تعتبر مسرحية "الناجي"، للكاتب البريطاني إدوارد بوند، نموذجاً تأسس عليه الجدل النقدي حول الدلالات والأبعاد الأخلاقية لتجسيد العنف في المسرح الحديث.
شكلت هذه المسرحية صدمة للجمهور عندما عرضت عام 1965 في لندن، وكان المشهد الذي يصوّر عملية رجم طفل رضيع بالحجارة حتى الموت من قبل مجموعة شبّان في أحد حدائق لندن محور النقاش حول المعايير الأخلاقية والجمالية التي تبرّر تجسيد مشاهد وحشية في الفن عموماً، وفي المسرح خصوصاً.
هل أن رجم طفل رضيع حدثٌ مسرحي يتجاوز الحدود التي رسمها المسرح الغربي لأخلاقيات وجماليات العنف في نماذجه الكلاسيكية منذ المسرح الإغريقي إلى شكسبير؟
لا يبدو الأمر كذلك بقدر ما يبدو سياقاً جديداً لموضوع مسرحة العنف في الثقافة الحديثة، فالمسرحية لعبت دوراً حاسماً في تغيير قوانين الرقابة البريطانية المتعلقة بالمسرح، وتركت أثراً كبيراً على الأجيال اللاحقة من الكتاب المسرحيين الذين عالجوا موضوع العنف مثل سارة كين ومارك ريفنهيل.
لم يكن مشهد الطفل المرجوم على أحد خشبات مسارح لندن بعيداً عن مخيلتي وأنا ألقي العام الماضي محاضرة في جامعة أكسفورد بعنوان "طقوس التحولات العنيفة: المسرح السوري وفردوس الحداثة المفقود" حاولت فيها استكشاف منهجيات علمية للبحث عن الجذور الثقافية للعنف الذي انفجر في الواقع بهمجية تكاد تستعصي في غرائبية وشذوذ صورها على العقل وعلى أدوات القراءة.
حضر الطفل المرجوم في مسرحية بوند عندما واجهني الجمهور بسؤال تكرر بعدة صيغ: كيف يمكن للمسرح السوري أن يتعامل فنياً مع إرث الحرب من صور العنف؟ أو كيف سيؤثر هذا العنف على أعمال المسرحيين الشباب؟
لا يزال الطفل اللندني المرجوم مشهداً حاضراً في أسئلة بحثي المتجددة بعد عام كامل من مشاهد الرجم في العالم العربي الذي يتهاوى في مشهدية رهيبة تقدم فيها بطل جديد، الطفل السوري الغريق ليجسد نوعاً جديداً من طقوس العنف، عنف يتمسرح واقعياً، بل عنف يمسرح الواقع إلى حد انهيار الحدود بينه وبين المخيلة.
في هذا السياق، تجاوزتُ أسئلة جمهور يتأمل في طوفان صور العنف القادمة من سورية حول ماذا بوسع المسرح أن يقول سياقها المباشر لتورّط بحثي في أسئلة كونية تتعلق بحالة المسرح في العالم عموماً. فالسؤال بحرارته الراهنة في واقع الثقافة العربية اليوم كان قد بدأ مع لحظة انتقالية في تاريخ المسرح الحديث.
كانت لحظة الأزمة التي عبّر عنها مفكرون مثل الفرنسي جان بودريار في ثمانينيات القرن الماضي عندما تساءل: ماذا بوسع المسرح أن يقدّم في عالم يتمسرح فيه كل شيء على الشاشات؟!
وفي ما يتعلق بالعنف خصوصاً تبدو مشكلة المسرح أكثر تعقيداً في مقاومة ثقافة الصورة التي وصلت اليوم في عسفها وكثافتها ومدى سيطرتها على الثقافة المعاصرة إلى ما يطلق عليه بعض الباحثين تسميات مثل "بورنوغرافيا الحروب" أو "بورنوغرافيا الألم" حيث تحوّلت أكثر أشكال الموت والعذاب الإنساني بشاعة إلى سلع متداولة في سوق متوحش تحرّر من المعايير الأخلاقية في عصر شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الفضائي. ماذا بوسع المسرح أن يفعل وكيف ينجو من ثقافة الحروب المتلفزة؟
سؤال كبير بحجم المأزق الأخلاقي الذي نواجهه جميعاً. سؤال يواجه المسرحيين العرب بشكل خاص لأن المسرح يمتلك الأدوات القادرة على إنقاذ الأطفال المرجومين والغرقى من سجن الصور واستعادة مصائرهم من هوس الاستهلاك الجماعي لصور الموت إلى مساحة التساؤل والتأمل.
المسرح لأنه فن التواصل الحي والمباشر الذي يمنح الإنسان فرصة تفكيك رموز الصورة وسلطتها عبر التجسيد الحي للتجربة الإنسانية في مساحة الحضور الجسدي الخلاق لطرفي العملية الإبداعية، الممثل والجمهور. المسرح لأنه الهامش المقاوم للثقافة السائدة ولإمبراطوريات الإعلام التي تعيد إنتاج الموت والعنف في العالم العربي.
هنا تتبدّى أزمة المجتمعات العربية في أكثر أشكالها خطورة. كيف لهذه المجتمعات أن تقاوم العنف في غياب الثقافة؟ لقد كانت الفنون والآداب أحد وسائل مقاومة العنف في تاريخ البشر، فعبر معالجة الفن للعنف كموضوع جمالي يمكن للإنسان أن يخضع هذه الظاهرة للتأمّل والتحليل ومن ثم إنتاج موقف إنساني وأخلاقي منها يتطوّر في سياق التجربة الفردية ويتحوّل عبر التجربة الجمالية إلى مكوّن أصيل من شخصية الفرد والمجتمع.
هكذا تحوّل طفل بوند المرجوم إلى حقيقة مسرحية وإلى مرجعية شاركت في إنتاج موقف أخلاقي من العنف بينما يبقى الطفل السوري الغريق يتيماً في مجتمعات ليست سوى سوق للصور.
مجتمعات تنتج العنف وتستهلكه بشراهة دون أي فرصة لإخضاعه للتأمل والتفكير. نعم هناك عروض مسرحية وكتب في العالم العربي، لكنها كتب لا تتجاوز أعداد نسخها في أكثر الطبعات جماهيرية بضعة آلاف وعروض مسرحية محاصرة في هوامش لا يتسلل إليها سوى بضعة مئات في أكثر نماذجها نجاحاً.