واقع الأمر أن البطل في العالم العربي ولقرون كان شخص الحاكم منفردا. على قاعدة "إذا وجد الماء بطل التيمم". فهو من يتمتع ودائما بقدرات خارقة، كما يفترض بمن يمثل الله على الأرض أن يكون. ومنها تحويل الهزائم إلى انتصارات، وانتزاع اعتراف شعبه بذلك كما البيعة بحد السيف.
ويبدو أن صدر بعض اليسار الاشتراكي العربي كان قد ضاق من ذلك، فأطلق أحد مفكريه وهو الدكتور صادق جلال العظم، وفي وقت تلا هزيمة حزيران كتابا بعنوان "نقد الفكر الديني" حظي بقدر كبير من الاهتمام على اتساع ساحة الوطن العربي.
نقرأ في الكتاب: "واجه إبليس الرب وهو يناقض نفسه بصورة مباشرة ومفضوحة فذهب ضحية هذا التناقض وضحية الموقف الذي اختاره ووقفه".
ثمة إشارة مضمرة لبطولة على غرار أنتيجونة، بطلة مسرحية سوفوكليس؛ التي ذهبت ضحية للتناقض بين أوامر الملك وتعاليم الله.
ونقرأ أيضا: "يرفض البطل أن يبقى سلبياً في وجه ما يعتبره تحدياً لواجبه ومنزلته وكرامته". الحديث هنا هو حول البطولة على العموم، لكنه يدور حول تصرف إبليس في مقاربة "أكاديمية" تسوغ منح شخصية الملاك الناري صفة البطولة.
مع تقديرنا للمبادرة وللشجاعة والاستعداد لمواجهة ما قد يتبع ذلك من أذى وسخط ومصائب؛ سواء من الحاكم الذي سحب منه اللقب لصالح إبليس، أو من المتعيشين على الدين، الذين يبحثون عمن ينزلون عليه جام غضبهم.. نتساءل:
إبليس بطل من؟
المثل الأعلى لمن؟
ولماذا؟
بطل أي شريحة أو طبقة مجتمعية؟
هل هو بطل الأرستقراطية، الأغنياء، الفقراء، المثقفون، الأميون، العمال، النساء، الأطفال، البازار.. الخ؟ أم هو بطل شمولي (ككل الأحزاب العربية اليسارية والدينية والقومية) يعبر عن تطلعات كل المجتمع من خلال "نافوخ" طليعة ما؟
هل رقي إبليس لدور البطل تكريما لجرأته على مواجهة الاستبداد، أصل وفروع هزائمنا ومنها حزيران؟ وهل ذلك كاف؟
ماذا لو كان إبليس مستبدا آخر؟ هل يبقى بطلا.. ولليسار العلماني؟
ما هي الأخلاق التي بشر بها إبليس. وهل يمكن مقاربتها بأخلاقية زعيم عشيرة أو حزب يحتج على تغير موقعه في حلقة الحظوة؟
هل يمكن مقاربة موقف إبليس بموقف "برومثيوس" الذي أعطى النار للإنسان ليستعين بها في معيشته، متحديا ومتصديا لظلم الآلهة للبشر؟ مما أدى لصلبه وتسليط طير جارح ليأكل كبده؟
لم ينتصر إبليس لمن هو أضعف منه كما تتطلب البطولة التقليدية. بل احتج على انزياح اقترحه المركز في مواقع من هم في حلقة الحظوة. ورفض ترتيبا جديدا للأفضلية بين النخب، أي تغيير شكل ومضمون السيادة، وفتحهما على تشاركية منضبطة تبقي النخب السائدة في موقع المفضل.
نقتبس من "ضد دوهرنغ" لفريدريك أنجلز: "إن الفكرة القائلة إن الأفعال السياسية، وأفعال الدولة هي العناصر الحاسمة في التاريخ، هي فكرة قديمة قدم التاريخ المكتوب نفسه، وهي السبب الرئيس في أنه لم يتبق لنا إلا القليل جدا مما يتعلق بتطور التقدم الفعلي للشعوب، هذا التطور الذي حدث في هدوء، في الكواليس، وراء تلك المشاهد الصاخبة الجارية على المسرح".
لنقل أنه وحسب القراءة الماركسية للتاريخ، يحصل "التقدم الفعلي" والتغيير الفعلي في السلطات البشرية نتيجة تطور طبيعي ولأسباب شتى. ونصر على عبارة "تطور طبيعي" لنميزه عن تغيير شكلي قد تنجزه النخب في صراعها بين بعضها البعض على السلطة، ولنتساءل:
هل يرفض العقل النخبوي العربي؛ التطور الطبيعي، ويصر على ما هو اصطفائي وقسري؟
هل هو متشبث بتقسيم للمجتمع، يأخذ فيه المحيط دور الخادم للمركز وللنخب، وإلى الأبد؟
في سياق تحليله للحرب البروسية الفرنسية عام 1870 كتب أنجلز "ليس في العالم من يكره الفرنسيين قدر كراهية الارستقراطي الإقطاعي البروسي لهم"(1).
والمقصود هو الفرنسيين الذين هدموا الباستيل وطرحوا على أوروبا ثالوثا جديدا هو: عدالة حرية مساواة. أسفر عن فقدان الارستقراطية لامتيازات عديدة لاحقا.
في نص الدكتور العظم تنبض عبارة "تحدياً لواجبه ومنزلته وكرامته" بكراهية تجيش في نفس من يتحدث عنه الدكتور العظم؛ أي إبليس. كراهية لآخر هدد استقرر وضعه المألوف. هو "آدم". ولا تخلو من نزق فارس ارستقراطي لا يتردد كثيرا برمي قفازه في وجه من يهينه.
عمليا واجه إبليس تهديدا بفقد امتيازات، فتصرف كأرستقراطي يصر على حيازته لأفضلية تاريخية تميزه عن سواه. متجاهلا أو متناسيا أنها أفضلية صنعيه، وليست طبيعية. "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(ق ك الأعراف،12)".
قبل هزيمة حزيران وبكثير كان أينشتاين قد رد علة الفعل والفاعلية للطاقة (وليس للقوة كما نيوتون)، ثم قام بجسر الفجوة بين المادة والطاقة بعبارته الشهيرة: "الحجر طاقة مكثفة"، مؤكدا أنهما(المادة والطاقة) وجهان لجوهر الوجود. فغدت النار(الطاقة) هي أيضا من التراب (المادة)، وهكذا تكون أفضلية إبليس الناري على الإنسان الترابي قد هشمت. ولا نستسيغ افتراض أن ملكوت السماء بما فيها الملائكة ومنهم إبليس (مقدم ومعلم الكروبيين)، كانت تجهل تلك الحقيقة. لكننا نفترض أن بعضهم أصر على اعتبارها من معارف النخب التي إذا تسربت للمحيط أفسدت إيمانه(كما سنعرض لاحقا)، أو اضطربت جواهر طاعته المطلقة، ولذلك طالب بعدم ضم أدم للنخب. كما لا نستطيع افتراض أن اليسار العربي العلماني كان بمنأى عن تلك المعرفة في زمن صدور الكتاب.
يذكرنا نص الدكتور العظم، بواحد من صفوة الارستقراطية الإنجليزية؛ هو السير إسحاق نيوتن، فمفهوم القوة التي تمتلك مقدرة السيطرة والتحكم بسلوك الآخرين ومصائرهم، ولها الحق بفعل ذلك انطلاقا من مرجعيته كونية مطلقة أكد نيوتن وجودها. يطرح ودائما التساؤل حول شرعية صُنِّعَت وانتزعت بالقوة، فباتت ومع مرور الزمن تجزم بأنها طبيعية وتاريخية (أرستقراطية) وليست صنعية. نضيء ذلك بسؤال بسيط: لماذا لا يحق لآدم أن يدخل نادي النخب؟
لماذا أهمل نص الدكتور العظم آدم ومشاعره، وهو يستمع للحديث عن دونيته. أو يسمع عنه؟
نظريا، أليس في التخلي عن فوقية صنعيه بطولة أشد سطوعا كما برومثيوس، من بطولة التمسك بها كما إبليس. تاريخيا تمسك الطغاة بالملك، في حين تخلى بشري عن عرش بريطانيا من أجل امرأة أحب. هل المحبة من جواهر الشفافية، النظافة، مكارم الأخلاق. كيف ليسار لا يبجل الحب أن يكون نظيفا؟
ونقف عند عبارة العظم "يناقض نفسه بصورة مباشرة ومفضوحة" لنتساءل:
هل الرغبة بتغيير الواقع، بخرق الثابت وسكونه؛ تعبر ودائما عن تناقض وبصورة مباشرة مع النفس وفقط؟ أم أنها قد تعبر أيضا عن تناقض تلك النفس مع الواقع؟
وهل يحتمل أن تكون تلك الرغبة سعيا لتوحيد النفس مع رؤى جديدة أملتها ضرورات واقعية وسوغها نمو للطاقة الكامنة استوفى ما يلزم للإفلات من أغلال سببت آلام مبرحة؟
أليس ذلك هو بعض ما حض همة الدكتور العظم على خط كتابه في لحظة ضاق فيها صدره، كما الغالبية، عن تحمل ما حصل ويحصل على أرض الواقع؟ نحترم تلك الهمة ونعارض النص.
نرحب بإله يتطور ولا نرى في ذلك فضيحة. فقد تطور فكر الإنسان عن الله مع جريان الزمن. ونتساءل: هل قرأ الدكتور العظم في أن يتزحزح الله من مكان (أو من موقف) كان يشغله، ما استدعاه لأن يقول وبلغة لا تخلو من الاستهجان: "مباشرة ومفضوحة"؟ ووفق أي منهج؟
أليس ذلك يأسا (أو ترجيع يأس) من وجود احتمال لأن يتطور الفكر الديني؟ واستهجانا لفرضية معاكسة؟ وحرمانا لذلك الفكر من حقه في امتلاك زمنه الخاص، ومنطقه الخاص، وإرادته الخاصة؟! إذا لم يمتلك ذلك. كيف له أن يمتلك فرصة إصلاح ديني كما شهدت مجتمعات أنجزت نهضة؟ هل ناقضت الحياة نفسها عندما حلت مشكلة غاز الأوكسجين السام باختراع الدم الحار؟ أم تراها تطورت وارتقت؟ هل ناقض أخناتون نفسه وبشكل مفضوح عندما توقف عن عبادة آمون، واختار عبادة اله واحد تدل عليه الشمس؟ أم تراه تطور وحقق توحده النفسي والعقلي من خلال سلوك درب جديدة لم تطرق من قبل؟ وهل تعرض أخناتون لموقف مشابه للذي دار بين الله وبين إبليس، عندما انقلبت ضده بعض النخب ("أبالسة" معبد آمون مجازا)؛ احتجاجا على سحب امتيازاتها ورفضا لمساواتها في الحقوق مع العامة؟ ألا يمكن النظر لما قام به أخناتون وبمقاربة أدبية كدعوة للنخب للسجود لعامة الناس (لآدم) كدليل على قبولها بالمساواة؟ كثورة أطلقت حرية مساواة؟ ألا يمكن النظر لذلك التطور الذي وهب شعب مصر سنوات من الازدهار قيل أن كل منزل فيها بات ليومه حصة من ممارسة الفن والمسرة؟ على أنه ثمرة نضال طويل دارت رحاه "وراء تلك المشاهد الصاخبة الجارية على المسرح" كما عبر أنجلز؟
هل الرغبة بتثبيت الواقع (منع تغيير فعلي) كما إبليس هي مفتاح البطولة؟
حسب الدكتور العظم، تكلم إبليس "معارضا مدافعا عن واجبه ومنزلته". ولنقبل معه أنه وبذلك يكون قد تصرف كما يتصرف البطل النمطي. لكن ومرة ثانية نتساءل: بطل من؟ ومن أجل ماذا؟
ذلك مما يستوجب التأمل وبإلحاح؛ لمعرفة الدوافع وتحديد المكافأة المناسبة. فنحن لا نعرف إن كان إبليس أو غيره من الملائكة قد راودتهم فكرة الانقلاب على الله وامتلاك كرسي العرش (على طريقة آلهة الإغريق). ولا نعرف طبيعة سلطتهم الكامنة خلف حجب المستقبل. لكن المقدمات (حسب إبليس) تشي بأنها وعلى الأرجح سلطة نخب، لا ترحب أبدا بفكرة المساواة، ولا تقبل التداول. وإلا لاختارت الدخول في سجال سلوكي يظهر مع الأيام أفضليتها على سلوكية آدم وتؤكدها. سيما وأن بعض الملائكة (ربما كلهم) خاطبوا الله محذرين من أن ذرية أدم ستزرع الفساد في الأرض وتسفك الدماء "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(ق ك)".
اختار الملائكة ما هو مكروه عند الله (رب محمد) ليصفوا آدم به (درس خبره يوسف عليه السلام، فطلب من سجانه أن يذكره عند مولاه بالخير). فلماذا ورغم توافر ذلك الوعي وتلك المعرفة لم يقبل إبليس لعب المباراة ضد آدم؟ رغم كون فوزه مرجح إلى درجة تلامس اليقين نظريا. هل لأن خطاب الملائكة حول الفساد وسفك الدماء وضعه. وهو صاحب الحظوة بينهم في موقف قوي (وربما ضاغط) قبل أن يرد على أمر الله له بالسجود لآدم؟ وهل تضعنا القصة أمام حكاية الصراع بين المركز وبين النخب التي لا تقبل بهدم ما يفصلها عن العامة؟ ويبحث عن حل يعيد ترتب الامتيازات مضمونا.
ثمة قلق تستشعره النفس من كون موقف النخب التي يدور عنها الحديث من العنف هو غير واضح، ولا ضوابط استخدامه واضحة أيضا. بينما يبدو إصرارها على تثبيت الواقع قويا، وذلك هو أحد مميزات الاستبداد. صحيح أن إبليس قد كسر حاجزا للخوف، لكن ألا توجد حواجز أخرى للخوف تم تثبيتها وتضخيمها بذلك الكسر؟ ألم يكسر نيرون حواجز خوف في بداية عهده، ثم تحول إلى مرعب؟
هل يوم تنتصر فيه النخب على الفرد الذي يشغل المركز، وتجعل منه واجهة لمشيئتها هو البطولة، كما في صراع شهدته الآلهة السومرية وآلهة الاغريق. هل كان ذلك التطور "الافتراضي" قد بدأت ملامحه الواقعية بالظهور في عصر محمد(ص)؟ وهل يحتمل أن يأتي يوم، يتحول فيه من في نقطة المركز إلى معارض بسبب عجزه عن تحمل تهميشه من قبل النخب؟ وبذلك تحقق النخب نجاحا نوعيا إذ تنتج للحضارة البشرية إبليسها هي، فتكتمل شروط اليأس من فقد ما يرد القضاء، وشرط الرضا بما يلطف استبداد النخب للبشر.
يجانب العلماني الموضوعية إن هو حاجج منطلقا من أن اللاهوتي جازم بقناعاته السابقة وبالمطلق، ودائما. ببساطة لأن من حق ذلك اللاهوتي أن يتغير (كما فعل أخناتون) ويرى اليوم غير ما كان يراه بالأمس. ومن حق مثله الأعلى أيضا أن "يناقض نفسه" إن هو أراد ذلك. وليس لدى العلماني أو المادي ما يستطيع من خلاله نفي حق أو احتمال حدوث ذلك التبدل. وهو (العلماني) إن أصر على تثبيت الآخرين حيث صنفهم هو بناء على ميله ومصلحته، أو حيث كانوا بالأمس. يكون قد شذ عن منهجه؛ لأنه وعلى الأقل استبدل التواصل مع الواقع بحكم مسبق. وذلك يكافئ لجوء لاهوتي سلفي إلى نص يقدسه لإقامة الحجة وبشكل قاطع على العلماني المادي الذي يحاوره، داعيا إياه أن يختار بين أن يُكَفَرَ علنا، أو أن يطوي عقله ولسانه وحقه في الاختيار ليستسلم بدون قيد أو شرط للرؤية السلفية.
في الحالتين تنقطع سبل الحوار العقلاني الذي يفترض أن يكون مفيدا للطرفين وللواقع الموضوعي.
في عالم حر (افتراضي)؛ سيكون لكل الحق بأن يقبل البطولة وأن يرفضها تبعا لرؤيته. لذلك وعلى طريقة الكواكبي في كتابه "أم القرى"؛ نعرض للمعروض ومن جهة نظر يدعي صاحبها أنه علماني، ويرفض بطولة إبليس:
نستشف من قصة إبليس (وبلغة معاصرة)، أن الله (رب محمد) كان عادلا، فقد ترك الفرصة لخصمه ليحتك بالآخرين ويدعوهم للانضمام لحزبه، ليتحقق وعلى أرض الواقع من هو الطرف الذي يمتلك طموحات وأفكار تستحق أن تفوز. لم يبطش به كما يفعل الحكام غالبا، وخصوصا عند امتلاكهم مقدرة هائلة مقارنة بمقدرة الخصم. مما يعكس تطورا مهما في فكر السلطة طرحته ديانة سماويه استجابة لمتطلبات واقع، نرجح أنه رغب بما هو أفضل وامتلك طاقة كامنة باتت تضغط وبقوه.
بناء على ذلك، فإن من يستحق أن يرشح لنيل لقب البطولة هو رب محمد الذي أراد كسر حلقة السائد، وليس إبليس الذي رغب باستمراره. هذا إذا استخدمت الهيئة المانحة للقب البطولة المنهج العلماني في تحليل الواقعة التي يدور عنها الحديث، وفي منح الدرجات. وقد سبق لعلماني من ذوي القامات العالية هو جواهر لال نهرو أن منح محمدا ذلك اللقب وبامتياز في واحدة من رسائله التي كتبها لابنته أنديرا غاندي من السجن.
يمكن النظر إلى الرب الذي دعت رسالة محمد لعبادته، على أنه هو الصورة المتخيلة من قبل محمد لحاكم لكل الكون بما في ذلك الكرة الأرضية والبشر. وبالرجوع إلى ما ورد في كتاب القرآن عن علاقة ذلك الرب مع إبليس يتجلى أنه نموذج لحاكم لا يبطش بخصمه مع توافر الفرصة والمقدرة على ذلك كما أشرنا سابقا. ونحسب أن ذلك التواني عن البطش، وكما يخبرنا التاريخ، كان سببا رئيسا لمعاداة كبار الأغنياء والتجار وأمراء العشائر والقبائل والملوك والسلاطين من العرب والفرس والروم لدين محمد، الذي سيسحب من بين أيديهم (إن هو فاز) بعضا من متعة ومنفعة البطش بالآخر. و قد زاد من ضراوة ردة الفعل تلك تقديم القرآن لشخصية الموءودة التي حفظ لها حق السؤال ومحاسبة قاتلها على فعلته. فماذا سيتبقى من سلطة أولئك؟ وهل يعقل أن يقبل أحد أساطين نخب ذلك الزمان، أن تحاكمه طفلة في المهد؟
نسفت سمية (التي ضحت بنفسها) منطق الأضاحي التي قدمها البشر وعبر التاريخ كعربون اعتراف بسطوة سلطة مركز قائمة، تستعبد الآخرين وتبطش بهم متى شاءت. واستبدلته بمنطق يكرس حق كل فرد برفض وبتغيير السائد الظالم وتقويض دعائم ديمومته. الأمر الذي أقض مضجع كل من يتسلط على المرأة ويستبيح بعض أو معظم حقوقها.
واضح، ولمراقب محايد، أن رب محمد هو ضد القتل العشوائي أو الثأري أو غير القانوني (الحقاني)، وضد الإخلال بالعقود المبرومة بالتراضي، وضد استلاب حق الطفل وحق المرأة في الملك والفراش والنشاط المجتمعي الاقتصادي والفكري والسياسي والحقوقي، وواضح أن نموذج السلطة في يثرب قد شهد تآلف وتعاطف وتشاركية وإدارة للعلاقات العامة.
جرى تعتيم على تلك التجربة، هناك حيث وقفت امرأة عادية في مواجهة من سيغدو يوما ما سلطوية، خليفة للمسلمين (عمر) لتحاججه حول أمر، ولتقول له: "أنت تكذب". ثمة هيبة حاكمة على شأنا من هيبة السلطة، تتأتى من السلوك وللخلق الكريم. وثمة عقد مجتمعي أنجزه سكان يثرب من المهاجرين والأنصار. شارك محمد بالأعمال الخشنة كغيره من سكان يثرب (بناء المسجد وحفر الخندق والقتال)، كان الناس شبه سواسية في الحقوق والامتيازات. وكان احترام الآخر معيارا سلوكيا راسخا فمحمد هو من قال لصحبه وقد هبوا لنهر أعرابي يتبول في فناء المسجد: "لا تقطعوا عليه بوله". لقد وجد محمد في موقفه، قيمة أعلى من تلك التي هب الرجال لحمايتها، وهذا مدخل لنقد فكر التقديس المصنع الذي استعر لاحقا.
كان محمد معلماً ومتعلماً في الوقت نفسه وصاحب حلم كبير. وتبدو "كاميلوت" الملك آرثر ومائدته المستديرة متواضعة رغم جمالها وروعتها، إذا ما قرنت بيثرب ومحمد ومائدته المفتوحة: "كلكم راع وكل مسؤول عن رعيته"، و"لا يؤمن بي أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؛ وكأن المسيح هو من يتكلم!!(3).
"كاميلوت آرثر" كُرِّسَتْ وسُلِطَ عليها الضوء كملهمةٍ للعدل والحرية والفروسية ورفض الظلم وحق السعادة. أما يثرب فقد تعرضت تجربتها المدنية لتعتيم شاركت فيه أطراف كثيرة وفي مقدمتهم خلفاء المسلمين الطغاة الذين انتقموا منها شر انتقام، واستباحوها دما ومالا وعمرانا واغتصابا وباسم الإسلام.
ويفيدنا التاريخ كم عانى من أمنوا بدين محمد، الذي حملهم أمانة "تربية النفس" و"تزكيتها" من الأهوال، قبل أن يبطش بهم وبدينهم أناس يصرون على حيازة سلطة بطش غير خاضعة للمساءلة، وعلى انتهاك حقوق المرأة والطفل، وقبل كل شيء على أنهم يمثلون محمد ودينه خير تمثيل. مما رتب على تلك السلطة التي قهرت الإسلام أن تعلن وتشرعن ملكيتها له من خلال قوامتها المباشرة عليه وأن تحفظ لنفسها ولزمن مديد جيلا بعد جيل لقب خليفة المسلمين ولاحقا "شيخ الإسلام"، وأن تعاقب من كل من يسترشد في سلوكه بما جاء به دين محمد، ولنا في مصير الحسين بن علي والخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز وغيلان وابن المقفع والكندي دليل على صحة القول.
هل حلم عقل محمد "الرجل" بعالم تسوده العدالة والمساواة والحرية كما أخناتون؟ فطرح أفكاره على شكل رسالة جاءته من السماء، قال أن كبير الملائكة جبريل حملها إليه من الله مباشرة ؟
إن نفي صحة المقطع الأخير لا ينقص من الأهمية البالغة للنموذج الذي سعى محمد للتبشير به، وعلى رأسه رب لم يبطش حتى بألد خصومه. ونختم بقول لعلماني آخر من ذوي القامات العالية هو سيغموند فرويد في كتابه عسر الحضارة:
"صنع الإنسان ومنذ زمن بعيد لنفسه مثلا أعلى، وجسد ذلك في آلهته. هذه الآلهة كانت "مثلا عليا حضارية".
"مثلا عليا حضارية". تلك وجهة نظر. ونتساءل:
هل من كبير مشقة في مغادرة "من فمك أدينك" إلى "من معرفتي أنير لك" و"من معرفتك تنير لي"؟ أليس ذلك بأكرم وللجميع؟
إذا تحرينا الواقع بحثا عن إجابة. سنجد وفيما نجده؛ أن المكتبة العربية لا تفتقر لكتابات علمانيين عرب تعلن يأسها من أي تطور إيجابي للفكر الديني. وأنهم فعلوا ذلك وللأسف، ليس بسبب عجزهم عن سد الفراغ فقط، بل إن بعضا من ذلك هو بسبب اغترابهم عن العلمانية ذاتها، وعن الرؤية الموضوعية. متساوين في ذلك حينا، ومقصرين أحيانا، عن ما يعجز الإحصاء العربي عن حصره من كتابات للمتدينين تلوي عنق الحقيقة والموضوعية، وتثبت الكون في نقطة واحدة أحيان، وهي من اختراع عقل الكاتب، ولا ترى في العلمانية سوى ما هو سلبي.
ربما كانت العلة الرئيس في الطرف العلماني العربي (وما زالت) هي اغتراب منهجه ومعرفته عن رحم العلمانية البكر، الطبيعة، فانحرفت رؤيته لذاته ولدوره تقنعه وتثبت اقدامه بأنه القائد للمعرفة وللسياسة، وأن أدواته المعرفية مثالية الكفاءة. محولا نفسه إلى منارة، رغم أن الإحصائيات تقول له وباستمرار: أن غالبية السفن لا تسترشد بضوئه. أقله لخشية القباطنة من محاضرة مطولة عن كيف تقاد السفن. نسوق مثالا من شبكة النت، وهو فقرة مقتبسة من مقال (نشر في 6 تموز 2007) للسيد رياض العصري، الذي قدم نفسه من خلال مقالته كعلماني مادي المنهج والعقيدة:
"ينطوي نقد الفكر الديني على أهمية بالغة لكونه يمثل إعادة تقييم للفكر الذي ساهم إلى حد كبير في تكوين ثقافتنا وقيمنا وفي تشكيل نمط تفكيرنا وأسلوب نظرتنا إلى الأشياء التي من حولنا، فالمجتمعات العربية بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في الكثير من قيمها وثقافاتها، وسنحاول في بداية المقال أن نلقي نظرة سريعة على جذور نشأة الفكر الديني، ثم نستعرض وبأسلوب نقدي بعض المفاهيم والمنطلقات للفكر الديني، وفي الجزء الأخير من المقال سنسلط بعض الضوء على مقترحنا بتأسيس عقيدة جديدة ذات أسس علمية وواقعية وتنسجم مع سمات ومتطلبات عصرنا لتكون البديل المناسب للعقيدة الدينية".
"لتكون"!! علماني يشتق فعل مشيئة لمعالجة مشاكل الواقع.
نحن لا نعمم ذلك بكل تأكيد، بل سقناه لوضع اليد على عله استند إليها صاحبها (اليساري العلماني) لإلغاء، ثم لتكوين ما هو وببساطة عقل أمة. ألم يفعل "بول بوت" شيئا مشابها؟
مكرر القول أنه وخلال العقد الماضي، هيمن الليبراليون الجدد على جل مفاصل السلطة في سوريا، ومتشبثين بمقولة شمولية بائسة "إلى الأبد" دمروا اقتصاد الطبقة المتوسطة وأحالوا الفقيرة لاقتصاد الممنوعات، والشباب لجدار اليأس. وخلال العقد الماضي حصرت بعض النخب تخليق كل مانع للتطور الموجب تحت القبة الزرقاء بالسلطة السورية فقط. وتيمنا بالعراق(1) ذهبت لضرورة الاستعانة بقوى خارجية لكسر حلقة النظام المستعصية الكسر من الداخل، كسر ثقافة الخوف وتحرير الحرية والكرامة والعدالة، وحماية حقوق الإنسان من الانتهاك وإقامة سلطة ديمقراطية. كذبة هي "الافقع" في تاريخ سوريا المعاصر، سرعان ما أنجز تلقيحها بغبار طلع الفوضى الخلاقة الأمريكي. عموما (هنا نقتبس) من يكسر البيضة من الخارج يفعل ذلك ليأكلها، ومن يكسرها من الداخل يحمل مشروع حياة جديدة. عمليا وشت "الكذبة" بجوهر اليسار السوري (الاشتراكي، والقومي)، بأن لب جل نخبه مفتون إما بالليبرالية الجديدة أو بالمحافظين الجدد. ساسة ومثقفون تحرروا من اقنعتهم اليسارية (الماركسية والشيوعية والوحدوية ..الخ) التي تعرقوا تحتها طويلا قبل أن يجهروا بانتمائهم العميق لنفعية عارية إلا من النفعية. واقع الحال أن ذلك اليسار أبدع شخصيات استثنائية في يمينيتها أنجزت ثورتها الباطنية تلك وصوتت بعمق وقوة كما فائز بذهبية أولمبية، معبرة عن نشوتها الفائقة، وكل بطريقته. شخصيات ما كان همها تغيير جواهر تلك الحلقة المستبدة (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) المانعة للتطور، بل امتلاك خاتم السلطة. في السياق ارتقى بعضها لمقلوب صورة أساتذة الصوفية في مرآة الحضارة العربية الإسلامية، وأنتجوا مقولتهم لكل من سوق السياسية والثقافة: "النظام السوري هو رأس كل إرهاب". عمليا لم تنجح جماعة التكفير والهجرة أو القاعدة بإنتاج نص أقرب للمطلق الشمولي. وعمليا وجد من أثنى على مواهبهم تلك.
نرجح أن تكون الجغرافيا الفكرية والتنظيمية والسياسية، هي من أسهمت بارتكاز الإسلام السياسي واليسار العربي على عصا السببية، وأن الدفع لذلك جاء من:
* قمع السلطات العربية لليسار ولغيره. وأسرها لفضاء الحرية الفكرية وللقانون.
* نخب قائدة (سلطة، معارضة) لقنت سماتها وليس مشاريعها لكوادرها وللمجتمع وكأنها نظرية نشوء الكون وغاية الوجود.
* ضعف عام في الأسس المعرفية، وتبجح بامتلاك ناصية المعرفة. مما ولد فرق كمون أنجب حالة ارتهان للعقل بأحكام مسبقة (نصوص) بحيث تصبح وظيفته توكيد صحتها.
وربما كانت العلة الرئيس في خطاب بعض الإسلاميين هي عجزه وعجزهم؛ عن التخلي عن منافع مادية ومعنوية منحها الاستبداد المديد لسدنة الشكل وليس لحماة المضمون الذي جاءت به رسالة محمد (ص). حال أولئك يشبه من يمتلك خاتم سلطة ولا يرغب خلعه، رغم أنه يسبب تحسسا يكاد يوقف التنفس، ورغم إدراكهم أنه لا وجود في يوم الحساب لحالة توضع فيها قدم في الجنة وأخرى في النار.
ما بقي الحال على ما هو عليه، فإن من المرجح:
أن يقتصر حضور الآية الكريمة التي تتحدث عن "العفو" في سورة البقرة على تلاوتها، وأن يبقى التصويب الذي أمل عمر (ر) بإنجازه، والمتعلق برد فضلة مال الأغنياء إلى الفقراء (دفع الخليفة عمر بن عبد العزيز (ر) وصحبه حياتهم ابتغاء تحقيقه)؛ معلقا إلى زمن مجهول.
وأن تبقى مسألة التناقض؛ بين نوعية (أو طبيعة) علاقة المركز بالمحيط، وبين احتمالات تحقق ما ترفعه طلائع اليسار(النخب) من شعارات وأهداف ( من بينها الديمقراطية). حاكمة لإسهامات ذلك "اليسار" سلبا وإيجابا.
وأن يبقى التناقض حول كون الأفعال مخلوقة أم غير مخلوقة (الذي ثبت الفكر الديني إلى أوتاد خيمته منذ قرون): بوابة يدور الصراع الفكري والسياسي في العالمين العربي والإسلامي على جانبيها. حيث يرابط كل من التخلف وسلطان الاستبداد واحتمالات وفرص النهضة.
كتب الفارابي في "آراء أهل المدينة الفاضلة"(ص68-70): "وللأجسام السماوية كلها أيضاً طبيعة مشتركة، فيلزم عن الطبيعة المشتركة التي لها وجود المادة الأولى المشتركة لكل ما تحتها .. وعند هذين (فلك القمر والعقل الحادي عشر) ينقطع وجود هذه. والتي بعدهما هي ليس التي في طبيعتها أن توجد في الكمالات الأفضل في جواهرها منذ أول الأمر بل شأنها أن يكون لها أولاً نقص فيبتدئ منه فيترقى شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ كل نوع أقصى كماله في جوهره .. وهذه الحالة هي من طباع هذا الجنس من غير أن يكون ذلك دخيلاً عليه من أي شيء آخر غريب عنه".
"من غير أن يكون ذلك دخيلا عليه"
وقد قام الدكتور علي بو ملحم الذي قدم للكتاب وشرحه مشكورا؛ بشرح ما ورد أعلاه على النحو التالي: "الموجودات الأرضية تمر من القوة إلى الفعل ولذا تكون ناقصة ثم تسعى نحو الكمال. وهذا السعي أو الترقي نحو الكمال يكون في طباع الموجود ولا يتم بتأثير خارجي".
لقد سبق الفارابي علماء ومفكري النهضة الأوربية بكثير، لكن أمته سارت في اتجاه معاكس.
من بوابة مماثلة عبرت أوروبا وقبل ثلاثة قرون ونيف إلى النهضة، يوم قال عقلها أن الإنسان مخلوق، لكن أفعاله من صنع يديه وإرادته(2)، وأن الدفاع عن الحرية والعدالة والمساواة، واجب الفرد والمجتمع.
ربما يمكن السماح للنفس ببعض التطاول فتقول: أن في واقعنا ظهور متكرر لحالة يدعي فيها شخص ما بأنه طبيب، وهو ذا صلة بعلوم الحدادة لا غير. ولحالة مرافقة لها، حيث يستغرب شخص ما تردي الواقع الصحي رغم وجود ذلك الطبيب الماهر. وثمة حشد من الشواهد على الفجوة الكبيرة بين الواقع وبين ما يدعي البعض أنه يمثله.
نعود لسؤال سبق؛ هل من كبير مشقة في الانتقال إلى: "من معرفتي أنير لك" و"من معرفتك تنير لي"؟
تفيد دروس الحياة بأن كل موجود (حتى الحيوان) لديه ما يعلمه للآخر، سواء كان هذا الآخر إنسانا أم حيوانا، ويتعلمه منه. وأن كل تعليم يقوم على قاعدة أن المعرفة تسيل باتجاه واحد هو غير عقلاني. بل وينافي شرط التطور، ويودي إلى الضعف والانحطاط، ويهدد في حالات متطرفة شرط البقاء (انهيار الإمبراطورية العثمانية). وثمة شبه إجماع على أن حالة متطرفة منه (العزل) كانت وراء انقراض إنسان النياندرتال. ولنا في مراقبة الحيوانات وما تبذله من جهود للتكيف مع حضارة الإنسان الراهنة وخصوصا منها تلك التي تعيش في المدن وضواحيها في إطار سعيها للبقاء درسا مهما (في أحد المطارات الحربية السورية وفي حرب تشرين1973، كانت القطط تسبق الجنود إلى الملجأ عندما يدوي صوت الإنذار من غارة جوية محتملة، وتكفي مراقبة سلوك الكلاب التي تحاول اجتياز الطرقات لندرك أنها تتحرز تقدما في تخفيض نسبة الخسائر بسبب السيارات العابرة).
في الجانب اللاهوتي؛ هناك إقرار بوجود سيلان معلوماتي من الذات الإلهية إلى المخلوقات وبالعكس، ففي القرآن الكريم غير دعوة لطلب العون من الله (الدعاء)، وقد قرأ بعض اللاهوتيين من أمثال "هارناك" في قول السيد المسيح "ادعوني أستجب لكم"، ليس فقط تدفق معلوماتي نحو مصدر العبارة، بل إيصال فكرة، قد تؤدي لفعل يقوم به الطرف الآخر. فعل لا يمكن لبشري أن يجزم بأنه كان سيحصل من غير الدعاء. وفي ذلك ملمح من ملامح التعلم.
نستطيع القول: أن الحالات المتطرفة أو المغالية، التي ألغت التبادلية المعلوماتية المباشرة بين الله وبين من يؤمنون به، وخصت بها النخب؛ هي من نفس طبيعة التطرف الراهن للعديد من الشركات العملاقة التي حولت معظم البشر إلى رقاقة اليكترونية تتلقى التعليمات، وإلى نبع تمتص منه الطاقة ولا تعطى إليه. حالات تعبر وبجلاء عن طبيعة حضارة احتوت الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والماركسية والوجودية، وكل آخر؛ كما لو أنها ثقب أسود. وهي (حضارة المركز) وإن كانت قد عاشت فترة انتعاش فكري في سبعينات القرن العشرين، عندما عبرت لحظة حيرة وشك أمام ناظري العلمانيين، بسبب الثقب الأسود. الذي بدا ولفترة؛ كممتص (آخذ) لكل شيء حتى الضوء (سيلان للطاقة وللمادة في اتجاه وحيد). متيحا الفرصة لكهنة لحضارة المركز، ولو من خلال حالة شاذة، للادعاء بأنها التمثيل الطبيعي للوجود. وبقي الحال كذلك إلى أن برهن حامل النوبل في الفيزياء، ستيفن هوكينك أن الثقب الأسود يتعرق (سيلان بالاتجاه المعاكس)، وأخيرا ينفجر.
ونستطيع القول أن ملامح ظهور "هوكينك" في العقل البشري الجمعي بدأت تتشكل. عقل يرفض سيادة الشاذ على ما هو طبيعي؛ يحفزه قلق عارم على بيئة موطنه (الكرة الأرضية) وعلى شروط بقاء جنسه.
تقلصت نقاط الخلاف الرئيسة بين المنهجين العلماني واللاهوتي على الصعيد العالمي، وقد عبر بابا الفاتيكان عن ذلك، ورحب به؛ في مؤتمر للفيزيائيين عقد بدعوة منه في الفاتيكان عام 1988، وبكلمة منه أجازت لهم البحث في كل ما تلا لحظة الانفجار الأعظم (البنج بانج)، أما اللحظة ذاتها فهي من شأن الله وحده.
باتت الخلافات في العالم الغربي، "المسيحي-العلماني"، محصورة وعلى وجه التقريب في وجود استثناء رئيس يصر عليه اللاهوتي؛ هو ذات الله، وآخر يصر عليه العلماني؛ هو رفض القبول بوجود أي استثناء. فبعد استماع هوكينك لكلمة البابا، قال لنفسه "ولدت يوم ولد جاليلي، وأعد البابا بأنني سأبحث في الانفجار الأعظم، ولن أخذل ذكرى جاليلي"، ثم وثق الخاطرة في كتابه "تاريخ موجز للزمان".
صحيح أن بابا الفاتيكان الحالي (2010) قد تراجع عن موقف سلفه مع الفيزيائيين في المحاضرة التي ألقاها في جامعة رغنسبورغ الألمانية، وحملت عنوان "العقل والإيمان"، وهاجم فيها ما دعاه "العقل العلمي الحديث" طالباً من ذلك العقل "الانكفاء كي لا يسيء إلى ثقافات العالم المتدينة بأعمق قناعاتها"، فهو حسب رأي المحاضر "عقل أصم عن صوت الآلوهية وبعيد عن الدين". ولذلك طالبه بأن يقبل "الإصغاء إلى التجارب العظيمة، والأفكار في التقاليد الدينية للإنسانية، وتلك المتعلقة بالإيمان المسيحي خصوصاً كمصدر للمعرفة".
كما هاجم المرحلة الثانية من محاولات تقويض الركن الإغريقي في المسيحية والتي قادها "أدولف فون هارناك" من داخل الكنيسة في القرنيين التاسع عشر والعشرين. والتي ترتكز على قول باسكال: " بأن إله الفلاسفة هو غير إله إبراهيم واسحق ويعقوب". وفكرة "هارناك" كما ساقها البابا في محاضرته هي: "العودة إلى يسوع الإنسان وإلى رسالته البسيطة، إلى ما قبل الهيلينية". وهدف هارناك هو: "إعادة المسيحية إلى التناغم مع العقل الحديث عبر تحريرها من الفلسفة واللاهوتية على غرار الإيمان بإلوهية المسيح وبالثالوث الإلهي". قطع الغرب كل تلك المسافات في فضاء التواصل والحوار والتشابك، وما زال التواصل بين العلماني واللاهوتي في العالم العربي مشكلة كبيرة.
نعود وللمرة الثالثة للسؤال حول مشقة تبادل الإنارة المعرفية لنقول: أجل هناك غير مشقة، فغالبا ستقول معظم النخب العربية السياسية، يمينا ويسارا (اصطلاحا)، بأنها هي من نادت بالاستفادة من دروس الحياة وبتبادلية نيرة للمعرفة، وأنها أكدت ومنذ زمن طويل أن ذلك أكرم، وأن قيامة الأمة أو المجتمع ترتبط بذلك وبشكل وثيق.. الخ. لكنها وفي عشاء كل يوم ستعمل وباحتراف على أن يعاد الصلب وقبل طلوع الفجر.
على الأرجح لن يكون هناك من قيامة للمصلوب العربي والإسلامي، قبل أن يتطور الحشد البشري العربي والإسلامي إلى تشكيلات مجتمعية مدنية تنتزع كماً من السلطة، يؤمن الحد الأدنى من العيش الكريم، ويحمي الحريات المدنية.
كم ضاق أفق الحكمة عند العرب بسبب الانحطاط واستبداده؟ كم أهملت كنوز الحكمة التي دفع الأسلاف ثمنا غاليا لاقتنائها؟
* * * *
الهوامش
1- دور العنف في التاريخ: تأليف فردريك أنجلز. ص: 111
2- راجع البند الثالث منبحث "حضارة السؤال وحضارة الجواب" (على شبكة النت).
3- نص العهدة المحمدية:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين بشيراً ونذيراً ومؤتمناً على وديعة الله فى خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها، قريبها وبعيدها، فصيحها وعجميها، معروفها ومجهولها، كتاباً جعله لهم عهداً فمن نكث العهد الذى فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره كان لعهد الله ناكثاً، ولميثاقه ناقضاً، وبدينه مستهزئاً، وللّعنة مستوجباً سلطاناً كان أو غيره من المسلمين المؤمنين:
- لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سايح من سياحته ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ولا يدخل شئ من بناء كنايسهم فى بناء مسجد ولا فى منازل المسلمين فمن فعل شئ من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله ولا يحمل على الرهبان والأساقفة.
-ولا من يتعبد جزيةً ولا غرامة وأنا أحفظ ذمتهم أين ما كانوا من بر أو بحر فى المشرق والمغرب والشمال والجنوب.
-وهم فى ذمتى وميثاقى وأمانى من كل مكروه ولا يجادلوا إلاّ بالتى هى أحسن ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا.
- ويعاونوا على مرمّة بيعهم وصوامعهم ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد
وكتب علي بن ابى طالب هذا العهد بخطه فى مسجد النبى وشهد بهذا العهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- بالتوازي مع مقولة: "النظام السوري هو رأس كل إرهاب"، كرر رؤساء دول ومعارضون بارزون منذ بداية الأزمة وحتى تاريخه القول: "لا مكان للأسد في مرحلة انتقالية"، رغم كون الانتقالية مدخلا لكل حل سياسي مفترض بين السلطة والمعارضة. أزعم، هنا، أن ذلك الاصرار كان ثقافيا بالدرجة الأولى، هدف تثبيت قبول عقلي سوري جمعي غير مشروط بمعادلة لا يتساوى حدها الأول مع الثاني (مثال: 4+1= 6+2) كشرط لا بد منه لإيجاد مخرج للسوريين من جحيم العنف! اكراه للعقل مواز في سفوره لفتاوى ذبح جماعي(2)، وإصرار على تكريس الوصفة الاستعمارية التاريخية: العلاقة بين "فرايدي"(جمعة) الذي يدربه اللورد "روبنسون كروزو" ليغدو أهلا لأن يكون عبدا له. كذلك يتصرف نافذون في المملكة السعودية تجاه معظم اليد العاملة الأجنبية. كان يفترض بمن يحترم العقل السوري الجمعي أن يرفض تلك المعادلة المشوهة والتي هي نسخة بائسة وقذرة من مقولة أن "الائتلاف هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري "أسسها "أصدقاء سوريا" على قاعدة من التجاهل التام لشرعة حقوق الإنسان ولبنود ميثاق الامم المتحدة من أجل إلباس السوري مكرها قميص الدونية النفسية والمعرفية! التي احتلت اعادة انتاجها ودائما أحد اهم أولويات المستعمرين المفترسين والشموليين عموما.