يستنطق الناقد الدلالات المضمرة في تصوير شخصيات الرواية، ويستبين حياة المرأة السردية. ويؤكد محاولته من التحليل الاستنتاجي المعزز بالاستشهادات النصية. ويرى أن الرواية تتجاوز الأحكام الجاهزة، لتنصر المعطيات والافكار التي يبوح بها الخطاب الكلي إزاء تصديه لصورة المرأة؛ فزفزاف مال إلى رصد المجتمع ونظرته للمرأة رصدا مغايرا وصادما، ينأى عن التصور المتكلس في الوعي الجمعي المغربي.

صورة المرأة وثنائية العهر والشرف

في رواية «محاولة عيش» لمحمد زفزاف

كـريم الطيـبـي

توطئة
يعدّ النص الروائي نصا دسما يقبل عليه القرءة باختلاف خلفياتهم المعرفية، واهتماماتهم الثقافية، وهذا راجع إلى التقويم التكويني الذي طبع جنس الرواية؛ فهي من حيث بناؤها جسد يضم أعضاء بنيوية متنوعة كالسرد والوصف والحبكة والأسلوب والتصوير وغيرها، وهي –كذلك- من حيث مضمونها حقل خصيب وغني لخطابات معرفية مختلفة، وموضوعات فكرية متلونة. انطلاقا من هذا المدخل الرحب ارتأينا أن نقف عند رواية "محاولة عيش" للروائي المغربي محمد زفزاف، حيث سيركز المقال على سمة بلاغية مضمرة في هذا النص الروائي شكلت أيقونة فنية عميقة في محاولة عيش، وهي سمة التقابل، فأين تتجلى بلاغة التقابل في الرواية؟ وما أبعادها الدلالية التي اضطلعت به داخل المتن الروائي؟

عن محاولة عيش
اِرتأت رواية محاولة عيش أن تتوغّل في مضمار الواقعية، إذ تمكن محمد زفزاف من إخراج لوحة فنية سردية تعكس صورة واقعية للمجتمع المغربي في جانبه البئيس، وسلط الضوء على شريحة واسعة من المهمشين والكادحين والفقراء الذين يعيشون في أحياء الصفيح والبراريك، ويحاولون العيش ومواكبة الحياة رغم قساوتها وصعوبتها، وبناء على هذا الاعتبار لا تصبح الرواية ملحمة بورجوازية – حسب هيجل-، بل إنها، بناء على التصور الزفزافي، ملحمة بلوريتارية، تُعنى برصد هموم الطبقة الكادحة.

يعرض محمد زفزاف صورا وحكاياتٍ وأحاديثَ حول فئة الهامش؛ وذلك من خلال الترصد السردي لقصة "حميد" ذلك الطفل ذو الست عشر سنة، الذي يحاول أن يضمن العيش الكريم لأسرته بما تعود عليه مهنته البئيسة (بيع الجرائد) من ريع محتشم. كان قدر حميد هو النشوء في أسرة تعمها الفوضى والتشتت بسبب أبيه الحسن الذي استسلم لرغباته وعاداته السيئة كشرب الخمر والتعاطي للتدخين وتخلى عن القيام بواجباته تجاه أسرته. وتتأطر مسيرة حميد في حي قصديري (البراريك) بمدينة القنيطرة المغربية، يرفقها السارد بمقاطع سردية حية تبسط طريقة عيش سكان أحياء الصفيح وأهم الظواهر الاجتماعية التي تطبع حياتهم: (الفقر، الجوع، البؤس، العادات السيئة، الرشوة، النميمة، الفساد الأخلاقي...الخ) في هذا المجتمع الغائص في مستنقع العوز والبؤس والفساد يظل حميد متمسكا بمبادئه وبأخلاقه الفضيلة؛ فعلى الرغم من أن أصدقاءه كلهم منهم من يشرب الخمر ويدخن ويمارس الرذائل كان هو مثالا للشاب الفاضل الذي يبر والديه ويطيع أمرهما ويتزيي بالخلال الطيبة والخصال المحمودة.

يكبر حميد فتفكر والدته بتزويجه، فتنتقي له زوجة هي "فيطونة" التي يراها مجتمع حميد أنموذجا للمرأة الزوجة جسدا وروحا، وافق حميد دون أن يدلي برأي أو يبدي معارضة للأمر، بيد أنه في الفترة نفسها كان قد تعرف ب"غنو" وهي فتاة شابة تمتهن الدعارة بعد أن رحلت من قريتها "العوامرة" لتستقر في القنيطرة، بدأ حميد بالتعلق بها فكان يتردد على بيتها بين الفينة والأخرى، ويحكي لها مجريات حياته كما تفعل هي كذلك. تمر الأيام فيتزوج حميد فيطونة الفتاة التي انتقتها والدته بعناية فائقة ووجدت فيها كل معاني الشرف والبراءة، غير أن في ليلة العرس سيكتشف حميد أنها ليست عذراء فتتلبك الأحداث وتنشب الفوضى بين شخصيات الرواية، باستثناء حميد حيث انسحب بهدوء، متوجها نحو عالمه الهادئ ومرتعه المريح وهو بيت غنو.

صورة المرأة وثنائية العهر والشرف
تقدم رواية محاولة عيش صورة حول المرأة المغربية، ولا يمكن رصد هذه الصورة إلا بجرد التشكلات المعرفية التي يقدمها الراوي حول شخصيتين اثنتين هما:"فيطونة" و"غنّو".

* فيطونة رمزا للشرف:
تقدم الرواية تصورا للعادات والتقاليد التي يتقيد بها المجتمع المغربي المهمش أثناء الزواج، فأم حميد بعد أن أصرت على أن ابنها بلغ السن المناسب للزواج، أناطت بنفسها مهمة البحث عن الزوجة المناسبة، وبعد عملية تنقيب وبحث اصطفَت الأم من بنات الحي "فيطونة"، يخبرنا الراوي بذلك:"وبالفعل قررت أن تفعل ما تشاء. استعرضت خمس أو ست فتيات، هذه شغالة وهذه عاطلة، هذه عمشاء والأخرى تغمز بقدمها، لكنها ذات ردفين وسمينة. تحييها كلما رأتها، ويبدو أنها ستكون مطيعة لها. وعندما تحدثت الأم إلى حميد طأطأ رأسه خجلا، فكر مليا، لم يرفع رأسه في وجهها"(1) ويظهر أن حميدًا تقبل أمر اختيار أمه زوجة له على الرغم من أنه هو المعني بالأمر الذي يجب أن يتدخل في تكوين مؤسسته الزوجية. بيد أن الأم "قررت أن تفعل ما تشاء أيضا، اقترحت فيطونة التي تغمز بقدمها اليسرى، تخيّل حميد صورتها. لا بأس إذا غمزت بقدمها، لكنها مع ذلك سمينة"(2) إن السارد في بداية تقديمه لصورة فيطونه من خلال رؤية الشخصيات (حميد وأمه) ركز على الجانب الفيزيولوجي الذي تتميز به فيطونه فهي: تغمز بقدمها، ذات ردفين، سمينة. الأمر الذي يدل على أن الأم لم تخترها لمعايير موضوعية بل اكتفت بتشغيل ذائقتها التي تعتبر المرأة النموذج للزواج هي المرأة المتكاملة والمليئة من حيث البنية الجسدية، كما أن من الأسباب أيضا أنها "تحييها كلما رأتها، ويبدو أنها ستكون مطيعة لها"(3) هكذا عملت الأم على انتقاء زوجة ابنها دون أن تراعي في ذلك مشاعر حميد واحتياجاته النفسية. انطلاقا من هذه الإشارات المتفرقة في مدونة الرواية، نستشف أن النقاش حول أخلاق فيطونة لم يكن مطروحا لأنها مثال للشرف في نظر مجتمع حميد، وبسبب ذلك شكل "المظهر الخارجي" الجانب الذي استأثر بحميد، وهو ما جعله ينسج الخيالات ويوغل في التوهمات مستحضرا صورة زوجته المستقبلية، يقول الراوي:" وأخذ (حميد) يتخيل صورة زوجته التي تغمز برجلها، ذات الردفين والمتوردة الوجنتين، تساءل ماذا تأكل تلك العجلة، إنها عجلة فعلا، غليظة وسمينة.."(4).

هذه هي، إذًا، صورة فيطونة الفتاة التي انتقتها والدة حميد من وسطها المعيشي لتكون زوجة لحميد بوصفها المرأة المناسبة له.

* غنّو رمزًا للعهــر:
بخلاف فيطونة، تقدم رواية محاولة عيش "غنو" على أنها رمز للعهر والفساد، وذلك بتركيز القالب الحكائي على أفعال هذه الشخصية الروائية، فغنو الفتاة البدوية التي قدِمت من قرية "العوامرة"(5) إلى القنيطرة، "تعلمت من خلال ثلاثة أشهر كيف ترتدي البنطلون وتقصّ شعرها وتضع الأصباغ وتشرب وتدخّن، وتعلمت أيضا بضع كلمات أمريكية تستعملها عند الحاجة"(6) ثم أصبحت تحترف مهنة الدعارة لترتبط شخصية غنو بالعهر، واستطاعت أن تنسجم مع مطلبات هذا المنحى، فقد غيّرت شكلها وملابسها، وبدأت في التخين وشرب الخمر، إضافة إلى تعلمها اللغة لكي تفلح في التواصل مع الجنود الأمريكيين الذين ينتمون للقاعدة العسكرية الأمريكية المتواجدة في القنيطرة ثم تستميلهم وتنجح في إقناعهم بمعاشرتها لتحصل على المال.

هكذا ارتبطت شخصية "غنو" بالعهر والفسق والفجور، وأفعالها تجسد –كذلك- هذه المعاني كما وضحنا سلفا. وإضافة إلى هذا، يعضد المكان الروائي هذا الطرح الدلالي، حيث ترتبط الشخصية الروائية "غنو" بأماكن تدل على الفحش والخلاعة، يقول السارد: "كانت معركة حامية أمام ملهى صليب الجنوب، بين مغربي وجندي أمريكي، المومس غنو بينهما في منتهى السكر"(7) وقد تركّز رؤية السارد على غرفة غنو فوصفها بقوله: "في الغرفة كانت دائمًا هناك زجاجات نبيذ وأنصاف زجاجات"(8).

بلاغة التقابل:
{
ينطوي التصوير الروائي الذي عمد إليه محمد زفزاف في "محاولة عيش" على سمة بلاغية مضمرة، هي سمة التقابل، بيد أن التقابل في مدونة الرواية لا يتعلق بلفظة أو جملة أو نص، ولا يتعلق كذلك بالمعنى، بل إنه يتعلق –في نظرنا- بالخطاب الكلي إزاء تصديه لصورة المرأة؛ فزفزاف مال إلى رصد المجتمع ونظرته للمرأة رصدا مغايرا وصادما، ينأى عن التصور المتكلس في الوعي الجمعي المغربي، ويمكن الوقوف عند هذه السمة بتجاوز سطحية الخطاب، والتغلغل في أغوار المتن الحكائي، على اعتبار أن الأسلوب الزفزافي هو "أسلوب الجليدي العائم الذي يخفي أكثر مما يظهر"(9) حسب تعبير عبد الرحيم مؤدن.

يحتضن القالب الروائي في الرواية بنية تصويرية مضمرة تتأسس على المقابلة بين صورتي "فيطونة" و"غنو"، حيث إن صفات فيطونة بوصفها رمزا للشرف في نظر المجتمع كلها تحيل إلى العهر والتهتّك والخلاعة، ونقف عند بعض الإحالات في النص الروائي لتلمّس هذه الأبعاد المعنوية، يقول السارد:" بل أصبحت فيطونة تفعل الشيء نفسه، تطلي وجهها بالأحمر وتكحّل عينيها وتكثر من الخروج إلى الحانوت أو الفرّان أو السقاية، لكن أمّها كثيرا ما كانت ترفض ذلك:

أنت الآن مخطوبة، احشمي قليلا.

هل فعلت شيئا فيه عيب؟

ضعي نقابا على وجهك على الأقل.

كل البنات يخرجن سافرات.

قبل أن يتزوجن.

حتى النساء المتزوجات يخرجن سافرات"(10)

يتضح من خلال هذا المقتطف أن أفعال فيطونة التي لم تتغير حتى بعد أن تقدم حميد لخطبتها (التزيين، الخروج الكثير، عدم احترام التقاليد المحافظة)، تؤكد أن شخصية فيطونة لا تترجم طهارتها وعفتها، عكس ما صورته والدتها لأم حميد (الليلة ستعرفين كيف أني أعطيت لولدك فتاة كلها نقاء وطهارة. ص:90) وتتأكد هذه الصورة المضمرة في نهاية الرواية حينما يتفاجأ حميد، وهو يمارس طقوس ليلة الدخلة، بأنها ليست عذراء.

وعلى خلاف غنو التي ارتبطت بشخصية العاهرة، فإن صفاتها وأفعالَها كلها تؤكد أنها امرأة مثالية، تتفهم الرجل وتقدّر معاناته، وتمتاز بتمثلها لجملة من القيم الحميدة كالتعاون والتضامن والحب والود والإنسانية، وتتجسد هذه القيم في إحالات سردية متوزعة على بقاع المتن، فقد جاء مثلا على لسان السارد:" لكنها قالت وعيناها مثقلتان بالنوم:

ألست متعبا؟ ألا تريد أن تنام؟

عليَّ أن أذهب لأبيع صحفي، هذا الصباح لم أكن بعت سوى صحيفتين، لمّا انشغلت بتلك الحادثة.

غير مهم، كم تربح في اليوم؟

كل يوم ورزقه.

استرح قليلا، يبدو عليك أثر التعب. يمكنني أن أقرضك من بعض ما حصلت عليه هذه الليلة استرح قليلا"(11)

لقد وجد حميد من يحس بمعاناته الكبيرة في مهنة المتاعب (بيع الصحف) وهو الذي اعتاد أن يسمع الشتم من صاحب شركة الصحف في الصباح، وعتاب الأب والأم في المساء، الأمر الذي جعله يتعلق بغنو بغض النظر عن كونها عاهرة، فهي المرأة الإنسان التي شعرت بتعبه ومعاناته. وعلى عكس فيطونة المحبة للمال والتي اقتنعت بالزواج من حميد لأنه يشتغل ويدر مدخولا، فإن غنو لا تهتم بأمر المال ألبتة يقول السارد:" لكنه (حميد) كان يستريح لغنو، فتاة لا تعطي أهمية للمال. كثيرا ما تدسّ في جيبه بعض النقود التي لم يكن في حاجة ملحة إليها"(12) لقد وجد حميد في غنو الصديق والعائلة وكذلك المعلم الذي يلقنه دروسا في العيش، جاء في الرواية:" –أنت ستتزوج عليك أن تجمع مالا لتعرس.

أمّي هي التي تكفلت بكل شيء.

لا تعتمد على أمك"(ص:82).

وتتبين لنا ملامح إنسانية غنو وحبها لحميد حينما قدمت له سوارها: "وذهبت غنو إلى المطبخ، تأخرت قليلا، ثم عادت بسوار صغير من الذهب، ثم قدّمته لحميد: بِعْهُ أو افعل به ما تشاء، قدمه لزوجتك إن شئت"(ص:86).

تشكل غنو عاهرة استثنائية، تختلف كثيرا عما رسمه الواقع لهذا الكائن البشري، حتى حميد تفطن لهذا، وبدأ يدخل في مونولوجات مع نفسه:"كم هي طيبة هذه الفتاة، كم هي صادقة، ليست من النوع الذي يحدّثه عنه زملاؤه في العمل (اجعل المرأة أمامك، لا تجعلها خلفك، النّساء غدّارات وحراميات)"(ص:87).

يتبدّى مما سبق، أن سمة التقابل شملت التصور القبلي الذي تحتضنه الذاكرة الجمعية حول المرأة؛ ففيطونة الشريفة – في نظر المجتمع- قدمها النص الروائي على أنها هي العاهرة، وغنو العاهرة – في نظر المجتمع كذلك- صورتها الرواية على أنها شريفة.

خاتمة:
إن المرام الذي حاولنا في هذا المقال بلوغه هو استنطاق الدلالات المضمرة في تصوير بعض الشخصيات التي قدمتها الرواية، مؤسسين فرضيتنا على ما تقوله الرواية نفسها، الأمر الذي أوصلنا إلى تنبي فرضية في القراءة تحاول محاورة أسلوب تصوير المرأة في محاولة عيش. وقد تأكدت فرضيتنا بناء على ما قدمناه في التحليل الآنف من أفكار معززة بالاستشهادات من نص الرواية. على أن الرواية بصفة عامة تقدم للقارئ كلما فتح آفاق القراءة، هذه القراءة التي تتجاوز الأحكام الجاهزة والشمولية، وتدقق في المعطيات النصية التي يبوح بها النص أولا وآخرا.

(المغرب)

* * *

الهوامش

(1) محاولة عيش، محمد زفزاف، المركز الثقافي العربي. ط4 سنة 2012م. ص:89.

(2) محاولة عيش، ص:69.

(3) نفسه، ص:69.

(4) نفسه،ص:72.

(5) قرية تابعة لمدينة العرائش المغربية.

(6) محاولة عيش، ص:75.

(7) محاولة عيش، ص:75.

(8) نفسه، ص: 83.

(9) درس المؤلفات، ص:22.

(10) الرواية، ص:73.

(11) نفسها، ص:79.

(12) الرواية، ص:82.