يستبطن القاص العراقي حياة أرملة رجل تعوّق في الحرب، ثم مات تاركاً عكازه الصناعي. وما يتركه الفقد الفيزيقي من أثار في روح الشريكة ليطل من خلال هذه النافذة على عالمين عالم الترمل المرير وعالم المعوقين ضحايا الحرب وما يعيشونه من مأساة تمر بصمت وتواطؤ اجتماعي الحياة تعرض عنهم في جريانها

تراتيل العكاز الأخير

محمد علوان جبر

 سيدتي ...  أنا صديقه .

قالها بخجل وهو يقف بقامته المتوسطة بمحاذاة الباب الذي فتحته إلى النصف ، وأنا أتابع بقايا ابتسامة مزروعة على شفتيه وهو يطلب مني أن أمنحه الساق الصناعية ، أن أعطيه الطرف الصناعي لزوجي الذي أمضى سنوات طويلة وهو يتعكز عليه بعد أن فقد ساقه في الحرب ...

 قالها بخجل ممزوج بالكثير من الحزن ...

ــ   سيدتي انه لم يعد بحاجة إليها .

لم أتخيل يوما أن يطلب مني أحد طلباً كهذا ..... تذكرتُ اللحظة التي نُزعتْ فيها الساق اليسرى من الجسد المسجى ، حدثَ ذلكَ قبلَ سنة ، يومها أمضيتُ الليلة الأولى والليالي الأخرى التي أعقبت رحيله ، وأنا أمسك الشيء الوحيد المتبقي منه ، كنت أشعل الشموع وأركن  طرف الساق اليسرى دون أن أنزع الحذاء الجلدي الأسود الذي كنت أديم مسحه جيدا قبل أن أجلس قبالة الشمعة والساق ..أخرج صوراَ تضمني وإياه قبل عوقه وبعده ، والكثير من  علب السكائر بعضها فارغة وبعضها الآخر فيها بضع سكائر كان يخفيها تحت سريره كي لا أراها وأصادرها منه حسب مشورة الطبيب .. وأشرطة قديمة ألقمها جهاز التسجيل القديم ، وتنبعث أصوات آلات موسيقية يشرخها بين لحظة وأخرى صوت عذب لمطرب يردد لازمة  تشبه الأنين ، كنت كلما أحاول أن أثنيه عن سماعها يصر على أن يسمعها كل يوم ، وينتظر أن أخرج " كأن اتفاقا بيننا " لكي يخرج علبة سكائره من تحت السرير ويدخن . أخرجني الصوت الحزين مرة أخرى من ذهولي .

ــ   سيدتي ، صدقيني أنه سيرتاح في قبره كثيراً ، حينما يتناهى إليه بطريقة ما ، أن طرفه بات في حوزة من يحتاج إليه حقا .

لا أعلم كيف عرف أن طرفا لأحد أصدقائه ما يزال بحوزة أرملته ، ولم أستوعب الجرأة التي يتحدث بها . الأمر الذي جعلني أفتح الباب على مصراعيه وأطلب منه أن يدخل وأنا أشير إلى ناحية الكرسي الخشبي الذي يتوسط بقايا الحديقة التي تآكلت بسرعة منذ رحيله .. جلبت له ماءً ، ودون أن يستأذنني أخرج علبة سكائر من نفس النوع التي كان يدخنها زوجي .. نفث الدخان بالطريقة ذاتها ، كدت امنعه من مواصلة التدخين .. لولا النبرة ذاتها التي كان يديم فيها طلبه الملح:

ــ  سيدتي مذ أٌغلق المكان الذي استلمنا منه أطرافنا الصناعية ، بتنا نبحث عن الأطراف التي يتركها  أصدقاؤنا لنا بعد رحيلهم .

واصل التدخين ولمحت انه يرتدي طرفا صناعيا بحذاء مغبر ..

ــ   ماحاجتك  إلى ساق أخرى وأنت ترتدي طرفا صناعياً ...

قاطعني بسرعة:

ــ   سيدتي أنا أُدير مقهى صغيرة هناك ..  وأشار بإصبعه ناحية مكان ما ، مقهى صغيرة تحت ظلال شجرة سدر عملاقه ، تماما تحت اليافطة التي كانت تحمل اسم المكان الذي كنا نستلم منه أطرافنا الصناعية ... نكوم السيقان والأذرع الصناعية تحت الشجرة .. نعرضها تحت الضوء، نجلس حولها نحدثها وتحدثنا ..  ربما كان بعضنا يسمع البعض الآخر ..  أقول ربما .. لا تستغربي ، ولا تقولي إنني مجنون ..!  صدقيني نكاد نشم رائحة الدخان الذي يتصاعد من الأماكن التي تتزلزل فيها الأرض، وكيف كنا نتطاير قبل أذرعنا وسيقاننا .  نبقي الأطراف  في هذا المكان العام "والذي يعرفه كل من فقد ذراعا أو ساقا " ، ونقدمها مجانا لمن يحتاج إلى طرف ليسير ..  ربما يعاني من يرتدي طرفا غير مناسب لجسده أول الأمر ، لكنه سرعان ما يعتاده بسرعة حتى يتحول إلى جزء من جسده .

  - مابه .....؟ حزنه الذي يخفيه تحت خرائط وجهه ..  تلك الخرائط التي حفرها حزن كبير وغامض ، وجدت فيها شبهاً كبيراً بينه وبين وجه زوجي .. كلاهما يتعثر في الكلمات كما في الخطى ...  سألته عن علاقتهما

ــ  سيدتي ،  زوجك كان واحدا منا ، لم نفترق منذ التقينا في مركز تأهيل الجرحى ، المركز الذي كان يقدم لنا الأطراف كما تقدم الأطباق في المطاعم ...ضحكت من عبارته .. وشاركني ضحكي ، ثم حدثني عن حمامات بيض تطير حول تلك الشجرة العملاقة ..

ــ  بعض النسوة لديهن يقين قاطع أن الشجرة مقدسة " نشاركهن في بعض ما يعتقدن " ..  ... إنها شجرة سدر عملاقة ..  لم تفارقها الحمامات وهي تهدل .. بل يكاد هديلها يمتزج مع أحاديثنا  ، أحاديث عن حياة طويلة وشاقة عشناها ...  وعن أطراف عزيزة فقدناها في حروب كثيرة ومتعددة ...  حروب بلا معنى سيدتي ..  كنا نحن وأنتن ضحاياها . وفي أغلب الأحيان تنبعث من الشجرة رائحة نعرفها، تخترقنا بسرعة ونبقى طوال ساعات ونحن نعب من تلك الرائحة التي تقودنا إلى أماكن قصية .. تبقى ملتصقة بأجسادنا المتعثرة .. رائحة لا تشبهها رائحة أخرى .

   لكني قاطعته لأوقف شلال الذكريات التي بدأت تتدفق عبر كلمات يخرجها بصعوبة كما كان يفعل زوجي حينما يكون حزينا ...  

قلت له:

- سأفكر ... " أتمنى عليك أن تمر علي خلال يومين ..  أجل يومين اثنين .... "

  نهض من مكانه وهو يبحث عن مكان يطفئ فيه سيكارته ..  قلت له ارمها في الحديقة ...  فقد أهملت منذ رحيله .

أدار وجهه ناحية الحديقة ، وقبل أن أغلق الباب صدمني حزنه .. وكم تمنيت أن أوقفه وأسلمه الطرف الصناعي ..  ذلك الشيء الذي بدأ يفقد بريقه ورائحته .  أيقنت من تلك النظرة ، انه لن يأتي بعد يومين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر.. لكني بعد ثلاثة أيام حملت الساق الصناعية بعد أن لففتها بالشرشف الأبيض الذي كنت أضعه على سريره . وتحت الشجرة العملاقة رأيته جالسا على كرسي خشبي يدخن ،  اقتربت منه .. رأيت النظرة ذاتها ..  نظرة تائهة يلفها الغموض تحت شجرة تضج بهديل حمامات بيض يحلقن قريبا من رجال بأطراف صناعية يجلسون أو يقفون قريبا منه  .. قدمت له الطرف،  ولا أعلم هل سمعني وأنا أطلب منه أن يحافظ عليه ... عدت أدراجي شاعرة بتأنيب كبير تلاحقني أشكال الأطراف الصناعية المعروضة تحت الشمس بألوانها المتفاوتة ، بانت في بعضها أثار كثيرة ، بضعة خطوط وبضعة تكسرات ، وبضعة ثقوب تبدو كأنها ممرات نحو أسرار حياة عريضة ، حياة عرفتها تلك السيقان التي كنت اشك تماما في كونها صماء ، رأيت بضعة خيوط هي مجرد ضمادات كان يستخدمها أصحابها كمساند لأطرافهم لكي لا يسبب احتكاك الأجزاء القاسية بالجلد ، رأيت على بعض الأطراف كتابات لم افهم منها شيء ، كنت أتمنى أن أحدثه عن علاقتي بهذه الساق الصناعية ، وكم تمنيت أن أخبره بأن نتفق على أن يعيدها إلي لتبقى معي ليلة في الشهر على الأقل. 

أغلقت الباب واتجهت الى غرفتي ، تمددت على السرير واذناي تلتقطان أصوات هديل حمامات وخفق أجنحتها وهي تقترب من شباك غرفتي ثم تخترقه بسهولة لتحط قريبا مني ، بعضها يحط على جسدي ، وثمة رائحة غريبة تنبعث من الحديقة.  مر وقت طويل أحسسته مقيتا ، لأجد نفسي محاصرة بالرائحة ذاتها مرة أخرى ، الرائحة التي كانت تنبعث من شجرة السدر العملاقة ، وبغابة من السيقان التي تداخلت وارتفع بعضها إلى الأعلى كأنه يشير إلى مكان ما بيده أو بساقه ، نهضت من فراشي واتجهت إلى الحديقة، رأيته رغم العتمة ، جالسا يدخن وهو يمسك بيده عكازا خشبيا ، لم أكلمه ، بقيت لفترة طويلة انتظر منه أن يتكلم ، لكني حينما طالت فترة الصمت بدأت أدرك أني أحلم. كان يواصل تدخين الكثير من السكائر ثم وقف أخيرا مستندا على عكازه ، وبنفس النبرة المتعثرة والصوت الواهن بدأ يقول :

ــ  عذرا سيدتي لم أكن أنا من قرر أن يدخل البيت ، بل هذه ..  وأشار إلى شيء ملفوف بشرشف وواصل:

"بعد ذهابك وتفرق الأصدقاء بدأت بصف الأطراف داخل المقهى الصغيرة ، وضعت طرف زوجك معها ، لكني قررت لسبب لا أعرفه أن أجرب الساق ، لم أحس بالفارق وأنا أسير فيه خطواتي الأولى، كان مناسبا بشكل غريب .. لذا ارتديته ووضعت ساقي القديمة مع كومة السيقان .. وفيما أنا أقوم بجولتي اليومية في المدينة،  مر كل شيء بسهولة . كم كانت الساق ملائمة ، كأنها مصنوعة من أجلي ..  ساق سلسة ومناسبة تماما ، عدا شيء واحد سيدتي أثار استغرابي كثيرا ، كنت أحس السلاسة  وأنا أسير به في اتجاهات معينة ، لكني أجد صعوبة في السير به كأن أشياء غامضة تحاصرني وأنا أحاول أن أعود إلى البيت أو ابتعد عن النهر القريب من هذا المنزل. تحيرت منه ،  تركت الأمر له ليقودني فيما أنا مشغول بمراقبة الطريق ، عبرت الحديقة الكبيرة التي تحيط المدينة في محاولة مني لتغيير المسار الذي وجدت نفسي داخله ، وبدلا من العودة إلى المقهى لأستبدله بساقي القديمة ،  تركت الأمر له ليقودني، قادني دون تدخل مني سيدتي ، وبسهولة  في الحواري والأزقة القريبة من بيتك هذا .. ولم أفطن إلا وأنا أقف قبالة البيت الذي وجدت بابه الخارجية مفتوحة ، فدخلت لا أعرف كيف إلى الحديقة ، سحبت الكرسي نحو زاوية معتمة وجلست دون أن أعرف لماذا ، مضي وقت طويل هيمن فيه صمت عميق وأنا في حالة ذهول حاولت أن أذيبه حينها بدأت بتنظيف الحديقة من الأوراق المتيبسة الساقطة من الأشجار ، وبعد أن انتهيت من العمل عدت إلى بيتي وجلبت عكازا ، عدت إلى هنا مرة أخرى دون أن أنتظر الصباح .. لأني قررت سيدتي أن أعيد إليك طرف زوجك .

بعد أن أنهى كلامه ساد بيننا سكون لم يقطعه سوى صوت تنفسه ، أحسست أنه يتنفس بعمق وسرعة ، وقبل أن يواصل الكلام قاطعته بلهجة هي مزيج من القسوة والحنان ..  لهجة آمرة فيها الكثير من الود الذي دهمني وأنا أشم الرائحة الغريبة تهيمن على حواسي مرة أخرى   ...

ــ   وما الضير في أن يقودك الطرف كل يوم إلى بيتي !!

نهضت من مكاني وأنا أساعده على ارتداء الطرف .. ترك العكاز في مكان جلوسه .. ولا أعلم هل سمعني وأنا أعيد عليه عبارتي ....

لأنه سرعان ما فتح الباب واختفى في الظلام.