الرواية بحسب مفهوم سارتر هي علامات والقارئ يفك هذه العلامات، وهي المرآة لخيال المؤلف لأنها رؤيا للعالم بعيني طفل وعقل فيلسوف. ولو عدنا إلى الوراء قليلا سنجد إنها فن أصيل وقديم يعتمد الحكاية والروى، لكنها تطورت كثيرا حتى أصبحت عبارة عن سرد طويل لا ينتهي من العلامات والأشياء والإشارات والاستعارات والتلميحات تنحى منحى كابوسي أو إشراقي. لكن هل نستطيع إخضاع هذا الفن الأبداعي لقانون اللغة السينمائية؟ هذا القانون الذي يمتلك معطياته وأدواته الخاصة به والتي ليس مثلها آخر. فالسينما بحسب رأي المخرج بول وارن هي تصوير الواقع بالواقع نفسه. لكننا نجد في الرواية هذا التصوير إنما ليس بالواقع بل بالعلامات والرموز والإشارات، فعندما يتحدث المؤلف عن الحصان فهو يقصد الجموح والأصالة والرشاقة..الخ. إنه يعطيك هذه الرموز والإشارات بكلمات باردة لها أكثر من دالة وأنت بوصفك قارئا تفك رموزها وتستخدم خزين ذاكرتك الصوري لإعطاء شكل وحجم ذلك الحصان، وهنا تفتح مسارب وقنوات لصور هذه الذاكرة وذلك بحسب ميول ومهنة ومزاجية وثقافة المتلقي. فرؤية الرسام للحصان تختلف حتما عن رؤية الحوذي ومقامر مراهنات الخيل والبدوي. إذن هنالك أكثر من صورة وأكثر من تشكيل له، لأن قارئ الرواية يمارس شكلا من أشكال الإخراج السينمائي لكن في مخيلته فقط، أما في السينما عندما يحاول التعبير عن حصان بصورة أو بأخرى فأنه يأتي بحصان حقيقي، وهذا يحدد كثيرا من الرؤية الخيالية للمتفرج، لذلك نجد أن استخدام الرمز في السينما عملية معقدة جدا وليست كالأدب، أو كما يقول المخرج الايطالي بازوليني عندما أرمز لفيل أو تفاحة أو حقيبة فأنني ملزم باستخدام فيلا حقيقيا، وتفاحة حقيقية، وحقيبة حقيقية؛ أما طريقة التعبير عن ذلك فهذه مسألة أسلوب يتحدد بحسب مستوى قواعد اللغة السينمائية، إلا أن المونتاج والموسيقى واللون يساعد كثيرا على طرح الرمز.
ومن الجدير بالذكر أن المخرج الروسي الكبير ايزنشتاين هو المخرج الأكثر تأكيدا على عملية المونتاج والذي أبدع فيه، خاصة في (المدرعة بوتمكين)، يعتقد أن طبيعة الوجود البشري تعتمد على الجريان والتغيير المستمرين، وأن تذبذب الطبيعة الأزلي هو الحالة الجدلية، أي نتيجة تصارع الأضداد، وهذا ما نجده عند الفيلسوف هيراقليطس إذ يقول إن ما يبدو ساكنا أو موحدا في الطبيعة انما هو الآتي فقط. إذ أن جميع الظواهر الطبيعية هي في حالات مختلفة من الصيرورة.
كان ايزنشتاين يعتقد بأن صراع الأضداد هذا هو أبو الحركة والتعبير. ووظيفة الفنان هي أن يعطي المشاهد الحساسية تجاه النبض الأزلي للكون الكبير. فالسينما هي من الناحية الكامنة على الأقل، أكثر الفنون شمولا، لأنها يمكن أن تجمع الصراع البصري البحت للرسم والصراعات الحركية للرقص وصراعات الفعل والشخصية في الدراما والقصص الخيالية وباضافة العنصر الجديد للسينما مؤخرا وهو الكومبيوتر، أصبح احتواء الفن السابع لكل عناصر التشويق والشد والإبهار. إن هذه الإضافات الجديدة والنجمة عن عمليات تقنية رفيعة المستوى جسدت وبفعالية خارقة الخيال الأسطوري وبشكل مذهل وبكل ما يتعلق بالخوارق البشرية والحيوانية والخيال العلمي وما نتج عنها من تلاعب بوظائف الجسد البشري فيلما (القناع وآفاتار)، أو إعادة تشكيل وتكوين الحيوانات المنقرضة كالديناصورات، فيلم (الحديقة الجوراسية، بأجزائه الثلاثة) لسبيلبيرغ، أو إعادة صياغة الكوارث الطبيعية بشكل درامي حزين (فيلم تيتانيك) لجورج كاميرون، وتداخل ومحايثة الواقع بالحلم/ الكابوس وتوازيهما بحيث لا يمكن التمييز بينهما ويجعل المتفرج في سؤال طيلة العرض، أين الواقع وأين الحلم، فيلم (ماتريكس) للأخوين ووتشاوسكي.
إن هذه وغيرها من الأفلام أعادت للسينما نكهتها الأولى من خلال عنصري الإدهاش وتحقيق مستحيلات الخيال انذاك، تلك التي بدأها عباقرة السينما العالمية الأخوة لوميير وجورج ميلييه وكريفث حين كانت السينما بوصفها عنصر الإبهار والإدهاش الأول في ذلك الوقت. ففي البداية كان اعتمادها على الأدب كثيرا، فجورج ميليه استخدم المواد الأدبية كأساس للعديد من أفلامه فيما أدعى كريفث إن العديد من تجديداته في السينما كان مأخوذا في الواقع من صفحات ديكنز، وهذا ما يؤكده ايزنشتاين في مقالة (ديكنز وكريفث والفيلم اليوم). فيرينا كيف قدمت روايات ديكنز لكيفث عددا من التقنيات بضمن ذلك ما يقابل الاختفاء التدريجي، والتداخل وتكوين الصورة والتجزئة الى لقطات، والعدسات الخاصة بالتحوير وأهمها مبدأ المونتاج المتوازي حتى أن ايزنشتاين يحول الفصل 21 من رواية اوليفر تويست إلى نص تنفيذي ليدل على أحاسيس ديكنز السينمائية، لكن لابد من القول إننا وفي بدايات الألفية الثالثة لم تعد لدينا القابلية الذهنية لمتابعة تفصيلات حركة اوليفر تويست في شوارع وأزقة لندن. وقد أشار العديد من المعلقين الى القيمة السينمائية لأكثر الشعر والروايات الحديثة من تلك الأعمال الكلاسيكية مثل (يو أس أي) لدوس باسوس، و(عوليس) لجيمس جويس، والصخب والعنف لوليم فوكنر، ومائة عام من العزلة لماركيز، وكما سبق وذكرنا فأن العلاقة بين هذين النمطين يعود الى طفولة السينما تقريبا.
بعد مجيء الصوت إلى السينما أصبح الحوار مسؤولية الكاتب الذي يلخص غالبية الفعل وهو الذي يبدأ الموضوع الرئيس وبتفصيل كبير احيانا.
وعندما أصبح النص السينمائي أكثر تعقيدا ودقة، والأهم من ذلك أكثر مشافهة، انجذب عدد كبير من الأدباء والروائيين الى هذا الوسط السمعي البصري. جاء وليم فوكنر مدفوعا بالدهشة والأبهار لكنه سرعان ما أصيب بخيبة أمل لاصطدامه بشيء اسمه (السيناريو التنفيذي) الذي حدد الكثير من أدبية النص الذي كان يكتبه. وبعد كتابة عدد من النصوص التجارية الهابطة عاد مخذولا، وكذلك فعل سكوت فيتزجرالد وغيرهم.
إن صنعة كتابة السيناريو فن صعب لذلك نجد عن العديد من كبار صانعي الأفلام يكتب نصوصه بنفسه، من هؤلاء بركمان وكوكتو وايزنشتاين ورنوار. وعلى العموم ان اغلب كبار المخرجين كان له اليد الطولى في كتابة نصوصه ولكنه جلب كتابا آخرين لتوسيع أفكاره ومنهم فلليني وتروا وكوروساوا وانطونيوني. هذا يؤكد حقيقة أن النصوص السينمائية هي تمهيد للفعل التنفيذي للمخرج المؤلف، لذلك نادرا ما توفر قراءة ممتعة لأنها مجرد خريطة أو مؤشر للانتاج النهائي، النص السينمائي يفقد الكثير بخلاف النص المسرحي، الذي يمكن قراءته عادة بمتعة، حتى النصوص المفعمة بالتفصيلات نادرا ماتقدم لنا احساسا بالميزانسين الفلمي، وهو من أهم طرق التعبير التي في متناول يد المخرج وهذا يتبين في الاختيار بين اللقطة الكبيرة واللقطة البعيدة وما يخلفانه من ردود فعل سايكولوجي لدى المتلقي، وهنا لابد من استعراض بعض الأعمال الروائية الكبيرة التي تناولها مخرجون كبار، كالحرب والسلام التي أخرجها بوندار شوك، وموبي ديك التي أخرجها جون هيوستن عن سيناريو لراي ماكبث، والجريمة والعقاب، ورواية العراب أخرجها فرانسيس فورد كوبولا، كذلك عرش الدم عن ماكبث للمخرج الياباني كيراساوا،
نلاحظ إن هذه النماذج كانت متباينة التأثير على المتلقي، فالعراب لماريو بوزو لا تخرج عن كونها رواية عادية لكن كوبولا جعل منها فيلما ملحميا عن المافيا، وكذلك ماكبث شكسبير إذ استطاع كيراساوا تقديم عمل ينتمي إليه من خلال استعارة شكسبير، وهذا يؤكد حقيقة إن الأعمال ذات الطابع الذاتي هي الوحيدة التي تنجح في تحويل شكل فني الى شكل فني آخر من خلال فنان اصيل لا يأبه لأي نموذج آخر.
وبعدـ ماذا يحدث؟ مالذي يشاهده المواطن العادي في أغلب بقاع العالم، الذي غزته شاشات البلازما العريضة بأنواعها ذات الأبعاد الثلاثة وhd وغيرها من وسائل الأبهار والتشويق والسباق مازال محموما؟ انها عودة الى نقطة البداية ولكن بشكل عادي، فشركات الإنتاج السينمائي في هوليود باعتبارها سيدة السينما في العالم، على الأقل لنا نحن القاعدون في مشرق الأرض، هذه الشركات تنفق ملايين الدولارات على فيلم مدته ساعتين، لتجعل المتفرج مشدودا الى الشاشة وهو حابس أنفاسه. فأغلب هذه الأفلام ترتكز على حكاية عادية جدا وأحيانا تضيع هذه الحكاية وسط زحمة آلاعيب الدجتل والخيال الافتراضي. وحين ينتهي الفيلم لا يستطيع المتفرج الحديث عنه، لأنه غير حقيقي بطلا وحكاية. فقد ذهب زمان الذي يجعل المتفرج وهو يخرج من السينما وهو يتخيل نفسه بطل الفيلم. هذا الإسقاط الجميل غادر السينما الآن، ولم يعد للفن السابع نكهته القديمة تلك وضاع السيناريو، وفقدت الكاميرا هيبتها وأمست طيرا مجنونا يلاحق البطل اينما يذهب. وأصبح المخرج يقضي أغلب وقته أمام شاشات الدجتل لصنع واقع وهمي يتحكم فيه، فأفلام مثل (الحديقة الجوراسية بأجزائه الثلاثة ونهاية العالم 2012 والمومياء بأجزائه الثلاثة وسجناء العالم السفلي وتيتانك وأفلام الزومبي ومصاصي الدماء مثل السياف. وأفلام القاتل المتسلسل، بالإضافة إلى أفلام الرعب، كلها تشترك في قصصها العادية جدا. ومايميز جميع هذه الأفلام هي أنها بلا رصيد مستقبلي، بمعنى أنها لا تشاهد أكثر من مرة ولا يمكن العودة اليها، لأن المتلقي حين يبحث عن المزيد مما يدهشه ويوهمه بالولوج الى العوالم الغامضة والسحرية، فإن جوعه يزداد كلما كانت وسائل إدهاشه أكثر دقة في كذبها وأقرب إلى الواقعية وهما. لذلك ستكون عملية تصاعدية حتى تصل إلى أعلى نقطة، عندها ستنتفي اليها الحاجة وتلغى من قاموس اهتماماته كأي متعة رخيصة أخرى. لكن هنالك خطورة تكمن في هذا النوع من الأفلام ذات البعد الأسطوري/ الخيال علمي/ الكوارثي، هي أنها تمرر مفاهيم وقيم بشكل حقائق مسلم بها ضمنها في حصيلتها النهائية استرخاص الإنسان جسدا وروحا بوصفه كائنا مستباحا دوما من قبل قوى الشر، المصنوعة في استوديوهات هوليود الافتراضية، وبشكل متفنن ودقيق حتى يظهر البطل الموعود حفيد جون واين، وسوبرمان، والرجل الوطواط، ومستر امريكا، وفان هلسنغ، وطبعا رامبو.. ليقضي على الجميع ويبقى وحده ليبدأ من جديد في عالم كله أمل وتفاؤل على أشلاء دماء الآلاف، هكذا دونما مبرر. لكن ماهو أخطر من هذا كله وهو ما يعرف بحشو الذاكرة الضمنية، أو الإدراك بدون وعي subliminal) massag). وهي تجربة استخدمت في امريكا من قبل إحدى شركات الدعاية للترويج لنوع من السكائر من خلال التلفزيون، وذلك بعرض الإعلان المطلوب في أجزاء من الثانية ضمن فيلم أو أغنية أو تمثيلية دون أن تلاحظ بصريا لتخزن بالذاكرة، فتجعل الشخص ينقاد اليها دون أن يعي ذلك، ثم استخدمت لغرض الدعاية الإنتخابية بأن تبث صورة المرشح بهذه الطريقة ضمن برامج التلفزيون، ثم انتبهت الحكومات في الغرب الى هذا الأمر وأصدرت قوانين بمنعه. لكن إزاء هذا الضخ الهائل للأفلام الأمريكية إلى الشرق كم هو الذي خزن في اللاوعي الجمعي للمجتمعات الشرقية المستهلك الأكبر للأفلام الأمريكية.
لكن هذا لا يمنع من ظهور لبعض الأفلام بين آونة وأخرى.