صدر عن دار كنوز المعرفة الأردنية كتاب البنيات الدلالية للزمن في اللغة العربية : من اللغة إلى الذهن، و هو الكتاب الذي حاول فيه الباحث اللساني المغربي عبد الكبير الحسني أن يحيط اهتماما بالخصائص الدلالية للنسق الزمني في اللغة العربية التي باتت تأخذ حيّزا مهما في الدراسات الأكاديمية المعاصرة لما لها من تأثير و أهمية في تفسير الأنساق اللغوية و تحليل الخطاب، و اتسعت الاهتمامات بدراسة الزمن من زوايا مختلفة و متنوعة ، منطلقة في ذلك من فكرة خضوع الزمن للنسق، و فكرة النسق في الأعمال اللغوية عموما فكرة جوهرية، إلا أنها لم تستطع أن تجيب عن كل الأسئلة التي تتعلق بالكيفية التي يتنبأ بها في معالجته لكل القضايا المعرفية، مما نتج عنه عجزا في وضع إجابة دقيقة تحل التعقيد، و تجيب عن أسئلة مهمة متعلقة بماهية الزمن و طرق تصورنا له؟ بالإضافة إلى الخطاطة العامة للأنساق الزمنية في اللغة العربية؟
وجب أن نوضح أيضا مند البداية أن الكتاب بصدد الحديث عن الزمن بوصفه مقولة دلالية تحيل على الوقت لا على الزمن من حيث صياغته التركيبية؛ أي أننا بصدد معنيين مختلفين للزمن، الأول يحيل على الزمن النحوي أو الصرفي (اللغوي) الذي يقابل مفهوم (Tense) في الإنجليزية، و الثاني يحيل على الزمن المنطقي أو الفيزيائي ، و يوازي في هذه الحالة مفهوم (Time) الذي يحيل على الوقت في اللغة العربية. هذا التمايز هو الذي يفرض إيجاد خطوات منهجية تحدد وجهة البحث و ترسم له خطوطه العامة.
فإذا كان الزمن نحويا يشير إلى تلك المقولة الوظيفية التي تحقق التطابق، و تتحقق معه السمات التي تحفظ سلامة التركيب، فإن الزمن الدلالي يحيل إلى تلك العلاقات التي تؤول على مجموعة من الأنساق التصورية من قبيل: اللحظة ، المدة ، الحدث ، الحركة والتواتر، باعتبارها تصورات تترجم في شكل مقولات معجمية تجعل من فكرنا فكرا مُبنينا وفق خطوات تنسجم مع خصوصيات تجريبية ملموسة مع المحيط العام الذي يشغل الحيز الفضائي للإنسان.
يتجسد المبدأ العام الذي يحكم هذا الكتاب في البعد المعرفي الإدراكي الذي يتحكم في كل الملكات كما أكد على ذلك" فكونيي1987"، "ايفانس2004"، اللذان يندرج مشروعهما المعرفي ضمن إطار ما أصبح يعرف بالمركزية الدلالية، على غرار المركزية التركيبية؛ أي نحن بصدد بناء طريق يقودنا صوب مركزية دلالية لا وجود فيها للصرف أو الصواتة أو التركيب كمكونات نحوية تحدد طبيعة التركيب اللغوي، بل نعتبرها وسائط نحوية نفهم من خلالها طرق بناء الذهن و الكيفيات التي يشتغل بها الفكر الإنساني، ليبقى المحدد الوحيد في ذلك هي التصورات بالمعنى المعرفي الإدراكي، و ننتقل في ذلك من مركزية اللغة إلى اللاقالبية الذهن.
لا يعتمد المؤلف في معالجة هذه المعطيات على إطار نظري موحد و منسجم منبثق من مشروع الدلالة المعرفية ((Cognitive Semantic، بل ما ناقشه هنا يتمحور حول مشروع مركزية الدلالة في الحقل اللساني الحديث، لأن الإدراك و المعرفة يحددان البنية التصورية بناء على "لا قالبية الذهن"، على الرغم من وجود بعض التصورات داخل النحو التوليدي التي ظلت تنادي بقالبية الذهن ( جاكندوف)، إلا أن المقاربات الجديدة في الدلالة المعرفية ظلت تدافع عن فكرة أن الإدراك البشري هو المسؤول على إنتاج وتعلم واستعمال اللغة لعدم وجود أي ملكة لغوية مستقلة في الذهن. لذلك فإن المشروع الذي دافع عنه المؤلف هنا يختلف عما قدمه "لايكوف و جونسون" في بناء نظريتهما ( نظرية الاستعارة التصورية) لأنهما وقفا عند حدود المستوى التصوري، في حين أن المؤلف دافع عن مشروع المعرفة الزمنية [ على منوال المعرفة الاجتماعية، المعرفة الفضائية] باعتبارها معرفة ذات أبعاد متعددة يمكن أن نلخصها في ثلاث هي: أن المعرفة الزمنية هي في الوقت نفسه معرفة فيزيائية، معرفة تصورية و معرفة داخلية فردية. و عليه، فعندما أراد الكاتب أن يبحث في التصور الزمني عمل على تشغيل العلاقات الاستعارية الكلية لأنها تدخل في إطار الهندسة المعرفية للإنسان، لأن ما هو خاص يرجع إلى الخصوصيات و البناءات الثقافية المتحولة حسب كل عشيرة لغوية
وافترض، تبعا لهذا، أن الزمن عبارة عن نسق تصوري يُبنى على مستوى الذهن قبل أن يتحقق على المستوى الفكري واللغوي، إنه منظومة متكاملة تربط بين سياق التجربة من جهة، وبين أشكال التعبير عنها زمنيا من جهة أخرى. كما افترض أنه عبارة عن نسق تصوري يناقَش على مستوى الفكر قبل أن يتبلور في شكل قوالب معرفية، دلالية و معجمية خاصة، الشيء الذي سيدفعه إلى محاولة فحص هندسة السمات (Feature geometry cheking) التي تشكله قبل العمل على معجمته، كما سيمنحنه ذلك فكرة حوسبته ((Computation مثله في ذلك مثل باقي المداخل المعجمية التي تشكل اللغة العربية ، فهو مفهوم مجرد لا يمكن القبض عليه إلا ببناء إحالي مؤشر عليه من خلال حدث أو لحظة أو مدة أو حركة، ممّا يعطي الانطباع أنه زئبقي يتحول بتحول طبيعة التجربة، بل إنه يتحول بحسب الحالة النفسية و الشعورية للذات، و يملك قوة خرق هائلة تجعله يسيطر علينا إذا كنّا في موقف حرج فننتج عبارات من قبيل: (يمر الوقت ببطء)، و يسرع إذا كنا في لحظة فرح ممًا يدفعنا إلي إنتاج أنساق لغوية مغايرة في إطار تصوري و فكري مجرد من قبيل: (لم أشعر بمرور الوقت)، مع العلم أنه في كلتا الحالتين لا يمكن أن نسلم بوجود تفاوت بزيادة أو نقصان في عدد الساعات أو الدقائق، فمدّة الساعة التي تمرّ على (أ) هي نفسها التي تمرّ على (ب) إلا أن الأول تمرّ عليه ببطء، وتمرّ على الثاني بسرعة.
إن الإطار العام الذي يمكن أن يحكم تجربتنا مع الزمن يمكن أن يوزع على مشكلين:
1- المشكل الميتافيزيقي للزمن: يتأسس هذا المشكل في ازدواجية إدراك الزمن، ففي الوقت الذي نفهم فيه أن الزمن هو "الحركة الأبدية للخلود" كما وردت في الفيزياء وفلسفة أفلاطون؛ أي أن الزمن عبارة عن أولية فيزيائية، و جزء لا يتجزأ من العالم. في الوقت نفسه نجد أنه كيان مجرد و غير مرئي، لا يمكن القبض عليه، الشيء الذي دفعنا إلى طرح التساؤل حول طبيعة الزمن، هل هو أولية فيزيائية ؟ هل هو علاقة مشتقة من جزيئات فيزيائية كما يميل إلى ذلك " لايكوف وجونسون "(90) ؟ أم أن الزمن لا هو بهذا و لا بذاك. بل هو معطى داخلي كما يؤكد على ذلك الظاهرتيون ( برغسون، لوشير)؛ أي أنه ينتج عن عمليات معرفية، تجريبية، فردية، لذلك لا يمكن البت في هذه الإشكالات دون العودة إلى طرح المشكل اللغوي.
2- المشكل اللغوي: يتجسد في اعتبار اللغة وسيلة نعبر من خلالها عن تصوراتنا حول الزمن؛ أي أننا ننطلق من التراكيب اللغوية لمحاولة فهم طبيعة التصورات {الظاهراتيون}
تبعا لذلك خصص المؤلف الفصل الأول لمعالجة أهم التصورات و الجوانب المتدخلة في تكوينها و بنائها، بالإضافة إلى الحيثيات التي تساهم في بناء نسقنا التصوري، إذ دافع عن فكرة أن النسق التصوري الذي نملكه تجاه الزمن يختلف بحسب تجاربنا و احتكاكنا به، فإذا كانت بنياتنا البيولوجية بنيات مختلفة في تكوينها و مكانزمات إدراكها، فإن ذلك سينعكس على مستوياتنا التصورية تجاه الزمن، فكل واحد يدركه و يتصوره بطريقته الخاصة، و أكد أيضا وجود العديد من الأولويات التجريبية التي لها علاقة بطبيعة الفكر من جهة، و بطبيعة مستوى الإدراك البيولوجي المرتبط بموضوعات الذهن غير المستقلة و المتحكمة في نسقنا التصوري للزمن من جهة أخرى.
وقدم في الفصل الثاني بنية بعض النماذج المعرفية للزمن، هي البنية التي سنرصد لها إطارا نظريا معرفيا و تطبيقيا، سواء على مستوى الفكر أو على مستوى اللغة، و ركز على سلوكنا اتجاه بناء الإحالة التي بيّن من خلالها أن طبيعة الخطوط (الخلفية /الأمامية /الآنية) هي التي تساعد في وضع مجموعة من التنبؤات حول ما يمكن أن يقع في المستقبل و ما قد وقع في الماضي، مستندا في ذلك على مؤشرات إحالية من قبيل الحدث/الحركة/المدة ...الشيء الذي أتاح له إمكانية رصد ثلاثة أبعاد متقاطعة على المستوى الفضائي، بناء عليه، دافعنا أن اللغة العربية إلى جانب باقي اللغات العالمية، تملك إحالتين أساسيتين لنضيف نموذجا معرفيا ثالثا كما تصوره "ايفانس" (2006) المتجسد في نموذج التسلسل الزمني الذي يعتبر الزمن كيانا ممتدا لا بداية له و لا نهاية، ممتدا بصيغة مطلقة لا حصر لها، لأن ذلك جعلنا في حاجة ماسة إلى براهين ما ورائية لكي نسلم بهذا النموذج و نعتبره حقا من حقوق الدلالة المعرفية.
وخصص الفصل الثالث للدراسة و البحث في النماذج الدلالية التي تم استقاؤها من الخصوصيات المعرفية و التصورية السابقة، إذ بين تبعا ل"ايفانس"(2004)(2006)، أن كل وحدة معجمية تشكل فئة زمنية متميزة تساهم في تشكيل و بناء الذاكرة الدلالية (Memory Semantic Structure) وتنظيمها وفق ذلك داخل شبكة دلالية(Semantic Network) منظمة تدور كلّها حول معنى مركزي يعرف ب"المعنى المسوّغ" (Sanctioning Sense) معتمدا في ذلك على ثلاثة معايير أساسية: معيار المعنى، معيار بلورة التصور، ومعيار النحوية، هي المعايير التي اعتبرها المؤلف ضرورية في الكشف عن معطيات التنظيم المعرفي للشبكة الدلالية للزمن، مستغلا في الوقت نفسه هذا التنظيم الدلالي في وضع مجموعة من المسوّغات المعرفية لتنظيم الزمن داخل المعجم لأنه يستلزم الكثير من السمات التي تخضع لقاعدة "صهر الموضوع" في اللغة العربية.
وأكد المؤلف في الفصل الرابع أن كل الخصوصيات الدلالية التي ينبني عليها الزمن في اللغة العربية ذات بعد استعاري قوي، هو البعد الذي كشف عنه من خلال بناء العديد من القوالب المعرفية و التصورية التي سمحت له بإمكانية التواصل بكيفيات استعارية كبيرة، الشيء الذي جعله يعتمد بشكل كبير على عمل " لايكوف و جونسون"(80) (الاستعارات التي نحيا بها)، و"لايكوف"(93) (النظرية المعاصرة للاستعارة). تحديدا تلك الكيفيات التي تدفعنا إلى إمكانية تصور الزمن كونه بضاعة قابلة للاستهلاك ، أو طبيبا جرّاحا، أو وحشا كاسرا، أو منتقما جبّارا...هي تصورات نسقية مثبتة على أسس تجريبية دافع عنها بشيء من الاحتياط، لأنه في الحقيقة لم ينظر أنه ، في هذا الفصل، من واجبه أن يشخص الاستعارة من منظور فلسفي وجودي، فربما يلزمه لذلك سنوات كاملة من البحث لكي يحاول إرضاء هواجس النظرية الدلالية ، لذلك انشغل بتنظيم النسق الزمني وفق مستلزمات اجتماعية و ثقافية، ممّا جعله يحول الاهتمام إلى النظرية المعاصرة للاستعارة ليؤكد من خلالها أن النسق الاستعاري الذي يملكه حول الزمن هو نسق يحمل مؤشرات معرفية ، دلالية و تصورية عميقة متجذرة في صلب الإنسان، بحكم طبيعة التجربة ، طبيعة اللغة و طبيعة العشيرة اللغوية التي يتواصل معها. ممّا أتاح لنه البحث في السمات الداخلية التي جعلته يؤول الاستعارة على حسب طبيعة المحتوى الزمني للفعل و الطبقة المقولية التي ينتمي إليها.