوس ينغرس في صدري، نظرت إليه عاتباً، ابتسم بأخوة، وربت على كتفي، أحسست بالامتنان، وابتسمت له ثم للنهر الذي كان ينساب في روحي بيقين لا يستبيحه خوف.

 سألته :

-                     " أكان برج الساعة عالياً ؟ "

 فاجأه سؤالي :

-                     "..... كان رائعاً."

قالها كأنه يحلم بماضٍ من المسرات. أستطيع أن أقول أنني وقعت في تلك اللحظة على سر محبة الأماكن..

عبرنا الجسر، وسرنا بمحاذاة النهر إزاء سوق (حنا الشيخ) تحت أشجار اليوكالبتوس وأشجار الصفصاف القديمة التي تمد أغصانها خضراء نحو بطن النهر. كنت اسحق ذروق الطيور اليابسة على البلاطات المهشمة بقدمين ثابتتين. انحرفنا سائرين بين سوق (حنّا الشيخ) ومصرف الرافدين ؛ نبضت عروقي بالدم الحار.. سينما الرشيد ؛ دقات قلبي تتسارع.. مطعم (أبو طالب).. سينما أطلس.. أكاد اختنق. للحظة كدت أرى الناس جميعهم يلتفتون نحو ضجيج دقات قلبي - أنا اعرف أنني لست خائفاً.

عندما انعطفنا إلى (شارع الوطني) بدت لي بوابة (سينما الوطني) فماً مفتوحاً على الذهول. ولاح لي أن الناس عارفون ومتواطئون. وقفنا على الرصيف في الجهة المقابلة للسينما. أسند رفيقي ظهره إلى عمود باب مكتبة المثنى، وقال هامساً :

-                     " سأكون هنا دائماً.. لا تنس مسمار الأمان."

كانت تلك نصيحته الأخيرة.

خطوت حتى حافة الرصيف ووقفت انتظر، وظهري إلى رفيقي. تلمّستُ معدن المسدس البارد من وراء الثياب. هاجت الدماء وتحررت من نبضها الرتيب، وتصاعدت رائحة معدنها وامتلأ فمي بطعم ذاك المعدن.

اخذ الهواء يبرد ويشتد تدريجياً مع نزول الشمس، كان عصراً بارداً، فيما الدقائق تمر بطيئة وقلبي يزداد خفقاناً. بردت أطراف أصابعي. أردت أن انظر في ساعتي وتذكرت (لا تنظر في ساعتك). يتسرب السؤال مرة أخرى (ماذا لو لم يأت؟). كنت اعرف أنها مهمة صعبة، ولكن دونما خوف، كنت أتلهف لمعرفة ماذا بعد. شعور هائل بقوة المغامرة مع قليل من الكراهية. والدقائق لا تسير. تتثاقل، وتتجمد.

 فجأة، صعد دفء في أذنيّ. وانخلع شيء في صدري. لقد رأيته. جاء من جهة محلات (عراق سبورت). ارتباك بسيط رشّحت رائحته العرق الذي نزّ من مسامات جلدي حالاً. التفتُ إلى رفيقي، فأشار رأسه بالإيجاب. بأي وضوح كان ذاك الجواب !!.

 تركته يصل حتى بوابة السينما. نظر في ساعته ووقف ينظر في الوجوه. عبرت الشارع نحوه مباشرة بهدوء. رفعت مسمار الأمان من تحت السترة. ولم ينتبه لي وأنا أقف أمامه. سألته فوراً :

-                     " أنت ك. س ؟ "

-                     " نعم أنا.."

 فجأة، سيطر عليّ شيء كالصمم. طقطقت اذناي، وانفتح شلال من الهواء الحار داخلهما. أحسست بتغير أصوات الضجيج. انفجر شيء في داخلي وانغلقت قنوات الصوت. أصبحت مفعماً بالجرأة والعنفوان. سللت المسدس. وبيدي اليسرى أمسكت بعنقه. وضعت فوهة المسدس في منتصف جبهته، وأسندته إلى عمود البوابة الضخم. كان في الأربعين. أطول مني قليلاً. قبضت على المسدس بأصابع صلبة، ونسيت نصيحة العصفور. تكلم بطريقة متذللة. تعجبت، لأني لم أكن أسمع ما يقوله، ولا أدري أتوسلني أم لا. لكنني كنت أرى عينيه تضرعان خائفتين. امسك بمعصم يدي التي على عنقه.عندها نطقت بالكلمات الذي كنت احفظها لأيام من دون أن أسمع ما كنت أقوله :

-                     " حكمت عليك محكمة الـ...................بالموت. الموت للخونة."

 شعرت بأمان كامل وضغطت على الزناد. انفجر الصوت مرة واحدة ملء سمعي !، وتناثر سائلٌ وردي مع كتل مختلطة بالشعر من مؤخرة رأسه، وارتطمت مؤخرة رأسه بعمود البوابة. تراخت قبضته على معصمي، وثقل جسده على يدي، ثم تهاوى على الأرض.

نظرت. كانت عيناه خاليتين، تنظران في الفراغ، وثقب في منتصف جبهته ينز الدم ببطء. لكنني سمعت نبض قلبي وسط خوف الناس واضطرابهم عصر ذلك اليوم الشتائي.

عندما ركبت الزورق الذي كان ينتظرني بعد العملية، عند مرسى الزوارق قرب (كازينو عباس) في أول الكورنيش، شعرت بالقيء يملأ حنجرتي.

وضعت رأسي في ماء شط العرب، تحرك الزورق، وتقيأت كثيراً جداً.

كان التماع أشعة الشمس الغاربة على صفحة الماء مؤسياً. والمياه ما زالت ترتفع في الشط تدريجياً.