مدخل:
كان لمصر في تاريخها القديم والحديث دور عظيم في بناء الجسور بين الحضارات. وقد عرفت منذ مطالع القرن التاسع عشر حركة تجديدية أتاحتها لها استعداداتها الحضارية، ومكانتها الجغرافية، وجملة من العوامل السياسية والإنسانية والثقافية التي أحدثها ظهور نابوليون، ثم محمد علي في ظرف تاريخيّ فريد، مما حرّك الثبات وأطلق الحركة النهضوية على مختلف الصعد الفكرية والاجتماعية والعلمية والأدبية والفنّية. ولتوضيح كل ذلك لا بد من أن نطلّ- بما نستطيع – على الوقائع الأساسية التي أطلقت هذه المسيرة الحضارية المستمرّة. ونبدأ أولا بتحديد دور السلطنة العثمانية ومساهمتها – سلبا وإيجابا – في تكوين تيارات التأثير.(1)
1 - فقد دخل العثمانيون مصر عام 1517 وانتصروا على سلطان المماليك. وكانت القاهرة عاصمة للإسلام في الشرق منذ أيام صلاح الدين. ثم اتّخذ السلطان العثماني لقب الخليفة متجاوزاً مجدها العربي وانتقل مركز الثقل إلى حيث أخذته الخلافة الجديدة، وأنهى بذلك أيضاً تاريخ الدويلات المشرقية التي ظهرت بعد ضعف السلطان العربي، وسقوط بغداد عام 1258م. على يد هولاكو "والواقع أن مركز الحضارة العالمية كان قد انتقل هو أيضاً في هذا الزمن إلى الغرب، إذ إن اكتشاف أميركا والطريق البحري حول الرجاء الصالح جعلا التجارة العالمية تسلك خطوطاً جديدة... فأخذت البلدان الواقعة في شرقي البحر المتوسط تخسر مركزها الخطير شيئا فشيئا(2). وأبقى العثمانيون أحوال الحكم المحلّي على نظامه المعروف دون تبديلات كبرى في مجال إدارة الولايات. وكان التفاتهم إلى مصالح الناس ضعيفاَ. ولم يظهروا أنهم أهل حضارة يبنونها وتتميز بشيء الا ما ظهر أو استكمل من عمران عاصمتهم: اسطمبول – القسطنطينية التي كانت عامرة قديماً قبل فتحها. وانتشرت الفرقة بين رعايا المملكة ودخلت الدولة في صراعات داخلية وخارجية مستمرّة وكانت تظهر عاجزة إدارياً عن بناء روح مدنية حضارية تجمع بين هذا الشتات من الرعايا والشعوب. وقد بدأ التراجع غالباً بعد موت سليمان السلطان القويّ. ثم كان عجز الجيش عن الاستيلاء على فيينا وعودته فاشلاً عام 1683 لحظة رمزية تؤشر على بداية رحلة الانحدار.
واستفادت الدول الأوروبية من عوامل الضعف فبدأت فرنسا وإنكلترا والنمسا وروسيا تطلب لها عندها "مناطق نفوذ". لكن مطامعها هي الأخرى، ونزاعاتها في ما بينها أعجزتها بداية عن القيام بأي عمل موحّد تستطيع به الاستيلاء على هذا الإرث التاريخي. وقد خسرت الإمبراطورية العثمانية البحر المتوسط، وبعض ما لها في شمال إفريقيا بعدما ازدهرت أعمال القرصنة. فكانت هذه حجة سانحة للدول الأوروبية – الفرنسية والإنكليزية خصوصاً – لتنزل في جزر المتوسط وبلدان شمال إفريقيا وتنقل إليها ثقلها السياسي ولغاتها، ويحلّ فيها الكثيرون من المواطنين الفرنسيين والإنكليز والإيطاليين والإسبان وغيرهم(3).
وقد كانت مصر منذ أيام الفراعنة، تنظر دائماً نحو الشرق... وحضارات ما بين النهرين، ونحو لبنان منذ كانت الحضارة الفينيقية تشكّل مدن المتوسط. والسلطان سليم الذي فتح مصر كان قد عيّن عليها والياً من العثمانيين وترك جيشاً من خمسة آلاف انكشاري. وظلت سناجق مصر الاثنا عشر بأيدي حكامها من المماليك. وظل هؤلاء يجبون الضرائب ويجنّدون المحاربين ويتنافسون على الثروة والقوة ويدفعون الجزية إلى السلطان العثماني. وقوي الصراع كذلك بين الباشوات الذين كانوا يشترون مراكزهم من السلطنة؛ وغرقت الولايات في الاضطراب والفوضى بسبب الفساد والرشوة وضعف التنمية؛ وكان الناس يزدادون بؤساً وفقراً. وكانت الأوبئة قد أتت في مصر عامي 1619 و1643 على عشرات الألوف، وكادت تقضي على حياة القاهرة(4). ودام الصراع على حكم مصر – خصوصاً بين زعماء المماليك – حتى أواخر القرن الثامن عشر، ما فتح الباب أمام طموحات نابوليون بونابرت.
2- أتى نابوليون إلى مصر وفي تصميمه كما يبدو، أن ينفّذ حملة كبرى يستطيع بعدها أن يجعل من الشرق كياناً امبراطورياً يدين له في نهضته وتاريخه الجديد، وأن يقطع على الإمبراطورية البريطانية خط مواصلاتها مع الشرق في سعي إلى السيطرة العالمية. ونزل في الإسكندرية في يوليو – تموز سنة 1798. ونشر بياناً "ملتبساً" يتقرّب فيه من أهل مصر، ويدّعي أنه يريد أن يحرّرهم ويخلّصهم من حكم المماليك(5)، وقد انتصر عليهم، لكن الصراع السياسي والعسكري، وهزيمته امام الإنكليز وظروفه الفرنسية ... لم تتح له أن يمكث في مصر إلا قليلاً (حوالي ثلاث سنوات)، إلا أن إقامته هذه أسّست نهضة مهمة وذات أثر كبير في تاريخ مصر والعرب الحضاري، وفتحت مجال التشابك الحضاري بين الشرق والغرب ومصر ولبنان.
وقد عادت مصر التي ضعفت أهميتها الاستراتيجية في القرنين الماضيين إلى حركة الصراع العالمي. "وشدّت حملة نابوليون أنظار أوروبا إلى خط المواصلات البرّي نحو الهند وأثارت سلسلة من الحركات والمناورات جعلت الشرق الأدنى في وسط العاصفة التي كانت تثيرها السياسة الأوروبية "(6). أما المماليك في مصر فلم يفتك بهم نابوليون، بل قائد محلّي آخر هو محمد علي "الكبير"، الذي سنعود إليه وإلى دوره.
وكان من إيجابيات هذه الحملة على المشرق أن نابوليون قد حمل معه إلى مصر لجاناً علمية وشخصيات ذات مستوى معرفي مميّز في عصرهم، رغبة منه في تأسيس دولة تنهض بمصر وتبرز محاسن الحضارة الفرنسية، وتستقرّ وتقوى فتجذب إليها قلوب المصريّين، وغيرهم، لينفروا من الدولة العثمانية وحكم المماليك ويتفوّق فيها، في المكانة والقوة والاستقرار والمظاهر المدنية على منافسيه، الإنكليز خصوصاً. وقد اكتشفت أوروبا منذ عهد حملات الإفرنج على الشرق أهمية هذه البلاد بثرواتها وشعوبها وثقافاتها وقيمة أسواقها ومسالكها.
وضمت حملة نابوليون إذاً لجاناً للتنظيم العسكري والمدني وانطلقت فوراً تعمل في مصر. وأهمّ هذه اللجان اللجنة العلمية التي ترأسها مونج (Monge) مؤسس مدرسة البوليتكنيك الفرنسية العريقة (Polytechnique) بأمر من نابوليون. وكانت رائدة في الدراسات الهندسية والعلمية. وقد حرّكت أعمال هذه اللجنة خصوصاً، الركود وأيقظت العقول والحواس من سباتها على عملية انبعاث حضاري نهضوي ذات أثر مهم في حياة مصر والعالم العربي، افتقدها الناس منذ عهودهم الذهبية في العصر العباسي.
وقد عنيت هذه اللجنة وما تفرّع منها عموماً(7) بشؤون الطب والطبيعيات والمياه والكيمياء والجغرافيا والاقتصاد والزراعة والشؤون المدنية والآثار(8) والرياضيات والآداب. وكان من نتائج عملها الحسنة تخطيط جديد لمدينة القاهرة(9) ووضع نظرية ومخطط لحفر قناة السويس قبل سبعة عقود من تنفيذ هذه الفكرة. وقد رمّموا الجسور والقناطر والأبنية ووسّعوا أرجاء المدينة وطرقها وزرعوها. وحملوا تجهيزات وآلات عمل جديدة، كانت مثار إعجاب الناس، وهي تسهّل النقل والإعمار والصناعات الخشبية والحديدية الحديثة. ودرس علماء الطبيعة أجواء مصر وتربتها ومياهها وأمراضها، وما يتوفّر فيها من غذاء وحيوان ونبات. وأسّسوا مراكز طبيّة واستشفائية لخدمة الجند والناس جميعاً ووفّروا لها الأطباء والممرّضين والقابلات ووسائل النقل الحديثة (ومنها نقل المرضى). ومنعوا الدفن في المقابر القريبة من أحياء الناس (كالأوزبكية) وفرضوا أماكن بعيدة كما فرضوا التعميق في حفرها. وعملت اللجنة على تصفية مياه النيل من المركّبات الضارة. واهتمت بالمراقبة الطبيّة وحتى بأبسط الأمور الصحيّة كوجوب تهوية البيوت والفرش وتشميسها على السطوح، خوفاً من أمراض العفونات والأوبئة التي اجتاحت سابقاً. وفرضت كنس الطرق وتنظيفها ورشها بالماء وإنارة الأسواق بالقناديل تعلّق على الحوانيت والدور منعاً للسرقات والجرائم. وفرضت مسؤولية النظافة والمراقبة على مشايخ الحارات وأوجدت مؤسسات ذات أثر تنظيمي وإداري حديث بحسب الطريقة الأوروبية السائدة، كإدارة الإحصاء – التي عملت على إحصاء المقيمين والمواليد والوفيات– وإصدار الوثائق الرسمية ك"إذن السفر" و "ديوان محكمة القضايا" و"المصادقات" وبعض أنظمة الاقتراع، ونظمت المسائل الاقتصادية والمالية(10).
أما على مستوى المؤسسات الثقافية والفكرية والتربوية فقد أقامت اللجان مدرستين وصحيفتين وشجعت التصوير والرسم لأسباب علمية وفنّية وأقامت مسرحاً، وأنشأت مكتبة حديثة في ترتيبها ونظام عملها ... وقد شجعوا الناس على زيارتها والإفادة منها واستقبلوهم برحابة صدر "حتى لو أتوا للفرجة"، "وإذا رأوا في أحد معرفة، كانوا يحضرون له الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير وكرات البلاد والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء ... وفيها كتب الطب والهندسة والتشريح وجرّ الأثقال وكثير من الكتب الإسلامية مترجم إلى لغتهم. وكان بعضهم يحفظ سوراًً من القرآن، ولهم اجتهاد كبير في معرفة السنّة والمنطق ويدأبون في ذلك الليل والنهار"(11). وسوف يضيق المقام بذكر كل شيء عن آثار هذه الحملة " فلقد عزموا على نشر أساليب المدنية الأوروبية وأسبابها في الشرق وإشعال الثورة الصناعية والفنيّة فيه. وقد سرت عدواهم إلى الشعوب العربية على شواطىء المتوسط فكانوا مثلاً صالحاً للإقتفاء في الأمور العلمية والبلدية والصحية)12)
3 - وتتابع هذه الرحلة الحضارية مسيرتها إذاً في مسيرة محمد علي (1769 – 1849) الذي كان حكمه، من محاسن الظروف، استكمالاً لنهضة مصر (والشرق) الحضارية ونموذجاً لتلاقح الحضارات والنتائج الإنسانية الطيبة التي تتولّد من هذا اللقاء بين جهات ومدن ورجالات ومهارات عربية وآسيوية وأوروبية متنوعة أتى بها محمد علي لخدمة حكمه وخدمة مصر. وقصة محمد علي الكبير تبدأ بمساهمته كضابط في الجيش العثماني– وهو ألباني الأصل – ساعد في الحملة ضد نابوليون فمنحه السلطان لقب الباشوية وجعله حاكم مصر الجديد عام 1805 وصار يعتبر لنشاطه وبعد نظره وهمته في الحرب والسلام والعمران وحبّه لمصر أبا النهضة المصرية الحديثة فقد أدرك قيمة ما حمله الفرنسيون من وسائل النهوض فأراد أن يستكمل ويحقّق إنجازات كبرى في جميع الميادين.
ولا بدّ من الوقوف عند هذه الإنجازات وأثرها بالاختصار الذي تسمح به حدود بحثنا(13). فقد أدرك محمد علي أولاً أن العلم هو أساس كل نهضة، فعني بالتربية والتعليم وأنشأ لهما وزارة ومجلساً للمعارف وأسس المدارس والمطابع والصحف، وطلب لها الأساتذة والإرساليات من فرنسا وأرسل إليها البعثات للتخصص. وعزّز الأزهر الذي تخرّج فيه بعض كبار مفكّري مصر وأهل نهضتها ممن أرسلهم محمد علي الى أوروبا للدرس والتخصّص: كرفاعة الطهطاوي (1801-1873) الذي أرسله مع طلاب البعثات الى فرنسا بصفته موجها ومسؤولا، وقد درس على كبار المستشرقين، وكان من رواد الصحافة والترجمة في مصر، أشرف على تحرير "الوقائع المصرية" وهي أول صحيفة أنشأها محمد علي. كما أشرف على "مدرسة الألسن" وأسّس خصوصا مجلة أدبية نهضوية مرموقة هي "روضة المدارس ". وقد تخرّج عليه الكثيرون من رجال نهضة مصر. وكان من روّاد الأزهر قبله عبد الرحمن الجبرتي (1754-1822) الذي عيّنه نابوليون عضوا في "الديوان" وعلّم في الأزهر وترك كتابا مهما في تاريخ مصر (بين 1690 و 1821) هو: "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". وهو شاهد مهم على عصره.
أما على الصعيد الاقتصادي فقد شجّع الزراعة ومدّها بالخبرات العلمية وشقّ الأقنية والطرق ورعى العلم وأسس المدارس وبنى الجيش بناءً حديثاً ... وأقام المصانع والمرافىء ... "وقد أصبح صاحب البلاد بفضل مصادرته للأطيان التي كان يملكها أفراد معيّنون، والمقاول الصناعي الفرد بفضل ما أوجده من احتكار لمنتجات البلاد، وهي أول محاولة لتأميم المنافع في العالم العربي(14)، وهو الذي أدخل زراعة القطن سنة 1822(15) ". والأغلب أن زراعتها قد استجلبت في الأصل من الجزائر الأميركية وقد لقيت أرضاً خصبة فازدهرت في مصر، حتى قيل أن مواردها هي التي مكّنت محمد علي من التمرّد على سلطان العثمانيين(16). وطوّر النقل على نهر النيل وطوّر ميناء الإسكندرية ووصله بالنيل بشق قناة "المحمودية". وقد عمرت الإسكندرية بالمؤسسات التجارية والأبنية الحديثة الجميلة والحدائق والحمامات والمحلات وصارت مرفأ ومدينة مميّزة بين مدائن المتوسط والشرق. وأنشأ بين القاهرة والأهرام روضة غنية رائعة عهد بها إلى خبير اسكوتلندي في النبات: "فأقام بها جنات تبهر بجمالها ذات فاكهة ذكية الطعم عطرة الرائحة، وهي تتحلّى بالخيزران الهندي (البامبو) وأثمار جزر الأنتيل وزهور الأمازون وفيها كثير من حيوانات الجزائر الآسيوية(17)".
وأنشأ محمد علي كذلك معامل ومصانع(18) منها معمل للطرابيش في "فوّه" اشتهر بمصنوعاته، وقد أداره صناع ماهرون من تونس و"جلب الأغنام المعروفة بالمارينوس وأنشأ لها الواحات الواسعة، وأقام معملاً للجوخ (صادف بعض العقبات) ... وأسس عام 1818 مصنعاً للسكر في الديرمون – في المنيا – يعمل بنظام معامل السكر في جزر الهند الغربية، لكنه لم يستطع أن ينافس السكر الأوروبي"(19). ولعل ضعف بعض المصانع ناتج عن أن المنافسين الأوروبيين الأساسيّين في الأسواق لم يكونوا يرغبون في مدّ يد مساعدة حقيقية تجعل النتاج المصري يضعف مواردهم.
وقد أمر بغرس أشجار التوت التي تعيش عليها صناعة الحرير وأنشأ مصنعاً لذلك عام 1811 (في حي الخرنفش) واستخدم له صناعاً من فلورنسا وورّد إلى الأسواق "القطيفة وأثواب الخزّ الرقيقة والمنسوجات المطرّزة بالأسلاك الذهبية ذات الرسوم الجميلة والألوان الزاهية"(20). وأقام معامل للغزل وتحضير النيلة وتجهيز القطن (ومصنعاً لآلاته) ومعاصر للزيوت. "ومعملاً للزجاج في الإسكندرية وآخر لصنع النحاس المجلوب من داخلية القطر وتركيا وتريستا وليفورنو"(21).
وتعزّز في أيام محمد علي البحث عن الآثار المصرية العريقة. وتم اكتشاف الكثير من المراكز الأثرية المطمورة والمجهولة. لكن أبرز وأهم هذه الانجازات كان اكتشاف "حجر الرشيد" الذي أتاح لشامبوليون Champolion تفكيك رموز الكتابة الهيروغليفية لقراءة لغة الفراعنة وتعزيز معرفة العالم بالحضارة الفرعونية وآثارها العظيمة.
أما على مستوى النهضة العسكرية فقد أراد محمد علي بعد ما رآه في الحملة الفرنسية وتنظيمها العسكري والتقني الشامل، وما عرفه من تنظيمات الجيوش الأوروبية الحديثة الأخرى - وقد صارت كلّها تقريباً بجندها وأساطيلها في المتوسط في عصره – أراد بناء جيش حديث نظاماً وتجهيزاً وتدريباً. ولم يتوان عن أن يسعى إلى ذلك عند الأوروبيين ومدارسهم العسكرية، وضباط الحملة الفرنسية الذين بقي بعضهم، وأفاد من إمكانات الناس جميعاً لصناعة نهضة دون وجل. وقد قيّض له كولونيل فرنسي من حملة نابوليون يدعى (ساف Séve) اعتنق الإسلام ودعي سليمان باشا(22)، فأعاد تنظيم الجيش المصري على المناهج الحديثة ... وأقام مدارس عسكرية بقيادة (Varin فاران) من رجال الحملة الفرنسية. وأدرك أهمية المدفعية كسلاح خطير في عصره فدرّسها لضباطه معتمداً على نظام الرياضيات، وكانت قيادة تنظيم المدفعية بيد كولونيل إسباني هو سيغورا (Seguera). وأفاد من ضابط فرنسي آخر أنشأ له البحرية المصرية ثم بنى في الإسكندرية ميناءً كبيراً وعهد إلى الفرنسي سيريزي (Cerisy) بتدريب القوة البحرية على فنون الملاحة وقام هذا الجيش بحملات ظافرة كثيرة أهمها حملته على سوريا، بقيادة ابنه ابراهيم باشا، وحملته على بلاد النوبة (1820) – في النزاع مع البريطانيين على السودان – وحملته على الجزيرة العربية(23). وتتصل بهذه الحملة حادثة ذات أثر تاريخي، فقد دعا إلى وليمة بمناسبة مغادرة الحملة، في قلعة القاهرة، ودعا إليها الأعيان من المماليك وسواهم. لكنه استخدم الحيلة ففتك بأعيان المماليك، ثم صادر أملاكهم وكسر شوكتهم بعد ستة قرون من وجودهم السياسي والعسكري في الشرق(24).
4- والخلاصة أن التطورات التاريخية الكبرى التي شهدتها مصر كانت ذات أثر كبير في انطلاق النهضة العربية، وتشابك حركة النهضة المصرية اللبنانية. وقد كان لحملة ابراهيم باشا على الشرق أهمية بالغة في هذا المضمار لسببين: أولاً، لأنها كادت تقضي على حكم العثمانيين. وثانياً، لأنها أتاحت له أن يقيم في سوريا ولبنان والمشرق تسع سنوات، فحرّكت مرة أخرى في التاريخ وشائج علاقات سياسية واجتماعية وحضارية مع لبنان، كان لها أن تختمر بذاتها وبالمعطيات الحضارية الغربية التي رفدتها لتحفز مسيرة النهضة العربية الحديثة، وتطلق مجموعة من العوامل السياسية والثقافية التي كان لها ابلغ الأثر في نهضة الشرق وأهمها:
حركة التعليم وتأسيس المدارس، وحركة التبادل التجاري، وحركة الاستشراق، والصحافة والطباعة والمسرح، ونهوض الفكر واللغة والترجمة والأدب والفنون، والحركات السياسية والإنسانية ... وكل ما أطلقته هذه الحركات النهضوية من ألوان التفاعل الحضاري.
أستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية - الجامعة اللبنانية الأميركية - بيروت، بيبلوس – لبنان
الهوامش:
1- اعتمدنا في تدوين الموجز على مجموعة من المصادر والمراجع نذكر منها بشكل خاص ما يلي :
-عبد الرحمن الجبرتي : عجائب الآثار في التراجم والأخبار
- رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز و مناهج الألباب و المرشد الأمين
- محمد كرد علي : " خطط الشام "
- جرجي زيدان " تراجم مشاهير الشرق " – وتاريخ مصر الحديث.
- ف.حتّي " تاريخ العرب المطوّل "
W.Miller “The Ottoman Empire ”
A.H Lybyer The Governement Of The Ottoman Empire …
2 نظر – حتي 2/ الفصل 49
3- حتى تاريخ العرب – ص845 وما بعدها – و :
A.G Toynbee، Survey of International affairs (1925-v.1) Oxford - p.p63،110.
4- أنظر : تاريخ مصر الحديث – جرجي زيدان 2/31 وما بعدها وتاريخ العرب – حتى ص.846. [1]
5- أنظر لهذه الفترة (وهذا البيان – بشكل خاص) :
" عجائب الآثار في التراجم والأخبار " لعبد الرحمن الجبرتي (1754 – 1822) وهو شاهد عصره (ج3 – القسم الأول خصوصاً ).
6- تاريخ العرب – حتي 2/851.
7- أنظر : الجبرتي – ج3 – القسم الأول خصوصاً.
8- وقد تعزّز البحث عن الآثار فيما بعد أيام محمد علي.
9- وكان أحد المهندسين المصريين في عهد المماليك هو "الدودري" قد جدّد وخطّط وجمّل شوارع القاهرة عام 1477م.
- A.Zeki : “ Le passé et L’Avenir de l’Art Musulman..” Egypte cont.4/23-24
10- الجبرتي :الفصل نفسه
11- الجبرتي نفسه 3/36... (ونلاحظ هنا أن أساليب الكتابة كانت ما تزال ركيكة نتيجة لإهمال العثمانيين والمماليك للثقافة والتراث العربيين)
12- أنيس محي الدين النصولي – أسباب النهضة – ص68 (بيروت 1405هج)
13- وسوف نذكر ما نستطيع من إنجازاته للإضاءة على ما فيها من انفتاح حضاري ورغبة في تحقيق نهضة شاملة ونعتمد في ذلك خصوصاً على المراجع التالية:
-الجبرتي : " عجائب الآثار "
-زيدان : " تاريخ مصر الحديث " و " تراجم مشاهير الشرق "
-حتي : " تاريخ العرب المطوّل "
-أنيس محي الدين النصولي : " أسباب النهضة "
-عمر طوسون : " البعثات العلمية "
-عبد المنصف محمود : " ابراهيم الفاتح "
-ابراهيم أبو عز الدين : ابراهيم باشا في سوريا ولبنان.
-Georges Antonius : Arab Awakening
-A.Roustom “ The Royal Archives of Egypt ”
-M.J Marcel : L’Egypte depuis la conquête des Arabes …
14- ولعله تأثّر في ذلك ببعض الأفكار الغربية التي بدأت تروج في عصره.
15 - حتي : تاريخ العرب 2 /852
16- أسباب النهضة – 79
17- نفسه 81 – والجبرتي ج3 – 25 وما بعدها.
18- أنظر المقطم عدد 10595 سنة 1924 – مقال عمر طوسون الغنيّ بالمعلومات والتفاصيل.
19-المقطم – نفسه
20و21- المرجع نفسه
22- وما زال ميدان كبير في القاهرة يحمل إسمه – وقد ساهم في حملاته، خصوصاً على سوريا.
23و 24- M.J Marcel – “L’Egypte depuis la conquête des Arabes … ” p.130 – 131
وانظر معه لمراجعة تفاصيل اخرى مفيدة:
- أسباب النهضة – النصولي
- وتاريخ العرب – حتى – ج2 – 850 وما بعدها.
- والجبرتي : عجائب الآثار (ج3)
- وعمر طوسون : البعثات العلمية
- وجرجي زيدان : تاريخ مصر الحديث (ط3) ج2
المصادر والمراجع (و بعضها دون تا ريخ او دون ذكر للناشر) :
- أبو عز الدين، سليمان : ابراهيم باشا في سوريا – بيروت 1929.
- بدوي أحمد أحمد : رفاعة الطهطاوي بك – مصر 1950.
- تاجر، جاك : حركة الترجمة بمصر خلال القرن التاسع عشر – دار المعارف بمصر.
- الجبرتي، عبد الرحمان : عجائب الآثار في التراجم والأخبار – القاهرة
-
- حتي، فيليب : تاريخ العرب المطوّل – بيروت 1965.
- الرافعي، عبد الرحمان : عصر محمد علي – القاهرة 1951 / عصر اسماعيل – القاهرة 1932.
- زيدان، جرجي : تاريخ آداب اللغة العربية – الهلال 1911.
تراجم مشاهير الشرق – مكتبة الحياة، بيروت.
تاريخ التمدن الإسلامي – دار الهلال، طبعة جديدة: 2000
- الشرقاوي، عبدالله : تحفة الناظرين في من ولي مصر (1310ه).
- طرازي، الفيكونت فيليب دى : تاريخ الصحافة العربية – بيروت 1913.
- الطهطاوي، رفاعة بدوي رافع : تخليص الإبريز – بولاق 1250ه – مصر.
مناهج الألباب – مصر 1912/المرشد الأمين – مصر1292ه
- عبد المنصف، محمود : ابراهيم الفاتح – القاهرة.
- عبده، الشيخ محمد : الإسلام دين العلم والمدنية – دار الهلال.
- كرد علي، محمد : مصادر الثقافة العربية وتأثيرها في الحضارة الحديثة.
- النصولي، أنيس محي الدين : أسباب النهضة العربية – بيروت 1926.
المصادر والمراجع في اللغات الأجنبية :
- Abu – Lughod، I. : Arab Rediscovery of Europe – Princeton 1963.
- Adams، Ch. : Islam & Modernism in Egypt - Oxford 1933.
- Antonius، G. : The Arab Awakening – New York 1965.
- Encyclopédie de l’Islam - 2002
- Hourani، A. : Arabic Thought in the Liberal Age – Oxford 1962.
- Lamens : Beyrouth 1921 – La Syrie.
- Lybyer Albert : The Governement of the Ottoman Empire – Cambridge 1913.
- Mattews R. and Akrawi : Education in Arab Countries – Washington 1949.
- Miller W. : The Ottoman Empire - Cambridge 1936.
- Roustom.A : The Royal Archives of Egypt – Beirut.
- Toynbee.A.G. : Survey of International Affairs – 1925 – v-1 – Oxford
- Zeki.Ahmed : Le Passé et l’Avenir de l’Art Musulman – Egypte Contemporaine،
IV،pp.1-32.