يرى الكاتب أن الأمور اختلطت في القدرة على التمييز بين الخير والشر. لذلك لابد من رؤية تقوم على الاعتقاد بأن لا وجود لإنجازٍ تام مكتفٍ بنفسه ومنعزل، ولا يقبل بقانون النسبية والغيرية، فكلُّ ما هنالِك هو شيء اسمُه الحركة والتفاعل والتجاذب، وبالتالي الصيرورة والتطور والتحوّل.

الأضداد: من الصراع والحيرة إلى الرؤية الواحدة وطريق الإنجاز

تأملات عربي حول مسالك الفكر الإلهي أمام هول المأساة العربية المظلمة

حمّودان عبدالواحد

كيف يقبل الانسان أن يسمح لنفسه بقتل الأطفال والنساء وكبار السن والعجزة وعددا كبيرا من الأبرياء الآخرين، ويدمّر المدنَ والأوطان تدميرًا يرجع بها إلى القرون الوسطى والأزمنة المتخلفة، ثم يبرّر جرائمَه بأسباب دينية وعلل سياسية وأهداف استراتيجية؟

حيرتنا حادة وهائلة، وكم من مرة كادت تجرّنا إلى الشك في كل شيء، حتى في اليقينيات الكبرى التي، عادة، لا يصل الشك إليها لأنها مترسخة في عالم العقائد وأصول الإيمان وثوابت الحياة. ما أعظم حيرتنا أمام هول المشاهد التراجيدية العربية والإسلامية، وما أخطرها على الثقة التي وضعناها في العقل والانسان والحياة؟

نتساءل وقد اختلطت الأمور علينا فلم نعد قادرين على التفريق بين الصالح والطالح، بين النافع والضار، بين الخير والشر: "كيف السبيل إلى تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، ونعت أفعال الفاعلين بأن فيها مصلحة وخيراً للعباد أو ضرراً وشراً للناس؟".

مسؤولية الانسان فيما يخص حماية حقوق أخيه الانسان واحترامها وعدم انتهاكها والتطاول عليها، هي ما يؤهله لكي يكون إنسانا وفي الالتزام بها يكمن احترامُه لانسانيته: "احترم نفسَك بنفسك".

في البدء كان الرحمان ومِن رحمته وبها خُلِق الانسان. هذا ما يقوله النص الأوّل المؤسس للإسلام في بعض آياته "الرحمان خلق الانسان" التي تشير إلى الباعث الحقيقي المترسخ في جذور الإرادة الإلهية من خلق الإنسان. إنه الرحمة ولا شيء غير الرحمة!  إنّ الخالق في إرادته المطلقة تفضل -بفعل الجود والعطاء والسخاء الذي تتمتع به ذاتُه خارج الزمان والمكان (وسعت رحمتي كل شيء)– على الانسان بهبة الحياة. الحياة عطاء، هبة، نعمة، هدية إلهية.. رحمة من الخالق المصور الذي كرّم الانسان وعلمّه النطق والكلام والتعبير الذي هو مظهر من مظاهر الحياة، ووجه من وجوه الحرية الطبيعية التي تثبت هذا التكريم وتظهر آثارُه واضحة في نزعته إليها وحبّه للحياة.

من أعطى لنفسه الحق بتمزيق رباط الرحمة وخيط الحياة؟ وأيّ تبرير يمكن أن يصمد أمام إهانة من كرّمه الخالق وإذلال من وهبه الربُّ المبدعُ الحياة؟ متى استعبدْنا الناسَ واستعبدنا أنفسَنا وقد وُلدنا جميعا أحراراً؟ متى أذللْنا الناسَ وأهنّا إنسانيتَنا وقد جئنا إلى العالم مكرّمين؟ متى استُحلّت دماءُ العباد وقد وهبهم الرحمنُ الحياة؟

سأهرب من الإجابة المباشرة عن حيرتي الكبيرة وقلقي النفسي وشكّي المتزايد في الانسان، وسألوذ بمسلَك آخر لعلي أقترب من بعض عناصر الردّ عن تقهقري وإحباطي بل وتراجع فكري وعجز عقلي عن فهم المنطق الذي يربط بين الأحداث الدموية والجرائم الهمجية التي هي حظ الانسان العربي والمسلم اليوم أكان فاعلا أم مفعولا.

لا شيء يمنع في الإسلام أن يسأل الانسانُ ربَّه عن أشياء يصعب عليه –إن لم يكن مستحيلا– فهمُها لاسيما إذا كان شرّها واضحاً وفيها من الظلم ما لا ينكره أحد.

لنسمع إلى صوت من أصوات بعض من تأملوا في القرن العاشر الميلادي بطريقتهم الخاصة في هذا الموضوع، يقول محمد النِّفري في كتاب "المواقف": "لا بُدّ لك أن تسألني، وأغضب إن لم تسألني. فسلني إذا قلتُ لك: سلني".

ها أنا أسألك فبماذا تردّ على انتظاري وشكي واقتراب انهياري وربما اندحاري كإنسان؟ أتنقل باحثا في الكتب وتاريخ الأفكار والعقائد والسياسة والميتافيزيقا والفلسفة فيوقفني كلامٌ يُنسَبُ لِـ إيشيل Eschyle 525/456: "إن مسالك وطرق الفكر الالهي تذهب إلى أهدافها من خلال ظلال مشجَّرة وكثيفة ومتلبّدة لا تستطيع أية رؤية وأي فكر إنساني أن ينفذ إليها أو يراها بوضوح".

لا يزيدني تفسير ايشيل إلا ارتباكا وحيرة، لأن المسالك التي يتكلم عنها لا يسمّيها بالضبط بل يقدمها كإشكالية كبرى يصعب فهمُ عُقدها العسيرة المركبة. المسالك الكثيفة الغامضة هي باب في الطريق لمعرفة طبيعة المُسَمّيات والوقوف على جواهرها وأسرارها، لكن هذا الباب هو في الحقيقة أبوابٌ يبقى عددُها مجهول بالتأكيد. وهذه الأبواب مغلَقة وعليها حرّاسٌ يحملون معهم مفاتيح لكل واحد منها اسم يدل على معناه (طبيعته ووظيفته). لكنّ هذه المفاتيح ليس لها هيئة محدّدة سلفا.

كيف إذن يمكنني الدخول من هذه الأبواب عساني أقترب شيئا ما من الإجابة عن أسئلة الحيارى الذين يخافون على أنفسهم من الضياع في أدغال الوجود الكثيفة وطرقها الوعرة المظلمة؟

أرى مكتوباً على هذه الأبواب بحروف شفافة شرط َالدخول منها إلى عالم الطرق والمسالك: "لا بد من حل لغزي الموجود في قلب كلّ الكائنات الحية، أنا مفتاح المفاتيح، لا شكل لي، وروحي كامنة في أطوارٍ من التكوين. من أكون؟ ماذا تعرف عنّي؟".

أقلّب عينَيَّ في السماء، من سحابة إلى أخرى، متنقلا بنظري من الشرق إلى الغرب. وأتذكر مونطينْي Montaigne، هذا الفيلسوف الذي تجرّأ يوما ما أن يقفَ أمام نفسه العارية مستفهما إياها: ماذا تعرفين؟ من خلال: ماذا أعرف؟ ليثبتَ في اعترافٍ جريء حكيم سليم أنّه لا يعرف في العمق شيئا عن نفسه وعن العالم والآخر إلا ما تَخيّله كبرياءً أو جهلاً أنه معرفة.

ويحضرني في نفس الوقت، مرة أخرى، صوتُ محمد النفري أحاول الاستعانة به، كأنه رجْعُ صدى أو جوابٌ لسؤال مونطينْي: "وقال لي إن لم ترَني من وراء الضّدّيْن رؤيةً واحدة لم تعرفني". ووجدتُني دون وعي مباشرٍ منّي أجلس على هيئة "المفكر"، تمثال أكوسط رودان Rodin، وكأنّي أُصِبْتُ بالشلل والتحجّر من جرّاء قوة وقع الكلمات في عقلي وقلبي: الضدان؟ الرؤية الواحدة؟ معرفة الواقف وراء الأضداد المتحكّم فيها؟ كيف لي ومن أين بسبيلٍ يوصلني إلى هذه المعرفة وهذا العلم المرتكز على الغموض؟

هل أكون، وأنا العربيّ التعيس في "الأرض الخراب"، نوعاً من الكائنات الشبيهة بهذا الإيطالي، دانت Dante، الذي وقف قلقًا حائرًا أمام أبواب جهنم يتأمّل قصيدته في "الكوميديا الإلهية"؟ أم أنني أتقاسم خيطا من خيوط القدر المميت مع هذا الألماني، نوفاليس Novalis، الذي لم يشأ في مواجهة الموت الذي انتزع منه حبيبتَه صوفي Sophie، الخطيبة الشابة المريضة، إلا أن ينظم قصيدة في "مدح الليل" تكريما لذكراها وشهادة على رؤيتها ساعة الغروب بالقرب من قبرها؟ لا أدري! كلّ ما أعرف هو أنّ ما استوقفني عند نوفاليس الألماني يوجد في كلام له يكاد يكون جوابا، لكن شعريا، لسؤال محمّد النفري الصوفي: "الماء شعلة من النار"!

ياإلهي أنقذني، لا تتركني مع هؤلاء، فأنا لست من طينة هذه الخاصة القليلة النادرة! أنا عربي بسيط، عادي بكل ما تعنيه الكلمة! أحاول أن أفهم ما الذي حلّ بالإنسان العربي. ما الذي وقع له؟ هل ما زال محتفظا بعقله؟ لماذا قبل تدمير نفسه؟

أكاد أعتقد أنّ هذا هو عيْن المعرفة و/ أو معرفة الربّ الخالق المبدع الواقف وراء كل شيء، كلّ قول وفعل، كلّ حركة وتصرف، كلّ نيّة وفكر، كلّ شعور وعاطفة وانفعال، كلّ علامة من علامات الحياة.. أتكون مبادئ الجواب عن الحروب والجرائم البشعة التي ترتكبها حماقة الانسان ويطالبُ بها جهلا وغرورا موجودة في هذا النوع من المعرفة؟ كيف إذن يمكن التعامل مع الأضداد؟ ما هي المقاربة السليمة للنور والظلام، للشر والخير، للحياة والموت، للظلم والعدل، للحبّ والكراهية، للكرّ والفرّ، للمدّ والجزر، للسيّد والعبد، للحرب والسلام، لفعل الكينونة وفعل التملك؟ أهي ثنائيات؟ أم شيء واحد؟ أم وجهان لمبدأ واحد؟

المعرفة التي تحصل بفضل الرؤية الواحدة للربّ الخالق، واهب الشيء وضدّه، الواقف وراء اشتغال الأضداد، هذا هو الشرط  الأساسي للاقتراب من الحقيقة، حقيقة الانسان وحقيقة الحياة وحقيقة خالق الانسان والحياة. ولا تقطن هذه الحقيقة في الوجود المكاني والزماني المنعزل، الأحادي العلاقات والأبعاد للأشياء والأنفس والكائنات والأجسام والمواد، بل هي مستقرّة في كُلّ شامل، في مشيئة عامة تحتضن الأجزاء وتزرع فيها التيار الروحي الحيوي المنفعل والمتفاعل من أجل الاشتغال والاستمرار فيه إلى ما لا نهاية أو حكم جديد.

هكذا أتخيّل، أيها القارىء، الرؤية الواحدة أي المنسجمة المتماسكة التي قد يكون بمقدورها أن تقترب شيئا فشيئا من الخالق واهب الحياة فيكشفَ في تجلّ موغلٍ في الغموض عن سرٌّ من أسراره اللانهائية.

يبدو لي -كطينة ضعيفة تحاول أن تقف على قدمِ شكلٍ من أشكالها الذي هو في طريق الإنجاز أو لم يكتمل بعد- أن الرؤية الواحدة مستقرّة في المبدأ القائل بأنْ لا وجود لشكل معلوم ومحدّد مسبّقا، كل ما هنالِك شيءٌ اسمه التشكيل والتكوين. ولا وجود لإنجازٍ تام وكامل، مكتفٍ بنفسه وراقد في دائرته المغلقة معزولا عن العوالم الخارجية الأخرى، ولا يقبل بقانون النسبية والانفتاح والغيرية. كلُّ ما هنالِك هو شيء اسمُه الحركة والفعل أي التفاعل والتجاذب، وبالتالي الصيرورة والتطور والتحوّل.

*******

من هنا بذرة الأمل، وإمكانية عودة الربيع في الأرض العربية المشتعلة المحترقة، حتى ولو كره المجرمون.

وأسمع مغني الراب الشاب التونسي الذي يُكنّى بالجنرال يشدو على وقع سريع لكلمات ثائرة ودامية ومنفعلة لكن جريئة وعظيمة، و متفائلة بمستقبل أخضر ومزهر سيُخصب الأرضَ ويجدّد فيها الحياة:

تحيا تونس الخضراء

تحيا بدم الشهداء

مني لكم تحية تقدير ياالعظماء

يالّلي دفعوا على البلاد

في سبيل هذا الوطن

باسمي وباسم الشعب

نحب نقول تونس هي الكل...

(فرنسا)