يرى الناقد في تفاعل المثقف مع واقعه ضرورة تهبه النضج الرؤيوي، والتصور العميق للفعل الثقافي، ودور الثقافة في حياة الأمم. وهذا ما يفتقده الوضع الراهن. حتى غدا المثقف خارج السياق التاريخي والوجودي، نظرا لعدة عوامل وأسباب ذاتية وموضوعية.

المثقف العربي ورهانات الحاضر

صالح لبـريـني

(1)

المثقف الحقيقي هو الذي يحاول استيعاب الذات والغوص في كوامنها، والتماهي مع الواقع كمعطى لا محيد عنه في الخلق الإبداعي والنتاج الحضاري، إن هذا التفاعل هو الذي يسم التجربة لدى كل مثقف بالنضج الرؤيوي، والفاعلية الرؤياوية ثم بالتصور العميق للفعل الثقافي، ودور الثقافة في حياة الأمم. وهذا ما نفتقده، في الآونة الأخيرة من زمننا الذي نحياه. حيث غدا المثقف خارج السياق التاريخي والوجودي، نظرا لعدة عوامل وأسباب ذاتية وموضوعية. فهناك من المثقفين من هو غارق في نرجسية كتابية، تحول الذات إلى مجرد مرآة تجليها بطريقة مرضية، والابتعاد عن الانشغالات الجماعية، وهذا ما يمكن أن نصفه بالهلوسة والهذيان، ومن تم فهذا الصنف شبيه بحاطب الليل. في حين هناك قلة قليلة من المثقفين الذين ينسجمون مع ما يكتبون، حيث تتلائم الرؤية مع التجربة في علاقة تناغم، وتماه مع الواقع، ذلك أن مشروعهم الثقافي ينطلق من خلفيات، ومرجعيات ضاربة في العمق الإنساني والوجودي، بل نجده منفعلا ومتفاعلا مع ما يمور به الواقع من ارتجاجات، وتغيرات وأثر ذلك على الذات كتجربة في الحياة بمفهومها الرحب، وتصور للعملية الإبداعية كبحث عن كينونة الذات في الوجود، واستشراف للمستقبل، هذا النوع يمكن أن نَسِمَهُ بالمثقف المنسجم مع طروحاته أو المثقف المبدئي. إننا اليوم في حاجة ماسة إلى المثقف الذي يستطيع أن يكون له تأثير جلي على الذات، التي تمثل موروثا فرديا وتراكما في الوجود، أي كتجربة، ومرتبطا ارتباطا عضويا بالمشروع المجتمعي المحلوم به، لآن غياب هذا الأخير هو تغييب لإرادة الإنسان في الحياة، وتحجيم لمؤهلاته التي لا ينبغي الاستهانة بها كطاقة متفردة ومنفردة. فالمثقف، من حتمية وجوده، أن يقاوم الظلم والاستبداد في شتى تمظهراتهما الاجتماعية والسياسية، الثقافية والاقتصادية، وأن يكون لسان من لا قدرة لهم على التعبير عن أحلامهم، فالناس يشتركون في الحلم لكن صيغ التعبير عنه يكمن فيها اختلافهم. ومما لاشك فيه، أن المثقف المبدع يمثل النقيض للحضارة المادية المعولمة أي يشكل المدافع الحق على الرأسمال المعنوي الذي تجسده الثقافة الحقيقية المنسجمة مع الطرح المجتمعي الذي يعني خلق إنسان منفتح، يؤمن بالتعدد والعمل على ترسيخ المبادئ والقيم السامية والرفيعة.

 (2)

إن الدور المنوط بالمثقف، اليوم، دور لا يمكن التغاضي عنه، في ظل التبدلات التي مست جوهر الممارسة الثقافية، فإذا كانت الثقافة تمثل الوعي الذاتي للأمة، وجماع تاريخ وحضارة أمة ما، وأكثر من هذا فهي الزاد الروحي الذي يحمي مجتمع ما من السقوط في رجعية قاتلة على جميع الأصعدة، وبها أيضا تتجسد معالم التحضر والتمدن، ومقياس حقيقي للتطور والتقدم، فإنها في العالم العربي تحتل المناطق الخلفية والمنسية في المشروع المجتمعي للعالم العربي، ليس الآن، ولكن منذ عقود من الزمن، ذلك أنها في حكم الغياب وهي آخر ما يفكر فيه من لدن الدولة، والأكثر من ذلك تعتبرها الدولة المتسلطة آلية من آليات التحكم في سيرورة المجتمع وصيرورته، إذ تنهج سياسة محاربة كل فعل ثقافي يفضي إلى التنوير والخلق والإبداع، لاعتقاد الدولة الخاطىء بكون الثقافة سببا في تأليب الشعوب على حكامها. ومن تم نهجت الدولة أساليب التضييق والتهجين، من خلال، سن سياسة المهرجانات التي تجعل الممارسة الثقافية مبتذلة وهجينة، وحولت الثقافة إلى سلعة معروضة للبيع والاستهلاك، عبر تشجيع ثقافة الماكدونالد ومؤلفات ملأ البطن مثل كتب الطبخ والكتب الصفراء التي تفتقد للمعيارية العلمية والزخم المعرفي. إن هذا الأمر يفرض على المثقف إعادة النظر في دوره، عبر، محاربة كل ما من شأنه أن يعيق إشاعة الفكر التنويري والعقلاني، المنسجم مع الخصوصية العربية الإسلامية التي تمثل مرجعية أساسية في تشكيل الوعي الجمعي، وكثقافة لها خصوصيات ذات أبعاد كونية، هذا الدور ليس بالأمر الهين في ظل الاجتياح لثقافة الاستهلاك وعولمة كل شيء، فحتى الإنسان تحاول العولمة أن تحوله إلى مجرد مستهلك غير منتج، خصوصا في المجتمعات التي تفتقد للحصانة المعرفية تنشأة أجيال تتحمل مسؤولياتها في الحفاظ على الإنسان، من كل ما من شأنه، أن يكون له تأثير سلبي على الفكر والعقل، حتى لا يتحول الفكر إلى فكر منغلق مستبد، لا يؤمن بقيم الاختلاف، ولا يأخذ بعين الاعتبار حرية الاعتقاد، وأن الناس خلقوا في هذا الوجود، من أجل التفكير والغوص عميقا، في هذا الملكوت الغامض والملتبس، ملكوت يستفز ولا يركن إلى الثابت بقدر ما يتميز بالدينامية والتحول. هذا دون أن ننسى القيمة المضافة للمنجز البشري في مناحي الحياة حيث ما زال العقل البشري يبـتدع، يخترع ويخلق من أجل الإنسان، والذي يبين أهمية الثقافة في حياة الناس، ما يتم التخطيط له، من لدن الدول العظمى، من سياسة ثقافية ترمي إلى ضرب الخصوصيات الثقافية للأمم والمجتمعات، وتحطيم الحواجز، وفرض ثقافة عولماتية استهلاكية، دليل ساطع على القتل الممنهج للتفرد، ولكل ما يميز المجتمعات عن بعضها البعض، إنه مخطط كارثي وجهنمي سيؤدي لا محالة إلى نتائج وخيمة علينا كمجتمعات تشهد ارتفاعا مهولا وفظيعا بل مخجلا لنسب الأمية، وكذلك جراء الإقصاء الممنهج لمهام المثقف الذي يشكل البعبع الذي تخاف منه الأنظمة المستبدة، التي لم تستوعب إلى حدود الآن الدور الأساس للمثقف الذي يحسن بالأنظمة أن تمنح له المساحة اللائقة به حتى يقوم بما ينبغي أن يقوم به من الإسهام الفعال و الضروري في بناء مجتمع يسود فيه الوعي الذاتي والجمالي، مجتمع يوثر العقل على النقل، مجتمع أساسه إعطاء الأولوية للمصلحة العامة، وخلق إنسان يحافظ على كينونته ،ووجود المجتمع بعيدا عن النظرة الشوفينية الضيقة، التي غدت الميسم الذي تتصف به مجتمعات الألفية الثالثة، حيث الأنانية والوصولية والانتهازية هي اللسان الناطق بحال الأمم، خصوصا الأمة العربية، التي تتخبط في مستنقع الجهل والتقدم في التخلف، دون أن تعي الوعي السليم لما تشكله الثقافة ،من أهمية قصوى، في تشكيل وعي معقلن يصون كرامة الفرد والمجتمع، لأن كرامة الفرد من كرامة المجتمع، وتخلف هذا الأخير نتيجة لقهر وقمع وتخلف الفرد،هي معادلة رياضية منطقية لابد لنا من التفكير فيها، حتى نتجاوز كل المطبات، التي تحول دون تحقيق الغايات التي نرومها ونتوخاها، وهي معيقات لا تتطلب غير إرادة سياسية شجاعة وفق ما نبتغيه، فغياب مشروع مجتمعي حقيقي وأصيل أساسه التحديث ونشر ثقافة إنسانية تؤمن بمدنية مجتمعية، وحضارة منفتحة على التجديد وتقبل الآخر-كيفما كان هذا الآخر- الذي ينبغي أن يحترم إرادة الشعوب في اختياراتها وخصوصياتها.

(3)

لا جدال، في كون الثقافة، تمثل المشترك الجمعي لأي امة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات الحديثة، وهي المرآة التي تعكس حقيقة أي حضارة، فبواسطتها تدرك مكانة ومقام كل مجتمع بين المجتمعات، وهي التي تنعكس في سلوكاتنا وممارساتنا، وتبرز حضارة الأمم، تقدمها وتخلفها، بل هي كل ما خلفته البشرية من حضارة وأخلاق وقيم إنسانية، ونتاج معرفي له أصالته وعمقه في الطرح والتناول. إن الفعل الثقافي الهادف ،هو الذي يحمل، في طياته، القيم الإنسانية النبيلة، والأخلاق الراقية، الأخلاق هنا ليس بالمعنى الديني السطحي، إنها الأخلاق التي تقود الإنسان إلى ارتياد كل ماهو سام وطاهر، كما أنه يحفل بالمعطى العقلاني الذي يفرض على الفرد أن يوظف العقل كأداة للتحليل وفهم الواقع واستيعابه بطريقة بعيدة عن الوجدان والعاطفة، بقدر ما يحفز على التفكيك وطرح السؤال، وتجاوز الثوابت المعيقة للتطور والسير قدما نحو معانقة الجمال والخلق والابتداع بدل النقل والاتباع ،خاصة ونحن نعيش وضعية استثنائية في العالم العربي الذي تكالبت عليه الأحداث والحروب والتحالفات بغية القضاء على الوجود العربي من الذاكرة الجمعية والحضارة الإنسانية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية الفكر المتنور والعقلاني في بناء مجتمع ينبذ الفكر الأحادي والانغلاق والتطرف بل يجنح إلى التعدد والتناقض والاختلاف ،لأن جوهر الوجود ينبني على الاختلاف وليس على الائتلاف. الواضح، من خلال ما قلناه، إن المثقف يتحمل كامل المسؤولية، فيما وصلت إليه المجتمعات من تقهقر في القيم، وتراجع في بورصة الأخلاق، إذ ما نشهده من ممارسات سواء باسم الدين أو باسم إيديولوجية ما لا تمت بصلة إلى الجوهر الإنساني، المتمثل في الرغبة في الحياة بعيدا عن المجازر والقتل والقضاء على كل ما يجعل الحياة حياة بدلالاتها الوجودية، إن ما نبتغيه من كلامنا هذا هو دعوة المثقف إلى عدم الاستقالة من مهامه، التي تفرض عليه الوجود الفعلي والحقيقي داخل المجتمع، مكثرتا بانشغالاته ومنغمسا في همومه، من أجل الحفاظ على المكتسبات الحضارية والعلمية والمعرفية التي خلفتها الحضارات السابقة، فالمثقف هو الذي يتخذ مسافة واضحة للتأمل والتدبر، في كل هذا التراكم الحضاري للبشرية جمعاء، وبالتالي يسعى جاهدا إلى إحياء هذا الموروث وإضافة أشياء جديدة وفق اللحظة التاريخية التي يعيشها، وترسيخ ما ينبغي ترسيخه وتنقيح الشوائب التي علقت بالفكر والثقافة، وبالعديد من الممارسات اللاعقلانية التي تتناقض مع العلم والعقل. لا شك أن المثقف، في ظل، مجتمع المعرفة، والتطور المذهل والخارق للعقل البشري، يطرح عليه إعادة النظر في معارفه ومداركه، في تصوراته وقناعاته حتى يساير هذا العالم المترامي الأطراف، لكن بفضل الثورة المعلوماتية، وشبكات التواصل تفرض على المثقف أن يغير من أدوات الاشتغال، ويتسلح بمعرفة جديدة متجددة، ومتحولة في نفس اللحظة، الشيء الذي يمكن أن يدفع بوال إلى توظيف هذه المكتسبات المعلوماتية لتكريس المعرفة الجادة والهادفة، والرامية إلى إشاعة الفكر العقلاني، وثقافة الاختلاف.

(4)

ليس، من العبث، أن نؤكد على قيمة المثقف داخل المجتمع، لأن ما يقع يثبت حقيقة ساطعة لا غبار عليها تكمن في كون الثقافة ضرورة وجودية، فبدونها لا تستقيم الحياة، ولا تبنى حضارة، ولا قيمة للإنسان في تغييب العلم والمعرفة في شتى تمظهراتها، فبواسطتها يتحقق التعايش ويسود السلم، ويصبح للحياة معنى ودلالة، كما تجعل الأمم تتفادى، كل ما من شأنه، أن يؤدي إلى التخريب والتدمير والقضاء على ما أنتجته الحضارة البشرية من قيم مادية ومعنوية. للثقافة، عموما، رسالة إنسانية في عمقها، تنتصر للفكر الرصين والمعقلن، ذي الرؤية الثاقبة، والتصور السليم لتجاوز كل المحن التي تمر منها الإنسانية، وجعل الناس يحيون في عالم خال من العصبيات والقبليات والعنصريات التي تهدد السلم والأمن العالميين. ما يمكن الخلوص إليه أن المثقف الجدير بالحياة والاعتراف هو الذي يسعى جاهدا لإسعاد البشرية، وانتشالها من ربقة العبودية والبهيمية، والسمو بها بعيدا عن الضحالة والإسفاف سواء على المستوى القيمي أو العلاقات الإنسانية، وذلك بالدفاع عن الإنسان كيفما كان وأينما وجد، والوقوف إلى جانب المستضعفين في الأرض، والتعبير عن أحلام وآمال الناس، ونبذ كل ماهو مبتذل وهجين، ومن تم يستطيع المثقف الخلود في الذاكرة الجمعية للإنسانية، فكم من هؤلاء المثقفين الذين نذروا حياتهم من أجل ثقافة التفكير والعقلانية، نشير إلى الشاعر الإسباني لوركا والشيلي بابلو نيرودا والتركي ناظم حكمت، ومن القادة السياسيين نذكر محمد بن عبد الكريم الخطابي، ونيلسون مانديلا وجمال عبد الناصر، وغاندي فهؤلاء استطاعوا، كمثقفين سياسيين، أن يهبوا تاريخهم وحياتهم من أجل القيم الإنسانية النبيلة، الشيء الذي مكنهم من الحضور الأبدي في ذاكرة التاريخ البشري، إن ما أشرنا إليه هو المطلوب، في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ الأمم، خصوصا المنعطف الحاسم الذي توجد فيه البشرية حيث استشرت ثقافة التكفير بدل ثقافة التفكير مما يهدد الوجود الإنساني. أي على المثقف أن يدافع عن الإنسان كيف كان انتماؤه وعقيدته، عرقه وجنسه، لأن الثقافة، في نهاية المطاف، النبراس الذي يزيل ظلمة التفكير الظلامي الذي يسود كافة الديانات، ويقضي على التطرف المهدد للإنسانية، ويجعل الحياة ذات معنى ودلالة.