يظل الجسد دوماً يحمل دالاً لمدلول ما، بحيث يتغير الأخير وفق الظرف السياسي والاجتماعي، والوضع الاقتصادي في المقام الأول كانعكاس مباشر لهذين المظهرين، لتبدو الفوارق بين رجل وامرأة، شاب وعجوز، وقوي وضعيف، وربما يجمع الكل في غفلة منهم فكرة ان أجسادهم توحدت في شكل الضحية، في المقابل من جسد قوي يمثل السُلطة ومفرداتها، من خلال نظامها السياسي. الجسد الضحية هذا تحوّل في لحظة تاريخية فارقة إلى جسد ثوري، التوحد هنا مقصود وعن عمد، ليصبح جسداً اجتماعياً، يقف ويواجه ويتحدى جسد النظام السلطوي الهزيل. فيصبح الجسد بذلك وحدة للتحليل السياسي. حول هذه الفكرة يحاول كتاب «الجسد والسياسة» لمؤلفته مريم وحيد التأصيل لعلاقة الجسد الإنساني بالدولة، أو ما يطلق عليه الجسد السياسي، وعلاقته بالجسد الاجتماعي، وهي تتبّع في هذا أحداث الثورة المصرية، التي قامت في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير في العام 2011. بداية من يومها الأول، مروراً بالمرحلة الانتقالية التي أدارها المجلس العسكري، وانتهاءً بانتخاب أول رئيس لمصر بعد الثورة، في حزيران/يونيو 2012. هنا تتوقف الدراسة، لكن القارئ يمكنه استكمالها حتى اللحظة الراهنة، وفق ما حدث بعد هذا التاريخ، وما يحدث الآن. وهو ما يستدعي التساؤل حول هذا الجسد الاجتماعي، وتحولاته الآن، خاصة في حالات التكرار لما كان عليه قبل 25 كانون الثاني/يناير.
مؤسسات العقاب
تشير المؤلفة بداية إلى رؤية ميشيل فوكو أن هدف السلطة دوماً يكمن في السيطرة على الجسد، وضبطه وإخضاعه وفق المعايير والمقاييس، في إطار تطويعه ومراقبته دون تعذيبه مادياً. هذه العمليات التي تتحقق في شكلها النموذجي عبر تنظيم مؤسسات السجن والجيش والمدرسة، وفيها تعمل مؤسسات وأجهزة الدولة ــ كل في مجالها وتخصصها ــ على اخضاع الجسد والسيطرة عليه سياسياً. في مقابل ذلك تتخيل السلطة ونظامها انها تمثل جسداً، يُجسد صورته رأس الدولة، ولا يقتصر الأمر على نظم شمولية دون الديمقراطية، فكينيدي الشاب صنعه التليفزيون، بينما اللقطات المصورة لأصحاب النظم الشمولية تجعل قوة الدولة متمثلة في قوة أجساد هؤلاء، وتتعلق الشعوب بهذه الصور، وتستند إليها كمقياس وحيد على القوة، ذلك لغياب الشكل المأسسي للدولة، والتي تمارس مهامها من خلاله، بغض النظر عن رأس السُلطة. إلا أن هذه المؤسسات بدورها ــ كما أوضح فوكو ــ تراقب وتصنع أفرادها وفق هواها، في شكل السيطرة على أهم مظاهرهم المادية/الجسد، لتصل بعد ذلك إلى السيطرة على الأفكار.
الجسد كموضوع للسلطة
تداوم السلطة على وضع القيود على الجسد الإنساني، بدافع الحفاظ على الجسد السياسي. ويأخذ الجسد كموضوع للسلطة أشكالاً عديدة، بداية من تنظيم النسل، مروراً بالتعذيب، وصولاً إلى إفناء الجسد بحجة أنه يمثل تهديداً للدولة وأمنها. ففي فترات ضعف النظام السياسي وعدم استقراره، يلجأ إلى التعذيب، واستعراضه بالنسبة للجموع، وهو استعراض ضال يدل على قوة الدولة. ومن هذه المظاهر أيضاً إكراه الناس على الصمت والطاعة والخوف.
فالدولة اجمالاً تقوم على فكرة احتكار الحق الشرعي في ممارسة العنف، فتقوم بأفعال عنيفة ووحشية، إلا إذا قوبلت بمقاومة قوية من الشعب. وبينما نجحت دول العالم المتقدم في تطوير مهاراتها الانضباطية، من خلال الاعتماد على التأديب والمراقبة، نجد آليات السلطة في الدول النامية تعتمد التعذيب وقهر الجسد. وبالنسبة للوضع في مصر ــ حتى هذه اللحظة ــ فلا يزال التعذيب يعتبر ممارسة يومية في أقسام الشرطة ومعسكرات الأمن المركزي.
الجسد الافتراضي
خلقت شبكات التواصل الاجتماعي مساحة لهوية جديدة تتفاعل مع هويات أخرى، فبدا المجال أكثر حرية وديمقراطية ولو نسبياً، بعيداً عن الأمن والسلطة، حتى مع محاولة الأخيرة في استهداف النشطاء. وغياب الجسد هنا عبر هذا العالم، كان له أكبر الأثر على التعاملات السياسية والاجتماعية. فقد خلقت شبكة فيسبوك امكانية التواصل بين أشخاص يختلفون في بيئتهم الاجتماعية والثقافية والفئوية، ما أدى إلى توسيع التعبئة الجماهيرية. وكان الإعلان للتظاهر السِلمي في يوم الثلاثاء 25 كانون الثاني/يناير 2011 بمثابة النجاح الكامل لحالة التواصل هذه، وقد انتهت بثورة شعبية تعد أهم ثورة ــ حقيقية ــ للشعب المصري عبر تاريخه. وهنا تحوّل الواقع الافتراضي إلى واقع فعلي، نتيجة تواصل رجل الشارع العادي ومُشاركته في ما حدث. والمفارقة تكمن في المقارنة بين عقل النظام السياسي وما انتواه، وما تحقق بالفعل. هذا النظام الذي تصوّر أن خلق فضاء افتراضي في مصر سيكون بديلاً للشباب عن الممارسة الفعلية للسياسة، ووجودهم على أرض الواقع السياسي.
الشعب كجسد
يمثل الجسد في النظم الاستبدادية بصفة عامة جسد الحاكم، وفي النظم الارستقراطية هو التعبير عن القلة التي تصوغ آليات الحُكم، بينما في النظم الديمقراطية هو جسد الأغلبية التي تمارس السلطة.
ولكن في اللحظة التي يدرك «الشعب» عندها أنه يُكوّن بذاته جسداً، يكون وقتها ثورياً، وفي قلب الخطاب الثوري.
وفي الثورة المصرية ظهر الشعب المصري كفاعل (جمعي) من نوع جديد، لا يخضع لأشكال التحليل الاجتماعي التقليدية كالعصبية أو الجماعة أو الفئة والطبقة. واستطاع هذا الفاعل/الجسد محاصرة مراكز السلطة والاطاحة برأسها، وأجزاء هامة من جسدها، تتمثل في نخبتها الحاكمة.
ما بعد الفعل الثوري
عاش الجسد الثوري المصري 18 يوماً، حتى قضى على رأس نظام استمر نحو ثلاثين عاما، لكنه لم يتمكن من الاطاحة ببنية السلطة كاملة، هنا حدثت الانقسامات والانشقاقات في هذا الجسد ــ ربما لم يصدق أنه أصبح حياً بالفعل ــ كمحاولة من البعض للبحث عن موقع في السلطة الحاكمة الجديدة، والأمثلة عديدة … بداية من تواطؤ جماعة الإخوان المسلمين مع المجلس العسكري ــ الذي كان يدير البلاد في تلك الفترة ــ والاكتفاء بالتغيير الجزئي للنظام، وانشغال الثوار الليبراليين بتكوين أحزاب كثيرة، دون الانشغال بتكوين حزب واحد يعبّر عن رؤيتهم للدولة الجديدة. وبدأ التضامن الثوري ينهار تماماً عند بداية بناء أُطر مؤسسات الدولة الجديدة، الاستفتاءات والانتخابات، وهو ما يؤكده التحالف والتواطؤ المزمن – وقتها – بين المجلس العسكري وجماعة الإخوان، بإجراء انتخابات برلمانية، ثم وضع الدستور بعد ذلك.
تفكُك الجسد الثوري
تشير المؤلفة في النهاية إلى بعض الأحداث والمظاهر التي ساعدت على تفكك وتباعد الجسد الثوري/الشعب. ومن خلال هذه الأحداث من الممكن أن نستشف المحاولات المُستميتة حتى لا يستطيع هذا الجسد لملمة شتاته مرّة أخرى. فحالات افتعال الأزمات كانت واضحة تماماً، وما كشفت عنه بعض الأحداث اللاحقة على تأليف الكتاب فضحت العديد منها. تحصر المؤلفة هذه الأحداث في عدة نقاط … أولها المطالب الشعبية، التي تم تصويرها من قِبل المجلس العسكري بمساعدة الإعلام وكأنها مطالب فئوية، تخص فئة بعينها. مسلسل حرق الكنائس والاعتداء على دور عبادة الأقباط استمر ولم ينته بعد الثورة، والذي تكلل بمجزرة أو مذبحة ماسبيرو. مأساة كشوف العذرية والتحرشات الجنسية المقصودة، حتى تبتعد المرأة عن الصورة، وبث الرعب والخوف في قلوب الأسرة المصرية، استمرار فساد الطب الشرعي، بتزويره تقارير حالات الإصابات والوفاة.
مريم وحيد: «الجسد والسياسة»
الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 2015
270 صفحة من القطع الكبير
عن جريدة القدس العربي