"يخرجونَ فرادى من الماء، يكون ماء النهر، حينها، تحت الأضواء المُلوّنة لمصابيحَ الفرقة العسكرية الرابعة، بساطاً هائلاً مبثوثاً بقلب مدينتا، وأنا حين ألمحهم، أُسارعُ للاختباء، اسحبُ الستائر حتى تُغطي فتحة الشُباك كُلّها، وأتركُ لعينيَّ فُسحةً صغيرةً كي لا يشعروا بوجودي، في المرةِ الأولى التي شهدتُ فيها خروجهم من بطن النهر، كنتُ أقرأ كتاباً في الشرفة، وكانت الساعةُ الثانية بعد منتصف الليل، وسمعت صوت خروج الجسد من الماء، وحين نظرت رأيتُ شاباً، لعلهُ في الثامنة عشرَ من عُمره، يسحبُ قدميه، بصعوبةٍ، من الماء ويسير نحو الجرف، عندها أحسستُ بأنّ الدماء تجمدتُ في عروقي، وأخذَ قلبي يضربُ بعنفٍ أضلاعي، ربما يكون أحدهم قد أراد أن يسبح في النهر، في هذه الساعة المُتأخرة من الليلُ، والصيف في مدينتنا الجنوبية، رَطِبٌ ودًبِق، لكنه حين مرَّ بخطاه في الشارع الفارغ، تعرّفتُ فيه على أبن مدينتنا الغريق قبل خمس سنين، قاسم تقي، الشاب الخجول، يسير مطرقاً، لكن خطاه رقيقة، مثلَ من يُلامس الأرض مُلاسة المُشفق، وأوشكتُ أن أصرخ !، يا إلهي، لا يُمكن أن يكون هذا حقيقياً، ربّما أنا أحلُم أو لعلي أُصبتُ بحمّى وها أنَذا أرى أخيُلَةً، لكنني كنتُ موقنةً مما أرى، لأنني ما أن اختفت، عن عينيّ، خطى قاسم الهامسة، حتى سمعتُ الصوت ذاتهُ لانبثاق أحدهم من بطن النهر، رؤيتهُ يسير صوب شارعنا، قاطعاً المسافة الرملية التي تفصل النهر عن أول بيوت الشارع، بيتُنا، البيت الكبير الذي ينفرد عن بقية بيوت الشارع، ببنائه الفريد وحديقته الكبيرة التي تفصلهُ عن النهر، تثيرُ الرعب ذاته، هذه المرة أرى امرأة تتقدم بتلك الخطى الهامسة نفسها، لكن برشاقةٍ تُثيرُ الإعجاب، جسدها الفارع منتصِبٌ لكنهُ يميدُ قليلاً نحو اليسار، هذه مناهل كاظم !، هتفتُ بداخلي خشيةَ أن أرعبها أو أوقظ من في البيت، كُنا زميلتين في الصف الدراسي نفسهُ، وكنا نُسمّيها الألمانية! لشقرتها الملفتة، وعندما كنت أسأل أمي عنها ولِمَ هي وعائلتها شقرٌ، تقول أمي : يمّه بيت كاظمي عجم، مُزيدةً حرف الياء لإسم كاظم، وحين اشعر بأن الجواب لم يروِ فضولي أسألها :وشنو يعني وإذا عجم لازم يكونون شقر؟ تقول عندها بِنَفادِ صبر : يوه بنتي العجم حلوين من الله، عندها أشعر بحسدٍ كبير نحو العجم وبأن الله عنده مثلما عند مديرتنا الست بثينة ناس وناس ! وصرتُ كلما رأيت امرأةً جميلة أُزيد على اسم والدها، من عندي، حرف الياء.
لكن مناهل وهي تخرجُ من بطن الشط، كانت حزينة الملامح، وكانت تلتف، على غير عادتها، التفاتات خائفة نحو اليمين ونحو اليسار، وددتُ لحظتها، لو أنّها رفعت رأسها نحو شرفتي، لطالما جلسنا هنا نُذاكر أو نتسامر، بينما تجلبُ، أختي، سناء، الشاي والكعك المُحلّى بالسمسم، وكنت اعشق ضحكتها حين تسمعني أقول : تفضّلي كُلي عيني ابتلينا بالعجم حتى ببيوتنا ما مخلصين مُتصنعةً برماً وانزعاجاً، فتضحك هي بعذوبة بوجهها الجميل كُله، وتقول لي : غصباً عليك، لكن ما يُسحرني حدّ اللذة هو رؤية الاخضرار الفاتح في عينيها يشع بلمعان زمرّدي وأقول في نفسي : يبدو أن الله يحب العجم فعلا كما تقول أمي !
وكمن يُسحبُ قلبهُ من بين أضلاعه، أدرك أن مناهل اختفت عن مدى بصري، وهي في سبيلها لأن تصل بيت السيّد جاسم، جارنا الذي يبعد ثلاثة بيوت تقريباً، وأتذكر مرضي حين سماعي لخبر غرقها، قبل ثمان سنين، ومكوثي طريحة الفراش أياماً، والرعب الذي استحوذ على تفكير أهلي من أنني سأموت إذا لم أرَ مناهل ثانيةً، لكنها بقيت كما هي مناهل، في العشرين من عمرها، جميلة كما لو أنّ الله خلقها برهاناً إضافياً لألوهيته، آخذُ من الروايات ما يُناسب رقّة مناهل أو هيله كما كنت أُدللُها. وأمسح بها حزن الفراق وابرّدُ حرَّ قلبي : ركبت مع شقيقيها علي زورق حسون البدري، كانت تحمل زوادةً فيها طعام وثياب لشقيقها الآخر حمود، الجندي المسجون في سجن الفرقة الرابعة، ولأن عدد الركاب زاد عن العشرة على الزورق الصغير فقد انقلب بهم في وسط النهر، يقول علي : كانت مناهل قد اختفت عن عيني ووسط الصراخ ضاع صوتي وأنا أصيح : مناهل خويه مناهل، كأن النهر لم يُصدق، ابتلعها وبعد ساعة أو يزيد كان ماءهُ يجري ببراءةٍ كأنهُ لم يبتلع مناهل وامرأتين وطفل.
أين ذهبت مناهل والغرقى الآن أمامي يخرجون من النهر، واحداً إثر الآخر، أراهم وأعرف بعضهم وسمعتُ عن بعضهم الآخر، يسيرون وليل المدينة النائمة لا يشعرُ بخطاهم الهامسة، يسيرون في الدروب الفارغة وربما استندوا إلى الجدران خوفاً، حين يسمعون صفارة الحراس الليلين، ويتوقون إلى أن يلجوا إلى بيوتهم، يتحسسوا حميمية أفرشتهم، يتَلصصون على الأهل النائمين، ربما يفتحون البراد، يأكلون شيئاً، يُحدّقون في أثاث البيت، هم حزانى وصامتون، كما لو أن ذلك شرطُ النهر عليهم كي يسمح لهم بالتجوال، يخشى النهر أن يُخرّب علاقته القديمة مع ناس المدينة بأشباح غرقاه، لكنهم يخرجون عن وصاياه، يريدون أن يستأنفوا حيواتهم، كأنهم يقولون بأنهم سُرقوا بشكلٍ ما !، وقبيل الفجر والظلمة فوق جامع المدينة القريب، تخف قليلاً، تعود الخطى الهامسة، تسير نحو النهر، لا يُكلّم احدهم الآخر، يسيرون وعيونهم تنظرُ للبيوت النائمة، ومن بينهم المح الوجه الأشقر الحبيب، حزيناً كأن به عتبٌ فادح، وأرى المسير المائل قليلاً وينكمشُ قلبي وأتوقُ لرؤية اللون الزمردي في العينين الخضراوين بعد أن يضحك الوجه الأشقر الغريق...كانوا يسيرون فتتبلل الطرقات، وحين تستيقظ المدينة تتساءل عيون ناسها عن الخطى الغامضة. للأرواح المائية.
السماوة 10/ 2/2015