مجددا يخصنا الشاعر الفلسطيني بهذا النص الإبداعي والذي يقربنا من أسئلة الشاعر وقيمه الإنسانية، هي مرايا تسبح بعيدا في صور ومفارقات وتحاول التفكير في أسئلة الشعر والحياة بكل انجراحاتها وانكساراتها.

مرايا نثرية

نمر سعدي

كانت إحدى مآسي الشاعر الفرد الذي انتهى زمنه أن يمنى بمجموعة هي من أكثر الناس نفاقا وبعدا عن قيم الصدق والشعر تتدفأ بأسطورته وتتحلق حول هالته فتحجب نورها عن الآخرين.

*********

أحيانا عندما يباغتك شريط فيديو لجنود يعذبون سجناءً بصورة همجية ولا انسانية وطائفية جدا.. أو تتعثر بمشهد آخر لبائعِ كعك مقدسي مسكين في نحو الستين من عمرهِ يسعى لكسب قوت عياله ولا أعرف ماذا جنت يداهُ حتى ينهال عليه بالضرب المبرح والشتائم حشد من الشرطة.. في هذه اللحظة تشعر بالدمعة تقف على طرف عينك.. وكأن الدنيا كلها ضاقت عليك ولكنك بعد قليل لما تشاهد فيديو الحصان الطائر الذي شغل الكثير من عقول (خير أمةٍ أخرجت للناسِ) أو ترى مشهد البقرة التي تردد كلمة الحمد لله أثناء ذبحها وترى كيف نهلل ونكبر لمثل هذه الأشياء فإنك تنفجر بالضحك.. كأنك لم تضحك أبداً.

**********

عندما تصرخُ الدماءُ بصخب جنوني حتى تصم الأرواح في حروبِ الدينِ والطائفية.. 
عندما تبحثُ في مهاوي الردى العربيَّة عن الحريَّة يصبح كلُّ شيء عبثاً جنونياً لا لزوم له.. عندها (وأنا همومي شخصية صغيرة) أسخر من نفسي كلما حاولتُ أن أقرأ أدبا جميلا أو أكتب قصيدة جديدة أو أستمع لموسيقى على اليوتيوب.

**********

بعثت لي قبل عدة أيام تقول ألا تستطيع أن تتخلى عن بعض الأشباح من أجلي؟ قلت بلى.. وسألتها من تقصدين بالأشباح؟ قالت المتوارون.. 

آه كم هناك من أشباح في العالمين.. الافتراضي والحقيقي.

*********

إلى متى يا شمسَ دانتي الجحيمية تتسلينَ بتعذيبنا؟

 

مرايا نثرية 2
طوال حياتي لم أكن مرتعباً إلا من فكرة واحدة.. وهي فكرة فقدان أمي.. كانت تجعلني هشَّاً كعصفورٍ صيفيٍّ صغيرٍ يواجه عاصفةً ثلجيةً لا ترحم..

أمي كانت لي أكثر من أم.. كانت بقوة شخصيتها تشكِّلُ إحدى السماوات العظيمة التي كنتُ أتكأُ عليها وأنظرُ إلى الأعلى ساخراً من كلِّ العواصف وأوجاع الحياة. كانت جذور النور التي أستمدُّ منها عنفواني وفرحي.
شكرا يا الله أنك استجبت لي وأنا أدعوك في السرِّ أن تمدَّ لي بحياتها.. إلى صباح ذلك اليومِ المشؤوم.. حينَ تحوَّلت هذه الفكرة من المجرَّد إلى المحسوس وانقضَّت عليَّ بكل ما فيها من قسوةٍ وفظاظةٍ مثل كابوسٍ ينهشُ الروحَ في أيلول 2009.

**********

كانَ يجدرُ بي أن أتحدَّثَ عن الفرنسيةِ (سين) التي التقيتها صباحَ الأحد في مكتبة الجامعة فلم ننبس بحرفٍ رغمَ معرفتنا العميقة لبعض.. عن صلتها برسائل أرتور رمبو وحبِّ بودلير لجال ديفال.. عن جمالها الذي لا يهرم أبداً بل يزداد نضارةً وصباً وتوهجاً.. عن جدائلها الذهبية التي تهتاج وتتموَّجُ في نهاري الربيعيِّ العاشق منذ عام الفين.. والتي تغسلُ آلاف النوارس في الفضاءِ الأزرقِ برذاذ الحنين.. (سين) هذه ربما تكون احدى حفيدات إلزا.. كانَ يجدرُ بي أن أحدثكم بإسهاب موجع عنها لولا غيابُ أحد الأصدقاء صباحَ الثلاثاء.. ممزَّقاً بينه لعنة امرأتين.. مشرداً منبوذاً.. متمرداً خاسراً.. كانَ يجدرُ بي منذ سنين طويلة أن أكتب رثاءً لشخصٍ مات مظلوماً.. لغارسيا لوركا أو تشي جيفارا مثلاً أو المهدي بن بركة أو حتى سيد قطب ولكنني لم أستطع لذلك سبيلا.. كلَّ ليلة عندما آوي لفراشي أفكِّر بهؤلاء.. لم أتحدَّث عن سين ولم أكتب قصيدةَ رثاء لأحد ولم أصف علاقتي بمدينةٍ زرتها ونسيتُ قلبي فيها. ولم أتأسَّف لشاعر صديقٍ خاصمني قبل سنوات رغمَ حُبِّي له لأنني صارحته بحقيقةٍ أوجعته.

***********

شاعر من فلسطين