انتبهت إليها وهي تحدث صديقتها المغربية عن النكبة والاحتلال الأمريكي والقبض عليها من قبل قوات حزب الله في مطار لبنان واحتجازها في “سجن زحلة”. أثار فضولي حديثها واللوعة التي كانت تتحدثُ بها والألم الذي كان يطغي على نبرات صوتها.
شابة حيوية، ثلاثينية العمر والتجربة، رشيقة الحركة وجميلة لكن حينما تمعن النظر في عينيها ترى حزناً دفيناً يطغى على بهجتها المفتعلة، والدمع المتلألئ بمقلتيها.
سألت "حنان" صديقتي القادمة من مدينة Bergen النرويجية أن كانت تعرف هذه الشابة التي أثارت فضولي.
- لا لم أتعّرف عليها إلا بالأمس في بيت صاحبتي التي أنا بضيافتها.
كَتَبتْ حنان قبل أسبوعين تدعوني إلى حضور حفلة نسائية خاصة ستقيمها صديقتنا "كواكب" النشطة اجتماعيا في مدينة "Malmo" السويدية، أجبتها.. سأفكر.
وانشغلت حتى أني نسيت الدعوة، فاتصلتْ "حنان" تلفونيا لتذكرني قائلة: تعالي يا صديقتي ستقتصر على النساء. غناء ، موسيقى، رقص!. أخذت نفساً وأضافت: أكثرهن نساء محجبات.
- أين أنت الآن؟
- وصلت إلى Malmo
- متى الحفلة؟
- غداً مساءاً… تعالي، مشتاقة لك ولسوالفك، تعالي نتمتع ونشوف العراقيات وَجْوهِنْ.
حزمتُ حقيبة سفري الصغيرة. أخذتُ الحافلةَ الذاهبةَ إلى محطةِ كوبنهاجن.
وجدتُ كواكب وحنان وفتاة أخرى لا أعرفها سابقا ينتظرن في قاعة محطة قطارات "Malmo" السويدية.. صافحتني معرفةً بنفسها
- رندا، فلسطينية، صديقة حنان.
ذهبنا إلى قاعةِ الحفلِ، بعد أن تناولنا وجبةَ عشاء سريعةٍ في مطعمٍ قريبٍ من القاعةِ .
قلتُ محاورةً نفسي، اليوم ستعيشينَ تجربة جديدة في عمرك الذي جاوز العقد الخامس، حفل أنثوي خالص ونساء ترّنَ في عالمهن مفردة مقدسة في قاموس أزواجهن، إخوانهن، آبائهن إلا وهي -حرام- وهم لا يدركونَ أن كل شيء مباح في قاموس أنوثة المرأة.
اخترتُ طاولةً أستطيع منها أن أرى الجميع.
بدأت العتمةُ تنشر خطوطها في الخارج على شبابيك القاعة، ترافقها خطوات نساء متلفعات بالحجاب الإسلامي، يلقينَ التحية ويذهبنَ مسرعاتٍ إلى الحمامات لوضع "المكياج" وتغيير الملابس السوداء، ليظهرنَ بفساتينٍ تفصحُ عن أجسادٍ تلعن الظلام، وتقبل الضوءَ والحريةَ. فساتين تغطي منطقة الثديين والبطن كاشفة عن سيقانٍ وأردافٍ وظهورٍ تشكي ظلمة القماش والتقاليد. فساتينٌ مطرزةٌ بألوانِ الفراشات وزهورَ الربيعِ.
همستُ بإذنِ حنان قائلةً:
- صرنا أحنه المحجبات!.
أجابتني:
- انتظري يا صديقتي لتري هزَّ الأرداف وتطوح الأجساد بعد قرع الكؤوس المعبأة بالسائل الأبيض.
وفعلاً لم تمر ساعة على تحول ما يقارب الثمانين مابين صبية وشابة وسيدة من غربان إلى طيورٍ ملونةٍ تهفو معانقةً مُتَعْ حرمن منها. ضَجتْ القاعة بالموسيقى والرقص وقرع الكؤوس. كان السائلُ الأبيض لغزاً بالنسبة لي؛ هل هو ماء خمر أم ماذا؟. كان يزيد من بهجةِ وتجلي الوجوه. وأخيراً عرفتُ كان عرقاً صرفاً يعببنَّ منهُ وكأنهُ ماء، ويتطوحنَّ هازات أجسادهن على إيقاعِ الأغاني العراقية الحزينةِ و "سعدي الحلي" كانَ حضوره طاغيا.
سمراءٌ رشيقةٌ. عينان بنيتان ناعستان دامعتان. جسدٌ، لا..لا. روحٌ كانتْ تهتز لوعةً وآلماً وكفها لم يفارق الكأس.
سألتُ كواكب وأنا أشير إليها:
- من هذه؟ أنها ترقص بألم!
- تخمينك صحيح، أنها موجوعة وشريكها بالحياة هو سبب حزنها.
رَوتْ لي قصتها وبشكلٍ سريع جدا.
تعمل في صالون حلاقة ولديها ثلاثة أولاد. زوجها أخذَ كل ما تملكهُ وأقنعها بشراءِ عقارٍ في العراق، سَند لنا كان يقول لها. بعد شهرين من سفرهِ اكتشفتْ أنهُ تزوج من أرملة.
- وأينَ الجديد بهذه القصة؟ تقريبا هذا تفصيل يكاد يكون يومي في حياة العراقيات بالمنفى والوطن. الرجل هنا يتعب من رتابة الحياة والبطالة التي يختارها باختلاقه السلوك والقصص مصوراً نفسه ضحية حروب واعتقالات ومريض نفسياً كي يحصل على التقاعد فيسافر إلى العراق أو مصر أو المغرب لتغيير فراش الزوجية.
قلت لها ضاحكة. فأكملتْ هازئةً:
- صحيح وفي الوطن يشكون من كثرة عدد النساء الأرامل والعوانس. والرجل شفاف وقلبه حنين ومحروق على بنات وطنه!.
كانتْ المتطوحة بألمٍ تشغلني قلت لكواكب:
- اسمعي هذي المرأة أكيد بحياتها مأساة غير قصة خيانة زوجها.
غادرتُ مكاني وخطوت نحوها. راقصتها فَسُرَتْ كثيراً قلتُ لها:
- ترقصين حلو!
تضّرجَ وجهها. أكملتُ:
- أش أسمك؟
- سرور.
- أسمك حلو بس أنت حزينة وترقصين بألم.
توقفتْ قليلا ماسكةً بكفي وقالت:
- أنت وين عايشه؟.
- في كوبنهاجن!.
- الله.. إلى متى باقية هنا!.
- بكرى راجعة.
قبل أن تعود للتمايل رشفتْ من كأسها وقالت:
- أزورك في بيت كواكب.. أريد احكي لك!.
تبادلنا أرقام الهواتف، واتفقنا على اللقاء، لكن دَاخَلني هاجس يقول: سوف لا تأتي، فهي منتشية الآن وكلام الليل يمحوه النهار.
كذبَ هاجسي. رنَ تلفوني كان صوتها. لم أصدق. أبتهج قلبي وهي تقول:
- سأكون عندك الساعة الواحدة بعد الظهر.
أخبرتْ كواكب فَعلقتْ بمرارة:
- لا تفرحي ستزيدك حزناً بقصتها.
انتظرتُ بلهفةٍ. جاءتْ على الموعدِ.
كنا نجلس في زاويةِ الصالة المطلة على حديقة البيت، نحتسي قهوة الصباح حينما دخلت سرور، فقفزتُ من مكاني مرحبةً:
- هلو أم السرور!.
دلعتها.
- جئت لك يا صديقتي أحببتك مو بيدي!.
أضافتْ جملتها التي أخجلتني، وجلستْ قبالتي وهي تقول:
- غريبة.. لديَ شعور وكأني أعرفك!.
أرختْ ظهرها إلى مسندِ الكرسي وتأملتني قليلاً مضيفةً:
- أنا محرومة من دفء العائلة وخصوصا الأم.
كانت تتكلم مثل شاردةٍ وهي تتيه في وجهي بطريقةٍ حيرتني وجعلتني أنضح، كانت مستمرة في الحديث بعفوية وكأنها تكلم خيالاً؟، كلاماً زاد من نضحي فجعلتْ أتصبب عرقاً:
- أنت وطني الذي لفظَني مع أمي إلى بلدان المنافي. ها أنا أفي بوعدي لكِ.
تماسكتُ قليلا وقلت بوضوح ورباطة جأش:
- سرور. احكي لي.
زالَ عن ملامحها الشرود فبدتْ بهيئةٍ جديةٍ وبدأتْ:
- أمي "فايدة" الجبوري. كانت سكرتيرة "عبد حمود" سكرتير بابا "صدام حسين"!.
أخرستني جملتها الأخيرة "بابا صدام" وبعناء حاولتُ استيعابَ ما سمعتْ بينما "سرور" تكمل بسلاسةٍ وعفويةٍ وكأنها تقرأ بكتابٍ مفتوحٍ:
- كان عمري خمسة عشر عاماً حين احتل الأمريكان العراق. قتل أبي في المعارك التي دارت في مطار بغداد الدولي كان من ضمن فدائي صدام، فهربتُ مع أمي إلى دبي. وهناك تزوجتْ أمي من خليجي وسعت للتخلص مني، خوفاً من وقوع زوجها في أحضاني، فزوجتني من أول عراقي قادم. كان مقيماً في السويد، وكنتُ صغيرة. زَوَرَتْ مواليدي ليصبح عمري إحدى وعشرين عاما، هي بالحقيقة لم تزوجني بل باعتني بعشرة آلاف دولار. وصلت السويد بمعاملة لمّ الشملْ، لكن لم أمكث في بيت زوجي أكثر من شهر. لم يكُن رجلاً. هربتُ وسلمتُ نفسي إلى الشرطة وأخبرتهم بقصتي كما هي.
سلمتني الشرطة إلى معسكر الصليب الأحمر هنا بالمدينة. وبه التقيت بطليقي وأبو أولادي الثلاثة. كان لاجئاً أيضاً. حملتُ بطفلي الأول وأحنه بالمعسكر. ولما حصل على الإقامة بعد ثلاث سنوات حصل على سكن فانتقلت معه، ولكن كان عليّ الحضور إلى المعسكر والتوقيع كل يوم جمعة إلى أن حصلت على الإقامة مع ولادة طفلي الثاني.
بالسكن والعشرة المشتركة لوثَ كل ما تبقى لديّ من قِيم. أول درس لقنني هو إحراق اسمي.
سألتها:
- ماذا تقصدين بإحراق أسمكِ؟!.
- سأشرح لك، حصلت على البطاقة المصرفية Bank Card التي تمنح من المصرف وتعتبر هوية ائتمان وشكل من أشكال القروض التي يمنحها المصرف لتسهيل حياة المواطن. يحق لي استعمالها لشراء البضائع والتسديد لاحقاً. ومميزات بطاقتي أن لم أستطع تسديد جزء أو كل المبلغ المقترض يؤجل التسديد إلى الشهر التالي. لكنه لم يدعني أسدد كرونة بل أستخرج لي عدة بطاقات ائتمانية من مصارف مختلفة حتى وصلت قروضي إلى أكثر من مليون ونصف كرونة سويدية.
أصبح أسمي في القائمة السوداء.
أما الدرس الأخر الذي علمني فهو التزوير والتجارة في الجوازات والتهريب!.
لم يكمل أصغر أبنائي الأربعين حينما طلب مني السفر إلى بيروت لتسليم ثلاثة جوازات سفر، اثنان سويديان والثالث إسرائيلي إلى أخيه المقيم في بيروت. رَفضْتُ، فألح.. وألح قائلا بأن هذي أخر سفرة.
ارتديتُ الحجاب لكن المفاجأة الكبرى هي حينما وصلت مطار بيروت. طلب مني الموظف أن أقف جانباً. استغربتُ طلبه. فبادر بسؤال: أنت العراقية سرور!. تبلدتُ وأجبتُ بلا وعي: نعم فباغتني بحركة لم أتوقعها نازعاً حجابي عن رأسي
- أنتِ غير محجبة!.
ارتبكت قائلةً:
- لا.. لا.. حرام ما تفعلونه معي.. حرام!.
- قحبة..تدعين الشرف يا بنت الـ...!.
دارت الأرض بي. وتمنيت لو تنشق وتبتلعني لأخلص من عذاب لحظتي تلك. شدوا عيني بقطعة قماش سوداء وقادوني إلى سيارة، قطعت مسافات وطرق وعرة. كان الزمن مراً وثقيلاً. لا ادري كم سارت وإلى أين؟. أنزلوني بخشونة. أزاح أحدهم القماش عن عيني صارخاً بصوتٍ غليظ:
-أنزلي شرموطة بنت القحبة… عاملة نفسك شريفة ومحجبة!.
خطوتُ بعناءٍ. كنت مربوطة القديمين أشعر بالذل والإهانة والسحق. أدخلوني بناية فخمة عرفت لاحقاً أنه سجن "زحلة" في البقاع اللبناني. وهناك التقيت بأكثر من مئة امرأة سجينة بمختلف التهم تزوير، قتل، دعارة، سرقة، ومن جنسيات مختلفة لبنانية وسورية وعراقية وفلسطينية. كنت الأصغر سناً وكان يعذبني نضح ثدي المرضع ويذكرني بولدي البعيد الذي لم يعبر الأربعين يوما بعد، شاعرةً بالندم والأسف على رضوخي لزوجي. عرفت أمي بالمصيبة التي حلت بيَ. جاءت إلى لبنان وعملت ما بوسعها لإنقاذي، دفعت ما تملك لكبار ضباط "حزب الله" حتى أسقطوا تهمة تهريب جواز إسرائيلي فوحدها هذه التهمة تحكمني سبع سنوات بتهمة "العمالة".
* * *
وفي ليلةٍ من ليالي السجن الموحشة اقتربت مني امرأة كانت بعمر أمي، ممشوقة القامة، سمراء، عسلية العينين، واثقة الخطو، تبادلت معها أطراف الحديث فأبدت تعاطفها الشديد معي. صرت أبث لها عذابي وكانت تحنو علي. ويوما بعد آخر صارت صديقتي. وفي ليلة طلبت مني الذهاب معها إلى الحمام، وحينما أصبحنا وحيدتين أمرتني:
- انزعي؟!.
- ماذا؟
- أريدك مثل لحظة خلقك الأولى!.
كانت تتكلم الفصحى. أجبتها وبلهجة عراقية:
- ليش أش تردين ....؟!.
- نعم . أسمعي أكملت دراستي القانونية لكي اعرف كيف أنفذ من جرائمي وبالقانون!.. نعم أريد هذا. اشتهيت جسدك الطري والمتصبب شباباً!.
أدركت مقصدها وتذكرت أول ليلة لي في السجن كيف جاءت أحداهنَ ودموع التماسيح على خديها. خدعتني دموعها. أخذتني إلى فرشتها وضمتني إلى حضنها. أطمئن قلبي لها وجسدي أستسلم لدفء كلماتها. وعند تباريح الفجر أحسست بأصابعها تداعب فمي الساكن بين ساقيَ. تلبسني الخوف. أصبت بالخرس. تسلقت جسدي الغض وروحي الممزقة. أكملت شهوتها وتشوهها. تضاءل جسدي تحتها حتى تحول إلى هباء. فعدت اخبأ موس حلاقة في جيب داخلي كي أدافع عن نفسي في محيط السجن الموبوء. أخرجته على الفور ولوحتُ به أمام وجهها، فأصابها الهلع فتراجعت قائلةً بذعر:
- لا..لا.. كنت أحاول اختبارك.
كانت تقول ذلك وانفعال وجهها يقول غير ذلك.
حُكم عليَ بالسجن ستة أشهر بتهمة تهريب جوازين أجنبيين.
زوجي كان نذلاً.
اكتشفتُ لاحقاً بأنهُ هو من خبر عني كي يتخلص مني.
عدتُ إلى السويد. أخبرتُ السلطات السويدية بما جرى لي. أسكنوني في بيت النساء، وحرمت من اللقاء بأولادي الثلاثة. طلبت الطلاق منه. لم يوافق بل أظهر للسلطات السويدية أنه متمسك بيَ. خدعني مرة أخرى فذهبت للعيش معه!.
والآن يعيش مع زوجته الثانية التي تزوجها سراً في بلده كل شتاء، وفي الصيف يأتي إلى هنا.
لم يستمر في خداعي فقد اكتشفت سر سفراته الشتوية، وكي لا أكشفه للسلطات السويدية أشتكي مدعياً بأن أبنائه ليس من صلبه.
اتفقتا على تحليل DNA.
- أريد اخلص!.
قالتها ونفثت حسرة طويلة ودمعت عينيها ثم قالت بما يشبه الصراخ:
- تفو.. تفو عليه وعلى الحياة كلها.
30 أيار 2015