تنتهج هذه الدراسة للباحث والأكاديمي المغربي مقتربا جديدا في تناول رواية الكاتب المغربي محمد برادة الشهيرة (لعبة النسيان) من خلال تعاملها مع الدلالة الأيقونية للأبواب فيها.

الدلالة الأيقونية للأبواب

في رواية محمد برادة "لعبة النسيان"

عبداللطيف محفوظ

إذا كان الفضاء الروائي يعتبر مكونا دلاليا أساسيا، فليس لأنه يساهم في رسم الفضاء اللازم لتحقق الأحداث وتحرك الشخصيات وجريان الزمن وحسب، ولكن لأنه يشكل في بعض الروايات ـ التي يعي أصحابها أهمية الكلمات وما تختزنه من موضوعات إيحائية ـ آلية أساسية لإنتاج المعنى وتحقيقه. أما حين تكون هذه الكلمات إظهارات لموضوعات مرتبطة بأمكنة لها أبعاد تراثية وحضارية كونية أو قطرية أو حتى أفرادية، فإن الفضاء المتولد عنها قد يصبح مشكلا للعنصر المهيمن، الذي يجب أن تتأسس عليه القراءة. ولما كان الإظهار الروائي لا يستطيع إلا اقتطاع شكله من المتبدي العام الذي يحايثه، فإن الفضاء العام الذي تتخذه كل رواية حيزا لأحداثها وتحركات شخصياتها، قد يكون مشاكلا أو مناظرا لفضاء معطى من قبل الموسوعة. إلا أن هذا التناظر لا يعني البتة التطابق، وذلك لأن الفضاء الروائي لا يتجسد إلا من خلال أدلة لغوية تتتابع داخل نسيج التوارد السردي، ويعني ذلك أن الأدلة توجد في حالة تركيب. والتركيب يمنح الأدلة إلى جانب محتوياتها المعيارية محتويات سياقية. وهذه المحتويات السياقية هي التي تمنع التطابق، وتعطي البعد المرجعي للفضاء بعدا نصيا. وهكذا، وفق هذا الوعي بسيرورة الإنتاج والتلقي، تصير الأمكنة والأشياء بفضل الوصف أدلة منتجة لدلالات ترتبط بموضوعات سياقية وفق إحدى العلاقات الأساسية التي هي المشابهة أو المجاورة.

وسيتم الاكتفاء في هذا المقال بإظهار مدلول الأبواب بوصفها أيقونات لموضوعات سياقية، وذلك من خلال تحليل العلاقة الواضحة بين شكل بناء الوصف المقدم لها وبين الدلالة العامة التي تؤشر عليها الرواية:

تظهر الأبواب في مشروع بداية ثالثة. وتعتبر هذه البداية، البداية الفعلية للرواية، بينما تعتبر البدايتان السابقتان نوعا مخصوصا من الميتا حكي، الذي فيما ينقل تجربة بداية الإنجاز الإظهاري للرواية ولموضوعها الدينامي، يؤشر على إبعاد بعض الموضوعات الأخلاقية الجانبية عن الدلالة المركزية للرواية. فعملية نفي مشروع "بداية أول" الذي قدم الكاتب من خلاله مشهد موت الأم من خلال وعي الابن تتولى التقليل من أهمية الموت، وإن كان موضوعه الوجودي هو الأم البيولوجية أو الرمزية حتى. أما عملية النفي الثانية فتنصب على بداية تركز على الأم في ذاتها بوصفها موجودا ذا علاقة بحياة الابن. وتؤشر هذه البداية على مقاطع شتى من الرواية تتحدث عن الأم، عن غيابها وحضورها. وهكذا يتضح أن إصرار الكاتب على وضع بدايتين ممكنتين ليس في الواقع إلا نفيا لما سيتصل بهما من خطابات داخلية يشكل عنصرا مساعدا للدلالة العامة للرواية. ومن ثمة يضع حدا لكل اعتقاد يربط بين الأرض والأم كما تذهب العديد من التحليلات الروائية. لأن الأم هنا هي الأم البيولوجية فعلا. وأن التفكير في علاقة الابن بها هي مقصودة في ذاتها لكي تؤدي وظيفة الاحتماء من الخيبة الحياتية. إن تخلي الكاتب عن البدايتين الأوليين يعتبر تأشيرا هاما على أن الفضاء هو العنصر الهام والموصوف من قبل الرواية هو المنزل، وذلك على اعتبار أنه هو الملاذ والملجأ والموطن الذي يستقبل الزمن الذي يجري من خلاله وعبره، تاركا عليه بصماته المطبوعة في أركانه وطلاء جدرانه وشقوق سقوفه، هو الذي يضم القاطنين أجيالا تلو أجيال، هو الذي يشهد ميلاد سكانه وموتهم.

في إطار هذه البداية المحتفية عنوة بالمكان، يأتي وصف الأبواب وتدريجها. وانطلاقا من الأهمية الرتبية التي حظيت بها في مطلع هذه البداية. ولكي ندفع اعتراضا ممكنا يتصل بالقول إن الوصف المقدم هنا للأبواب هو وصف روتيني عادي ناتج عن ضرورة منطقية مفروضة من قبل الاعتيادية الوصفية للرواية الكلاسيكية التي تصف الأمكنة انطلاقا من رؤية محايدة. ولذلك انطلق الوصف من وصف المكان إلى الأبواب إلى الفناء ثم إلى المكونات البيت الداخلية ليرسو الوصف عند الأم "للا الغالية"إن هذا الاعتراض إضافة إلى الإشارة السابقة الخاصة بتوضيح عدم تطابق الدليل اللغوي المدمج في نص تخييلي مع متعينه الفعلي في العالم الواقعي أو الموسوعي تطابقا آليا، عدا التماثل المقصود الذي قد يعمل السياق النصي نفسه على تحقيقه، فإن حتى محاولة المطابقة بينهما هنا تؤكد الأيقونية الرمزية لوجود الأبواب هنا، ويتعلق الأمر ببداية الوصف:

«يكاد يكون زقاقا لولا أنه طريق سالكة.. يكاد يكون زقاقا لولا أنه طريق سالك تفضي بك إلى باب مولاي إدريس، والنجارين، والرصيف، والعطارين وباب الدار الكبير لا يواجهك، تجده على يمينك إذا كنت نازلا من «  رنيز»، أو على يسارك إذا أتيت من « سيدي موسى». نصفه الأعلى قطعة واحدة مرصعة بمسامير غليظة، والنصف الأسفل الذي ينفتح، له خرصة كبيرة ويمتد نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق، وعلى الداخل أن يحني رأسه ويخطو خطوتين، ثم ينزل الدرج ويخطو قبل أن يواجهه الباب الثاني، شبيه الأول غير أن خشبه أقل ثخونة ودرجه أقل علوا، ثم يخطو ثلاث خطوات ليقطع السطوان الثاني قبل أن يرتاد الباب الثالث ذا الخشب النحيل، ويجتاز العتبة لتطالعه السواري، وفناء الدار، والخصة التي ينفر منها الماء في دفقات متكسرة.»

إن تملي التراتبية التدرجية للعناصر الموصوفة في علاقتها بالمراجع الفعلية التي هي الأمكنة التي يمكن التعرف عليها ميدانيا، يفيد عدم التطابق بين الموصوفات وبين مراجعها الفعلية وخاصة سمة التحديد الطوبوغرافي. أي التحديد الواصف للأمكنة التي يمكن أن يؤدي إليها موقع المنزل. إن المقارنة بين الأدلة الوصفية والمراجع الفعلية يفيد خاصة في مستوى التدرج أن التراتبية لا تفيد لا التوارد التدرجي وتدريج العناصر على شاكلة ما هي عليه، بل تفيد فقط سمة المسلكية التي تعمل على نفي علاقة الضيق بعدم التسليك. ومن خلال تراكم الأدلة الدالة على المسالك يتضح الاختزال والارتجالية المقصودة قياسا إلى الفضاءات المرجعية، حيث لا وجود لأي تناسب منطقي نابع من الطوبوغرافية المرجعية يسمح بوضع ذلك التوارد لأن باب مولاي إدريس والنجارين والعطارين أمكنة متجاورة توجد الواحدة منها في حدود الأخرى، أما الرصيف فتفصله عن تلك الأمكنة عدة أحياء. ولذلك لم يكن من المنطقي أن يأخذ ذلك المكان المخلخل للتدرجية الفعلية للمسلكية ذلك الوضع ما لم يكن مؤديا لدلالة نصية تنبني على التعارض الواضح بين المكانين المرجعيين الواقعي والتخييلي.

إن هذا التعارض الملموس يدعو إذن إلى البحث عن الدلالة النصية، وذلك من خلال التوارد النصي وحده وفي علاقته بالتواردات الموضوعاتية الداخلية المشكلة للحمة النص. إن المكان المدرج في البداية هو ضريح المولى إدريس، والضريح الذي هو في نفس الوقت مثوى رجل تقي ومسجد ممثلا للمقدس، يعتبر من قبل المعرفة الشعبية السائدة خلال الزمن المؤشر عليه من قبل الرواية، ومن قبل الشخصيات التي صورت بدافع الواقعية أمية، رمزا للمقدس الذي يجعل المسافة بين العابد والمعبود قريبة، كما يجعل هذا المكان في المخيلة الشعبية أيقونة للمسجد النبوي ومن ثمة استبدال في درجة ثانية له. وإذن فالمكان المتبوئ للمكانة الأولى هو مكان العبادة والتطهر الروحي والحياة في فضاء مزدوج مؤلف من سمات الفضاء السماوي والأرضي. إنه فضاء آهل بأطياف الملكوت التي تحيط المكان وتنشر الأمان والطمأنينة النفسية التي تجعل الحجيج في رحاب الرحمن، ولكنه في نفس الوقت بفضل طابعه الأرضي يخفف من ثقل الحضور الروحي كما يخفف من الهالة القدسية ليمنح بذلك فسحة بينية تتيح للحجيج ومن النساء خاصة أن تؤطرن حياة الدنيا بحياة الروح وأن تتمتع بفسحات الاستجمام البديلة عن الحدائق والمنتزهات الريفية في رحاب المكان البيني الذي يأخذ معنى الحريم. حيث يتحول بين العصر والمغرب إلى مكان للثرثرة والشكوى والتخفف من الهموم الذاتية عن طريق إطلاق العنان لآلام الآخرين. بينما يرتع الأطفال، الذين تصطحبهم أمهاتهم لكي يشكلوا في الواقع درعا واقيا لهن من أي تحرش ذكوري أو من أي ريبة، في متعهم الخاصة حيث ينخرطون بتلقائية في اللعب مع أقرانهم شأنهم شأن النساء اللواتي يصرفنهم حتى يتحررن في الحديث التلقائي أحيانا والمبيت أحيانا أخرى.

إن المكان المدرج في البداية هو ضريح المولى إدريس، ويعتبر الضريح الذي هو مسجد أيضا ممثلا للمقدس ولذلك يأخذ السبق الرتبوي وهو إذن سبق تحتمه التراتبية الوجودية للديني والدنيوي، وتحتمه أيضا التراتبية العملية لعمر الطفل المبأر في الرواية (الهادي)، ذلك أن للا الغالية كانت تصطحبه معها أيان كان طفلا. والطفولة هي المرحلة الأكثر إغراء لسرد الهادي، بينما يتلو المكان المقدس مكان يؤشر على العمل اليدوي، وعلى نشاط إنساني خلاق، ويتصل بالصناعة التقليدية، وهو في نفس الوقت مؤشر على مهنة إحدى أهم شخصيات الرواية التي ستحظى بفصل كامل ويتعلق الأمر بسيد الطيب الذي كان يمارس مهنة الحياكة ويدير الدراز. وإذن فالمكان الثاني يؤشر على العامل الثاني الفاعل في حياة الشخصيات الأكبر سنا (سيد الطيب وللا الغالية)، ليتظافر مع المكان الأول (الضريح/ المسجد) حيث العبادة والعمل وحيث التقوى المقترن بالترويح عن النفس.

وبعد هذين الفضائين هناك فضاء التجارة الممثل بمكانين يمثلان أنواع المواد المختلفة وهما (العطارين والرصيف) إن المقارنة بين تراتبية هذه الأمكنة في علاقتها بالأمكنة المرجعية يوحي بأنها تراتبية رمزية تتغيا جعل المتلقي يدرك أن الرتبة التي عمل الكاتب على خرقها إنما تريد أن تقيم تراتبية معينة للقيم الملاصقة للممارسات الإنسانية والتي هي على التوالي العبادة (عالم العبادة وعالم الصناعة وعالم التجارة). وتعبر هذه التراتبية، عن التراتبية العملية والروحية لسيرورة أحداث الرواية. كما تعبر عن الأعمال التي تشغل شخصياتها بالتدريج: فشخصيات الجيل الأول ارتبطت بفضاء العبادة والصناعة (مسجد المولى إدريس والدراز)، والحرف عمل الطايع وسي ابراهيم ثم عالم التجارة وعالم المهن الحرة المحاماة.  سعيد وعزيزة. إن الدلالة الرمزية للتوارد التدرجي للأمكنة ليدعم الدلالة الأيقونية للأبواب الثلاثة، فالمضي من فضاء العبادة إلى فضاء الصناعة التقليدية إلى عالم التجارة بكل أنواعه مع كون التجارة ممثلة بنوعين الأول متصل بالاستهلاك البطيء والثاني بالاستهلاك السريع واليومي، يتساوق مع مهن الأجيال الثلاثة التي يرصدها السارد الرئيسي (الهادي).

فسي الطيب كان حرفيا بينما كان الجيل الثاني الذي ينتمي إليه الطايع عاملا أي أجيرا وكان الجيل الوسيط بينهما (سي إبراهيم) أجيرا وتاجرا في نفس الآن، بينما أصبح المستقبل أمام الجيل الثالث مرتبط ومتعلق في آن بالمهن الحرة. وليس من قبيل الصدفة أن تكون التجارة التي وضعت في نهاية التدرج الوصفي للأماكن (تجارة الخضر) الممثلة بمكان الرصيف الذي يعني لغة الهامش، والتي هي تجارة بسيطة وكانت في زمن الحكاية توصيفا لبطالة مقنعة. وانسجامها مع التحقير الموحى به من قبل إدريس الذي اقترح ساخرا من المشاريع المتاحة أمام خريجي الجامعات«اسمعي أنا لدي مشروع أفضل من ذلك. عندما سأحرز على إجازة الاقتصاد في السنة القادمة، أنوي أن أنشئ مكتبا لتصدير الهندية، والزريعة المقلية، والخروب، وبو خنو» (ص: 124/125)، إن الانفتاح الذي على المستقبل أن يحمله للجيل الصاعد هو انكماش فعلي على مستوى ما يسد الرمق وحسب. إنه انفتاح على البطالة المقنعة. إنه انفتاح فعلي على الرصيف!! وإذا كانت الدلالة الأيقونية للبدايات الثلاث والأمكنة الثلاث دالة وفق حساب مدقق فإن ذلك يعتبر دليلا قاطعا على أن وصف الأبواب خاضع أيضا لنفس الاستراتيجية:

إن أغلب البيوتات التقليدية لا تمتلك إلا بابين فهل يتعلق الأمر باستثناء، أم هو محض إجراء نصي من أجل خلق رتبة أيقونية ملائمة لموضوع الرواية. إن الاعتقاد بوجود هذا الاستثناء يجب أن تؤكده اعتباطية غير مدروسة للوصف المخصص لتحديد وسلب عمومية أبواب البيت الموصوف. والواقع أن هذه السمة غير متوفرة كما سيثبت التحليل ذلك. ومن ثمة فإن وجود بيت فعلي بثلاث أبواب أو بعدد مغاير ليس هاما. إن ما هو هام فعلا هو علاقة عددها المنتقى في النص بأعداد أخرى، إضافة إلى الوصف الذي خصت به تلك الأبواب: إن هذا عدد الأبواب وهو يحول إلى دليل أيقوني، يقود إلى تملي الظواهر الكلية المشكلة للرواية. إن هذا التملي قد قادنا إلى اكتشاف كون الرواية قد انبنت على حبكة توجه أشكال حياة ثلاثة أجيال وترسم ملامح الحياة والقيم لثلاثة عقود هي بالنسبة للعقود: ما قبل السبعينيات والسبعينيات ثم الثمانينيات، وهي بالنسبة للشخصيات: للا الغالية وسيد الطيب والسي إبراهيم وللا نجية ويشكلون الجيل الأول، ثم الطايع والهادي وف/ب ويشكلون الجيل الثاني، وأخيرا فتاح وبقية الشبان ويشكلون الجيل الثالث. ولكن ودفعا لكل اعتراض سيتم العمل قبل تحديد العلاقة الأيقونية بين الأبواب والأجيال والشخصيات الممثلة للأجيال وبين الحقب المؤشر عليها من قبلهما، سيتم العمل على التحليل الموضعي للأبواب بغض النظر عن علاقتها بالأدلة النصية التي تؤشر عليها:

«وباب الدار الكبير نصفه الأعلى قطعة واحدة مرصعة بمسامير غليظة، والنصف الأسفل الذي ينفتح، له خرصة كبيرة، ويمتد نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق، وعلى الداخل أن يحني رأسه ويخطو خطوتين، ثم ينزل الدرج ويخطو قبل أن يواجهه الباب الثاني».

إن الباب هو المدخل، ولأنه كذلك فإنه يؤشر على الدار التي هو بابها، ولأنه كذلك أيضا فإن قوته وصموده هو عنوان الدار التي هو بابها. ولعل ذلك هو ما جعل العثمانيين يطلقون على ملوكهم لقب الباب، وهو ما يتيح للبعض بان يصف الحاكم العربي بالباب كناية وتلميحا كما هو أمر قولنا «خادم الأعتاب الشريفة» إن هذه الدلالة الأيقونية تمنح الباب معنى الصورة العامة لتاريخ العشيرة والمرحلة وذلك قياسا إلى كون تاريخ الحاكم هو المعتمد عادة في تدوين تاريخ الجيل الذي عاصره. وقد وصف الباب الأول وصفا ذا طابع جنسي وفكري فالنصف الأعلى قطعة واحدة وذات مسامير غليظة وذلك مؤشر كنائي على الرزانة الثبات وحسن السلوك والتشبث بمكارم الأخلاق من وجهة نظر الموسوعة المحاقبة. وإذا كان لا بد من تقديم دليل على إمكانية هذه الأيقونة فيمكن الاكتفاء باستعادة بيت الفرزدق الشهير:
أحلامنا تزن الجبال رزانة
وينضاف إلى سمة الكلية والوحدة وعدم التجزؤ المؤشر عليه بالقطعة الواحدة، وجود المسامير الغليظة المؤيدة وفق السياق على تلك السمات ذلك أنها تعد استعارة شعبية للثبات والرزانة والدليل على ذلك هو أننا نقول عن كل سلوك غير سوي بأن صاحبه لم تعد لصاحبه براغي تشده وذلك إما لغة أو بفضل الإشارة حيث نضع عادة السبابة فوق الصدغ ونقوم بعملية إدارة سريعة في الاتجاهين. وما يمكن استخلاصه من هذه السمات هو كونها أيقونات دالة على التماسك والقوة والتحدي (بوصفها بابا) لكل الهجمات الخارجية المحتملة. أما النصف الأسفل الذي ينفتح، وهي استعارة على العرض أو الجنس، فيغوص نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق. إن هذا الغوص حتى في مستوى هندسة البيوت وعقليات مهندسيها ليؤشر على قيمة اجتماعية واضحة تتصل بالاحتفاء الطبيعي بالانتماء إلى الأصول والتشبث بها. وليست الخرصة التي هي أقرب إلى الأذن من أي شيء آخر، سوى دعم لهذا المعنى، ذلك أن الخرص الذي هو من جهة، الحرز دون تمثل إلا دلالة على تقديم القيمة السمعية على القيمة البصرية. فالفن يركز على العين بينما يركز الدين على الأذن. وإذا كانت العين تأخذ الحيز الأكبر عند الفنان القديم (النحات) فإن الأذن هي التي احتلت هذا الحيز ويعتبر ذلك مؤشرا على أهمية العلاقة الاجتماعية المرتبطة بالتزاور.

إن الوضع الذي وصف به الباب يفرض أن هذا الأخير وهو ينفتح يشغل ما يناهز الخطوتين التين على الداخل أن يحني رأسه قبل أن ينزل الدرج. الشيء الذي يعني أن من يكون قد فتح الباب يكون منحدرا بنصف متر إضافة إلى قيمة هبوط الدرج بينما يكون من طرق الباب في موقع أعلى وإذن ما يستنتج هو استحالة الرؤية التلقائية ما لم تكن مبيتة أو متاحة. ومن جهة ثانية تتأكد القيمة الأساسية المسندة إلى هذا الباب بفضل دلالة أيقونية ممكنة للخرصة، فالخرص باعتباره حرزا بدون تمثل يدعم ذلك، أولا لأن الصوت الذي يأتي من الخارج يماثل في تجربة الإدراك، الشيء المستحضر دون تمثل بينما يتماثل التمثل مع الوجود الفعلي للشيء المرئي. ثم يتدعم ذلك أيضا من الدلالة العامية للمنطقة نفسها التي يوحي الرواية بانتماء للا الغالية والسي الطيب إليها، وتعني من بين ما تعنيه التعقل والرزانة ومن هنا تتضافر مع معنى المسامير (البولونات) حيث يقال لمن أتى عملا شادا من وجهة نظر العادة العامة (ما كيخرصشاي أو ما بقاش كيخرص). إن السمات  السابقة كلها تتضافر لتخلق نفس الأثر المتمحور حول الرزانة والثبات والتشبث بالتقاليد والأصول. ومن ثمة فقد حكمت على الوصف اللاحق عليها أن يكون خاضعا لها «وعلى الداخل أن يحني رأسه ويخطو خطوتين، ثم ينزل الدرج». إن السمات السابقة إذن تتلاءم بل وتستدعي طأطأة الرأس وعدم النظر إلى الأعلى والهبوط والظلمة.

إن هذه السمات تعتبر في علاقتها بالأجيال مدخلا، معالقة للجيل الأول الممثل كما سبق الذكر بعدة شخصيات هي للا الغالية وللا نجية ثم سيد الطيب وسي إبراهيم، إن هذا الجيل كما تقدمه الرواية يتصف بالكفاح والتآزر والتحاب والتجاوز المقيد، فالطيب الذي حاول الكاتب أن يرصد من خلاله شخصية الفاسي التقليدي الذي يكون هادئا وطيبا مع آل بيته وذويه وجيرانه يبتعد بنزواته عن كل المحارم ونظائرها أو ما يمكن أن يحل محلها. ذلك أن كل النزهات كانت علنية بفضاء عام موضوعه كان هو الاستماع والاستمتاع بقصص ألف ليلة وليلة. ولم تكن علاقته باليهودية إلا علاقة مخبوءة توازي السر المعبر عنه في هذا الدهليز المظلم والتي قد لا تكون فعلية لأنها صادرة عن إضاءة مقدمة من قبل سارد غيري ونسوي يحتمل أن يكون مؤولا وفق الفطرة لغياب الزوج عن البيت ولتراجع تجارته وأرباحه التي يبدو وفق التأويل المقدم من قبل السارد غير المسمى

«عندما رحل الهادي إلى الرباط، حمل ولعه بالعراك والتحدي. كان أخوه قد سبقه إليها مع أمه، وهو لم يكن يريد أن يفارق فاس، وخاله الطيب الذي تعلق به كثيرا. غير أن ضيق ذات يد الخال نتيجة كساد منتوجات الدراز، واهتزاز مكانة الصناعة التقليدية بعد أن انتهت الحرب وعادت البضائع الاجنبية إلى اكتساح السوق جعلا للا الغالية تلح على استرجاع الهادي لكي تخفف العبء عن أخيها» (ص:41)

أما سي ابراهيم فقد كان كل وقته مكرس لعائلته وعبادته رغم أنه كان يعمل نادلا في حان أي أنه من بين حامليها. بينما كانت السيدتان متصفتان بالورع والتقوى والالتزام بأوامر الرجال الفعليين أو الرمزيين أما صورة الباب الثاني فترتبط بالمرحلة التي توجد بين بين، فهو وسيط بين الدخول والخروج، ودلالة الوساطة تلك يمكن استنباطها من الخرق الذي مورس من قبل المبئر لسنن التبئير المتحكم في الوصف كله ذلك أن وصف الأبواب والممرات وقياس الخطوات كلها تعطى من قبل رؤية الداخل إلى الدار وليس ومن قبل الخارج وذلك واضح من خلال الوصف المعكوس للدرج المرتبط بالباب الثاني: «قبل أن يواجهه الباب الثاني، شبيه الأول غير أن خشبه اقل ثخونة ودرجه أقل علوا ثم يخطو ثلاث خطوات ليقطع السطوان»

إن دراسة أوجه العلاقة بين هذا الباب وبين البابين الآخرين يثبت اقترابه من الأول أكثر من اقترابه من الثاني وذلك واضح ليس فقط من خلال المسافة المحددة بدقة حيث تفصل الباب الثاني عن الأول خطوة واحدة فقط، بينما تفصله عن الثالث ثلاث خطوات، ولكن أيضا من خلال الانزلاق الطارئ على سنن توجيه التبئير فوصف الدرج بكونه أقل علوا وليس أكثر هبوطا هو وصف مقصود من جهة لأن الهبوط بوصفه موضوعا عاما يؤشر على المستويات الدنيا الاجتماعية والفكرية والطقوسية وهي سمة لا تصدق على هذه الأجيال بل ليست مقصودة إطلاقا من قبل الرواية التي تستبعد كل رموز الهبوط عن شخصياتها. لذلك كان العلو المسند إلى درج الباب الثاني مؤشرا بالمقارنة إلى الأبواب الثلاثة مؤشرا على الرفعة والسمو الاجتماعي. وخاصة على الرفعة التي مكمنها النفس وعزتها وكرامتها وأريحيتها ونضالها في سبيل الآخر وهي السمات التي ستنمضي نحو الانحدار مع الجيل الثاني ونحو الانعدام مع الجيل الثالث (للا الغالية تضحي بكل متع الدنيا من أجل أبنائها ولم تجأر قط بالشكوى، وسيد الطيب الذي كان يضع منزله وأجهزته وطعامه رهن إشارة الجيران. للا نجية وإبراهيم الذين كانا يخدمان في نفس الوقت أبناءهما بإخلاص وفي نفس الوقت للا الغالية وأبناءها.. ثم إن القلب المنفذ على التوجيه التبئيري المسند إلى صوت مجهول لكنه ناطق برؤية الهادي هو مؤشر شبه قاطع على التعاطف والالتفات نحو الباب الأول، وذلك ما يمكن أن يكون مدخلا للتدليل على ارتباط الباب الثاني بالجيل الثاني ومن خلاله على صوابية ربط هذه الأبواب بالأجيال  المشكلة للشخصيات الأساسية للرواية:

أ إن الباب قد وصف بكونه أقل ثخونة والثخونة كلمة عامية تعبر ليس عن الخشب ولكن عن الإنسان وتعبر عن المتانة خاصة إذا علمنا أن الاستعارة السابقة التي كان موضوعها هو التعالق بين الإنسان والخشب انطلاقا من الخشب الذي تلقى صفة إنسانية، فإن الإنسان يمكن أن يتلقى وفق استعارة ما صفة خشبي وذلك انطلاقا من قولنا (عوده متين) هذا فضلا عن كون المغاربة يستعيرون الخشبة للجسد بدون روح وحتى للجسد الخشن. وإذن فإن الخشب هنا يدل على الإنسان ومن ثمة يدل على الجيل الثاني. الشيء الذي يوحي بأن الدلالة هنا هي على الجيل الثاني الموصوف بالضحالة الفكرية وبعدم القوة ونقصان السمو والرفعة قياسا إلى الجيل السابق عليه. ويترتب عن الملاحظة السابقة الملاحظة الأساسية التالية: أن كل الشخصيات المحددة من قبل الجيل الثاني هي بدون ثبات فكري على مبدأ وحيد ومتماسك يمكن الإيمان به إن المطلق الذي كان يعطي للجيل الأول تماسكه الروحي، بدا غائبا عن الجيل الثاني.

ذلك أن الشخصيات كلها تعاني من خيبة الأمل في آمالها وأحلامها ومن توجس في المستقبل ومن عدم الرضا عن خطها السلوكي والتفكري. فالهادي يلوذ في الأخير بذكرى أمه على اعتبار تلك الذكرى هي أهم شيء في حياته وعلى اعتبار أن تذكر الأم ومن خلالها الطفولة والأصل أكثر جدية من الإكثار من الخطابات والتساؤلات والقرارات الفارغة. وقد تحقق ذلك بشكل إذا لم يكن عبثيا يؤشر على سخرية الهادي من السياسة والحزب التقدمي، فإنه يؤشر على خبل عقلي أي على نحالة في الفكر (في اللوحة الخشبيةأو الباب). ونفس الشيء يسجل مع الطايع الذي يعاود التفكير في قراراته بدءا من قرار زواجه المؤسس على قناعات فكرية تشكل جزئا من المطلق الذي كان مسيطرا في لحظات الاستقلال. وينتهي إلى نوع من الاختلاء بالذاتي المرضي الذي يقود المرء إلى إعفاء ذاته من كل مسؤولية ويتضح ذلك أكثر في محكي الخاص بالشابة المجهولة (ف/ ب ـ التي تبدو فاقدة لكل أمل في الحياة وفي كل أمل للتصالح مع العالم نتيجة انتهائها إلى حقيقة انفصام أفكارها مع أعمالها. فهي بذلك تشاطر الطايع في مآله فكلاهما اكتشف فضاعة مآل قناعاته التي ليست سوى قناعات جيل برمته، إن ما كان يتخايل لها باعتباره سلوكا مؤديا إلى التحرر والتقدم أضحى في النهاية قيدا نفسيا وعائقا، ولا بد أنه قد أضحى كذلك، لأن السلوك نفسه لم يكن في مستوى التجرد التفكري سوى جزء ضئيل من كل متلاحم ومبرر من قبل الفكر الوجودي الماركسي الذي كان يتخايل بدوره باعتباره مخرجا للأمة من الضيق.

ج إن سمة العلو المشكلة لانزلاق في مسار التوجيه تؤشر مع ذلك على تفوق ورقي فكري وفي مستوى العيش واقتصادي وتقوم الرواية بتبيان أسبابه الأساسية وتكمن في التعليم.. إلا أن التعلم والرقي الفكري والاقتصادي يصاحبان بضريبة هي الانخراط في هموم الوطن والمواطنين والعمل على تغييرها، ومن ثمة، فإن الفشل لا يكون على المستوى الفردي وحسب ولكنه يكون مؤشرا على مستوى الفكر النظري نفسه الذي كان أداة للجيل والذي أثبتت التجربة أنه لم يكن فقط مجردا وغير ناجع بوصفه وسيلة إيديولوجية، بل فاشل حتى بوصفه أداة لتنظيم الحياة الخاصة وإعطائها التوازن اللازم لكي تحيى في وئام مع العالم.. فالواقع قد أثبت ليس فقط أن العلو الفكري أو الاجتماعي يتلازم مع التعاسة (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم )، ولكنه أثبت أيضا أنها لم تكن موافقة للموروث الثقافي المشكل للمخزون الهوياتي للذوات التي يبدو أن جريها وراء التحرر لم يكن سوى نتيجة لتبعية مطلقة لكنها موضوعية بالنظر إلى توقيت انبجاسها المحاقب للثورة الفكرية التي نتجت عن التعليم العلمي والتقني الواردين على الثقافة المحلية المؤسسة والمؤثثة على تعاليم الدين الإسلامي. ويعني ذلك أن اللفظة "علو" تصبح أيقونة على التعالي باعتباره موقفا لمفارقة الواقع. ومفارقة الواقع كما هو معروف نوع من أنواع الانفصام.