فازت لوحتي "رجل المقبرة" بجائزة عالمية، وأصبح اسمي يتردد في المجلات الثقافية والفنية، لم يكن اسم "فائق عمران" المغترب العراقي يعني شيئاً لغير الأصدقاء والمقربين، لكنه اليوم معروف لدى النقاد والمهتمين بالفن، والفضل يعود لتلك اللوحة القديمة الجديدة، وما زلت أنظر إليها على أنها خير ما رسمت منذ أن بدأت الرسم وأنا في سن المراهقة، لكن ما فعلته هذه اللوحة لي يتجاوز ذلك كله، فقد شاب النجاح حزن لا سبيل إلى الخلاص منه، فمع كل كلمة إعجاب كنت أسمعها أو أقرأها، كانت الغربة تتسع في أعماقي، فلا أحد أدرك ما انطوت عليه تلك اللوحة، أو عرف شيئاً عن تلك الحادثة التي أردت تخليـدها فـي تلك المتاهة " إذا كان لهذه اللوحة أن تبقى "، لن أنسى أبداً تلك الكلمات التي سمعتها من الفتاة المغربية التي وقفت تحدثني في معرضي الذي أقمته في " باريس " برعاية جمعية " الفن الشرقي "، أصغيت لها مكرهاً دون أن أقوى على مقاطعتها، كيف أشرح لها حقيقة تلك اللوحة، أن ما تقوله يشهد على فشلي الذي لا يعرفه أحد، لم أكن أهدف حين قضيت ثلاثة أعوام أجرب في الألوان منهكاً، ابحث عن لون يقرب ما ارتسم في مخيلتي عن تلك الليلة البعيدة الغامضة، أو كيف أجسد الرجل الجالس بين القبور أمام النار، كيف أشرح لهذه الفتاة مأسـاة الشبح الواقف خلف الظلمة؟ تتحدث عن المعنى الكامن في أعماق اللوحة، تقرأ ذلك على أنه " سريالية "، تردد على مسامعي ما قرأته عن الاتجاهات الفنية، كأنني ما سئمت من تلك المصطلحات! آه كيف أختزل لها كل التجارب التي لم تسعفني في الاقتراب من حقيقتي، أدركت حينها أن الواقع لا يمكن فهمه أبداً، لطمتني سذاجة الإنسان، أوهامه ومحاولاته أن يلصق بكـل شيء كلمة جاهزة، وسخرت من محاولتي تلك، وتبين لي كم أن وسائلنا للتعبير عما تحمله أرواحنا عاجزة، لا توجد لغة في العالم قادرة على احتواء مساحات الروح الهائلة، كنت أراقب أعين الناس الذين يقفون أمام لوحتي، استجدي لحظة فهم تلمع في حدقاتهم، لكن ذلك لم ينقذ قصتي من الضياع بين تأويلاتهم، هل أصرخ بهم إن ما ترونه في اللوحة يحمل جزءاً من حياتي، انظروا إلى الرجل الواقف في طرف اللوحة، هل تعرفونه؟ انه أبي، الرجل الملفع بالسواد أبي الهارب، المجنون الذي كاد أن يمسك بالمستحيل، لا أحد يعرف قصة الحارس الذي غادر حياته وأسرته ليترك في أعماقي غصة احملها أينما رحلت، ومع أنني كنت صبياً في العاشرة حين اختفى من حياتنا، إلا أنني رأيته قبل وفاته وقد أصبح شيخاً هرماً، الرجل الأمي شغفني بذلك الجموح الغريب، سار خلف حلمه المستحيل، هل ورثت عنه تلك الرغبة المجنونة حين مضيت إلى أوربا ابحث في الفن عن أحلامي الهاربة؟ لم يعرف أحد حقيقة ما جرى له، اختفى فجأة ولم يترك أية معلومة عن مكانه، حتى عمي الذي كان أقرب إنسان إليه لم يجد ما يقوله لأمي ليبرر اختفاءه المفاجئ، وعادت حزينة لا تفهم ما أصاب زوجها، ولا تعرف كيف ترد على تساؤلات الآخرين، هل تزوج امرأة أخرى؟ هل جن ومضى على وجهه؟ هل اختطفه أحد بسبب قضية مجهولة؟ ووو … كل تلك الأسئلة سمعتها وأنا طفل صغير أراقب المرأة الحزينة في حيرتها وأحزانها، بيد أن القدر كما يقال كان رحيماً بأمي، إذ جاء عمي الذي كان يتفقد عائلتنا بين الحين والآخر ليخبر أمـي أنـه عرف طريق أخيه، لقد استأجر بيتاً في أطراف بغداد ليعيش فيـه، ولا يريـد أن يزعجه أحد، ثم سكت طويلاً كأنه لا يجد الكلمات المناسبة ليشرح لأمي ما حل بأخيه، كانت أمي جامدة مثل تمثال حجري، بدت عليها الحيرة والانكسار وراحت تحدق في عيني عمي في شك، وسألته إن كان يخفي عليها أمر زواجه، إلا أنه أكد لها إن الموضوع لا يتعلق بامرأة، واقسم لها على ذلك، وعادت الحيرة إلى عينيها، ثم سلمها بعض النقود ووعدها أن ذلك لن يدوم طويلاً، وعندما عادت تسأله من جديد انفجر في وجهها : "سيعود إليك، أخي مجنون، هل تفهمين؟ كيف أشرح لك إذا كنت لا أعرف ما حل بعقله؟!" لم يكن بمقدور أمي أن تقنع بمثل تلك الكلمات، كيف أصبح مجنوناً؟ ألم يقل أنه استأجر بيتاً وأنه سيعود؟ ولماذا تركه أخوه دون أن يحاول إقناعه بالعودة إلى اسرته؟ ولم تعثر المسكينة على أجوبة لأسئلتها المتناسلة إلى ما لانهاية إلا بعد زمن طويل . ولكن ما حقيقة اختفائه المفاجئ؟ عرفت بعد سنوات مثل الآخرين المتاهة التي جذبت الحارس عمران، أبي الملول الذي لم يصمد في عمل أكثر من أشهر قليلة، حتى يغادره بمشاجرة، ساخطاً على قدره البخيل، ثم قادته الظروف لكي يعمل حارساً في المنطقة القريبة من مقبرة الشيخ " جنيد "، وذات ليلة من صيف عام 1953 وكان في نوبة حراسته، رأى من بعيد ضوءاً ينبعث من بين القبور، اقترب من المكان مسدداً بندقيته باتجاه الشبح الجالس أمام النار، خطر في ذهنه أن الرجل ساحر يعبث بجثث الموتى، هكذا سمع من الناس بعض القصص التي يروونها بين الحين والآخر، وزاد من شكوكه أن الرجل كان يجلس وحيداً كأنه يتدفأ في ذلك الحر !!، ووجده حين اقترب منه يضع إناء فوق النار المشتعلة، يحركه في تؤدة مثل طباخ ماهر، فصرخ به من الخلف ويداه ترتجف خوفاً : " ماذا تفعل بين القبور يا رجل؟ الويل لك إذا كنت ممن يعبثون بجثث الأموات؟ " . التفت الرجل الذي كان يضع على رأسه كوفية بيضاء وبجانبه كيس من القماش، ثم عاد إلى مراقبة الإناء بلا مبالاة وتمتم بلهجة هادئة : " تعال اجلس هنا، لا تخف لا تخف "، ظل يردد هذه الكلمات يهدئه وعلى وجهه ابتسامة ساخرة كمن يتحدث إلى طفل، شعر عمران بشيء من الطمأنينة ودنا حذراً من الرجل، جلس قبالته يتأمل وجهه الذي بدا بسمرته وملامحه كأنه من الهند أو باكستان، حتى لهجته في نطق الكلمات تدل على أنه ليس عراقياً أو عربياً، وقبل أن ينطق أبي بكلمة أخرى خاطبه الرجل الغريب بلهجته الهادئة : " اصبر قليلاً وأنت تشوف، هذا ذهب انظر" . كانت في وسط الإناء قطعة صفراء تلمع، وواصل الرجل وقد التمعت عيناه بالدموع ورق صوته : " كلما احتاج اصنع قطعة صغيرة من اجل قوتي، هو علمني هذا حتى لا أمد يدي لأحد " . ومد يده داخل الكيس الذي بجواره وأعطاه قبضة من شيء يشبه التراب : " خذ هذه لك " . اخرج أبي الذي كان كالمسحور منديله ودس تلك الهدية في جيبه، وانشغل عنه الرجل وراح يهمس فيما يشبه الدعاء، لم يشعر عمران الحارس كيف فارقه الرجل، حدث ذلك معه دون أن يشعر بالوقت، هل كان يحلم؟ لكن تلك المادة ما زالت في جيبه داخل المنديل، لماذا تركه يمضي ولم يمسك به؟ لقد ظل حتى نهاية حياته يأسف على ضياع تلك الفرصة، لقد انتقشت ملامحه في ذاكرته، وظل يحلم بالوجه الأسمر ذي اللحية البيضاء والذهب سنوات وسنوات … عاد عند الفجر إلى البيت ويده تتحسس بين الحين والآخر المنديل الملفوف في جيبه، لم يقو على النوم برغم سهره طيلة الليلة الماضية، وجرب أن يفعل كما رأى ذلك الرجل، وضع شيئاً من المادة الصفراء في إناء وقربها من النار، وبعد دقائق كانت الذرات تتجمع لتكون قرصاً دائرياً لامعاً، وأسرع في الصباح إلى الصائغ دون أن يحدث أمي بما جرى معه في تلك الليلة، كان متردداً غير مصدق وهو يسير بين الناس في السوق، هل يمكن حقاً أن يحصل على ثروة تنقذه من بؤسه وشقائه؟ ووقف خائفاً يحدق في وجه الصائغ الذي راح يتفحصها بعناية، رمقه الرجل بعينين ماكرتين وقال بلهجة فاترة : " من أين حصلت عليها؟ إنها قطعة جيدة "، لم يعرف كيف يجيبه فسارع الآخر " اقصد أنك لم تأخذها من صائغ، هي بلا صياغة، المهم هل عندك قطع أخرى؟ سأدفع لك ثمناً يرضيك؟ " .أخذ المبلغ وسار شارد الذهن يفكر في الرجل الغريب وذهبه، النقود التي قبضها تعدل مرتب شهرين يقضيهما في هذا العمل المتعب، يتجول في الليل حاملاً بندقيته من اجل بضعة دنانير لا تكفيه، وقضى نهاره يفكر بما جرى له وبكلمات الرجل الغريب، وعند المساء أسرع إلى المقبرة عله يلتقي به مرة أخرى، بيد أن ظنونه خابت ولم يعثر على الرجل في تلك الليلة ولا في الليالي التي أعقبتها، سأل عنه أولئك الذين صادفهم في تلك المنطقة ممن يترددون على المقبرة فلم يتذكروا رجلاً بتلك الأوصاف، وازداد حرصه على ما تبقى لديه من تلك المادة وأراد معرفة حقيقتها، إذا كان قد فقد الرجل فانه يملك المفتاح الذي سيهبه الذهب، ومضى يسأل العاملين في الذهب ولكن بلا جدوى، فقد أبدى الجميع استغرابه من تلك المادة، ولم يعرفوا مكوناتها، وبدأ رحلة بحث مضنية أخذت كل وقته، وانقطع عن الذهاب إلى مكان عمله حين يأس من العثور على الرجل، وصار يقضي نهاراته متجولاً بين أهل الحرف متحيراً، يحمل تلك المادة في منديله بعناية يخشى عليها من الضياع، ولم يجد في بيتنا الصغير مكاناً مناسباً لتجربة المواد المختلفة التي راح يجلبها من السوق، بالإضافة إلى تساؤلات أمي وإلحاحها لمعرفة ما يشغله، فاضطر إلى تأجير بيت آخر والتفرغ لبحثه المتواصل، كان يندفع بجنون غير آبه لطعامه وشرابه وربما قضى يوماً كاملاً غافلاً عن ذلك، يطارد حلمه في معرفة سر تلك المادة الغريبة المستعصية، ولم يتوقف عن ذلك برغم فشله المتواصل حتى أعياه المرض، وسقط ذات يوم مغشياً عليه فحمله الناس إلى المستشفى، وعندما أفاق عاد إلى البيت ليجلس وحيداً يفكر في هزيمته وضياعه، ينظر إلى اللفافة التي خبأ فيها تلك المادة شارداً متحسراً، سنوات قضاها وحيداً في ذلك البيت مبتعداً فيها عن زوجته التي يئست من عودته، وأطفاله الذين حسبوه ميتاً، ترك حياته من أجل حلم لا يريد الاقتراب، تعبت من الحياة وأريد الموت قال لعمي في أيامه الأخيرة، فجاء به إلى بيتنا مريضاً منكسراً لا يقوى على الوقوف، ولم يعش بعدها سوى أيام ثم غادرنا ميتاً، أرادت أمي أن تتخلص من تلك الصرة البالية، لكنني أخذتها وما زلت أحتفظ بها، أفتحها بين الحين والآخر لأنظر إلى تلك المادة الصفراء، حلم أبي الضائع، ولم تنته حكاية أبي حتى بعد مغادرتي العراق إلى أوربا لإكمال دراستي في الفن، فقد رأيت تلك المقبرة والشبح الجالس عند النار، كنت أسير بخطى متعثرة، كأنني أبحث عن خلاصي بين تلك القبور، وعندما اقتربت من الرجل الذي كان يجلس قرب النار، وقفت مسمراً عاجزاً عن التحدث إليه، غير أنه التفت إلي، فاجأتني رؤيته الغامضة، لقد كان الرجل الغريب أبي، رأيته يضع على رأسه كوفية بيضاء وبلحية طويلة،، لم أفهم كيف تغيرت ملامح أبي، عدوت راكضاً من المقبرة دون أن أتمكن من العثور على باب الخروج، فاستيقظت لأجد صديقتي الأجنبية تنظر إلي قلقة، أرادت أن تفهم سر كوابيسي المتواصلة، قلت لها حزيناً : "إنها قصة قديمة لا تعني شيئاً، بعض الجنون حملته من وطني البعيد، ربما ستكون فكرة لوحة جديدة .