ترسم هذه القصة مشهدا عن بشرٍ يمارسون حياتهم، ثم تركز على حوار بين عجوزين متقاعد يعطي خبزا لنوارس النهر وصياد لا يصيد شيئاً لكنه مصر على الاستمرار. الحوار يأخذ أبعادا أعمق من الظاهر والإنسان بعمر الحكمة.

شدو النهر

سعد محمد رحـيـم

الريح المغبرّة تتلاعب بطيور الغاق .. ترنّحُ الطيور يُظهرها نصف مبتهجة ونصف لا مبالية.. الزورق العتيق المشدود إلى الضفة يتأرجح مع حركة الموج مثل راقص باليه عجوز.. تقترب طيور الغاق من الزورق حتى تكاد تلامس سطح الماء قربه.. يحط اثنان منها على القيدوم لثوانٍ قبل أن ينزلقا ويعاودا الطيران.. رجل على الجسر يُلقي، من كيس أسود بيده، فتات خبز إلى النهر.. تسرع الطيور إليها وتخطفها في الهواء.. الرجل المحني الجذع على سياج الجسر الحديدي بسترته الكالحة ربما كان متقاعداً، أنهى لتوِّه خدمة مدنية تعدّت الثلاثين عاماً.. هناك في الأسفل، على الضفة يجلس كهل آخر على صفيحة معدنية فارغة، يصطاد السمك.. يلوِّح بيده لصاحب كيس الخبز.. صاحب كيس الخبز لا يهتم.. لعله لا يرى جيداً، أو أنه يفسِّر التلويحة كما لو كانت حركة عفوية غير مقصودة.. يبدو الكهل الصياد وكأنه كان هنا منذ الفجر ولم يصطد شيئاً.. لا تظهر عليه علامات تذمر أو سخط.. أو أنه هنا، فقط لقتل الوقت.. من يرى الرجل الصياد والرجل صاحب الكيس، يدرك أن كليهما، يمتلك وقتاً فائضاً مفتوحاً.

يهبط صاحب الكيس الأسود السلّم الحلزوني عند كتف الجسر.. يتجه إلى حيث يجلس الصياد الكهل:

ـ لا تقل لي أنك تأمل باصطياد واحدة.

ـ واحدة ماذا؟ سمكة؟ لا, لا..

يحدِّجه صاحب الكيس الأسود الذي لم يعد الكيس بيده بنظرة استفهام. قبل أن يستدير محدِّقاً في بنايات الجهة الأخرى من النهر.. كما لو أنه يفكر بأن هذا واحد من الصباحات المخيِّبة للأمل.

ـ آه، أنت لست جادّاً إذن؟

ـ بالعكس، لستُ ألعب.

يهز صاحب الكيس رأسه بحيرة.. يقهقه الصيّاد ويقول:

ـ أنا صيّاد الساعات.. أصطاد الزمن.

يُصدر صاحب الكيس الأسود صوتاً جافاً.. إنه يضحك:

ـ يا لظرافتك.

ـ أردُّ له الصاع صاعين.. هكذا يقولون.

ـ لمن؟.

ـ أنت لا تريد أن تصدّق، دعك من هذا الهراء.

يضحك الرجل صاحب الكيس ثانية، ولا يجد في ذهنه عبارة ليردَّ بها.

ـ أنت مثلاً، ماذا كنت تفعل قبل دقائق؟.

ـ أطعم الطيور.

ـ ليس من أجل الطيور.

 ـ ماذا؟

 ـ أنت تراوغ شيئاً ما.. تحتال.. هذا من حقك.

 ـ كيف تفكر؟ أحتال على الطيور؟ لا، لا..

 ـ أنت تسيء فهمي يا صاح.. تسيء فهمي.

 يبتعد العجوز صاحب الكيس الأسود بضع خطوات:

 ـ تعتقدني مجنوناً.

 ـ لا أعتقد شيئاً.

 ينحني العجوز صاحب الكيس، يرفع حصاة صغيرة، يضغط عليها بين أصابعه ويلقيها بعيداً إلى مجرى الماء العكر.

 ـ ألم أقل لك؟

 ـ ماذا؟

 ـ أنت تهرب.. هذا ما أنت عليه.. تهرب. أما أنا فلا.. أنا أواجه.

 لا يرد الرجل صاحب الكيس الأسود.

 ـ تقول في سرِّك هذا مخبول تماماً.

 ـ لا.

 يضحك الكهل الصياد، ويهز قصبة صنّارته:

 ـ الآن تأكدت من أنك هارب كبير.

 ـ ممّ أهرب؟.

 ـ ليس هذا هو السؤال الصحيح.

 ويقهقه بصخب يُجفل طيور الغاق فتتدحرج مع الريح.. الرجل صاحب الكيس يضع يده في جيبه باحثاً عن شيء، كأنه يفكر بتدخين سيجارة.. ثم يفطن إلى أنه ترك التدخين من سنتين.

 ـ هي التي طلبت مني الخروج.. أقصد زوجة ابني.

 يغمغم الكهل الصياد بكلمات لا يفهمها صاحب الكيس الأسود.

 ـ تزوّج ابني الأسبوع الفائت.

 ويشرع يديه عالياً قبل أن ينزلهما صافعاً بهما جانبي فخذيه.

 ـ هكذا هو الأمر.. على المرء أن يدفع الثمن لاحقاً.

 ـ أي ثمن؟

 ـ حين يحصل شيء خاطئ، فهذا يعني وجود خطأ أسبق.. حماقة مرتكبة، غفلة.

 ـ وإن لم يكن من خطأ سابق.

 ـ لابد من دفع الضريبة.. أن تكون قد عشت أكثر مما يجب.

 ـ تظن نفسك عارفاً كل شيء.

 ـ لو كنت أعرف كل شيء لما كنت هنا.

 ـ لا تفعل سوى اصطياد الهواء.

 ـ أنا أتحدث عن لبّ المحنة.

 ـ محنتي أم محنتك؟.

 ـ صدّقني، لا فرق.

 يمرق طفلان بملابس ملوّنة، عتيقة وفضفاضة.. أحدهما يطلب نقوداً، ينهره صاحب الكيس الأسود، فيُخرج الطفل لسانه، ويطلق كلمة بذيئة، قبل أن يركض مع رفيقه مبتعدين.

 ـ ثمة آباء كسولون، جشعون.

 ـ من منّا لا يستحق مصيره.

 يتجاهل صاحب الكيس الأسود ملاحظة الكهل الصياد.

 ـ أين يمكنني العثور على صنّارة جيدة.

 ـ جيد.. احترم خياراتك.

 ـ في أي سوق؟.

 ـ عندي واحدة، سأجلبها لك غداً.

 يلوي العجوز صاحب كيس الخبز رأسه.. يجلس القرفصاء ويلتقط حصاة مدوّرة يبدو لونها غريباً.. يقلِّبها بين أصابعه وكأنه يعاين حجراً كريماً.. ينهض ويضمّها بقوة في راحته.. يستعذب ملمسها البارد.. يشعر وكأنها فرخ طائر صغير بزغب ناعم، وقد أخذ قلبه ينبض.. ينظر باتجاه طيور الغاق التي ما تزال تترنح، نصف مبتهجة ونصف لا مبالية، في الريح.. يضع الحصاة في جيبه ويبتعد من غير كلمة.. يصيح به الكهل الصياد؛

 ـ لا تنس.. غداً.. سنصطاد معاً، ونتكلم.