يكتب لنا هذا النص قصة حب عراقية يرافق فيها توهج الحب غير المصرح به وقائع موت معلن سلفا، بصورة تطمح فيه االقصة من خلال تناص مفتتحها إلى إحالة القارئ على ميتافيزيقا الوجود والموت.

الحب والموت

سليم جواد

 

انا لست على الارض ولست في السماء، ولكني. بينهما اتلقى منهما معا اعنف اللطمات

سترندبيرغ

كانت تلك هي اللحظات التي سبقت موته. وهي على الاغلب لحظات مشحونة بالغضب وان تكن قد ثقلت بفعل تناوله لشريط كامل من الحبوب. اما قبل ذلك فقد كان الامر مختلفا كثيرا!

لقد تغير مزاجه، منذ ان رآها للمرة الاخيرة مع خطيبها الذي هو ابن عمها، كما اخبرته هي بذلك. استمر لمدة اسبوع يحيا منتشيا، ثملا، ومفتونا بالامل، بانتظار ردها على طلبه! كان ذلك الاسبوع، هو الاسبوع الذي سبق ايام التشتت الثمانية التي عاشها، بعد ذلك، مثل امريء مسموم، حتى لحظة تسلقه سياج سطح المكتبة.

نعم... تقدم بشكل مفاجيء وغامض بالنسبة لها.. غير انه، وهو في الحالة التي هو فيها، لم يكن قادرا، على الانتباه لذلك الغموض والمفاجأه.

كانت المرة الاولى التي رآها فيها، قد اثرت فيه ووسمته بميسمها، وان لم يكن ذلك قد ظهر عليه اثناءها.

وصل الى المكان الذي مات فيه، بعد ذلك بشهرين وخمسة عشر يوما، اول مرة، اثناء الظهيرة. وضع كتبه على المنضدة الرخامية الطويلة، في اللحظة نفسها، التي ظهرت فيها الفتاة ذات القميص الاخضر. اتخذ هيئة المنتظر، وبعد دقائق خمس جاءت فتاة اخرى غير تلك التي سلمها بطاقة الاستعارة:  كانت الفتاة ذات القميص الاخضر ذاتها، فسلمته الكتاب.

منذ بضعة اعوام، اعتبر العثور على هذا الكتاب امنية ماظن انها ستتحقق، وهو حتى اللحظة التي علم خلالها بوجوده في المكتبة، لم يكن ليصدق، انه سيحصل عليه. ومع ذلك فان الفتاة لاالكتاب، هو ما هيمن على حواسه، ووضع بينه وبين ما يحيط به من الناس والاشياء، حجابا عزله عنهم: رشيقة، نقية البشرة، كأنها خرجت الآن من الحمام. عيناها مثل ماستين سوداوين براقتين طويلتين، تحفظان بحرص وحنان في جفنين من العسل وتحرسان برموش من الحرير الاسود المقوس. وهي ترفل بتنورة سابغة وشعرها قصير وتسريحته عفوية وبسيطة، وهدوءها يترك في النفس شعورا بالعذوبة والطمأنينة ويملأها بالسلام. ولايستطيع من يراها  الا ان يشعر بانها انما خلقت له وحده من بين سائر البشر. لقد اثارت فيه رؤيته لها، رغبة لاترد بالغناء، غير انه كان حزينا جدا آنئذ!

ظل الكتاب موضوعا على المنضدة بانتظار التصفح وقد تلاشت اللهفة التي كان سيوليها له، لو ان الفتاة لم تظهر وتسرقها.

قبل عدة اعوام، وعندما لم تكن قد ظهرت برأسه اية شعرة بيضاء بعد، وبينما كان، هو ورفاقه مختبئين في الملاجيء تحت الارض، وهم يتحدثون عن النساء، بينما ازيز القنابل لاينقطع لحظة واحدة عابرا فوق رؤوسهم، لم يكن قد تخيل فتاة اخرى، تختلف عن فتاة المكتبة لتشاركه حياته. لكنه، لم يكن قد عرف لون قميصها آنذاك.

اذن فقد كانت كما تخيلها تماما وكما حلم بها، وكان على استعداد لتقبلها باي قميص من اي لون.

ان الفتيات اللواتي رآهن، في الفترة مابين انتهاء الحرب، ولحظة دخول المكتبة، لم يكن يحققن حلم مخيلته. لقد سلخ ثلاثين عاما من سني عمره، وكان يعتقد انه لن يتمكن من صقل موهبته وصيانتها والسيطرة عليها، مالم يقم بدراسة هذا الكتاب، ومالم يتوصل الى لمس سره باصبع عقله. كانت فتاة تعمل في مكتبة ولاشك. بيد انها لم تكن متحررة من الالتزامات العائلية وفي  منتصف اسبوع المهلة الذي طلبته منه، كان ابوها وعمها قد قرآ فاتحتها، فكان ان عادت وفي يدها حلقة الخطوبة. اما هو ومنذ ان فاتحها بطلبه فقد رفل في جو آخر، منتظرا ان يحل اليوم السعيد الذي ستلبي فيه هذا الطلب.

لم تكن فتاة شريرة على الاطلاق ولذلك فهي لم تكن تخدعه او تخونه بشيء. ومع ذلك اعتقد، عندما رآها هي وخطيبها، انها، انما احضرته معها من اجل التنكيل به. وعلى الرغم من انه كاتب الا انه لم يقم باخضاع وضعه للتحليل على الاطلاق. لم تنس هي الامر، ولذلك اعتذرت له بطريقة جد مهذبة وقدمت له ابن عمها لتعارف بينهما.

ما كانت تعلم بحقيقة حبه لها، لانه لم يظهر منه شيئا ابدا، ولذلك لم تمنحه التزاما ما، ولم تؤمله شيئا. واعتبرت الامر منتهيا عند هذا الحد.

لم يتقبل الامر، على النحو الذي آل اليه، ولم يستوعبه كما ينبغي. شعر، بانه كبير السن، حتى انه يعيش آخر ايامه وبأنه منفي في نفسه وبين اهله ومسروق الامل ولاحل له. ولاول مرة في حياته، وعلى حبه لها، شعر بضغينة مريرة تجاه الكتابة وعزا اليها السبب في مأساته الحالية. لكن لم يشعر بالهزيمة على الاطلاق، وانما شعر، ان المبادرة التالية اذا كان لابد منها، فانها ستكون عنيفة وقاسية ولاتستهدف سوى معاقبة الذات، لكن على جرم ليس من اقتراف الذات. لقد كان في عنفوان شبابه، مثل مذنب سائر نحو غايته، ناثرا من حوله شررا، هنا وهناك، ومحكوما بسرعته غير آبه، باي جسم او كرة قد يصادفهما في مسيرته، لانه يجب ان يبلغ نهايته

فاتخذ قراره. اتخذه بلا ادنى تردد او خوف.

ظل يتردد على المكتبة، ولكنه لم يستطع رؤيتها. ولو انه سأل زميلاتها لعلم منهن انها منحت اجازة زواج. وفي فوضى تحركاته استطاع التعرف على عنوان بيتها، الا ان ذلك لم يكن نافعا لقلبه. كانت امه، قد طلبت منه، منذ ثلاثة ايام، ان يعرج على صديقه الصيدلاني ليجلب لها ما يسكن الم رأسها، وقد نسي فذكرته بطلبها. وعندئذ خطرت له الفكرة:  يمكن تخفيف الم النهاية اذن. فهو ماكره شيئا او احدا كما كره الالم.

قبل موته بساعات سبع استيقظ مبكرا وسعيدا تقريبا. وكان مزاجه رائقا على الرغم من انه استيقظ وهو اشد تصميما، على تنفيذ ما اعتزمه، منه حين اغفى بعد منتصف الليل. قام بكي ملابسه بحرص وعلى اتم وجه ورتب شعره وسرحه كاحسن مايكون، وكما لم يفعل من قبل. ثم قام ببخ جسمه بعطر هامس ورقيق، ونظف اسنانه ايضا وقام بتلميع حذائه ثم مضع حبة من الهيل. وحين نظر الى هيئته في المرآة وجد ان ملابسه منسجمة مع بعضها بشكل متناغم، فخرج حاسبا كل خطوة بدقة وبلا ارتباك.

كان انيقا وجميلا ومعافى وهو ماض الى حتفه، فبدا كما لو كان ذاهبا الى موعده الاول معها. لقد اكمل القسم الاول من روايته الثانية وقد منح نفسه مدة اقصاها ستة اشهر لاكمال الرواية كلها، ولكنه لم يكن سعيدا بذلك كما هو مفترض. ان روايته الاولى ماتزال مخطوطة وهي تقبع منذ ثلاث سنوات في صندوق اوراقه ولم تر النشر بعد. وذلك بلاشك كان يقلقه ويمضه ولكنه كان مصمما على الاستمرار بالكتابة والدرس، واذا حدث وتعرضت حماسته، التي هي ضرورية لحالته ـ للفتور ـ وما اكثر ماكان يحدث ذلك، فانه كان يقوم بخلقها من جديد خلقا يكاد يكون من العدم. ان الاشخاص من هذا النوع، غالبا ما يتصفون بالهدوء والتأمل والصمت، لكنه كان على العكس من ذلك صاخبا، عنيفا، مشحونا بالبغضاء، حاقدا وقوي الجسم والحركة. وقد زودته المعارك التي خاضها في الجبهة، قبل انتهاء الحرب، بصفة الاقدام، ومن جانبه فانه قام برعاية هذه الصفة وغذاها ورباها.

لقد كانت الحرب ثقيلة على مخيلته مثلما هي ثقيلة على مخيلة اقرانه، والآن وهو يرى الفتاة في المكتبة يشعر ان الحرب، قد فعلت به اكثر مما هو متوقع منها، وانها لم تتركه على حاله كما توهم. ان كل شعرة بيضاء في رأسه، وهوفي هذا العمر المبكر، ليست الا رغبة مضمرة غير متحققة.

في امسية اليوم الذي سبق اليوم الذي وصل فيه الى المكتبة، كان جالسا في الزورق، هو ومجموعة من اصدقائه، وهم يعبرون نهر دجلة باتجاه الشواكة، وقد ذكر اسم الكتاب ايضا، كما اعتاد ان يذكره في كل مرة اجتمع فيها باصدقائه واتخذ الحديث وجهة ادبية.

ابتدأ يدندن وبتقنية صحيحة، اغنية لفيروز، ولعله ان يكون قد نسي الامر، عندما اخبره احد اصقائه بان الكتاب الذي يحلم به موجود واعطاه اسم المكتبة.

في اليوم الذي اعقب اليوم الذي كان يعبر فيه مع اصدقائه باتجاه الشواكة، ذهب الى المكتبة من اجل الحصول على الكتاب، وهو اشد مايكون لهفة للحصول عليه. ومنذ ذلك اليوم ولمدة شهرين، ظل يتردد على المكتبة حتى عندما لم يعد بحاجة الى قراءة الكتاب، لانه عندئذ اخذ يراقب طباع الفتاة ويذهله التخيل بانه لابد ممتلكها، وذلك كلما تنسم عبير انوثتها القاتل، حين تمر امامه في المكتبة.

لقد قرأ الكتاب مرات عديدة ودرسه، لذا فانه اخذ يحمل كتبه هو لاجل دراستها في المكتبة. لم يكن عذره في الحضور سوى ادعاء طبعا ولكنه، مع ذلك كان ادعاء نافعا ومفيدا.. لقد حفزه وعن طريق المصادفة وحدها، على دراسة رواية اخرى لم يكن قد سمع  عنها من قبل: (فساد الامكنة). فكانت  شيئا تساوي قيمته الجهد المبذول، استطاع الى حد ما الهاءه عن حبه الخائب بعض الشيء.

بعد مرور شهرين، اصبح معروفا من قبل جميع العاملين في المكتبة. بل ان الفراشين انفسهم اصبحوا يعرفونه بالاسم ايضا.

قبل موته بخمسة عشر يوما، وبينما هو يتحدث معها فاجأها بطلبه: تتزوجيني؟

لم تكن تعرف عنه شيئا تقريبا باستثناء اسمه الذي كانت تدونه اثناء الاستعارة، مع ذلك استطاع ان يؤثر فيها بطلبه وكذلك بوضوح هذا الطلب والرسوخ الذي رافق هذا الطلب. فطلبت منه هي ان يمهلها اسبوعا، عندما لم تجد شيئا آخر يمكنها ان تفعله وهي في ارتباكها ذاك. وكان ذلك الاسبوع هو الاسبوع الذي سبق الايام الثمانية التي سبقت موته.

ارتبط بصديقه الصيدلاني بصداقة عميقة منذ ايام الجبهة، لذا فان هذا الصديق يثق بآرائه الادبية ويساعده اثناء الاستشارات الطبية عندما يحتاج اليها لاغراض كتابية. طلب منه شيئا لامه ثم طلب منه شريطا كاملا من حبوب الفاليوم. لم يكن قد عد حصوله على حبوب الفاليوم، شرطا لتنفيذ مقصده  لا!

وصل الى المكتبة في الموعد نفسه الذي كان يصل فيه خلال الشهرين اللذين سبقا اسبوع الانتظار الذي سبق ايام التشتت الثمانية التي سبقت موته:

كل شيء كما عهده. القراء هم هم، الكراسي هي هي، وانفجرت في بلعومه نفاخة من الالم، لم يجد لديه القدرة على ابتلاعها او لفظها خارجا.

كان شعورا بالعنف يجتاحه وكان كيانه ينطوي على طاقة خارقة وكان يلتهب في جوانحه مثل الشوق لانزال العقاب بمن سعى فاحرق اوراق حياته بهذا الشكل القاسي. لم يجدها في المكتبة. لذا لم يكن يستجيب للعالم من حوله. لم يعد يسمع صوتا او يرى شيئا. ابتلع الشريط كله وبقي ينتظر لحظات سريان مفعول المخدر في جسده.

ظل جالسا في المكان ذاته الذي كان يراها منه ويحبها منه وينسج شبكة آماله التي كان الشيطان يفكها خيطا خيطا، منه. انتظر عدة دقائق  وبعد ذلك اخذ كل شيء يتغير امامه. ففي سناء ضاف جاءت هي بكل فتنتها وانوثتها وفتوتها وقميصها الاخضر يشع بلاانتهاء. اوشك ان يصرعه الانفعال وهو جالس في مكانه وقلبه ينبض بسرعة 144 نبضة في الدقيقة. لكنه سيطر على تشوش قلبه وطيشه وبقي هادئا وهي تتطلع اليه بعينين باسمتين متفهمتين. لن تكون قادرة على فهمه ولاشك. هو الآن لن يرضى بها ولن يقبل الزواج منها، وليس ذلك لكونها ليست جميلة او ان قلبه قد كف اخيرا عن حبه لها. وانما لان الكلمة النهائية قيلت والمصائر تقررت. وقفت قبالته، من الجانب الآخر للمنضدة ووضعت الكتاب ذاته الذي احضرته له اول مرة، منذ زمن سحيق وابتسمت ... مد، يده ليدفع الكتاب ويخبرها بنبرة لامبالية انه لم يعد يحتاج اليه، لم يعد يهمه: سراب. ليس ثمة سوى الوهم. هذه شراك النهاية منصوبة بهذا الوضع الميلودرامي الخسيس.

اخذ يشعر بخدر في كامل جسده الآن وان يكن عقله لايزال متيقظا. وبعد دقائق ابتدأ عقله هو ايضا يغيم. شعر بحنين للنوم ولكنه كان على مثل اليقين من انه انما ابتلع شريط الحبوب لاابتغاء اقتناص غفوة مستعصية وانما لاجل تخفيف الم النهاية. ترك كتبه على المنضدة وتحرك من مكانه وقام باتجاه الدرج. وببطء وعسر وبخطوات ثقيلة شق طريقه بين القراء والحاويات البلاستيكية المعلقة بواسطة سيور حديدية على الاعمدة الرخامية. كان اثناء سيره يتذكر كأنما حدث ذلك قبل مئات السنين، انه احب فتاة وانه اراد الزواج منها وانه الآن يزور مكانها فلايجدها. تذكر ايضا، انه ابتلع شريطا كاملا من الحبوب، منذ زمن بعيد.

اتجه الى الدرج وببطء ومشقة مع وهن الجسم ولكن بلاهوادة وبلاتردد وباصرار، وعزيمة وكما لو كان ذلك يملؤه فخرا، تسلقه حتى وصل الى الطابق الاول. وبلا توان وان يكن ببطء اكثر وبحركات مترنحة واشد ثقلا منها في تسلق الاول، الى الثاني، وبخطوات حثيثة، مع الضعف المتزايد وفقدان القوة الى الثالث، واخيرا مع نفاد القدرة واستنزاف الارادة وتشوش الرؤية الى الرابع، حتى وجد نفسه على السطح: تانكيات الماء الانابيب المتشابكة، اريلات التلفزيونات، اعمدة الاضاءة الكهربائية واسلاكها. سطوح اخرى غير سطح المكتبة الذي يقف عليه، سطوح اقل ارتفاعا. الاجسام الصلبة ولاشك والمتأرجحة مع ذلك لعمارات اخرى لاشك انها تقف برسوخ رغم كل شيء.

اخترمه شعورمؤذ بانه غريب عن كل ماحوله. لاشيء ممايحيط به يمت اليه بصلة او يمكن ان يغدق عليه حنانا. اقترب من الحافة متثاقلا ونظر فاهتزت الاشياء جميعا وترنحت. اخذ نفسا عميقا وتوقف مستندا الى السياج. كان مستوى السياج يصل الى مافوق بطنه وبمشقة وجهد امتطاه.

كان هادئا اخيرا،  ومشرفا على الكون وكأنه مشرف على روحه ذاتها، ولكن واهن الجسم ومنهكا تماما. لقد تعلم، منذ سنوات، هناك في جبهات القتال، وعلى حسابه الخاص، انه اذا اقدم على فعل شيء  فعليه ان لايتردد ابدا. وهاهو الآن يفعل ذلك حتى بعد ان توقفت الحرب ومضت عدة اعوام على توقفها. دفع نفسه من فوق السياج فشعر بجسمه ينقذف طائرا. وفي ذلك الجزء الوجيز من عمر الثانية الذي سبق ارتطام رأسه بارض الحديقة وعى انه مات وعانق النهاية والفناء. لكن في ذلك الجزء الوجيز ايضا، برق  قميصها ليصبغ مخيلته بالكامل باللون الاخضر.