«قالت له:
- إنك لم تعد معي.
- فقال محدثاً نفسه:
- أصل المتاعب مهارة قرد!
- ما كان ينبغي أن تشرب القهوة.
- تعلم كيف يسير على قدمين فحرر يديه.
- هذا يعني أنه يجب أن أذهب.
- وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة.
- سؤال أخير قبل أن أذهب: ألديك خطة للمستقبل إذا تأزمت الأمور؟
- وقالوا له عد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش.
- أتستحق معاشا مناسباً .. إذا لا سمح الله رفت؟
- فقبض على غصن شجيرة بيد وعلى حجر بيد وتقدم في حذر وهو يمد بصره إلى طريق لا نهاية له». (نجيب محفوظ، ثرثرة فوق النيل، مكتبة مصر، القاهرة 1967، ص 201)
* * * *
ثمة جريمة قتل ارتكبت ضد مجهول، والجناة جماعة من المثقفين السكارى والحشاشين الذين لا يكادون يفترون عن تعاطي المخدرات والثرثرة. رأس الجماعة وقطبها أنيس زكي الموظف المسطول دوماً، المهووس بالتاريخ الدموي والاستشهاد بأعلامه. وأنيس زكي له، إلى جانب ذلك واجهة وجودية، مثلما هو ذاك المواطن الشارد عن القصد. لذلك يبدو من الصعب جداً وضع حدود صارمة لصورة أنيس، مثلما هو صعب كذلك وضع اليد على المعضلة الحقيقية في هذا الكتاب السردي. بيد أن تصوير جريمة القتل التي شاركت فيها الجماعة ساعة كانت تمضي في السيارة بسرعة جنونية قد أسهمت إلى حد بعيد في صياغة معالم المعضلة المفترضة. كان الجميع في حالة عربدة: أنيس زكي وسمارة رجب وأحمد نصر وخالد عزوز وعلي السيد ومصطفى راشد وسنية كامل وليلى زيدان. وبعد ارتكاب الجريمة أراد الجميع أن يتستر عليها. لكن عناصر درامية من قبيل الغضب والحب والغيرة كادت أن تجعل المسطول أنيس زكي يذهب إلى التبليغ بالجريمة. ثم انتهت الرواية نهاية غامضة كما يتجلى من خلال صورة "العشيقة ومهارة القرد"، بعد صراع بين أفراد الجماعة، من غير أن يقدم النص إشارات واضحة عن إمكان تحمل أي فرد من هؤلاء ثقل المسؤولية ثم التبليغ. لقد كانوا كلهم مهزومين على الرغم من تباين سمات الهزيمة لدى كل واحد منهم.
إن تأمل تلك العناصر الدرامية من شأنه أن يساعد القارئ على تمييز الموضوع السردي البارز في هذه الرواية حتى قبل أن يقدم على عملية تأويل الصورة. هناك جماعة مثقفة تنصلت من مسؤولياتها الخلقية والمجتمعية والإنسانية والدينية مما أفضى بها إلى مكابدة حالات من التوتر والإحباط الرهيب. ذاك موضوع تكاد تصوره الرواية بصفة مباشرة. غير أن إمعان النظر في تفاصيل التصوير السردي قد يكشف وجه العضل، حيث إن التنصل من المسؤولية يخص هنا جماعة متسمة بوعي تاريخي ما. ومثل هذا الوعي يرقى بتلك الجماعة -أو يهبط بها- إلى أن يغدو أفرادها يشكلون شخصية معنوية غير عادية. بذلك يصبح التنصل الواعي من المسؤولية معضلة روائية قمينة بالنظر.
نشر نجيب محفوظ روايته في سنة 1966. وبعد نكسة 1967 قرأنا أكثر من رأي نقدي يقول إن المؤلف كان قد تنبأ بتلك النكسة من خلال تركيزه على تصوير مقدماتها بصفة عفوية حينما استشرف سمتي العبث والهزيمة متغلغلتين في طبائع شخصيات روايته وسلوكهم. وليست المناسبة هنا خوض غمار التأويل وترداد أفكار وافتراضات ربطت في الإبان بين هذه الرواية وهزيمة يونيو 1967. إنما القصد تأمل صورة كانت لها، ولاتزال، هيمنة شديدة.
قرأت هذه الرواية قبل حوالي نصف قرن. ومنذ ذلك التاريخ لم أفلح في نسيان الصورة التي تخيلت لها عنوان "العشيقة ومهارة القرد". فأي سرّ تضمنته، ولماذا تستطيع ذاكرتي اليوم استرجاع الصورة الكلية للرواية من خلال تذكر صورتها الجزئية المنطمسة الدلالة؟ وأي نمط من الطاقات انطوت عليه حتى تمكنت من أن تسكنني طوال هذه المدة وتظل موضوعاً مناسباً حتى إلى ما بعد الربيع العربي؟ هل يمكن تعليل ذلك بقدرة السرد على مراوغة معضلة التنصل من المسؤولية لدى المثقفين اعتماداً على بلاغة ذكية تستطيع الاستحواذ على السمات الدالة للموضوع وترجمتها إلى صور لغوية؟
عندما تشرّق سمارة بكلامها في هذه الصورة نلفي أنيس زكي يغرّب. إلا أن هذا الوصف لحوار الشخصيتين يظل ناقصاً خصوصاً في حالة عدم قدرته على مسايرة التهويمات السريالية لكلام أنيس زكي في مقابل جُـمل سمارة التي تبدو كما لو كانت تُوجهها مقصدية انتهازية. إن سمارة المتطلعة إلى الحياة تعرف ما تريد ثم تستفسر عما يحتمل أن يؤكد تلك المعرفة. إنها تتكلم بلغة أهل الأرض، في حين يتحدث أنيس بلغة المجهول، لغة دخان النارجيلة. والحق أن العجوز المسطول صاحب العوامة يحدث نفسه أكثر مما يخاطب سمارة. بل إن حديثه إلى نفسه يتمتع، رغم أفقه السريالي، بانسجام وتواتر يفتقر إليهما حديث سمارة المتقطع المرتبك. والدليل على تحقق الانسجام إمكان جمع الجمل الحوارية لأنيس زكي في صيغة معنوية مسترسلة: «أصل المتاعب مهارة قرد تعلم كيف يسير على قدمين فحرر يديه وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة وقالوا له عد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش فقبض على غصن شجيرة بيد وعلى حجر بيد وتقدم في حذر وهو يمد بصره إلى طريق لا نهاية له».
غير أن هذا الاسترسال المنسجم في تواتر المعاني لا يكاد يؤدي إلى دلالة ملموسة ناجعة ولا يقترح حلاً عملياً للمعضلة. وغياب الحل تشخصه خاتمة كلام أنيس وخاتمة الرواية كلها: "طريق لا نهاية له". إنه انطماس الدلالة وخواؤها، وتوكيد لسمات العبث التي ميزت أفعال شخصيات الرواية. ولنا أن نمضي بعيداً في إضفاء الأوصاف على تلك الدلالات المنطمسة حتى نقف على مشارف العملية التأويلية. حينها قد نستشرف أن دلالات الصورة تتجاوز حتى نكسة 1967 وتتطلع إلى التجربة الإنسانية قاطبة.
إن الخواء الذي انتهى إليه أنيس زكي في خاتمة الرواية له صلة وثيقة بحالات سردية أخرى شبيهة به وزعت في مواضع متفرقة من الكتاب. هكذا نستطيع قراءة هذه الصورة الحوارية في ضوء الصورة الافتتاحية للرواية حيث كتب الموظف أنيس زكي تقريره بقلم فارغ على ورق أبيض ثم قدم تقريره الفارغ للمديـر. وقل الأمر نفسه عن علاقة هذه الصورة بصور الانسطال والعشق وحادثة السيارة والمعركة اليدوية وغيرها من صور الرواية التي لا تود فتح الآفاق. وفي جميع هذه المشاهد لا يجنح التصوير نحو الانعتاق من الدائرة المغلقة، وإنما تراه يمعن ويفتنّ في تقديم تفاصيل المعضلة وتلوينها بألوان من بلاغة السرد المراوغ. والحق أن اهتداء النقد إلى الكشف عن مثل هذه الصلة المعنوية فيما بين الصور الروائية المنغلقة لا يعني بالضرورة قدرته على إدراك كل مظاهر التلاحم المعماري داخل هذا الكون الروائي والإمساك بكل حالات الانسجام فيما بين أطرافه السردية. إن الربط بين الصور الروائية لن يعني بالضرورة وضع يد الناقد على مظاهر الانسجام المفترض وجوده داخل الرواية المعنية بالنظر. ذلك أن الذاكرة الإنسانية عادة ما لا تستطيع استرجاع إلا الصور الكلية للروايات التي يتداخل فيها الترابط المعنوي بالتلاحم المعماري الجيد الحبك. ويمكن أن نقول، بصيغة أخرى، إن الصور الروائية المتميزة بتماسك التكوين وانسجامه هي القادرة وحدها على إفراز صور كلية تستطيع الصمود في الذاكرة الإنسانية على الرغم من تجرم الزمن.
ذاك مظهر من مظاهر تكوين رواية "ثرثرة فوق النيل". أما المظهر الآخر فيمكن أن نتوسل إليه من خلال استدعاء باقي أبواب البلاغة التي دُرج على وصفها بالعلم المقنن. هكذا يمكن أن نرد الحوار المستحيل بين أنيس وسمارة إلى المقابلة، أو المفارقة، أو التوازي، أو اللاتوازن، أو التضاد. بل إننا نستطيع أن نعاين في كلام أنيس بصفة خاصة بعض ملامح الاستعارة والكناية عندما يُـحل الراوي القرودَ والوحوشَ محل البشر. إضافة إلى ثنائية الدلالة الرمزية للحجر والشجيرة. إلا أن وصف دلالات الحوار بالاستناد إلى أحد هذه الأبواب البلاغية لن يرقى حتماً إلى رتبة المعضلة التي تصبو رواية "الثرثرة" إلى مراوغتها. لذلك سنفترض اقترابنا من حدود المعضلة وجذورها لو أخذنا بكل تلك الأبواب البلاغية وبما يشبهها قصد إنجاز وصف نقدي لسمات الخواء والانطماس والعبث والاستحالة التي جعلها الراوي تتساند مع شخصية أنيس زكي بصفة خاصة. إن البلاغة الجزئية الحاسمة تغدو غير مقنعة في حالة تشابك الدلالات الإنسانية وتعقدها. ثم إذا كنا نقر، من ناحية أخرى، بالطابع العويص الذي يسم معضلة من قبيل تنصل المثقف من مواجهة مسؤولياته لزم علينا في الوقت ذاته أن نقر بقصور الأداة البلاغية "الوحيدة" عن مجاراة ذلك الطابع والارتقاء إلى مستواه التصويري الراجح. كما أن تدبر ماهية مصطلح "التصوير" ذاته يستدعي أيضاً القول بتضافر عديد من الأدوات البلاغية والإمكانات التعبيرية وتشاركها فيما بينها، كل منها ظهير للآخر يطمح إلى الاستحواذ على الدلالة وتسجيلها إبداعاً. أضف إلى كل ذلك أن الروائي يستشعر بحدسه الإنساني المرهف قصور "أدواته" التعبيرية عن مسايرة الدلالات والأحاسيس خاصة إذا كانت من قبيل الدلالات والأحاسيس المنطمسة السائدة في رواية "ثرثرة فوق النيل" مما يضطره إلى المراوغة الأسلوبية الضاربة في أكثر من اتجاه بلاغي؛ موهماً، ومتحايلاً، ومخيلاً، شأنه في ذلك شأن لاعب كرة القدم الذي تصدر عنه أكثر من حركة وأكثر من حيلة في وقت متقارب بقصد التجاوز وبلوغ الغاية.
لذلك فإن تمثل معضلات الإبداع ومعالجتها من لدن الناقد يقتضي منه تشغيل الكليات واستلهامها.
ذاك هو افتراضنا.