مدخل نظري
تهدف هذه الدراسة إلى إجراء عملية قراءة نقدية لرواية السمان والخريف التي كتبها الروائي المصري نجيب محفوظ ونشرت عام 1962م. وستتخذ القراءة من "المدخل الاجتماعي للأدب" مدخلا لدراسة الرواية، ذلك المنظور الذي يعني بالعلاقة المعقدة بين الأدب والمجتمع، وبما هو "اجتماعي" في الأدب، وبما في ذلك من مقولات تدور حول مفهوم "الواقعية" الذي تحدث عنه النقادالماركسيون. وسترتكز الدراسة – بالتحديد – على أفكار الناقد الماركسي البارز جورج لوكاتش (بما في تلك الأفكار من بُعد هيجلي)، سواء فيما يخص الأدب بشكل عام، أو الرواية ، كنوع أدبي، بشكل خاص.
ويرى لوكاتش أن الواقعية هي "قدرة الكاتب على تجسيد الواقع وبصفة خاصة الغوص في جوهر تناقضاته لإدراك وتجسيد صيرورة علاقاته، والأهم: إدراك النمطي فيها، وليس النمطي هو الشائع أو السائد فحسب، كما يفهم البعض لوكاتش، وإنما هو جماع الخصائص الفردية المتميزة السائدة، وخاصة في الشخصيات. أى أن الكاتب الواقعي هو الكاتب القادر على أن يصل من خلال تجسيد الملامح الفردية لشخصية ما إلى الخصائص التي تربطها ببقية أفراد مجتمعها، وهي خصائص ناتجة عن طبيعة الصراع الاجتماعي في كل لحظة تاريخية محددة. ومن هنا يصبح على الكاتب الواقعي أن يدرك جوهر التناقضات العميقة في المجتمع؛ كي يتستطيع أن يقدم النمطي من شخصياته. وعلى هذا الأساس جاء اهتمام لوكاتش بالواقعية أساسا ... ومن هنا أيضا نستطيع أن نفهم سر الاهتمام المطلق للوكاتش بالرواية خاصة، باعتبارها النوع الأدبي النمطي ، إذا جاز التعبير، أى النوع الأدبي الأكثر قدرة على إدراك النمطي في العصر الحديث حسب تعبير هيجل أو عصر البرجوازية حسب تعبير لوكاتش نفسه"(1)
ونستطيع اعتبار مقولات لوكاتش حول الأدب عامة والرواية خاصة مدخلا مناسبا لدراسة رواية "السمان والخريف"؛ فهي رواية واقعية بشهادة نقاد ممن عنوا بدراسة أعمال محفوظ(2)، كما أنها تتناول شخصيات (من بينها الشخصية الرئيسية، البطل) تنتمي إلى الطبقة البرجوازية، والأهم أنها تتوافق مع نظرة لوكاتش للأدب في عنايتها بإدراك تناقضات المجتمع، فهي بشكل ما رواية واقعية نقدية، استطاع فيها محفوظ أن يجسد واقع عيسى الدباغ (بطل الرواية) وأن يجسد مجتمعه بكل ما فيه من علاقات وتناقضات.
وبالإضافة إلى ماسبق، فإن السمان والخريف تعد مثالا واضحا على ما قصده لوكاتش في علاقة الرواية بالواقعية، فـ "الرواية والواقعية مرتبطان في نسق المفاهيم عند لوكاتش، فالرواية هي النوع الأدبي الذي يستطيع أكثر من غيره الارتباط بالحياة البرجوازية لأنه النوع الأدبي القادر على تقديم البطل الفرد، الذي أصبح يفتقد - مع هيمنة النظام الرأسمالي - الاندماج مع الآخرين - الذي كان سائدا في النظام الإقطاعي. ومن هنا فإن الفرد في المجتمع الحديث يبحث حسب لوكاتش عن المعنى الملحمي المفقود"(3). وهذا هو ما يميز الرواية عن الملحمة: "إن الرواية ملحمة عالم بدون آلهة". ولعل من اللافت تردد هذا المعنى بتشابه يكاد يكون تاما في الرواية حين قال الرواي متحدثا عن عيسى "الدنيا تتغير وآلهته يتفتتون بين يديه"(4) وكأن عيسى الدباغ هو نفسه ذلك البطل الفرد الذي تحدث عنه لوكاتش، وطوال الرواية نجد كيف أن عيسى يعاني الاغتراب عن مجتمعه ويشعر أنه مطرود وغير قادر على الاندماج في العالم الجديد. وثمة تشابه ملفت آخر بين مقولات لوكاتش وبين عبارات موجودة في الرواية فيرى لوكاتش إن الرواية "بحث عن المعنى إلا أن المعنى ليس معروفا كما في الملحمة القديمة، وعلى البطل – ذلك الكائن الإشكالي والهامشي، الذي يواجه واقعا اجتماعيا خاليا من المعنى – أن يخترع ويخلق المعنى بالرغم من أن بحثه المثابر عنه ينتهي بالفشل"(5). وفي الرواية: "لكنه سيصمد للمحنة، ويتألم، ويكفر ثم يحيا، وأخيرا سيجد للحياة معنى"(6)
إن عيسى هو تماما ذلك البطل الإشكالي الرافض والباحث عن معنى يعرف أنه لن يجده ابدا (وإن أشارت نهاية الرواية إلى وجود أمل في إيجاد عيسى للمعنى)، لكن هذا الوصف هو الوصف الأدق لشخصية عيسى وهو مصدر معاناته، ومنبع أزمته. إنه ذلك البطل الهامشي الذي يواجه واقعا اجتماعيا خاليا من المعنى وتتمثل فيه تلك "الفجوة بين الفرد والعالم"، وطوال الوقت يبحث البطل الفرد عن "الاندماج المفقود". وإن كان لوكاتش قد جعل أزمة البطل الإشكالي مع المجتمع/ العالم بسبب النظام الرأسمالي فإن محفوظ يتمثل في روايته تلك الأزمة تماما ولكن بسبب تغير سياسي جذري (وهو قيام ثورة يوليو 1952م، التي أطاحت بالنظام الملكي، وقد كان عيسى وقتها موظفا مرموقا في حكومة الوفد في العهد الملكي) ولكن النتيجة في النهاية واحدة، وهي أزمة الاغتراب التي يعيشها ذلك البطل مع مجتمعه وعالمه، وشعوره أنه ليس ثمة معنى لحياته وأنه لا دور له: "وكيف يكون للحجر دور في المسرحية، وللحشرة دور، وللمحكوم عليه في الجبل دور، وأنا لا دور لي"(7) .
ومما سبق يمكن القول إن النظر إلى الرواية من منظور أفكار ومقولات لوكاتش يمكن أن يمدنا بأدوات تعيننا على قراءتها قراءة منتجة يمكن أن تشكف عن القيم الإنسانية والجمالية في الرواية. غير أن تلك القيم (الجمالية منها خصوصا) ستحتاج إلى فتح آفاق القراءة الاجتماعية للنص الأدبي، وعدم الانغلاق على مضمون النص وعلاقته بالمجتمع الذي يجسده دون النظر إلى التجليات الشكلية لتلك العلاقة التي هي دالة اجتماعيا دون شك؛ فـ "الحياة الاجتماعية تدخل في علاقات مع الأدب قبل كل شيء عبر جانبه اللفظي" كما يقول الناقد الروسي يوري تينيانوف(8). وهذا يدفعنا إلى البحث عن الدلالة الاجتماعية في تشكلها الروائي عبر دلالات الألفاظ والتراكيب والاستعارات، بل عبر بنية الرواية وشخوصها.
التحول: من التساؤلات المحمومة إلى رثاء الذات
منذ العبارة الافتتاحية للفصل الأول من الرواية يضعنا المؤلف (عن طريق الراوي بالطبع) أمام الأزمة، إنها "التحول". يتحدث الراوي عن عيسى قائلا: "وقف القطار ولكنه لم يجد أحدا في انتظاره. أين السكرتير؟ أين موظفو المكتب؟ أين السعاة؟" عبارة تقريرية يتبعها عدد من الأسئلة، أسئلة تجول بخاطر عيسى، يستفهم، يندهش، أو لعله يستنكر. غير أن هذه الأسئلة الاستفهامية الاستنكارية ستتصاعد حدتها وتصل إلى حدود غير معقوله كلما احتد التغيير وبدا أنه أكبر من المعتاد وأقسى من قدرة عيسى على الاحتمال. ثم يفسر الراوي خلو محطة القطار من أحد ينتظر حضور موظف حزب الوفد المرموق الذي كان في مهمة رسمية في القنال، بأن عيسى حضر يوم حريق القاهرة. ومن المعروف أن حريق القاهرة هو الحدث الأبرز قبيل ثورة يوليو، ولكن المؤلف جعل عيسى يصل في ذلك اليوم بالذات، وجعله يمشي في الشوراع في عز اندلاع الحريق وتدافع الناس في الشوارع ليضعه منذ أول وهلة في أول مظاهر التحول وأكثرها هولا وفزعا.
"لا عربة واحة لتنقله، وفي ميدان المحطة جماهير تجري في كل اتجاه. الغضب يشتعل في الوجوه واللعنات تنصب على الإنجليز ... الدكاكين مغلقة كالحداد وعند الآفاق تصاعد دخان كثيف ...
وتقدم في حذر وأشار إلى رجل يقترب ثم سأله:
- ماذا في البلد؟
فأجابه في ذهول:
- القيامة قامت ...
فسأله في إلحاح:
- تعني مظاهرات احتجاج؟!
فهتف وهو يأخذ في الجري:
أعني النار والخراب .."(9)
كان حريق القاهرة أول التحولات المفزعة والمؤثرة ولكنه ليس آخرها. اندلعت الحرائق في القاهرة أثناء حكومة حزب الوفد، وعيسى مدير مكتب أحد وزارء الحزب، كان يتوقع، بتوجس وخوف، أن حزبه صار مهددا بعد الحريق، وأيام قليلة، ثم حل التحول الثاني، ومثلما افتتح المؤلف فصل الرواية الأول بعبارة تقريرية دالة على التحول "وقف القطار ولكنه لم يجد أحدا في انتظاره"، افتتح الفصل الثالث بعبارة مماثلة، تقريرية، حادة، حاسمة وصادمة: "قال عيسى: صدر قرار بنقلي من وظيفة مدير مكتب الوزير إلى المحفوظات"(10). وهنا ألفت النظر إلى خاصية بنائية في هذه الرواية، هي أن العبارات الافتتاحية للفصول دائما ما تقرر تغيرا، وهذا ليس من قبيل المصادفة، فـ "التحولات" وحدات بنائية هامة في أحداث الرواية، وفي مضمونها، فما الذي يقود البطل إلى الاغتراب سوى تحول لا يستطيع التلاؤم معه والاندماج فيه؟
ولم يكن عيسى ليستسلم لهذا التحول، وفكر أن الزواج الذي طالما شغلته عنه السياسة يمكن أن يكون مرفئا آمنا عند التقلبات الغادرة، ووجد ذلك في الزواج من سلوى ابنة "على بك سليمان ابن خال والده الذي "عندما يدعم نفسه بمصاهرته سيجد في مرفئه استقرارا إذا عبثت عواصف السياسة بقاربه"(11)
غير أن التحولات تتوالى، وهذه المرة يأتي التحول الأعنف على الإطلاق، يأتي كذلك في العبارة الافتتاحية للفصل السادس، عبارة تشبه مثيلاتها في الفصلين الأول والثالث، خبرية تشير إلى شيء اعتيادي تم خرقه: "كان عيسى يتناول فطوره حين توقف الراديو عن إرساله المعتاد ليذيع بيان الجيش في صباح 23 يوليو"، و"راح يتساءل: ما معنى هذا؟ ما معنى هذا؟"(12) الأسئلة تظهر على لسان عيسى من جديد. كانت ثورة يوليو تعني انقضاء عهد وابتداء عهد جديد، لكن عيسى لا يدرك كنه هذا العهد، فهو وجه جديد من الحياة "يسفر عن صفحته رويدا رويدا حافلا بالجدة والغرابة"(13).
وحدث تغير جديد في حياة عيسى، التحول الأشد قسوة حتى من الثورة نفسها، أو ربما هو تابع من توابع زلزال الثورة فقد أحيل إلى لجنة التطهير التي شكلتها الثورة لـ "تخلص الوزارات من الفاسدين"، وثبتت على عيسى وقائع فساد أيام كان مديرا لمكتب الوزير، وحملت العبارة الافتتاحية للفصل الثامن نتيجة ذلك التحول: "واستدعاه مراقب المستخدمين ليبلغه قرار إحالته على المعاش مع ضم سنتين إلى مدة خدمته"(14). حينها أدرك عيسى أن الموجة العاتية أكبر منه، و"أيقن الآن أنه قضى عليه بأن يعاني التاريخ في إحدى عنفه حين ينسى وهو يثب وثبة خطيرة مخلوقاته التي يحملها فوق ظهره فلا يبالي أيها يبقى وأيها يختل توازنه فيهوى"(15) وواجه عيسى لأول مرة وحدته في "البوديجا قهوته المختارة فمضى إليها. في مثل هذه الوقت من الظهيرة ليس ثمة أمل أن يجد في مجلسه أحدا من أصدقائه فراح يحتسي الشاي وحيدا وصورته في إحدى المرايا المصقوله تؤانسه رغم كآبة منظرها. ... لو نطقت هذه الصورة لوجدت حقا من يفهمني"(16) ولعل هذه العبارة الأخيرة أول ما يلوح من حالة الاغتراب التي سيعانيها عيسى. يسهب الراوي بعد ذلك في الحديث عنها "ومضى في طريقه إلى مسكنه وهو ينظر إلى الناس بغرابة كأنما يراهم لأول مرة. وهم غرباء لا يمتون إليه بسبب ولا يمت إليهم بسبب، وهو منفي في مدينته الكبيرة، مطارد بغير مطارده"(17). وكثرت الأسئلة، وازدادت حدة في رأس عيسى، "وانتصبت علامات الاستفهام أمام عينيه وأعين أصحابه كالرايات السود على السواحل عند هياج البحر"(18)، كانت التساؤلات علامة على عجزه عن الفهم والاستيعاب، التحول أكبر من الفهم ويفوق الخيال. جعلته الأسئلة في حالة توتر محموم أسئلة لا تنتهي وليس ثمة إجابة.
ورغم قسوة التحولات، وإدراك عيسى أن الزمن غادره ورغم اغترابه الحاد في مدينته الكبيرة، لا يزال لدي أمل في سلوى (خطيبته) ابنة على بك سليمان، أحبها وإن بدأت علاقته بها من أجل المصلحة واتقاء شر التقلبات، صارت سلوى بالنسبة له آخر أمل، آخر سبب لشخص ليس بينه وبين الناس سببا، وقد عبر المؤلف عن رغبة عيسى العارمة في التمسك بسلوى كـ "فرصة" أخيرة في مشهد لقائه المنفرد بها في بيت أسرتها: "وجاءه دافع قهار ليضمها إلى صدره فمال نحوها وطوقها بذراعه"(19)، واعترف عيسى لسلوى، أو لنفسه أمامها قائلا: "سلوى أنا أحبك، حياتي كلها تتلخص في شيء واحد هو أنت"(20). واجتمع عيسى مع علي بك سليمان، واحتد النقاش بينهما، كان البك يرى أن عيسى لم يعد لائقا بابنته بعدما طُرد من عمله لاتهامات تخص الذمة والشرف، لم يتحمل عيسى اتهامات على بك، وتطاول عليه فطرده البك، واتصل عيسى بسلوى طالبا لقاءها آملا في تمسكها به رغم خلافه مع والدها، لكنها أغلقت التليفون في وجهه وكان ذلك بالنسبة لعيسى "صفعة".
واحتد لدى عيسى الشعور بالرفض والطرد من العالم المحيط، كانت سلوى آخر أمل في تحقيق اندماج مفقود بينه وبين العالم، لكنه فقدها، وخلفت في نفسه مرارة، ومارس عيسى مع أصدقائه رثاء الذات وتصور أن البشر أصلهم أسماكا يأكل بعضهم بعضا وأقنع نفسه بأنه لا يريد العمل، وإنما يريد "نقاهة أطول من الموت"(21) وأعلن بينه وبين نفسه الاستسلام و"وليكن ما يكون".
الاغتراب: أيام الضياع والصراع
(1)
عانى عيسى مرارة "التاريخ" في أشد لحظات تقلباته، وفي شقة صغيرة بالإسكندرية (مهجره ومنفاه) فكّر أن "الحضارة لا تخلو من نقطة رحمة"(22)،. سُمى العهد الجديد الحضارة، لنكتشف علاقته الملتبسة بالزمن، إنه من رجال الماضي، وأحد ضحايا التاريخ، وغريب عن الحضارة وإن لم تخل من نقطة رحمة هي تلك الشقة التي يعيش فيها في الإسكندرية في حي الإبراهيمية. ولأن عيسى عاني هجر الزمان له فقد هجر هو المكان، "هجر"(23) القاهرة إلى الإسكندرية، جاءها بعد انتهاء الصيف، سكن في حي معظم ساكنيه من الأجانب، في الطابق الثامن إنه يمعن في الهجر، ويعاني غربة ونفيا "غريب، في موطن غرباء"(24).
وراح عيسى يمعن في الهروب فلجأ إلى الشرب في الكازينوهات حتى ساعة متأخرة من الليل، الكازينو يضج بالموسيقى والرقص وهو يغوص داخل نفسه، مغتربا عما حوله، اعتاد حياة الظلام، والسكر والغياب كانت هذه طريقة عيسى في التعامل مع أزمته، غير أن الرواية تطرح علينا صيغة أخرى في واحد من أصدقاء عيسى الذين طالهم ما طاله، هو سمير عبد الباقي الذي لجأ إلى التصوف، ورأى بمنظور المتصوف كيف أن الله يسير الكون ويتحكم بالمقادير، ووجد في التصوف وسيلة لتخفيف حدة الصدمة، ولكن طريقة سمير لم تلق عند عيسى صدى، واستمر في حياته الليلية يعاني الوحدة، ويهتف في نفسه "ما أحوجني إلى مسكن"، قالها بعد أن "اجتر حزنا على لقاء سمير"(25). ويرى الناقد رجاء النقاش أن هذ العبارة في "السمان والخريف" و"اللص والكلاب" على حد سواء تعني حاجة الإنسان إلى هدف يطمئن إليه، وقاعدة ـ فى حياته الروحية ـ يستند عليها، إن المسكن المفقود فى الروايتين هو رمز الأزمة التى يعانيها الإنسان الوحيد .. اللا منتمي(26). ولعل ذكر عيسى احتياجه المُلحّ إلى مسكن عقب لقاءه بسمير الذي وجد "مسكنه" في التصوف يعضد تأويل رجاء النقاش.
(2)
وإن كان عيسى رغم استقراره بشقة يحبها في الإسكندرية يعلن حاجته إلى مسكن فإن هناك من كانت بالفعل في حاجة إلى مسكن يأويها، التقاها عيسى في إحدى ليالي السكر المظلمة، (ريري)، فتاة ليل صغيرة السن، اصطحبها عيسى معه إلى شقته ذات ليلة، وفي الصباح طلبت المبيت عنده، وافق بعد جهد، عرف عنها أشياء، هاله مقدار التشابه بينهما، كلاهما غريب، هو من القاهرة وهي من طنطا، كلاهما منقطع عن أهله وعن عالمه، كلاهما في حاجة إلى مسكن. وبعد أيام اكتشف عيسى أن ريري حامل، فغضب غضبة شديدة، خاف من الفضيحة، وربما لم يرغب في أن يكون بينه وبين هذا العالم سببا بعد أن انقطعت كل الأسباب، وغاب عيسى القديم ولم يبق إلا عيسى المهجور المطرود، فطرد ريري وتنكر لها ولجنينها تماما، عاملها بنفس الطريقة التي عاملته بها الحياة، ولم يجد سوى ريري (شبيهته) ليفعل بها ما فُعل به.
ومثلما كانت سلوى فرصة ثم ضاعت مخلفة في نفس عيسى مرارة، وذكرى أيام لن تعود، فقد كانت قدرية هانم (التي تزوجها) هي الأخرى فرصة، ليس لاستعادة الماضي الضائع، ولكن للاستمرار في حياة الهروب والضياع والغربة، أخبر أصدقاءه أنها سيدة ثرية من أسرة عريقة، ربما لا يزال هذا يشغله، شيء مما كان يرجوه في سلوى، وكما كانت سلوى – بمركز والدها أمانا – فإن قدرية هي الأخري كانت أمانا بمالها، وإن لم يعتمد عليه بشكل كامل، ولكنه أبعد عنه تماما فكرة ضرورة البحث عن عمل، فاستراح لذلك وأكمل هروبه وضياعه.
وحدث ما أخرج عيسى ولو مؤقتا من دوامة الضياع، تغير جديد، لا يمسه بشكل مباشر ولكن يوقظ فيه ما ظنه قد مات، حبه للوطن. إعلان تأميم القناة، والعدوان الثلاثي، اعترف أمام نفسه بالإعجاب – المشوب بالحسد - بعظمة الأول، وتمنى النصر لبلده في الثاني، لكنه اصطدم بصراع بين عقله الذي اقتنع بالثورة وقلبه الذي يرفضها بعنف، وعاش انقساماصرح به لنفسه ولأصدقائه، وأعاده الصراع الذي لم يستطع حسمه إلى دوامة الهروب والضياع مرة أخرى وراح يرثى لنفسه "لكل إنسان عمل وهو بلاعمل. ولكل زوج ذرية وهو بلا ذرية. ولكل مواطن مستقر وهو منفي في وطنه. وماذا بعد الدورات الهروبية المعادة؟"(27). ساءت علاقته بقدرية بسبب سهرة خارج البيت ولعب القمار، أصلح بينهما سمير عبد الباقي صديقه، نصحهما بالسفر إلى الإسكندرية وتغيير الأجواء، وهناك رأى ريري مصادفة، لا كما تركها شابة صغيرة بل امرأة ناضجة، ورأى معها طفلة أيقن حين أمعن النظر فيها أنها ابنته، تمنى لو يجد في تلك الطفلة معنى لحياته التي بلا معنى حاول أن يعرف الحقيقة من ريري لكنها لم تجبه وطردته. عرف أن البنت صارت منسوبة إلى رجل آخر كتبها باسمه، أنقذ الطفلة من الضياع وأنقذ الأم من الفضيحة. وتبددت كل آماله في أن يبدأ حياة جديدة وعاد إلى ممارسه طقوسه السكندرية القديمة، وحده بدون قدرية، عاد إلى حياة لا معنى لها، حياة المطرود الغريب.
ورغم أن المؤلف أطال وأمعن في تأكيد حالة الاغتراب التي عاشها البطل، وعمقها حتى تجاوزت حدود الاغتراب عن البلدة والأهل والمجتمع إلى درجة من الاغتراب الوجودي(28) كما يرى رجاء النقاش، إلا أنه يسعى في نهاية روايته إلى خلق أمل لذلك المغترب عن طريق الشاب الذي التقاه عيسى مصادفة ليمثل نموذجا لاندماج ناجح يقوم على التسامح مع الماضي والنظرة الإيجابية للحاضر والمستقبل (وليس على النفاق والتنكر للمبادئ كما الحال عند معظم أصدقاء عيسى)، ليقرر عيسى أن يسير في طريق الشاب تاركا وراءه بقعته المظلمة التي كان يجلس فيها تحت تمثال سعد زغلول (زعيم حزب الوفد الذي كان ينتمي إليه عيسى في الماضي)، تاركا وراءه ماضيه. ولعله من المفارقات أن يبدأ عيسى في القضاء على اغترابه من الإسكندرية، منفاه والمكان الذي عاش فيه اغترابه.
شخصيات الرواية وتعميق الاغتراب
لم يكن من بين شخصيات الرواية شخصية واحدة يمكن لعيسى (البطل الإشكالي) أن يندمج معها اندماجا ناحجا يتغلب به على اغترابه بعد التحولات العاصفة التي ألمت به؛ فحسن الدباغ (ابن عم عيسى الذي يظهر من حين لآخر شاغلا من الرواية مساحة ليست بالقليلة)، منافس لعيسى منذ الصغر، وغريم سياسي في الكبر، طلب يد سلوى بعد أن طلب عيسى يدها، وتزوجها بعد الثورة التي كان من رجالها، ورغم دعوة حسن أن "يندمج عيسى في الحياة الجديدة"، وأن "يلحق بالقطار" إلا أنه كان من المستحيل أن يذعن لغريمه. فشخصية حسن (وكذلك سلوى) تزيد من عمق الأزمة.
وأصدقاء البوديجا من جيله أصابهم ما أصابه، ولم يستطع مجاراة العهد الجديد بالنفاق مثل أحدهم، ولا الاقتناع بوظيفة في إحدى الشركات مثل الآخر؛ فقد كان دائما يردد أننا قد يكون لدينا عملا ولكننا سنكون بلا دور. وحتى سمير المتصوف رغم ائتناس عيسى به في كثير من الأحيان صار تذكيرا دائما لعيسى أنه بلا "مسكن" روحي ينقذه من أزمته. وريري رغم كونها زميلته في الاغتراب إلا أن هذا السبب بالذات هو ما جعله يتخلص منها، فقد كانت مزيدا من التعميق لاغترابه، فطردها كما طـُرد. وقدرية لم تكن سوى مظهرا من مظاهر حياة الضياع مثلها مثل شلة القمار. جميع الشخصيات من حول عيسى تزيد من اغترابه من شعوره باللاجدوى واللا معنى.
الدلالات اللغوية: مجازات التحول والاغتراب
استطاع المؤلف ببراعة أن يضمن روايته عددا كبيرا من الاستعارات والتشبيهات التي تجسد وتدل دلالة بالغة على الأزمة التي يعيشها البطل. والأهم أنه استطاع أن يقيم بين هذه البنى الاستعارية علاقات تفاعل وجدل؛ ففي الوقت الذي يعبر فيه حسن الدباغ، ابن عم عيسى، عن رغبته في انتهاء العهد الملكي يقول: "هذا القديم كله يجب أن يجتث من جذوره"(29) والراوي وهو يتحدث عن عيسى (في حالة توحد معه وكأن عيسى يحدث نفسه) يقول عن نظام التطهير "سيدركه الدمار الذي حاق بالأحزاب والزعماء، ستقتلع الجذور التي تثبته بأرضه جذرا بعد جذر"(30). وثمة تشبيهان في غاية الدلالة على أزمة البطل: حين جلس عيسى في مقهى البوديجا القاهري ينظر إلى نفسه في المرآة ويقول: "وهذا الوجه الذي كان مرشحا للصفحات الأولى من الصحف، ما باله يندثر كالديناصور عملاق الأساطير البائدة. وكالشاي الذي تحتسيه المقتلع في أرضه الطيبة من سيلان ليستقر آخر الأمر في مجاري القاهرة"(31) ففي هاتين الصورتين يتصور البطل نفسه، وهو في ضياعه واغترابه، على مستويي الزمان والمكان. فقد فاته الزمان وتجاوزه حتى انقرض كديناصور، كما أنه صار غريبا عن منبته كنبتة شاي انتزعت من موطنها وأُلقي بها في بلد غريب لتُهان.
ولعل استعمال مفردتي "التاريخ" للإشارة إلى الماضي وتغيراته، و"الحضارة" للإشارة إلى العهد الحاضر بعد الثورة، يعد استعمالا استعاريا يهدف إلى تعميق الأزمة وإكسابها أبعادا وجودية فلسفية لا تغير بالطبع من الأصل الواقعي للرواية. ونجد أصداءً من هذا المعني في الرواية في قول الراوي عن عيسى: "ألا يمكن أن يؤكد انتسابه إلى الإنسان ينسى انتسابه الجبري إلى هذا الوطن؟"(32). وكذلك استعارات من قبيل: "كابد الحياة بأعصاب عارية"، "حتى تستقر الأرض تحت قدميه"(33) مما يحيل بشدة إلى تحول فادح، وتغير يصعب معه أن يحتفظ الإنسان بتوازنه. وأيضا نجد الاستعارة التي استعملها حسن وهو يخاطب عيسى مقنعا إياه بالاندماج في الحياة بعد الثورة "يجب أن تلحق بالقطار"(34) فاستعار القطار للزمن الجديد، ذلك القطار/ الزمن الذي توقف بعيسى في مفتتح الرواية ليجد نفسه وحيدا دون أن ينتظره أحد.
وإلى جانب الاستعارات المتناثرة على طول الرواية، ثمة بنية استعارية كبرى – كانت خلفية لكثير من المقاطع الوصفية في الرواية – تشمل الرواية من أولها إلى آخرها، ألا وهي "استعارة الطقس" التي تجلت بأشكال مختلفة وفي مواضع مختلفة على طول الرواية لتؤدي دورا بالغ الدلالة في خدمة مضمون الرواية، منذ العنوان "السمان والخريف"، الخريف فصل التحول من الصيف إلى الشتاء، وفي غير موضع من الرواية: "وكان زجاج الشرفة العريض مغلقا دفعا للبرد وأغصان صفصافة تصعد وتهبط خلفه في حركة وانية وامتدت وراء ذلك السحب وتكاثفت وتجمت كالسياسة"(35)، "عبثت عواصف السياسة بقاربه"(36)، " نظر في غير اكتراث إلى السماء الغارقة بالدكنة"(37)، هذه أمثلة قليلة للدلالة التي يشيعها وصف الطقس بهذه الأوصاف في الرواية، وفي المقابل نجد وصف حالة الجو ليلة خطوبة عيسى وسلوى، وهو وصف نادر يكاد يكون الوحيد: "وانتشر الليل في جو ربيعي صاف ... وهبت نسائم مرطبة ببرودة حنونة منعشة"(38). ونجد أيضا استعارات من قبيل: "وانتصبت علامات الاستفهام أمام عينيه وأعين أصحابه كالرايات السود على السواحل عند هياج البحر"(39)، "واخترق إلى الدقي طرقات غرقت كقارات أطلس بجميع أبعادها وأحيائها وجمادها تحت أمواج ذاته الهائجة المتلاطمة"(40)، "وعندما أذن الزمان بإنشاء علاقة إنسانية هب الإعصار فاجتاح كل قائم"(41) وغيرها من الاستعارات التي تجعل من حالة الطقس مرجعا لها والتي صبغت الرواية بألوان داكنة، لعلها هي ألوان حياة الاغتراب.
الهوامش
1. سيد البحراوي، المدخل الاجتماعي للأدب، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2001م، ص 29، 30
2. ومنهم رجاء النقاش على سبيل المثال، في دراسته عن الرواية بعنوان: "الواقعية الوجودية في السمان والخريف"، ضمن كتاب أدباء معاصرون، مديرية الثقافة العامة، سلسلة الكتب الحديثة (51)، بغداد 1968م.
3. سيد البحراوي، المدخل الاجتماعي للأدب، ص 30 . وانظر أيضا: موسوعة كيمبريدج في النقد الأدبي، القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية، تحرير: ك. نولوف، ك. نوريس، ج. أوزبورن. مراجعة وإشراف رضوى عاشور، المشرف العام: جابر عصفور. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2005م. ص 147
4. نجيب محفوظ، السمان والخريف، مكتبة مصر ، القاهرة 1962م، ص 21
5. سيد البحراوي، المدخل الاجتماعي للأدب، ص 30
6. نجيب محفوظ، السمان والخريف ص 145
7. المصدر السابق ص 69
8. سيد البحراوي، المدخل الاجتماعي للأدب ص 66
9. المصدر السابق ص 5، 6
10. المصدر السابق ص 16
11. المصدر السابق ص 17، 18
12. المصدر السابق ص 34
13. المصدر السابق ص 38
14. المصدر السابق ص 44
15. المصدر السابق ص 44
16. المصدر السابق ص 45
17. المصدر السابق ص 46
18. المصدر السابق ص 39
19. المصدر السابق ص 49
20. المصدر السابق ص 50
21. المصدر السابق ص 59
22. المصدر السابق ص 68
23. استعمل عيسى اللفظ نفسه "إني أفكر حقا في هجر القاهرة" ص 64
24. المصدر السابق ص 68
25. المصدر السابق ص 73
26. رجاء النقاش، الواقعية الوجودية في السمان والخريف، ص 133
27. نجيب محفوظ، السمان والخريف ص 128
28. انظر: رجاء النقاش، الواقعية الوجودية في السمان والخريف، ضمن كتاب أدباء معاصرون مديرية الثقافة العامة، سلسلة الكتب الحديثة (51)، بغداد 1968م.
29. نجيب محفوظ، السمان والخريف ص 20
30. المصدر السابق ص 39
31. المصدر السابق ص 45
32. المصدر السابق ص 129
33. المصدر السابق ص 39
34. المصدر السابق ص 97
35. المصدر السابق ص 16
36. المصدر السابق ص 18
37. المصدر السابق ص 21
38. المصدر السابق ص 26، 27
39. المصدر السابق ص 39
40. المصدر السابق ص 43
41. المصدر السابق ص 91
المراجع
1. بيير زيما، النقد الاجتماعي، ترجمة: عايدة لطفي، مراجعة: أمينة رشيد وسيد البحراوي، دار الفكر للدرسات والنشر، القاهرة 1991م.
2. رجاء النقاش، أدباء معاصرون، مديرية الثقافة العامة، سلسلة الكتب الحديثة (51)، بغداد 1968م.
3. سيد البحراوي، المدخل الاجتماعي للأدب، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2001م.
4. ك. نولوف، ك. نوريس، ج. أوزبورن، موسوعة كيمبريدج في النقد الأدبي، القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية، مراجعة وإشراف رضوى عاشور، المشرف العام: جابر عصفور. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2005م.