تمثل الماركسية أحدّ اهم الاسس الفلسفية والانطولوجية والأخلاقية والتاريخية في فكر وفلسفة الأستاذ الدكتور حسام محي الدين الآلوسي (1936-2013). وعندما نتحدث هنا عن "الأساس الماركسي" فأنما نشير في الواقع الى مجموعة من الاشكالات المنهجية والأبستمولوجية/ والمنطقية والثقافية التي لطالما شغلت فكر الفيلسوف الالوسي، وكرس لها العديد من المؤلفات والبحوث الفلسفية غلب عليها جميعا ما يعرف بـ"الماركسية الاساساتية/ والمعيارية" والتي تمثل في واقع الامر مقدمة اولية وطبيعية للنزعة الماركسية الأرثوذكسية ذات الطابع الميتافيزيقي الكلي/ والمطلق.
وفي محاولتنا هذه، سنعمد الى مساءلة اشكالية الفلسفة المادية/ والفلسفة الماركسية عند الآلوسي. وربما قد يلحظ المتتبع لأدبيات الآلوسي كيف تم استبعاد هذه الاشكالية عن دوائر القراءة والنقد والتأويل والتحليل، والذي ساهم وبشكل كبير في تضخم منطق صلاحية validity ماركسية الآلوسي من جهة ومنهجه المادي التاريخي من جهة أخرى. بالطريقة التي أدت الى عملية افراغ الماركسية من منطقها الجدلي/ والثقافي الى الحد الذي جرى فيه تغييبه من طروحات الالوسي الفلسفية والأخلاقية، لدرجة يصعب فيها التمييز بين الثقافي/ والماركسي/ والايديولوجي/ والتاريخي في فلسفة الالوسي الماركسية. ربما هذا ما سوف يقودنا الى الاستنتاج التالي وهو ان هذا الشكل من اشكال الماركسية المطروحة يمثل مرحلة "ماقبل الماركسية" وذلك لسيادة وسيطرة "ميتافيزيقا القوانين التاريخانية" التي أدت الى "نسيان وجود تاريخ الماركسية في العالم". فالحديث عن الماركسية لا يشير بالضرورة الى معنى "كينونة وجودها الحقيقي" والامر شبيه بما حصل مع الفيلسوف مارتن هيدغر عندما أشار الى ان جميع الفلاسفة القدماء تكلموا عن الوجود لكنهم في الواقع كانوا يتكلمون عن نسيان الوجود، لأفراطهم في تجريده وتعاليه وتحويله الى مجموعة من الاطر العقلانية والتاريخية المجردة historicals abstractions والقوانين الحتمية المطلقة التي تقع خارج الوجود والدازاين الأصلي الذي تناط به مهمة سؤال الوجود التاريخي المتحول.
لذلك، علينا ان نميز بين شكلين من اشكال الماركسية: الأول يمثل "ماركسية ماقبل الفهم والتأويل"؛ والأخر "ماركسية مابعد البراكسيس والفهم والتأويل". حيث يمكننا ان نشخص في مرحلة الـ "ما بعد" في الخطاب الماركسي استعادة لمنطق الافعال الذي كان: «متطابقا مع رغبات المطلق التاريخي historical absolute المتحرك ضمن إطار الحتمية المنحدرة عن المطلق»(1). وبهذا التصنيف لفلسفة الماركسية الى ماقبل/ وما بعد، نتمكن من الاحاطة النقدية لمجمل الإشكالات الأخلاقية والقيمية، ومن ثمة، البحث في تاريخية مختلف الظواهر الاجتماعية واعادة التفكير في جينالوجيا أنظمتها الاعتقادية والمعرفية والقانونية واصل الاحكام الدينية والأخلاقية. لذلك تعتبر فلسفة الاخلاق جزء لا يتجزأ عن برادايم العلوم الإنسانية/ التأويلية التي تسعى الى إعادة تفكيك ونقد سلطة المطلق power of absolute التي تحولت الى "اساسات وايديولوجيات" قارة وثابتة في بنية أنظمة العقائد الاجتماعية والأخلاقية كافة. بمعنى آخر، ان ما تسعى اليه علوم الأنسان التأويلية هو إعادة اكتشاف علم الأنطولوجيا الاجتماعية social ontology بعدما تمأسس وحُجب بنظام الأنطولوجيا الأولية او الأساسية ontological primacyالتي تحتل الصدارة في بنية القوانين العلموية والوضعية والنظرية المجردة التي تقودنا بالضرورة الى مفهوم اختزالي monistic concept للوجود والواقع يسعى الى الحفاظ على استمرار خاصية النزعة الارثوذكسية للوجود والعالم التي تتخطى كل تأويل وتحليل، بسبب: «سيطرة النظرية/ التجريدية المتعالية على الواقع بواسطة مجموعة من القوانين العلموية الصارمة التي تتصف على الدوام بكونها مفارقة ومتضمنة في بنية الواقع على حد سواء»(2).
من هنا، يمكننا القول انه من الصعوبة بمكان ان يتم اختزال دراسة الاخلاق وتحليل فلسفتها ونظامها المنطقي/ واللساني بجملة من "النظريات الحتمية" التي تنطلق من مجموعة من القوانين والقواعد ذات الصلاحية الدائمة validity التي قد تتحول بدورها الى عقائد وايديولوجيات أكثر من كونها قوانين علمية تفسر حركة المجتمع في التاريخ. وهذا ما يستدعي قراءة تحليلية/ أولية لكتاب الآلوسي الموسوم بـ "التطور والنسبية في الاخلاق" حيث يمكن ان نعد هذا الكتاب بمثابة الانجيل التطبيقي "لعلوم الطبيعة في التاريخ والأخلاق" انطلاقا من الفلسفة الماركسية التي شكلت فيه "نظام الأنظمة" المتحكم في شرح وتحليل نظريات الأخلاق وتاريخ الاحكام الأخلاقية ضمن حركة الطبيعة والمجتمع والتاريخ.
وقد يلحظ المتأمل في فصول هذا الكتاب ان هناك شبه سيطرة "لمنطق لغوي استدلالي" في تفسير المجتمع والتاريخ بواسطة قوانين المادية التاريخية/والمادية الجدلية، وبالشكل الذي حول هذه القوانين وتحت يافطة "فلسفة الماركسية" الى ميتافيزيقا مطلقة تتضمن على مبادئ متعالية وسابقة على بنية ونظام الاخلاق من جهة؛ وعلى المنطق الذي يتحكم بنظام ووظائف الاخلاق تبعا للإطار الثقافي المتبدل من مجتمع الى آخر من جهة أخرى. وهذا ما جعل من ماركسية كتاب "التطور والنسبية في الاخلاق" مماثلة لـ"اللاهوت الوضعي والطبيعي" الذي ينطلق من مبادئ ومسلمات مطلقة وينتهي بقوانين ثابتة ومؤَسسة، بالطريقة التي أدت الى وقوع هذه الماركسية تحت سلطة النزعة الوضعانية objectivism المطلقة التي حولت الاخلاق الى كينونة –أي كشيء من الأشياء الثابتة في العالم وتجريدها من صفة الوجود والدازاين في العالم– وذلك لانشغال هذه النزعة بكيفية فرض قوانينها وتطبيقها على التاريخ بطريقة مجردة وكلية، أكثر من انشغالها على "وجود الجماعات" الاثنية وتحليل أنظمتها العصبوية. وذلك لغرض انجاز عملية من البحث والتحقيق والتحري inquiry في جينالوجيا الاحكام الأخلاقيةmoral judgments التي شكلت أنظمتها اللغوية وعاداتها اللسانية وكينونة تواصلها/واتصالها بالعالم التي أصبحت ثابتة ومطلقة هي الاخرى.
ومن هنا، يصبح من المتعذر على خطاب الفلسفة الماركسية الذي تم اعتماده في مؤلف الالوسي الانف الذكر، ان يعيد في المقام الأول مساءلة النزعة الوضعانية ومناهج/ ومنطق العلوم الطبيعية الصارمة. وذلك يعود في أحد اهم أسبابه الى طبيعة منهجية الفلسفة الماركسية التي شكلت رؤية الوجود والتاريخ والعالم في مصنف الالوسي تنتمي الى الصنف الكلاسيكي/ التقليدي للماركسية والتي اهم ما يميزها هو سيطرة النزعة الارثوذكسية ذات البعد الواحدي في تفسير التاريخ والوجود الاجتماعي والثقافي. وقد انعكست آثار هذه النزعة على الاسلوبيات اللغوية المعتمدة في وصف وتحليل بنية وتاريخ الاخلاق والتي تحول فيها الانسان الى مجرد كائن عام general object يكاد ان يكون خارج الوجود واخلاقيات الدازاين في العالم. لان القوانين الطبيعية الحتمية تفكر في كل شيء الا في حقيقة الوجود والدازاين. لذا يمكننا القول إن شكل الفلسفة الماركسية التي اعتمدها الالوسي في مصنفه السابق الذكر، لم تكن راديكالية بما يكفي لمساءلة جينالوجيا الاخلاق واصولها ووظائفها الضمنية والمعلنة. وهذا ما جعل قوانين الاخلاق تبدو منهمكة بدرجة كبيرة في عرض نظامها المطلق والكلي أكثر من انشغالها بأنطولوجيا الاخلاق اليومية في العالم التي لم يعد في الإمكان معها: «معالجة شيفرات الاخلاق والمعتقدات وفق منطق الصدق والكذب؛ او الصلاحية من عدمها. وذلك لأنها اصبحت تنتمي الى لحظة تاريخية محددة تعبر عن مصالح فئة اجتماعية معينة وفي ظل هذا السياق فحسب يجري فهم وتقويم تلك الاخلاق»(3). وهذا ما يجعل من الصعوبة في مكان الخلط بين الماركسية التقليدية حيث الوجود/ والدازاين يتموضعان فيها ضمن قوانينها الطبيعية والمطلقة؛ وبين الماركسية التأويلية/ البراكسيسية التي تعيد الاعتبار الى المتكلم وعلاقته بالمنظومات اللغوية والسيمائية والدلالية والأخلاقية التي يتشكل من خلالها، وذلك لان الماركسية هنا: «لم تعد تعني دراسة المجتمع من خلال وضع مجموعة من المبادئ الأخلاقية العامة، وإنما أصبحت نظرية تعمل على دراسة "قوانين حركته" التي تتحكم في مجمل قوانين التغير الاجتماعي»(4).
اضف الى ذلك، اننا نلاحظ ان كتاب الالوسي ورغم طرحه لجملة من الإشكالات الفلسفية والأبستمولوجية والأيديولوجية، إلا انه لم يعمد الى تحليل هذه الإشكالات ونقدها وبما ينسجم وواقع تحول فلسفة الاخلاق ونظرياتها المتباينة من جهة؛ وفلسفة الماركسية التقليدية من جهة أخرى. هذه الفلسفة التي كانت السبب في الحفاظ على الطابع المعياري والوضعي في طرح فلسفات الاخلاق والقيم لدى الالوسي. وهي قضية إشكالية تتعلق بـ "فلاسفة المادية التاريخية" الذين جرى التمركز على طروحاتهم في مؤلف الالوسي، وهم اغلبهم ممن يحسبون على الماركسية السوفيتية الرسمية/ والارثوذكسية: «التي جرى محاولة إضفاء شكل من اشكال السستمة الآلية من خلال الترويج لها تحت مسمى المادية التاريخية دون ان يكون لها علاقة مباشرة بالفكر الماركسي الاصيل للفيلسوف ماركس نفسه...لتأخذ مسارا آخرا مع فلاسفة المادية التاريخية dialectical materialism امثال انجلز وبليخانوف ولينين وستالين»(5).
وهذا ما يتضح للمتتبع لمصنف الالوسي (التطور والنسبية في الاخلاق) منذ بداية صفحاته الأولى التي أشار فيها الى الاطار العام للمنهج الماركسي الذي استند فيه على فلاسفة المادية التاريخية الذين جئنا على ذكرهم أعلاه. وهم كما هو معروف لم يأخذوا على عاتقهم مهمة قراءة وتأويل "المادية التاريخية" بل على العكس، حولوها الى "مادية لاهوتية لاتاريخية". علاوة على ان اغلبهم لم يكن لهم تواصل ابستمولوجي وفلسفي مع كتابات ونصوص ماركس نفسه. وقد اثر ذلك بالضرورة على عملية توضيح وتعريف فلسفة الاخلاق ونظامها وتاريخها في مصنف الالوسي، سيما وانه لم يولِ أي أهمية تذكر لمخطوطات الشباب لماركس 1844 التي تتضمن على أسس وجينالوجيا نظريات الاخلاق. وربما يقع في مقدمتها مفهوم اغتراب الذات عن عالمها وعن قيمها السائدة جراء تاريخ الاستلاب والقهر المادي والذهني الطويل الذي تتعرض له نتيجة لسيطرة اخلاق الطبقة البرجوازية على اخلاق طبقة البروليتاريا. وهذا ما شكل اهم العوائق امام كتاب الالوسي لان ينتقل الى مرحلة نقد وتحليل الخطاب والثقافة والأيديولوجية التي تشكل بنية منطق الأوامر والنواهي الأخلاقية في منظومة السلطة الاجتماعية والسوسيو ثقافية العامة. وهذا يعود أيضا في احد اهم أسبابه الى عدم الرجوع الى كتاب ماركس "الأيديولوجية الألمانية" 1846.
اذن كيف يمكننا بعد كل ذلك، ان نعيد تأويل مفهوم النسبية عند الالوسي في ظل سيادة القوانين البايولوجية والطبيعية والحتمية؟ واذا كان لمفهوم "الاخلاق النسبية" في كتاب الالوسي، ثمة حضور ودلالة، فلماذا اذن لم يتم التوقف عند جينالوجيا هذا المفهوم الحيوي والتحولات الحاصلة له على المستويات الانطولوجية والابستمولوجية مع مفاهيم افلاطون حول العقلانية والميتافيزيقيا المطلقة؟ ولماذا لم يتم تسليط الضوء على تاريخ جينالوجيا الصراع القيمي والأخلاقي في تاريخ الفلسفة اليونانية بين كل من الافلاطونية والسفسطائية والسقراطية والارسطية؟ فأذا كان كتاب الالوسي بني على أسس المادية التاريخية والتطورية البايولوجية، فما قيمة مفهوم النسبية اذن؟ فهل حاول الالوسي ان يعقد مماثلة بين التطورية البايولوجية والنسبية الاخلاقية؟
يبدو ان مفهوم النسبية في مؤلف الالوسي ظل يميل الى مفهوم سقراط في النسبية وهي ما تعرف بـ "النسبية المتعالية" relatively transcendental. والمعروف ان هذا المفهوم كان يقف بالضد من مفهوم السفسطائية حول نسبية الاخلاق/والأخلاق النسبية التي تتجاوز الابعاد العقلانية والمتعالية والميتافيزيقية. لهذا فالنسبية عندهم كانت تعني هنا بـ "نسبة الى" relative to أي نسبة الى الثقافة والخطاب واللغة والسياق التاريخي للأخلاق. فالمفهوم الأول للنسبية يؤسس لعقلانية أخلاقية مطلقة وبالتالي للنزعة الوضعانيةobjectivism في الاخلاق؛ اما المفهوم الآخر فيؤسس "لأخلاق متحولة ومتغيرة" variability متحررة من سلطة الصلاحية الوضعانية objective validity. لذلك يتداخل مع "الاخلاق المتحولة" كل من البلاغي والحجاجي والانفعالي "الباثوس" pathos وهذه الجوانب تم استبعادها تماما جراء سيطرة ايديولوجيا الاخلاق المعيارية التي تعلي من مفاهيم الحقيقة الكاملة والعقلنة الافلاطونية المقدسة.
وللأسف الشديد غابت هذه المقاربات في كتاب الالوسي، على الرغم من رجوعه الى اقدم موسوعة في الاخلاق تقريبا لـ" westmark" والتي أشارت الى مجمل هذه المقاربات. الا ان تركيز الالوسي كان متجها نحو تاريخ الاخلاق الطبيعي والبايولوجي والتطوري ومبادئ الاخلاق العامة universal moral principles في المجتمع اكثر من توجهه الى نقد هذه المبادئ ونظامها المنطقي والفلسفي القار في بنيتها الداخلية والخارجية. وهذا ما سوف نحاول الاشتغال عليه في كتاب الالوسي من خلال رصد اثريات الأيديولوجية والادلجة المتضمنة في كل من: بنية المراجع والمصادر والمفاهيم والمصطلحات نفسها؛ وبنية الفلسفة الماركسية نفسها؛ وبنية فلسفة الاخلاق نفسها؛ وبنية ووظائف وتاريخ الأيديولوجيا نفسها؛ وبنية المناهج والنظريات نفسها.
مفهوم نسبية الاخلاق: بين أيديولوجيا الانعكاس وبلاغة البنية الفوقية
ان إشكالية الاخلاق في النظام الفلسفي المادي لمؤلف الالوسي "التطور والنسبية في الاخلاق" تكمن في ارتباطها أي الاخلاق برؤية ماركسية تقليدية، لم تأخذ بنظر الاعتبار علاقة الأيديولوجية "ببلاغة البنية الفوقية" وخطاباتها الراكدة المتكونة من الأوامر الاخلاقية وانظمتها الاعتقادية وتاريخ شيفراتها ورموزها الثقافية وطرائق التفكير والادراك المؤدلجة، الى جانب الاطر القانونية والتشريعية والدينية المتضمنة في بنية هذه الأوامر الاخلاقية... الخ. لذلك ظلت العلاقة إشكالية بين كل من: الايديولوجية وبلاغة البنية الفوقية وسياسة انتاج القول الاخلاقي. ربما هذا يعود في أحد اهم اسبابه، الى تبنى الالوسي لماركسية تقليدية منغلقة على اصولها ومبادئها ومناهجها، أي "الماركسية الميكانيكية"، التي تجعل من العامل الأقتصادوي هو العامل الوحيد، المحدد والمحرك للتاريخ ولمختلف الفعاليات الإنسانية القيمية والاخلاقية والعقلية والسيكولوجية واللسانية. وبالتالي أصبحت مجمل تلك الفعاليات الانسانية في كتابه مجرد ملحق ثانوي يمثل انعكاسا طبيعيا وضروري للبنية التحتية التي تحدد ظهور ووظائف البنية الفوقية، لاسيما فيما يخص نظرية الأيديولوجية. وهذا ما ساهم بشكل كبير في اضفاء رؤية ضبابية لمفهوم "الأيديولوجيا" فتارة يمثل مؤسسات الدولة المسيطرة، وتارة أخرى نراه يمثل المؤسسات الحقوقية والأخلاقية التي هي في حقيقتها تمثل "البنية الفوقية" والتي لم تشهد أي وجود واستقلال -في نص الآلوسي-عن تبعيتها الميكانيكية للبنية التحتية، لان كل من: «البناء التحتي والفوقي مرتبط بمفهوم التشكيلة الاجتماعية. ان القاعدة تحدد الصفة النوعية لكل تشكيلة اقتصادية اجتماعية، وبهذا فهي تفصل التشكيلة الطبقية، او المشاعية عن العبودية، اما البنيان الفوقي فهو يحدد خصائص الحياة الروحية والاجتماعية لكل تشكيلة اجتماعية. ويشتمل البنيان الفوقي على الايديولوجيا التي تخدم في تثبيت او هدم العلاقات الاقتصادية القائمة وفي حل القضايا الاجتماعية المماثلة، وتظهر الأيديولوجيا منذ ظهور المجتمع الطبقي مشتملة على النظرات السياسية والحقوقية والدينية والفلسفية والأخلاقية والجمالية. وفي كل تشكيلة اجتماعية طبيعية تتكون ايديولوجيا للطبقة المسيطرة، وتملك الطبقة المسيطرة وسائل انتاج ونشر هذه الأيديولوجيا، كالمطابع والمدارس ووسائل الدعاية. الخ. كذلك يشتمل البنيان الفوقي على المشاعر والميول السيكولوجية الاجتماعية. ان كلا من هذه وتلك انعكاس للعلاقات الاقتصادية القائمة... وإذا كانت العلاقات الأيديولوجية تحدد بالعلاقات الاقتصادية، فأنها تتمثل في مؤسسات ومنظمات شتى وذلك في المجتمع الطبقي، الحكومة والمؤسسات القانونية والأحزاب السياسية والاتحادات المهنية والدينية والثقافية والعلمية الخ»(6).
وهذا بالضبط ما جعل الآلوسي يستخلص نظريته في الأخلاق التي هي تحصيل حاصل وتوتولوجي لسيطرة البنية المادية التحتية، فيقول: «مما تقدم يتبين، ان معنى القول باجتماعية الأخلاق هو انها انعكاس للمجتمع، ولكن ما المقصود بالضبط من هذا؟ يتكون المجتمع من قسمين: الجانب المادي المتمثل في نوع الاقتصاد، وحالة قوى الإنتاج وشكل وسائل الانتاج، ونمط العلاقات الانتاجية-الاجتماعية، وكل ما يتصل بهذا من عمران ومواصلات. والقسم الثاني هو الجانب المعنوي او الروحي او الفكري متمثلا في الأساطير والاعتقادات والافكار والعادات والأعراف والاخلاق والقواعد القانونية والفنون. ونحن نذهب الى ان كل الدلائل تدل على ان الجانب الثاني او ما يسمى بالبناء الفوقي ينبع من ويقوم على اساس الأول أي البناء التحتي او المادي»(7).
من النص أعلاه، يتضح لنا كيف جرى التعامل مع مفهوم الايديولوجيا والأخلاق والاطر العقائدية وممارسات العادات والقيم والأخلاق اليومية بشكل منفصل تماما عن النظام الذهني/ والادراكي للذات الإنسانية. وذلك نتيجة لسيادة شكل وضعاني للأيديولوجيا ذو اتجاه واحد يفكر من خلال القوانين وعلاقات الإنتاج وما شابه، ولا يفكر من خلال الخطاب واللغة والسلطة. لهذا فأن مفهوم الاخلاق في ظل هذه الاشكال الثقافية ظل راكدا ولم يتحول الى سؤال اشكالي وفلسفي بل وابستمولوجي ومنطقي. وظهر هذا المفهوم وكأنه ترانستندالي/ متعال، حاله هنا حال مفاهيم: المجتمع؛ الطبقة؛ البروليتارية؛ البرجوازية التي ظهرت في مصنف الالوسي وكأنها "تجريد تاريخي". والملاحظ أيضا على طبيعة مفهوم الأيديولوجيا في كتاب الالوسي انه فصل بين الطبيعة والثقافة، وثقافة الانسان والتاريخ الطبيعي وبين الفرد والقيم وبين القيم نفسها والأنظمة التراتبية المسيطرة، وكأن مفهوم الاخلاق وفلسفة القيم تحيا في عزلة عن تاريخ "التراتبية الاجتماعية" hierarchical society الذي يمثل نتيجة طبيعية لاستمرار وبقاء الأشكال الأيديولوجية/ والقيمية القديمة الثابتة والراكدة التي تقع خارج منطق التاريخ والمساءلة الإشكالية، لتؤدي بالضرورة الى انتاج وإعادة انتاج "أجساد تراتبية/ تراتبية جسدية" hierarchical bodies مطواعة وخاضعة للأوامر. في ظل هذا الشكل التراتبي يغدو المجتمع مقهورا وبعيدا عن منطق الكلية التاريخية historical totally ليكون مغتربا كليا totally alien ومنحسرا ضمن هندسة القيم التراتبية الجديدة التي تمثلها أيديولوجيا الاخلاق البرجوازية المؤسسة لأخلاق الاعتياد والتآلف banality مع كل ماهو سلطوي. فلا يمكننا بعد الان ان نتحدث عن الطبقة البرجوازية على طريقة الماركسية الارثوذكسية، وكأنها مرحلة تاريخية لا يمت وجودها وتاريخها ببقاء اثريات القيم وأنظمة الاخلاق التقليدية التي أصبحت ميتافيزيقا متكاملة ومطلقة من القيّم والممارسات الأخلاقية التي تحدد ماهو الخير وماهو الشر وما الذي ينبغي عليك ان تفعله ought to be وما الذي ينبغي عليك ان لا تعمل به. هذا هو منطق القيم التراتبي/ السلطوي الذي بحسب وجهة نظر باكونين هو منطق يتشكل من: «مواقف وقيم المجتمع التراتبي التي لطالما كانت تمثل ضرورة تاريخية لوجود الشر في العالم على الدوام»(8). ونحن هنا نكاد ان نقترب الى تحقيق قطيعة ابستمولوجية وفلسفية بين مجتمع الاخلاق الطبيعي وبين مجتمع الاخلاق الايكولوجي social ecology الذي يشير الى: «قصة التراتبية في مجمل تحولاتها التي تتضمن على السرد التاريخي لمفهوم التراتبية واشكال سيطرتها المختلفة»(9).
وهنا تحديدا تكمن كبرى اشكالات الفلسفة الأخلاقية والمادية في كتاب الالوسي. حيث كان لغلبة منطق القوانين الطبيعية على منطق العلاقات الطبقية والثقافية والاجتماعية التي تتداخل فيما بينها آليات عمل الاحكام الأخلاقية والقيمية ونظام تمأسسها القهري والقسري المفروض على كينونة الاخلاق/ واخلاق الكينونة الثابتة والقارة في سرديات انطولوجيا الوجود البروليتاري اليومي التي ظلت منسية في ماركسية الالوسي التقليدية جراء سيطرة مبادئ البرجوازية الأولى/ الشكلانية السابقة والمسيطرة في كل عصر. لذلك ليس من المنطقي تحديد طبيعة البحث والتحري inquiry في فلسفة الاخلاق عند الالوسي ضمن "نزعة مادوية ضيقة" تتعامل مع مفاهيم القيم والأخلاق وفق منطق لا يختلف عن منطق علوم الطبيعة وقوانينها الالية. في الوقت الذي لم يعد في الإمكان دراسة مباحث القيم والأخلاق دون إعادة تأويل تاريخ علاقتها التراتبية مع الأنظمة اللسانية والسوسيو-ثقافية، خاصة ونحن نبحث هنا في منهجية التفسير المادي للقيم في مصنف الالوسي، وهذا يتطلب ان نضع الاخلاق في سياقاتها اللسانية والعلاماتية والثقافية.
من هنا، يمكننا التمييز بين شكلين من الاخلاق في مصنف الالوسي: الأول يتمثل في لسانيات البرجوازية ومنطق لغتها الشكلاني/ الاستدلالي/ الارشادي والوعظي حيث يتأسس على قاعدة لاتاريخية من القيم والأخلاق اي أنها قاعدة تقع خارج منطق استعمالات اللغة اليومية النسبي/ المتحول الذي يعتبر فائض عن حاجتها اللاتاريخية في الوقت الذي تلجأ الى هذا المنطق لغرض تبرير ممارساتها لتقنيات الحض والتأثير المباشر على انتاج الفعل والكلام والخطاب، حتى تحولت هي نفسها منتجا ومولدا لقواعد النحو generative grammar وللسانيات الاخلاق واللغة اليومية. واصبح تاريخها عبارة عن تاريخ توالد مستمر ولامتناهي لتلك البنية التي تحولت هي الأخرى الى بنية عائلية متحولة transitional family structure تتضمن على "مجمل القواعد والأنظمة الشكلانية اللاتاريخية" التي تحدد شكل العبارة ودلالة الكلمات وطرق تداولها اليومي، لغرض الوصول الى اعلى مستويات الدقة والانضباط في تاريخ اللسان واللغة الطبيعية. وهذا ما يتحقق بواسطة استعمالها: «للمنهج الانضباطي الذي يوجه السلوك نحو قيم ثابتة محددة مع الحفاظ على جوهر التمايز القيمي التراتبي بين الافراد»(10).
اما الشكل الآخر من الاخلاق فهو يتمثل في "بلاغة الاخلاق البروليتارية". واهم ما يميز هذه البلاغة هو ان نظام القيم فيها يتشكل من خلال الممارسات اليومية المتداولة في التعبير الشفوي عن الانفعالات verbalization of passions حيث يبدو: «العامل الحتمي والمؤثر هنا هو طبيعة الكلمات وانموذج اللغة المستعمل الذي لا يهتم بحجم العبارات المستخدمة، وإنما بمدى شدة التركيز على قيمة محددة تعبر عن ملمح من ملامح بنية اللغة التي تتوسط العلاقة بين التفكير والانفعال والشعور. فوجود اللغة في تلازم علائقي مع ما نرغب في التعبير عنه والتواصل به، وبالتالي فأن أسلوب بنية اللغة – اي الطريقة التي تتصل بواسطتها الكلمات والعبارات مع بعضها البعض- يعكس شكلا خاصا لحالة تمأسس الشعور والانفعال، ومن ثمة، لمختلف وسائل التفاعل والتأثير المشترك والاستجابة للوسط الخارجي»(11).
يمكننا القول اذن ان تاريخ فلسفة الاخلاق لا ينفصل عن تاريخ لغتها ومنطقها الأيديولوجي الذي تؤسس فيه منظومة قيم "البرجوازية الاستدلالية" الواضحة بذاتها وذات الصلاحية غير النافدة والتي تقع بمعزل عن تحولات الكون والفساد التاريخية والثقافية والسوسيو-ثقافية. وبالطبع ان ثقل هذه الاخلاق لا بد وان يقع على كاهل طبقة البروليتارية التي سعت على الدوام الى ان تستظل بمنطق تواصل براكسيسي/ براكسيس تواصلي communicative praxis بهدف مواجهة عقلانية الأنظمة البرجوازية وخطاباتها النظرية المتمركزة حول لوغوس الاخلاق المتعالي والماورائي الذي تحول الى قيم وشيفرات أخلاقية متضمنة بالضرورة في بنية الطبقة البروليتارية وتتحكم بمخيلتها الذهنية والادراكية واللسانية.
اذن لماذا لم تتم مساءلة منطق الاخلاق البرجوازي في مصنف الآلوسي؟ ولماذا تم الفصل بين: الاخلاق والايديولوجيا واللغة في ماركسية الالوسي؟ وهل هناك إمكانية لإنتاج احكام أخلاقية ومعايير قيمية بمعزل عن منطق اللغة والعلامات والشيفرات الاجتماعية المؤدلجة؟ وهل يمكن لتلك الاحكام الاخلاقية النسبية بالضرورة الانفصال عن الخطاب والسلطة وطرق التواصل اللغوي واللساني في انطولوجيا الحياة اليومية والسائدة؟ وهل هناك وجود للأخلاق بمعزل عن الادلجة والايديولوجيا؟ يبدو ان مفهوم الأيديولوجيا في مصنف الالوسي لم يظهر بوصفه خطاب ثقافي؛ لساني؛ لغوي، بل ظل في حالة من التداخل والتحول بين: السياسي؛ الحضاري؛ المادي/ الثقافي. دون ان يكون له ثمة تشخيص وتحليل نقدي واضح لعلاقته البنيوية مع نظام الأخلاق والقيم الاجتماعية السائدة، لان ماركسيته التي سار على منهجها كانت في تبعية لمنطق الانعكاس الحتمي للبنية المادية التحتية.
مفهوم الأيديولوجيا: من النظرية المادية للانعكاس إلى نظرية الايديولوجيا بوصفها خطاب لساني لغوي
يبدو ان سيطرة النظريات الحتمية كالمادوية والأقتصادوية في ماركسية الالوسي التقليدية وبشكل تكاملي على مجمل مفاصل "انطولوجيا الحياة الأجتماعية للوعي والفرد". كان له الأثر الكبير في انكفاء تلك الأنطولوجيا على بنيتها التقليدية وانفصالها عما يوجد في العالم الثقافي واللغوي الخارجي، فلا نلمح أي "أثر تواصلي واتصالي" سواء كان متمثلا في قنوات لغوية او انظمة علامات لسانية او حتى سياق ثقافي. لذلك أصبحت عملية "تشكيل الوعي" منفصلة ومستقلة تماما عن عالم الخطاب وتمفصلاته بين السلطوي والمعرفي والايديولوجي. وذلك بحسب "نظرية الانعكاس المادية" التي يظهر من خلالها: «"الذهن" أو "العقل" البشري ليس مستقلا عن الظروف الموضوعية التي تفرض نفسها عليه ودون أن يدري منها شيئا. فليست ارادة الناس هي التي تحدد بصورة اعتباطية العلاقات الاجتماعية، بل أن وعي الناس يحدده واقع المجتمع المادي الذي هم اعضاء فيه، وهذا المجتمع ليس نتيجة لا شيء، أنه مجموعة العلاقات التي تكونت لتؤمن للناس نضالا ينتصر على الطبيعة، وهي علاقات يحددها بالضرورة مستوى قوى الإنتاج التي يملكها الناس. وافكار الناس الاجتماعية هي انعكاس لهذا المجموع المعقد... ان حياة المجتمع المادية هي واقع موضوعي يستقل في وجوده عن ارادة الأنسان، بينما حياة المجتمع الفوقية او الفكرية هي انعكاس لهذا الواقع الموضوعي»(12).
يتضح من النص اعلاه، كيف تم عزل العقل الانساني ومنتجاته الذهنية والأخلاقية والعقائدية عن تكنولوجيا الخطاب واللغة والسلطة والمعرفة، وكل ذلك جرى بأسم "النزعة الموضوعانية". لذلك، حتى عندما تم تناول لغة القانون في الاخلاق في كتاب الألوسي، جرى طرحها هي الاخرى بمعزل عن بنيتها المنطقية والدلالية والعلاماتية، لتتحول بذلك الى مجرد "تمثلات مرآوية للكيان الاجتماعي السائد": «ان النواهي والأوامر علاقة بين طرفين، وقولي: لا تشرب معناه لا تشرب شيئا، ليس لك، أي شيئا لغيرك ولو لم يكن هناك انسان آخر لما كان لقولي معنى، ولو اراد رجل مثل روبنسن كروسو ان يحفظ حياته وهو في جزيرته المقفرة ففي وسعه أن يفعل ذلك أيضا، ومن الشطط أن تزعم أن احد السلوكين ملائم للأخلاق والآخر مخالف لها...ان "حي بن يقظان" بطل رواية ابن طفيل الفيلسوف الإسلامي، لا يمكن ان يكون غير حيوان اعجم، كما هو حال اشخاص وجدوا في غابات وربتهم حيوانات علما بأن ارسطو نفسه والذي يتأثر به ابن طفيل كثيرا في "تهذيب الأخلاق" يقول: "ان ذلك الذي لا يستطيع ان يعيش في المجتمع هو اما وحش او اله وهو ليس جزء من الدولة"»(13). هذا النص أوضح وبشكل جليّ غياب التحليل الفلسفي والاجتماعي للغة القانون التي تمكننا من اعادة قراءة وتأويل لغة الأخلاق وتفكيك مجمل منتجاتها الاجتماعية من وظائف وعلاقات تداولية تراتبية قائمة بين الفاعلين الاجتماعيين أنفسهم. لذلك لم يكن النص منشغلا في نقد لغة ومنطق "الواجب والأمر والطاعة" وعلاقتها بمنطق الخطاب/ والسلطة، بوصفها -أي تلك اللغة-تمثل «سلطة الأنا الاعلى للغة»(14).
وهذا الامر لا يدعو الى التعجب والدهشة، طالما سيطرت رؤية واحدية على لغة واسلوب كتاب "التطور والنسبية" في قراءة مجمل فلسفات اللغة وفلسفات التحليل المنطقي واللسانيات بشكل عام، ناهيك عن سيطرة نزعة انتقائية متمركزة على مجموعة من المصادر المراجع الماركسية التقليدية -ماركسية ماقبل التأويل-التي لم تأخذ بعين الاعتبار طوبولوجيا اللغة والخطاب ضمن خرائط فلسفات الاخلاق وتاريخ الأيديولوجيات، لأنها ماركسية ذات بعد واحد تعمل بمنطق احادي monist وليس تعددي pluralist. أضف الى انه من المعروف، ان معظم كُتاب تلك المراجع كانوا ينتمون الى ماركسيات ارثوذكسية لا تعترف بمجمل تاريخ تطورات فلسفات اللغة والسيمائية عامة وفلسفات اللغة والخطاب في الماركسية خاصة. لهذا تميزت اغلب قراءات هؤلاء الكتاب لتاريخ المنطق وفلسفات التحليل المنطقي بالنزعة التقليدية المتمركزة حول قواعد القيم الأخلاقية moral من جهة؛ وحول المنطق اللغوي والتحليلي من جهة أخرى. لذلك غاب عن كتاب الالوسي التمييز بين فلسفات التحليل الارثوذكسية (المعيارية) وفلسفات التحليل ما بعد المعيارية، وكان هناك حضورا للنزعة الوضعانية وسيطرة للمنطق الوضعي الميتافيزيقي، وهذا ما انعكس سلبا على تجاوز تاريخ القطائع الابستمولوجية الحاصل في فلسفات اللغة والمنطق التي أدت جميعها الى إعادة نقد واختبار منطق تلك الفلسفات الاحادي. فلم يعد في الإمكان معالجة وتناول فلسفة الاخلاق في هذه الفلسفات وفقا لمعيار واحد ومحدد كأن يكون معيار التجربة مثلا هو المقياس الأوحد والنهائي في التثبت العقلاني المنطقي من صواب او خطأ الفعل الأخلاقي. فعلى ما يبدو ان سلطة المنطق الاحادي الذي حكم بقبضته على الماركسية وحدد مسارها ضمن مقولات أصبحت لاتاريخية بسبب تحولها الى قوانين كلية وميتافزيقية، تكررت ايضا مع فلسفات اللغة والتحليل التي بدت وكأن منطق التجربة فيها هو العامل المحرك والمتحكم بحركة وصيرورة كل شيء في تاريخ الوجود والقيم الإنسانية، وهذا ما جعل من ماركسية الالوسي تظهر وكأنها مكتوبة بلغة ماركسية سوفيتية تعتبر كل الفلسفات التي تخرج عن منطق كُتابِها "التحريفيين" لا وجود ولا قيمة بل ولا اعتبار لها.
وهنا علينا ان نتساءل، كيف نظر الالوسي الى علاقة فلسفات اللغة والوضعية المنطقية بالأخلاق؟ وهل قدم قراءات جديدة لها؟ وهل نجح في تشكيل قطيعة ابستمولوجية ومنطقية مع هؤلاء الكتاب التحريفيون؟ يبدو ان أن الالوسي لم يحقق في مؤلفه (الاخلاق والنسبية) اختلافا وانعراجا عن لاهوت وشريعة الماركسية التلمودية. فوقع في نفس الخلط والالتباس المفاهيمي والاصطلاحي والفلسفي، فلم يتمكن من التمييز بين الاخلاق بوصفها نزعة معيارية؛ والأخلاق بوصفها نزعة علموية ومنطقية. حيث يقول: «أما الوضعية المنطقية وسائر فلسفات التحليل المنطقي فهي تستبعد الأخلاق المعيارية من نطاق العلم، وتقول ان قواعد الأخلاق لا يمكن التثبت منها أي من صحتها بالتجربة، وأنها لا تشير الى شيء موجود، انما هي عبارات لا تحتمل صدقا ولا كذبا، لأنها مجرد اوامر في صيغ لغوية او تعبيرات عن انفعالات نفسية، ومن هنا تعذر وصف الأحكام الخلقية بالصدق او الكذب، فهي كلام فارغ»(15). مما جعله يصل الى نتيجة استدلالية قطعية والحكم بالضرورة على موقف تلك الفلسفات من الاخلاق بكونه: «جزء من موقفها الفلسفي عموما من فكرة التقدم وإمكان التحقق من وجود العالم، وإمكان المعرفة عموما "انها تنكر وجود تطور تقدمي في العالم، او اي اتجاه او هدف في المجتمع والتاريخ، انها تنكر قدرتنا على معرفة جوهر الأشياء، وتقصر كل المعرفة الممكنة على الحقائق الخاصة وعلى العلائق بينها. كما انها تنكر عمليات التصير الضرورية والارتباطات اللازمة، ناظرة للعالم كمجرد مجموعة من الوقائع والاحداث الاقتصادية تكون فيها جميع العلائق خارجية، وكل شيء فيها يحدث بالصدفة"»(16).
من النص أعلاه، يتضح كيف ان مجمل الاحكام التي تشكلت في كتاب (التطور والنسبية في الاخلاق)، لم تمثل رؤية كاتبها الاصلي، بقدر ما كانت مجرد تمثل حتمي لمجموعة الاحكام الجاهزة التي شكلها "الآخر الايديولوجي القديم" والحادث لمجمل تمفصلات رؤى وافكار الالوسي. فمن الناحية المنهجية، كان الاعتماد الاساسي على مصدر ثانوي/ ايديولوجي وهو (كورنفورث) وبما يتفق والطروحات التقليدية للماركسية والمادية التاريخية، ادى بالضرورة الى تجاوز كبير لمجمل التطورات الحاصلة في فلسفات العلوم ولنظرية القطيعة الأبستمولوجية والثقافية في تاريخ الفلسفات الوضعية والتحليلية. فلو كانت جميع تلك الفلسفات قد انبثقت من فلسفة احادية حول الاخلاق والدين والفن والتاريخ والانسان واللغة...الخ، لما وجدنا هناك مراحل مبكرة ومتأخرة لكتابات فلاسفة اللغة والتحليل المنطقي والفلسفات الوجودية والفلسفات الذرائعية التي اظهرت ملامح نقدية جديدة للفلسفة الماركسية كما هو الحال عليه مع سارتر في كتابه (نقد العقل الجدلي) وميرلوبونتي في دراساته عن الماركسية واللغة وغيرهم من الفلاسفة. وهذا هو بالضبط ما يمثله تاريخ الخطاب الفلسفي، فهو تاريخ قطائع وتصحيح لمساره الفلسفي –بحسب باشلار-. من هنا نلاحظ كيف كان هناك حالة من التطابق القبلي بين المواقف التي مثلها كتاب (التطور والنسبية في الاخلاق) ومواقف كتاب (كورنفورث) واتضحت أكثر في استبعاد التحولات الابستمولوجية واللسانية الحاصلة في فلسفات اللغة والوضعية المنطقية، سيما المتداخل منها مع النظريات "الدلالية الثقافية"؛ و"نظريات الخطاب"، ونظريات "اللغة بوصفها فعل" لأوستن، ناهيك عن التجاوز على مجمل تحولات المنطق والتحليل المنطقي الشكلاني/ الرياضي للغة المتمركز حول بنية وتراكيب قواعد النحو للجملة والتي انعطفت في تحليلاتها اللغوية والمنطقية نحو بنية اللغة الطبيعية واليومية. فهل من المعقول ان يتم التعامل بطريقة متماثلة ونسقية مع فلسفة فتغنشتاين في مراحلها الوضعية التقليدية المبكرة خاصة تلك التي تشكلت مع مؤلفاته "الرسالة المنطقية" و"التراكتاتوس"، وعدم فصلها عن المراحل المتأخرة لفلسفة فتغنشتاين التي دشن فيها لانعراجات منطقية ولغوية تجسدت في كتابه " أبحاث فلسفية"؟، وهل من الانصاف ان يتم وضع هذا الفيلسوف الذي اعاد الاعتبار لوجود المتكلم اليومي ضمن سياقه الثقافي والاخلاقي، في سلة واحدة مع الفلاسفة الرجعيين بحسب تلمود كورنفورث؟ فبماذا يفسر كورنفورث اذن، اعتماد اغلب النظريات "اللسانية الاجتماعية وتحليل الخطاب الأجتماعي والثقافي النقدي" على كتابات فتغنشتاين المتأخرة تحديدا؟ وبماذا يفسر لنا ايضا، اعتماد مجمل تطورات العلوم الإنسانية والاجتماعية والانتربولوجية والسيكولوجية والدينية، على تلك الكتابات المتأخرة؟ فهل تستمر فاعلية صلاحية validity احكام كورنفورث الخمسينية التي شطرت الفلسفة الوضعية الى رجعية وتقدمية؟ وهل يستمر التعامل مع الأخلاق والفنون والدين والانفعالات بوصفها قضايا فارغة من المعنى؟ ولماذا كان هناك ثمة عزلة وانفصال بين كتاب (التطور والنسبية في الاخلاق) ونظرية الأهواء والانفعالات (passions) في الاخلاق ونظرية سوسيولوجيا بلاغة الاخلاق واخلاقيات البلاغة(17)، في الوقت الذي نجد فيه حالة من الانهماك في نظام فلسفة الاخلاق التطورية/ البايولوجية؟
كان لا بد وان تكون النتيجة الحتمية لسيادة "التأويل الرجعي" لفلسفة التحليل اللغوي والمنطقي هو بروز نظرة استعلائية تحط من قيمة كل ما يتعلق بمباحث الانفعالات والعواطف والمشاعر الانسانية وعلاقتها جميعا مع المتكلم "المغيّب هو الاخر من دائرة التأويل الرجعي للغة". ولهذا: «ارتبط "تحليل اللغة" للوضعيين المنطقيين -حسب الالوسي- برأيهم القائل بأن التقديرات الأدبية والأخلاقية من كل الأنواع هي تقديرات لا اساس علمي لها، ولا يمكن ان تخضع لأي محك للنقد العلمي، وهي بالتالي لا يمكن ان تعتبر اكثر من لغو عاطفي يعبر عن مجرد عواطف وافضليات الأفراد او الجماعات، او ربما كانت مجرد "اوامر ونواه" أي ليست تقديرات مسببة، بل مجرد نصائح يقصد منها التأثير على سلوك الأخرين، بالطرق التي تحقق رغائب فرد او قلة معينة»(18). اذن استنادا الى رؤية هذا النص، كيف يمكن تصنيف العمل الاخلاقي السياسي الوضعي المنطقي لكارل بوبر، الذي استطاع من خلاله تفكيك تاريخ منظومة الفلسفة الشمولية منذ افلاطون وحتى ماركس وهيجل، سيما في مؤلفه (المجتمع المفتوح واعداءه)؟ وهل يمكن ان نعد عمل فيلسوف حلقة فيينا للتحليل المنطقي مجرد لغو عاطفي فارغ؟ وهل مثلت مواقف برتراند راسل السياسية والثورية والأجتماعية، مجرد جعجعة برجوازية لم تأتِ بجديد لحركة التاريخ ونظامه الاخلاقي؟ وهل كانت طروحات جيلبرت رايل(19) في تخليص الوضعية المنطقية من سيطرة المنطق التقليدي الشكلاني الذي يقصي المتكلم وسياقه ايضا، لتنعرج بالتحليل المنطقي نحو تحليل "اللغة اليومية والعادية"، هي طروحات لا تخدم الفكر التقدمي ولا تؤسس لسوسيولوجيا الثورة في فلسفة الاخلاق؟ وهل يمكن ان نعد محاولات فيلسوف اكسفورد التحليلي ارنيست غيلنر(20) الرامية الى اعادة تأسيس فلسفة اللغة والتحليل المنطقي على اسس انتروبولوجية واجتماعية، محاولات خالية من المعنى والمغزى الاخلاقي؟
ويتواصل مشهد "القراءة الرجعية" ايضا، مع الفلسفات البراغماتية (الذرائعية) لا سيما في عملية السكوت عن الجوانب التقدمية والثقافية في تلك الفلسفات خاصة مع الاتجاه التداولي، التي لا يمكن لها الظهور بشكل جلي وواضح الا من خلال قراءات تأويلية جديدة تعتمد على النصوص الاصلية لتلك الفلسفات ومؤسسيها. فمثلا، عندما عرّج كتاب الآلوسي على ذكر فلسفة الاخلاق ومباحثها الاجتماعية في الفلسفة البراغماتية (الذرائعية)، نلحظ تكرار سياسة النزعة الانتقائية للمراجع المعتمدة في شرح وعرض الفلسفات الحديثة والمعاصرة. حسب طروحات وأساليب هذه المراجع الارثوذكسية، فلم نجد اي منهج تأويلي لفلسفة الاخلاق في النزعة البراغماتية (الذرائعية)، بوصفها فلسفة تشكل لسوسيولوجيا المعرفة وسوسيولوجيا التواصل اللغوي بين الذات المتكلمة والمجتمع والسياق الثقافي، التي تجسدت في مجملها في كتاب "جورج هربرت ميد" MIND, SELF, And SOCIETY، لاسيما وهو يعد من المؤسسين الأوائل لـ "سوسيولوجيا البلاغة التواصلية" و"علم التداولية التفاعلية الرمزية الاخلاقية". ناهيك عن قيمة طروحات كل من مؤسسي الفلسفة البراغماتية (الذرائعية) امثال وليم جيمس وتشارلس بيرس وجون ديوي وغيرهم. تُرى لماذا تم مصادرة الابعاد التداولية والتفاعلية الرمزية والاخلاق العملية والتي مع ارتباطها بمفهوم المسؤولية أصبحت تمثل فعلا اجتماعيا/ سياسيا/ ثقافيا؟ ولماذا لم يأتِ نص الالوسي على ذكر علاقة الفلسفة الوجودية بمباحث الاخلاق والسياسة لغرض تناولها بالدرس والنقد والتحليل، فلم نلحظ حضورا للوجودية بوصفها فلسفة البراكسيس الانساني والاخلاقي، كما هو الحال عليه عند "جان بول سارتر" خاصة، وفلسفةالوجود/ ومابعدالبنيوية الفرنسية عامة(21)؟
لذلك، علينا ان لا نصاب بالدهشة الفلسفية لغياب طروحات مجددي الخطاب الماركسي بشقيه البراكسيسي/ والابستمولوجي في كتاب الالوسي، خاصة اولئك الذين عملوا على اعادة لحمة التواصل بين الابحاث اللسانية الجديدة والخطاب الماركسي في مجمل تحولاته الدلالية واللسانية والثقافية/ الاجتماعية. وربما من أبرزهم الفيلسوف البولوني "آدم شاف" الذي عمد من خلال جميع مؤلفاته الفلسفية والسوسيولوجية الى جانب اعماله المنطقية واللسانية الى اعادة قراءة اللسانيات وفلسفة اللغة والمنطق في تاريخ الفلسفة الماركسية. فلم تعد اللغة -حسب رؤية شاف- مجرد انعكاس للبنية التحتية كما ظهرت في الماركسية التقليدية، بل تحولت اللغة الى منتج ثقافي ولساني وايديولوجي، ولا يمكن حصر ذلك المنتج ضمن نظرية احادية كنظرية الانعكاس ورؤية ضيقة كرؤية "ستالين"، بل ينبغي ان تساهم جميع العلوم الإنسانية من اجل الانعتاق من النزعة الأحادية monism. وهذا ما جعل شاف يؤكد على ضرورة «التعاون بين الحقول المعرفية المختلفة. لان الإشكالية اللسانية المطروحة تتسم بدرجة من التعقيد الذي يجعل منها نقطة محورية للتواصل بين العلوم الابستمولوجية المتعددة، كاللسانيات والمنطق والاثنولوجيا والسايكولوجيا وعلوم الطب، التي بدونها يعجز الفلاسفة أنفسهم عن تحليل الإشكالية اللسانية تحليلا ابستمولوجيا»(22).
بل والاكثر من ذلك، أصبح البحث في تاريخ العلاقات الاجتماعية للمجتمعات القديمة التي يُطلق عليها "خطأ" (المجتمعات البدائية) يمثل المادة الخام لمجمل المقاربات السوسيو-لسانية والسوسيو-ثقافية/ سياسية التي بواسطتها «نتمكن من ربط الإشكالية اللغوية مع كل من تاريخ وثقافة المجتمعات. فمن خلال ابحاث الانتروبولوجي الانجليزي مالينوفسكي -على سبيل المثال لا الحصر- في لسانيات المجتمعات البدائية، دُشنت ثورة منهجية في بنية تلك الإشكالية، فصار من غير الممكن ان نفهم بنية تلك اللسانيات بمعزل عن ممارساتهم الثقافية والطقوسية والدينية. وهذه الفرضية لازالت سارية المفعول، في درجة معينة، على بنية لسانياتنا في فضائنا الثقافي»(23). فهذا يعني أن طبيعة دراسة تلك المجتمعات اصبحت غير منفصلة عن دراسة بنية نظامها الثقافي الذي يتأسس على منظومة لسانية تعكس تصورات تلك المجتمعات لمجمل تمثلاتها لميتافيزيقا العالم. بمعنى آخر، أن النظام اللساني واللغوي هو احد اهمّ العناصر التي تُشكل وتُعيد تشكيل تصورات الوعي للعالم –بحسب آدم شاف-. فلذلك، اصبحت العلاقة متداخلة الى حد بعيد بين كل من الأيديولوجيا؛ واللغة؛ ونظام إنتاج التصورات والتمثيلات المتخيلة لبنية الواقع المادي والتاريخي، وهذا ما قد يفسر لنا إشكالية وجود بنية من القوانين الخاصة التي تعكس النظام الداخلي لعمل الأيديولوجيا، والتي اصبحت مستقلة ومتحررة الى حد كبير عن قوانين الانعكاس وأطرها الإنتاجية الميكانيكية التي تعتبر أن البنية الفوقية ليست أكثر من مجرد انعكاس حتمي وضروري للعامل الاقتصادي. فكان لزاما علينا ان نتساءل هنا، هل تبلورت نظرية جديدة في الأيديولوجيا في خطابنا الفلسفي عامة، والماركسي خاصة؟ وهل تشكلت علاقة ابستمولوجية بين كل من الايديولوجيا والفلسفة واللغة؟ فعندما جاء الالوسي على معالجة تاريخ المجتمعات البدائية والقديمة في كتابه (التطور والنسبية في الاخلاق) جرى طرح هذه الإشكالية بطريقة منفصلة تماما عن البرادايم اللساني الذي شكل نظامها الأسطوري والعقائدي. لكونه يرى: «إن دراسة المجتمعات البدائية تثبت لنا أن ظروف الإنتاج ...هي التي تقرر دائما شكل البناء الاجتماعي. وهذا لا يظهر في إدراك الأنسان، ولذا فأن معتقداته وعاداته لا تعكس الا بشكل غير مباشر وناقص الظروف الاقتصادية التي تحيط به. وعلاوة على ذلك فأنه يستبقي لمدة طويلة معتقداته وعاداته السابقة بالرغم من تغير الظروف الاقتصادية. ولذا فمن الخطأ محاولة تفسير -بشكل مباشر ومبسط– النظم والتقاليد والمعتقدات السائدة في مرحلة ما بالظروف الاقتصادية السائدة في تلك المرحلة» مؤكدا على «أنه كلما ابتعد الميدان الخاص موضوع البحث عن الميدان الاقتصادي واقترب من الأيديولوجيا المجردة الخالصة، زاد اكتشافنا للحوادث العرضية في تطوره، وزاد خط تطوره انحرافا»(24).
نلحظ من النص أعلاه، أن هناك ارهاصات اولية جادة في اعادة الاعتبار لمفهوم الأيديولوجيا، لتحرير هذا المفهوم من تبعيته لمركزية البنية التحتية، وثمة امكانية في تحوله الى "اشكالية ثقافية" قارة وثابتة في ذهنية المجتمع ومتخيلها القيمي واللاهوتي، مما كان في الامكان أن يُدشن لبداية جديدة لتداخل الفلسفي مع كل من السوسيو-لساني؛ والسوسيو-ابستمولوجي والسوسيو-ماركسي. لكن المنهجية الماركسية القطعية المعتمدة في الكتاب حالت دون تصيّر الامكان من القوة إلى الفعل، لتُعيدنا إلى اللوحة الخماسية لتطور الماركسية، وذلك عندما اكتمل النص أعلاه، بالنص الآتي: «ولكنك إذا رسمت المحور الوسطي لخط تطوره العام، سوف ترى بأن محور خطه يقترب أكثر فأكثر من موازاة محور المنحى العام للتطور الاقتصادي كلما زادت فترة المدة المدروسة واتسع نطاق الميدان المبحوث. وتتضح صحة هذا القول عندما ننظر الى المراحل الكبرى في مسار البشرية أعنى مرحلة الالتقاط فالزراعة فالأقطاع فالرأسمالية فالاشتراكية، فأننا نستطيع حينئذ تلمس انعكاس أساس المجتمع الاقتصادي-الاجتماعي في أفكار واخلاق كل فترة على حدة»(25).
مما سبق، يتبين ان مفهوم الأيديولوجيا ظل مفهوما "هيولاني الشكل". فلم يتبلور بوصفه نظرية جديدة للايديولوجيا من جانب، ولعلاقته ببلاغة البنية الفوقية والنظام الثقافي السائد من جانب اخر. فظهر كمفهوم ملتصق بحتمية ميتافيزيقية لنظرية الانعكاس التي اتخذت أكثر من قراءة وتأويل جديد فما: ((اسميناه "انعكاس لواقع معين" قد بدأ بالانفصال عن أصله "الواقع" حتى أصبح في اذهان الناس عالما آخر في استقلال تام عن قاعدته، ليعود بدوره إلى التأثير في هذا الأساس كقوى مجردة عاقلة. وباللغة الماركسية: استقلال البناء الفوقي في وعي البشر عن البناء التحتي، وعكس الأدوار في وعيهم.... الدين هنا أيديولوجيا، حسب تعريف ماركس ومن بعده مانهايم... وكل أيديولوجيا – لدى وجودها – تتطور انطلاقا من مادة التخيل الموجودة وتتابع صياغتها، وإلا فليست هي بإيديولوجيا. وهذا يعني الانشغال بالأفكار باعتبار انها كيانات مستقلة غير تابعة في تطورها، خاضعة لقوانينها الخاصة. في هذا لا يعي البشر الذين تدور في رؤوسهم عمليات الفكر هذه بالضرورة بأن ظروف حياتهم الخاصة هي التي تحدد مجرى هذه العمليات، لا يعون ذلك وإلا لما كانت هناك ايديولوجيا))(26).
نظرية الأيديولوجيا وتشكيل المتخيل اليومي: من اخلاق الأكاديمية المعيارية إلى لسانيات التواصل المنسية
يبدو ان طبيعة بنية الأيديولوجيا المتداخلة مع مجمل ممارسات الحياة اليومية وتحولاتها اللغوية واللسانية والثقافية، لا يمكن اختزالها في وصفات ميكانيكية جاهزة. لان هناك منطق "منظوري" يُشكل طبيعة ذلك التداخل، يتشظى بين أصغر وأدق مجهريات الحياة اليومية الواعية منها واللاواعية. ومثل تلك "الممارسات المنظورية" المنشطرة في بنية الحياة اليومية والقيمية لأنطولوجيا "الممارسة اللسانية والفعالية اللغوية"، يستحيل عليها أن تبقى رهينة المحبسين لعلاقة انعكاسية للبنية التحتية. في حين أن هذه العلاقة، هي في الواقع، علاقة استعارية أكثر مما هي حرفية أو حقيقية. ومن هنا، تتأتى ضرورة عملية فهم وتأويل العلاقة المتداخلة للأيديولوجيا مع الخطاب واللسانيات وفلسفة اللغة، فبواسطة هذا التأويل سوف تتوفر شروط "صدمة حداثوية" جديدة لزعزعة اسس التقليد الراسخة في بنية خطابنا الفلسفي، تلك الاسس التي طالما اقصت طروحات الآخر الغربي المختلف/ المغاير لمركزية الثقافة الغربية بذاتها، وربما من ابرز من عمل على تشكيل صدمة حداثوية/ فلسفية في تاريخ ابستمولوجيا اللسانيات واللغة، هم الفلاسفة: كورزبسكي وزينوفيف وفيغوتسكي(27) وغرامشي والتوسير وغيرهم ممن عمل على إعادة قراءة وتحليل ابستمولوجيا اللغة وعلاقتها بلسانيات الايديولوجيا وايديولوجيا يوميات الحياة العادية.
فعلى سبيل المثال، نجح التوسير في تحرير مفهوم الأيديولوجيا من سيطرة المفاهيم الوضعية عليها، فعد: ((نظرية الأيديولوجية المحللة في كتاب الأيديولوجيا الألمانية، نظرية "غير ماركسية" لأنها تقوم بصفة اساسية على علاقة الانعكاس المقلوبة بين البنية العليا والبنية السفلى، وعلى الوعي "الوهمي" أو "الزائف" وعلى التقابل بين الحقيقة والكذب... ان النظرية الماركسية "السليمة" عن الايديولوجيا هي تلك التي تختلف جذريا عن الأطروحة الوضعية والتاريخانية التي اتت بها الأيديولوجية الألمانية. انها في ايجاز: اولا: اعتبار الأيديولوجيا ممارسة اجتماعية، ثانيا: وأنها علاقة خيالية للناس بشروط وجودهم الاجتماعي، ثالثا: وانها خالدة، رابعا: وانها من حيث وظيفتها، تعترف بالواقع وتتجاهله في الوقت نفسه. أما ماذا يعني التوسير بمفهوم الممارسة؟ فهو يقصد به بصفة عامة كل عملية لتحويل مادة اولية معينة إلى انتاج معين، بواسطة عمل انساني معين، وباستعمال ادوات إنتاج معينة. وينبغي النظر الى الأيديولوجيا بوصفها مستوى خاصا للعمل والممارسة بالمعنى السابق لا يختلف عن باقي مستويات الممارسة الأجتماعية الأخرى. لأن اعتبار الأيديولوجيا ممارسة هو الشرط الذي لا غنى عنه لكل نظرية في الايديولوجيا ذلك لان كل ايديولوجيا، دينية كانت ام سياسية ام أخلاقية، هي ممارسة تعمل على تحويل موضوعها أي "وعي الناس". وبالتالي فالأيديولوجيا بحسب التوسير هي: «نسق -يملك دقة ومنطقا خاصا-من التمثلات (اخيلة، اساطير، أفكار، تصورات)، له وجود خاص، وله دور تاريخي في مجتمع ما». هناك اذن علاقة واقعية تربط الناس بظروف وجودهم المادي، وهناك علاقة أخرى خيالية تتحقق في مستوى الايديولوجيا، بواسطتها يحيا الناس العلاقة الأولى: أي أن الايديولوجيا تحول "وعي" الناس بواقعهم إلى وعي "خيالي". وهذا ما دعا التوسير الى القول في هذا الصدد: لا تمثل الأيديولوجيا في تشويهها الخيالي علاقات الإنتاج القائمة والعلاقات الأخرى المشتقة منها، ولكنها تمثل قبل كل شيء العلاقة الخيالية للأفراد بعلاقات الإنتاج. ليست الأيديولوجيا تمثلا لنظام العلاقات الواقعية التي تهيمن على وجود الناس، بل تمثل العلاقة الخيالية لهؤلاء الناس بالعلاقات الواقعية التي يحيونها ... ويحيا الناس ايديولوجياتهم، كعلاقة خيالية ونسق من التمثلات، غالبا بكيفية لا واعية حتى عندما تظهر في صور واعية أن الأيدولوجيا بنيات تفرض على الأغلبية من الناس بدون أن تمر بوعيهم»(28).
يتضح مما سبق، ان التوسير عمل على إحداث قطيعة ابستمولوجية مع نظرية الايديولوجيا، خاصة مع تلك التي تشكلت مع ظهور كتاب (الأيديولوجيا الالمانية) لماركس، واعتبرت «الأيديولوجية وعيا خاطئا ولثاما يكفي اماطته للكشف عن ظروف العيش الواقعية. ففي رأي هذه النظريات ليست الأيديولوجية الا تمثلا وهميا وانعكاسا منفعلا لا فعالا. وهذا يعني أن التمثلات الأيديولوجية عندها هي تمثلات وهمية خيالية ليس لها وجود واقعي ولا تتجسد في اجهزة معينة تتحكم في سير المجتمع وتكيّفه وتساهم في "إعادة علاقة إنتاج علاقات الإنتاج". هذه النظريات لا تعتبر ان الوهم لا يوجد في العلاقة التي تربط تلك التمثلات بالعلاقات الأجتماعية بل في التمثلات ذاتها. اهم هذه النظريات حسب التوسير هي التي جاءت في كتاب الأيديولوجية الالمانية. فعندما يقول هذا الكتاب بأن الاستلاب الفكري ناتج عن الاستلاب المادي فكأنما يفترض أن الأيديولوجية تعكس الواقع أي انها تعكس علاقات الناس الواقعية. يرد التوسير بأن الايديولوجية علاقة من الدرجة الثانية وهي لا تعكس العلاقات الحقيقية وانما هي علاقة وهمية بالعلاقات الحقيقية. هذا ما يؤكده بولانتزاس عندما يقول: "أن نظرية ماركس الشاب حول الأيديولوجية كانت تتمركز حول الذات. كان ماركس يتصور الأيديولوجية انطلاقا من النموذج ذات -واقع -استلاب. في الأيديولوجية تفقد الذات ماهيتها العينية، والايديولوجية هي اسقاط للذات في عالم وهمي". ذلك لأن الأيديولوجية من حيث هي مستوى من مستويات التشكيلات الأجتماعية، لا تردد صدى المستوى الاقتصادي»(29).
بمعنى آخر، اذا ما حاولنا أن نترجم مجمل ما تم طرحه أعلاه، بلغة اللسانيات والدراسات الأدبية والدراسات الثقافية، نجد أن مفهوم الايديولوجيا شغل أكثر من نظام ثقافي وقيمي واخلاقي، تداخلت فيه كل من الابعاد اللسانية؛ الاجتماعية؛ والمؤسسة الخيالية للمجتمع والسياسية (بحسب كاسترياديس). فحسب رؤية تيري ايغلتون أصبح مفهوم الأيديولوجيا يمثل نظرية جديدة للأخلاق، يتحدد حقلها المعرفي ونظام اشتغالها في البنية الاجتماعية استنادا الى الابعاد التأويلية الجديدة لعمل الأيديولوجيا في اللغة والثقافة والمجتمع وجسد الخطاب في السلطة. وبذلك أصبحت الأيديولوجيا -حسب ايغلتون- تمثل ما يلي: «هي عملية لإنتاج المعاني والعلامات والقيم الثقافية في الحياة الاجتماعية؛ وجسد الأفكار الذي يميز طبقة أو مجموعة اجتماعية معينة؛ والأفكار التي تساعد على تبرير شرعية السلطة السياسية الحاكمة؛ إضافة الى انها تمثل الأفكار الزائفة التي تساعد على تبرير شرعية الهيمنة للسلطة السياسية؛ وعملية التواصل المشوه بشكل منظم والذي يشكل العنصر الأساسي في منح الذات موقعا وكيانا؛ علاوة على انها تشير الى مجمل اشكال التفكير التي يتم تحفيزها بواسطة مختلف التوجهات والميول الاجتماعية؛ انها عملية التفكير الهوياتي بوصفه وهم من الأوهام الاجتماعية الضرورية؛ وهي اداة ربط بين الخطاب والسلطة؛ ووسيط يتمكن من خلاله الممثل الاجتماعي الواعي من تشكيل معنى لعالمه؛ بل هي الفعل الاجتماعي المُتحكم به ايديولوجيا والذي يؤسس عليه نسق متكامل من الاعتقادات؛ ويمكن ان ينتج عنه شكل من اشكال الالتباس اللساني كواقعة ظاهراتية تمثل تطابقا سيميائيا؛ يصبح هو القناة الرئيسية التي بواسطتها تتخارج الذوات عن علاقاتها الحقيقية نحو بنية اجتماعية وهمية تتحول من خلالها انطولوجيا الحياة الانسانية بواسطة آليات تلك العملية الأيديولوجية في إنتاج المعاني والعلامات والقيم الى واقعة حقيقية»(30).
من هنا، تتجلى الضرورة الراهنة لمحاولتنا الرامية إلى إعادة اكتشاف لغة الأيديولوجيا/ وايديولوجيا اللغة، من اجل اعادة تفعيل منطق "لسانيات الأيديولوجية/ وايديولوجيا اللسانيات"، ذلك المنطق الذي طالما تم تغييبه ومصادرته باسم الاتجاه الموضوعاني المتعالي/ الرياضي/ المنطقي. الأمر الذي اسس لسيطرة النزعة التعميمية/ التجريدية، سواء في فلسفة الأخلاق والمناهج التقليدية المعتمدة في لغة بحثها، او في النزعة الانتقائية للمصادر الفلسفية المستعملة، والتي في مجملها، انعكست سلبا على طبيعة الدرس الفلسفي من جهة، وصيرورة المنشور الفلسفي من جهة اخرى.
ولو قمنا بجولة فلسفية في دهاليز تاريخ ارشيفنا الفلسفي منذ تأسيسه والى يومنا هذا، لاكتشفنا سيطرة مطلقة للاتجاه الموضوعاني المنطقي/ المتعالي في مختلف التوجهات والاختصاصات الفلسفية، بدء من تاريخ الفلسفة اليونانية وانتهاء بالفلسفات الحديثة والمعاصرة والحداثوية والمابعديات. حيث سنلاحظ كيف أن هذا الأتجاه كرس لسيادة انماط معرفية محددة شكلانية/ تعميمية، تُقصي كل ما هو تاريخي/ مشخّص، وكيف افرز اثار وخيمة على "اسلوبيات اللغة المتداولة شفاهيا وكتابيا" في اقسامنا الفلسفية، حيث هيمنت اللغات المنطقية الموضوعانية المتعالية المنهمكة في البحث عن الدقة المنطقية والضبط الرياضي والاصطلاحي. لهذا ساد كل من: "التواصل الرسمي" بين المشتغلين في الحقل الفلسفي؛ و"اللغة الشكلانية المنطقية" على حساب "لغة الحياة اليومية الطبيعية"، وكل ذلك مهد لسيطرة "الكلمة القاموسية المجردة" بدلا من "الكلمة الحية المشخصة" في بنية انطولوجيا الحياة اليومية.
لذا، اصبح الخطاب الفلسفي في مؤسساتنا الأكاديمية يعيد إنتاج ما يُعرف بـ: «"الكلمة القاموسية" التي لا تعرف الا ذاتها (أي سياقها هي) وموضوعها وتعبيراتها المباشرة ولغتها الواحدة والوحيدة. اما الكلمة الأخرى، الموجودة خارج سياقها، فلا تعرفها الا بوصفها كلمة محايدة من مجموعة كلمات لا تخص احدا، فهي مجرد امكانية كلامية»(31). ربما لان هذا المصطلح هو الأقرب إلى عمل نظامنا الفلسفي قديما وحديثا، طالما هو خطاب لا يعبر الا عن ذاته وعن سياقاته الأيديولوجية المضمرة. وهذا ما جعل باختين يقترح علينا كلمة "حية" بديلا عن الكلمة الأكاديمية "الميتة"، من اجل التحرر من: «التصور التقليدي الذي يرتاح إلى "الكلمات الميتة" أو الى "الكلمة المحايدة" كما يقول. وجعله يذهب إلى "الكلمة المشخصة" التي يساوي وجودها وجود كلمات الآخرين فيها، قبولا أو رفضا أو تقاطعا، فلا وجود للكلمات فرادى، فوجودها هو صراعها مع كلمات مغايرة وتأثرها بكلمات أخرى وتقاطعها القلق مع كلمات لاحقة. وهذا كله يعين الكلمة كيانا حيّا، يتكون في علاقات التأثر والتأثير، كما لو كانت الكلمة جملة من العلاقات الاجتماعية التي تعبر عنها. "الكلمة هي الظاهرة الايديولوجية بامتياز". "الكلمة محملة دائما بمضمون أو بمعنى ايديولوجي أو حدثي". ان الكلمة الطاهرة والمكتفية بطهرها الذاتي لا وجود لها، ذلك انها في استعمالها اليومي لا تنفصل عن مضمون ايديولوجي محايث لها، بل انها لا تحقق استعمالها الا بفضل الايديولوجيا التي تلازمها. ولذلك فأن الفصل بين الكلمة وحمولتها الأيديولوجية يلغي دلالة الكلمة، لتغدو اشارة مجردة، بعد أن كانت اشارة لغوية، أي انه يكتفي بالكلمة في ذاتها ويعرض عن المتحدثين بها، كما لو كان بإمكان اللغة أن توجد بمعزل عن المتحدثين بها»(32).
مما سبق، نلحظ أن طبيعة المقاربة الفلسفية بين بنية "الكلمة القاموسية"، وبنية "الكلمة الحية/ اليومية"، انما هي في واقع الامر، مقاربة ربما ستؤدي الى تأسيس منعرج ابستمولوجي؛ لساني واخلاقي. فمن الناحية اللسانية، لم يعد في الإمكان الاتكاء على ابستمولوجيا لسانيات النزعة الموضوعانية المجردة التي ترتكز على بنية النظام النحوي الشكلاني المنطقي لطبيعة الجملة المنعزلة والمحددة ضمن أنساق اللغة الصورية المتعالية. سيما مع صعود الاتجاهات الوضعية والتجريبية في المنطق ونظريات المعرفة التقليدية ضمن تشكيلات دروس الفلسفة اليومية في مؤسساتنا الأكاديمية، والتي عملت في مجملها على إنتاج خطاب عزلة بين كل من: الفيلسوف/ والعامة / والمدينة؛ ولغة الفيلسوف/ ولغة الشؤون اليومية؛ ولغة الفلسفة/ ولغة السياسة. ومن الناحية التاريخية، لا يمكن الاستمرار في مسلسل انفصام العلاقة بين كل من الفلسفة والايديولوجيا، الذي افرز تناول شكلاني لمفهوم الايديولوجيا من خلال الاستناد على إعادة إنتاج تصورات استدلالية في البنية التحتية للمنظومة المفاهيمية في خطابنا الفلسفي عامة وخطابنا الفلسفي المادي، لا سيما الماركسي منه. على الرغم من أن دراسة نظرية الأيديولوجيا اصبحت: «تعني، بطريقة ما أو بأخرى، دراسة اللغة في العالم الاجتماعي. وكذلك دراسة الوسائل التي من خلالها يتم تداول اللغة في بنية الحياة الاجتماعية اليومية، بدء من ادنى المجادلات بين الأصدقاء وافراد العائلة الواحدة وانتهاء بأعلى مراحل الجدل السياسي»(33). فإذا حصل وتم إعادة اللحمة بين الفلسفة والايديولوجيا، ربما سينتج عنها "رجّة حداثوية فلسفية" من نوع مختلف للغاية، قد تؤدي إلى: «إثراء مفهوم الايديولوجيا بوصفه نظرية وممارسة في آن واحد، والذي لا يمكن له ان يتشكل إلا بواسطة تحقيق تحول راديكالي لتصوراتنا حول اللغة، لغرض الانعراج بانتباهنا نحو مظاهرها التداولية، التي طالما تم اهمالها أو تغييبها من قبل بعض التصورات التقليدية في اللسانيات وفلسفة اللغة. فمن اجل أن تكون العلاقة متفاعلة بين اللغة والأيديولوجيا لابد من التخلي التام عن التحليل المنطقي الصارم للعبارات أو لأنظمة العلامات، والتركيز عوضا عن ذلك على الوسائل التي تساعد تعابيرنا اللغوية على إنتاج ممارسات تدوالية تتعلق بالفعل ورد الفعل من جهة، وعلى ان تكون قناة يتم من خلالها انتاج التاريخ واعادة إنتاج المجتمع من جهة اخرى. وبذلك تدعونا نظرية الأيديولوجيا إلى النظر إلى اللغة ليس بوصفها مجرد بنية تستخدم لأجل التواصل أو الترفيه، وانما كظاهرة سوسيو-تاريخية تُغلف انطولوجيا الصراع الإنساني»(34). فلم تعد لسانيات الأيديولوجيا وتاريخ منطقها، مجرد ملحق بسيط بتاريخ الصراع الطبقي كما هو الحال عليه في "لاهوت الماركسية الأرثوذكسي" الذي لطالما رهن تاريخ تطور الأخلاق ونسبوية القيم بالظواهر الطبيعية والحتمية البايو-مادية جدلية، على طريقة ومنهج كتاب (التطور والنسبية في الأخلاق). إذ ينبغي بعد جميع المنعرجات الحاصلة في اللسانيات وفلسفة اللغة، سيما مع فولوشينوف وباختين وغرامشي والتوسير، التوقف نهائيا عن النظر الى مفهوم الأيديولوجيا على انه: «مجرد هتافات خطابية او تمثل زائف أو مشوه للواقع، وإنما اعتباره مفهوم يمثل قوة مادية تستقر في قاع السياق الثقافي للمجتمع»(35).
في النهاية، حاولنا من خلال دراستنا اعلاه، العمل على إعادة النظر في تاريخ العلاقة المشوهة والمربكة بين الايديولوجيا والفلسفة واللسانيات في تاريخ منشورنا الفلسفي، الذي يتضمن على اعمال فلسفية كثيرة، احتوت على عناصر ابستمولوجية وفلسفية مهمة وقيمّة -كما هو الحال عليه في مؤلف فيلسوف العراق ومؤسس الدرس الفلسفي استاذنا الراحل حسام محي الدين الآلوسي- تحتاج إلى تآزر جهود الباحثين والمختصين في مجال حقل الدراسات الفلسفية في مختلف اختصاصاتها في الفلسفات المعاصرة والحديثة والحداثوية والمابعد الحداثوية، من اجل إعادة استنطاق ابعاد ذلك الارشيف الفلسفي.
* * * *
(باحث من العراق-مختص في فلسفة خطاب الدراسات الثقافية/ ومابعدها. حاصل على درجة الماجستير في الفلسفة من كلية الآداب/ جامعة بغداد عن رسالته الموسومة: (إشكالية المثقف عند الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي) 2005. ظهرت له عدة مقالات وابحاث ودراسات فلسفية نشرت في صحف ومجلات عربية محكمة. وله مشاركات أيضا في كتب فلسفية عربية جماعية)
* * * *
الهوامش:
(1) Leszek kolakowski: Toward a Marxist humanism… Essays on the left today, translated from the polish by Jane Zielonko Peel, Grove Press, New York, p.16.
(2) Ibid, p. 29
(3) New Studies in Ethics…Modern Theories, Edited By W. D. Hudson, vol. tow, Macmillan, 1974, p. 292.
(4) Ibid, p. 293
(5) Ibid, p. 341
(6) أ. د. حسام محي الدين الالوسي: التطور والنسبية في الاخلاق، دار الطليعة، بيروت-لبنان، ط1، 1989، ص-ص 32-33
(7) المصدر نفسه، ص-ص 34-35
(8) Murray Bookchin: Post Scarcity Anarchism, Wildwood house-London, 1971, p. 18.
(9) Social Ecology after Bookchin, Edited by Andrew Light, The Guilford Press, London, 1998, p13.
(10) BASIL BERNSTEIN: CLASS, CODES AND CONTROL, THEORETICAL STUDIES TOOWARD A SCIOLOGY OF LANGUAGE, VOLUME 1, ROUTLEDGE, 1971, p.18
(11) Ibid, p. 19
(12) د. حسام محي الدين الالوسي: التطور والنسبية في الاخلاق، ص30.
(13) المصدر نفسه، ص ص12-13.
(14) Lewis S. Feuer: Ethics and Marxism, Sushil Kumar Mittra, East India Art Press, Calcutta, 1943, p. 2.
(15) د. حسام محي الدين الالوسي: التطور والنسبية في الاخلاق، ص20.
(16) المصدر نفسه، ص-ص20-21.
(17) للتوسع حول موضوع البلاغة الجديدة وعلاقتها بالفلسفة والاخلاق، يُنظر:
Ch. Perelman: Philosophie Morale, 1.L’Antiquité et le Moyen Age, Presses Universitaires De Bruxelles, Bruxelles, 3 édition, 1973.
Michel Meyer: Le Philosophe Et Les Passions, Esquisse d’une histoire de la nature humaine, Le Livre de Poche, Biblio-Essais, Paris, 1991.
(18) د. حسام محي الدين الالوسي: التطور والنسبية في الاخلاق، ص-ص21-22.
(19) للتوسع حول مجمل تطور فلسفة التحليل المنطقي للغة للفيلسوف جيلبرت رايل، يُنظر:
Lucie Antoniol: Lire Ryle aujourd’hui, Aux sources de la philosophie analytique, Le Point Philosophique, De Boeck Université, Bruxelles-Belgique, 1993
(20) للتوسع حول مجمل فلسفة غيلنر، يُنظر:
Ernest Gellner: Cause and meaning in the social sciences, edited with a preface by I. C. Jarvie and Joseph Agassi, Routledge, London, 1973
Ernest Gellner: Words And Things, A Critical Account Of Linguistic Philosophy And A Study In Ideology, With an introduction by Bertrand Russell, Beacon Press, Boston, 1959
(21) للتوسع حول مجمل تحولات الفلسفة الوجودية وعلاقتها بالماركسية والابستمولوجيا البنيوية خاصة عند التوسير، يُنظر:
Mark Poster: Existential Marxism in Postwar France-;- From Sartre to Althusser, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, 1975
(22) Adam Schaff: De La Necessité Des Recherches Marxistes Sur Le Langage, Un Essai sur la philosophie du langage, dans son livre Langage et Connaissance, Traduit du polonais par Claire Brendel, Edition anthropos, Paris, 1969, p. 215.
(23) Ibid., p. 214.
(24) د. حسام محي الدين الالوسي: التطور والنسبية في الاخلاق، ص 35.
(25) المصدر نفسه، ص 35.
(26) بوعلي ياسين: الثالوث المحرم، دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي، دار الطليعة-بيروت، ط2، 1978، ص-ص15-16.
(27) لمزيد من الاطلاع والتوسع حول المنجز الفلسفي والابستمولوجي في فلسفة اللغة في الخطاب الماركسي للفلاسفة كورزبسكي؛ زينوفيف؛ فيغوتسكي يُنظر:
Alfred Korzybski: Science And Sanity-;- An Introduction To Non-Aristotelian Systems And General Semantics, The International Non-Aristotelian Library Publishing Company, USA, 4 edition, 1958
Zinoviev Alexandre :Le Communisme Comme Réalité, Traduit Du Russe Par Jacques Michaut, Edition de l’Age d’Homme, France, 1981
Lev Vygotski : Pensée Et Langage, Traduction de Françoise Sève-;- suivi de Commentaire sur les remarques critiques de Vygotski de Jean Piaget, La Dispute/Snédit, Paris, 3 édition, 1997
(28) عبد الرزاق الدواي: حول نظرية الأيديولوجية عند التوسير، دراسة منشورة في مجلة الاقلام المغربية، د.ت، ص-ص37-39.
(29) عبد السلام بنعبد العالي: الميتافيزيقا، العلم والايديولوجيا، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1993، ص-ص96-97.
(30) Terry Eagleton: Ideology; An Introduction, Verso, London-New York, First Published, 1991, PP1-2
(31) د. فيصل دراج: ميخائيل باختين... الكلمة، اللغة، الرواية، دراسة نُشرت في مجلة الآداب الاجنبية، سوريا، العدد99، 1999، ص126.
(32) المصدر نفسه، ص126.
(33) John B. Thompson: Studies in the Theory of Ideology, University Of California Press, Berkeley, Los Angeles, First Published, 1984, p. 2
(34) Ibid., p. 2
(35) Michael Gardiner: The dialogics of critique: M. M. Bakhtin and the theory of ideology, Routledge, London, 1992, p. 7.