يرى الناقد العراقي ان تلك الرواية تلقي الضوء على واقع حال ودور ((المثقف)) في المجتمع العراقي العالق في جب الفقر والجهل والتخلف، والمقموع بسوط القهر والاستغلال والديكتاتورية من قبل سلطة تعاني من أزمة بنيوية مزمنة، بسبب قطع التطور الطبيعي للطبقات الاجتماعية، من قبل قوى الاستعمار الغربي.

محنة المثقـف العراقي

في «فراسخ لآهات تنتظر» للروائي زيد الشهيد

حمـيد الحـريزي

رواية (فراسخ الآهات تنتظر) للروائي المبدع الاستاذ (زيد الشهيد) ضمن دفق منتجه السردي المتواصل (افراس الاعوام) و (تراجيديا مدينة) وغيرها من فيض نتاجه الادبي الثر، يلقي الكاتب الضوء على واقع حال ودور (المثقف) في المجتمع العراقي العالق في جب الفقر والجهل والتخلف، والمقموع بسوط القهر والاستغلال والديكتاتورية من قبل سلطة تعاني من ازمة بنيوية مزمنة، بسبب قطع التطور الطبيعي للطبقات الاجتماعية، من قبل قوى الاستعمار الغربي، مما انتج طبقة سياسية هجينة من بقايا الاقطاع وبرجوازية طفيلية، زرعت ونمت في رحم قاصر، ومشيمة مرتبطة بجسد الرأسمال العالمي، معيقها ومنتجها وضامن ديمومتها على راس السلطة، عبر كبحه لنمو البرجوازية الوطنية المنتجة، وبالتالي وجود شبح لطبقة عاملة ضعيفة البنية مشوهة الفكر والتنظيم اقدامها في المدينة وراسها في الريف، ف ((العامل)) سرعان ما يخلع بدلة العمل رداء المدينة (البنطلون) ليرتدي (الدشداشة) والكوفية والعقال زي القرية وثقافتها، وبالتالي فان هذا الواقع الطبقي افرز او بالأصح القول ان حاجة الطبقة السياسية الحاكمة صنعت طبقة متوسطة تابعة لها بحكم الحاجة وحق براءة الاختراع .....

المثقف العراقي ينتمي الى الطبقة المتوسطة المولودة من (الاقطوازية) وطبقة العمال والفلاحين المشوهة ايضا كما ذكرنا في اعلاه خصوصا والدولة العراقية دولة ريعية تعتمد بالدرجة الاولى على ايرادات البترول الخام المصدر، مما يجعله حاملا لأمراضها وقصور مولدها وهجينيته ولكنه بحكم صفته واطلاعه على ثقافات العالم المتطور في مجال الاقتصاد والسياسة والادب والفلسفة والتربية تضعه في حالة من التفكر الدائم، والاحساس بالازدواجية بين قيم الحداثة وقيم التخلف، بين عالم الحركة والتقدم وبلين حالة السكون والمحافظة، وبذلك فقد تشظت هذه الطبقة بين وعاظ وخدم السلاطين وبين المناضلين الثوريين، مع سهولة انزلاقه بين مواقع الاولى والثانية ......

وفي الوقت الذي تعاني فيه الفئة الاولى من حالة احتقار الذات والوضاعة ككلاب صيد للطبقة المتنفذة والعيش على فتاة موائدها غاضة النظر عن ما تعانيه الأغلبية الساحقة من عامة الناس من الجوع والقهر والحرمان ... فان الفئة الثانية تنحاز وبصدقية وتفاني الى جانب مطالب الاغلبية المقهورة فتلعب دور المثقف العضوي المنحاز الى طريق الثورة والتحرر، وخصوصا القوى الشيوعية واليسارية حاملة لواء الحرية والمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة الوطنية .....

ولاشك ان طبيعة البنية الاجتماعية للمثقف ومحتوى ومضمون الموروث الثقافي لوسطه وطبيعة القيم المتوارثة للعائلة كلها عوامل تحدد للمثقف خياراتها الفكرية وانتمائه السياسي، ان اغلب مثقفينا العضويين ينتمون الى شرائح وطبقات تعيش في بحبوحة من العيش مقارنة بحياة عموم الكادحين... مما يجعل تبنيه لقضية الفقراء والمعدمين خيارا علميا وعمليا مبني على قناعة كبيرة بحتمية انتصار قيم العدالة والحرية والجمال، مما جعله يحتمل سياط جلاده الفقير المعدم المقهور باعتباره ضحية الجهل وعدم الوعي فيتأسى له بدلا من الحقد عليه، وكما نرى في رواية (فراسخ اهات تنتظر) ومنهم بطل الرواية (مبدر داغر) ورفاقه كمال وعبد الرحمن ونجاة وعباس الذي (التقطته هالة الشيوعية بعمر ثمان عشر سنة، وعدته بتطلعات ستمنح الانسانية المعذبة حرية وسلاما وهناءة عيش رغيد) ص19.

هذه النخبة المناضلة من المثقفين هي عصارة الكونفو رميا الاجتماعية الايجابية للمجتمع العراقي التواق للحرية والعدالة وتبنيها لقضية العمال والفلاحين وعموم الكادحين، لهذه الطبقة التي لم تزل عاجزة عن توليد مثقفيها ومنظريها بسبب ظروف موضوعية قاهرة تعيشها هذه الطبقة من فقر وتهميش وامية وحرمان، بالإضافة الى ضعفها وهشاشتها كنقيض للطبقة البرجوازية الطفيلية الغير منتجة .....

هذا هو سر واقعية وموضوعية الروائي (زيد الشهيد) في تسليط الضوء على المناضلين الشيوعيين من فئة المثقفين وخلاصه من هيمنة الإيديولوجيا في تصنيع البطل الثوري من طبقة العمال والفلاحين كما تقتضي مسلمات النظرية الماركسية برأي العقائديين، وهذا ما يؤكد مقولة ان الفقر ليس مصنعا للثوار، فالثورة نزوع للحرية والانعتاق قبل ان تكون نزوعا للجم فم الجوع ... فلم يكن ماركس ولا انجلس ولا لينين ولا هوشي منه ولا جيفارا عاملا او فلاحا.

وقد كانت ولا زالت (الاقطوازية) الحاكمة جل ما تخشاه هو المثقف الثور ي، وقد مارست ابشع انواع الاهانات والملاحقة والقتل والتعذيب والمضايقة ضد العلماء والمثقفين الثوريين فمثلا تعرض عالم الفيزياء واول رئيس لجامعة عراقية بعد ثورة 14 تموز 1958 عبد الجبار عبدالله صديق أينشتاين واحد مقربيه للضرب والإهانة حد البصق بوجهه وتحطيم قلمه هدية أينشتاين له من قبل الفاشست في انقلاب شباط 1963. يعجز الوصف وتقصر العبارات ويكل القلم عن وصف ما تعرض له المثقف العضوي العراقي من اساليب القتل والسجن والتشريد والاذلال والحرمان في مختلف الحقب ومن قبل السلطات المتعاقبة على سدة الحكم في العراق الخ من اغلب سجناء السجون الفاشية كقصر النهاية ونقرة السلمان وسجن الكوت والحلة المركزي وسجن رقم واحد .... الخ من المثقفين الثوريين وليس من العمال والفلاحين وعموم الكادحين ... فهم اول من ارتقى مشانق الحرية بوجوه باسمة من اجل مستقبل افضل للإنسان العراقي ومنهم فهد وحازم وصارم وسلام عادل وحسن عوينه وصفاء الحافظ ... والقائمة تطول كل هذا انتصارا للحرية والكرامة والتوق نحو عالم الاشتراكية المشرق حيث العدالة والسلام.

فالمثقف العراقي نذر نفسه لقيم الحرية والعدالة، نجده فرحا مسرورا حينما يعيش وسط العمال والفلاحين رغم خشونة الحياة وصعوبتها في عمق الصحاري ومتاهات الاهوار وفي القرى النائية معلما وطبيبا ومهندسا، كمبشر ومنور وداعية يتحمل الاهوال من اجل تحقيق المنال ....

رأس المثقف مطلوب في زمن الديكتاتورية و«الديمقراطية»!!

ولا زالال المثقف الثوري العراقي عرضة للقتل والتشريد، قاسم عبد الامير عجام و كامل شياع وغيرهم وان اغلب المشردين والمهاجرين من الاطباء والمهندسين والادباء يعيشون الغربة حد الموت في المنافي لحد الان فهها هو (ابراهيم البهرزي) يقبع في السجن، ناهيك عن التهميش والابعاد والتهديد بالقتل ان لم يتختم ولم يوشم جبهته ولم يقبل يد السيد ولم يسبح بفضل (البنتاغون) ونعمة المحتلين ولم يعزف على وتر العرقية والطائفية ....

يمكننا القول ان المثقف العراقي لازال يتعرض لأقسى انواع السجن الروحي رغم ما يتمتع به من حرية الجسد الظاهرية على شرط أن يديمها سجن القلم واللسان .....

 عشق للجمال وحلم بال «نجــــــــــــاة»..
مبدر داغر الشاعر المثقف والاسم دلالة الاصالة المتشرب ببيئة القرية وبداوة الصحراء، والمشبع بقيم الشيوعية من عمه (عباس) رمز الثورية والوفاء والتضحية في الموروث الثوري (الشيعي) في الوسط والجنوب.

طالما هو كاشف لقيم الحرية والانحياز للفقراء وحامل لقلم الشاعر عاشق الجمال والعدالة، عاش متعة الرقة والسعادة في غفلة من الرقيب لينعم بالـ(نجاة) هذه التي كان يمكن ان تكون جسر الامان والثقة والتعاون بين السلطة الممثلة بحزب البعث آنذاك وعن طريق فريق من البعثيين المناهضين لفكر الهيمنة والانفراد بالسلطة والمتعاطفين مع حملة فكر التنوير والثقافة والتقدم من القوى الوطنية الاخرى والتي كانت مجسدة بالحزب الشيوعي العراقي ممثلا بالرفيق (شهاب سعدون) هذا الذي كان جرس الانذار المبكر للمناضلين الموضوعيين على قائمة التصفية والتغييب من قبل السلطة واجهزتها القمعية، خلاصهم بالهروب من براثن الامن والاستخبارات والمخابرات التي تربص بهم الدوائر .....

هذا الـ(الشهاب) نموذج للعديد من البعثيين الوطنين اصحاب الضمائر الحية الذي لم تزل تنبض الانسانية والالتزام بالقيم النبيلة للإنسان العراقي في عروقهم، نقول هذه النماذج وهي العلامة المضيئة في تاريخ هذا الحزب، تم تجاهل دورهم الكبير في التعاطف مع قوى المعارضة للديكتاتورية حد التضحية بالمال والمنصب والنفس، وقد يكون السبب في هذا الجاهل ضخامة حجم العسف والويلات والماسي التي ارتكبت تحت مظلة هذا الحزب وبقيادته، بالإضافة للظروف القاهرة والمعقدة التي مر ويمر بها الشعب العراقي وعلى الاخص مناضليه من القوى الثورية واليسارية ....

وقد كان الروائي المبدع (زيد الشهيد) في غاية الموضوعية والفطنة والذكاء في تجسيد بعضا من معاناة هؤلاء البعثيين اللذين اعدم العديد منهم من قبل الديكتاتور(عريان) لأتفه الاسباب وحتى عند الشك في ولائهم لقيادته ومعارضتهم لتفرده في قيادة الحزب والدولة، ان العديد من الشيوعيين واليسارين والديمقراطيين حافظوا على حياتهم بفضل هذا السور المخفي والمعلن من قبل هؤلاء البعثيين وكأنهم يحافظون على نموذج عجزوا ان يكونوه في ذواتهم فدافعوا عنه وحفظوه مجسدا في ذوات هؤلاء اليسارين والمعارضين من مشارب اخرى لضمان خلاصهم وخلاص الشعب والوطن من عسف ال(عريان) وتسلطه .. بناءا على نصيحة والدها (شهاب سعدون) قرر (مبدر داغر) الحبيب الذي منحته البهجة والمتعة وزرعت في جسده طعم ورائحة الامان والسعادة، مهاجرا كغيره من الاف العراقيين الهاربين من اما من جوع او من خوف، ولكنه ظل يحلم بهذه ال ((نجاة)) متلفها لمتابعة اخبارها واحوالها حتى وهو يستمتع بفردوس ((بشرى)) المغربية في ليبيا واعدة اياه للضفر بالأمان وال ((نجاة)) في فرنسا ديار الغرب والغربة

المخلص الخائــــــــــــــب !!
القارئ وهو يتابع لهفة مبدر في التفتيش عن (نجاة) وخصوصا في الاردن عندما عرف انها قد اختفت ولم يعرف مصيرها من قبل والدها، المصاب بمرض خطير نتيجة معاناته مع السلطة ومن ثم وفاته تحت ظروف صعبة في مسقط راسه في البصرة، ان (مبدر) سيفعل المستحيل والتضحية حتى بحياته من اجل خلالها، ولكنه يصدم تماما حينما يستدل عليها من قبل صديقه (عبد الرحمن) بان زبانية النظام حولوها الى عاهر يكسبون من وراء بيع جسدها لمشترين المتعة من مختلف الجنسيات العربية والغير عربية .... بل ترجت منه ساعة الخلاص ... اغثني ... انقذني) ص304.

ولكنه يلوذ بالهرب العكسي الى البلد ولم يحاول ولا يفكرا في ايجاد حيلة لخلاصها وانقاذها مما هي فيه وكأن الروائي يشير الى طبيعة هذه الشريحة من المثقفين الذين لا يجيدون سوى الهروب والتخفي (مبدر داغر) و(عبد الرحمن) او الانتحار (كمال) وبذلك يبقى حلم الـ(نجاة) تحت رحمة زمرة القتلة من اتباع الديكتاتور، مقهورة مغتصبة الروح والجسد .....

يبقى مصير (النجاة؟) وهو مصير امة بكاملها مجهولا حتى بعد انهيار الديكتاتورية، يبدو ان الكاتب كان غير واثق من سيادة الامان والسلام والرفاه في العراق لتطمئن روح نجاة، وتحترم جسدها روح الشعب وسيادة الوطن، حيث اجابة الواقع الحالي بعد (12) عاما من سقوط الديكتاتور فالعراق وشعبه لا امان ولا سلام ولا رفاه ولا سيادة فلا زالت (نجاة) مغتصبة تحت رحمة الجلاد الديكتاتوري وال(ديمقراطي) ... وقد خاب ظنها، ظن الامة من المخلص الامل الذي استغاثت به باعتباره املها في الخلاص بعد ان جلس في مجلس (بريمر) الاحتلالي ....

 لازال الحزب واحدا من المقدسات :
الكاتب وان بدا مدركا لوقوع الحزب في الكثير من الاخطاء والمطبات الفكرية والسياسة خلال مسيرته الكفاحية الطويلة المريرة، ولكنه لم يشأ ان يتعرض الى هذا الامر ربما لأسباب ذاتية رغم انه امتلك اداة كفوءة كاشفة وقادرة على تقييم مسيرة الحزب وسياسته آنذاك اي قبل 8 شباط 1963، مجسدة ما خلفه المناضل الشهيد (عباس) عم (مبدر) الذي استشهد تحت التعذيب، كما ذكر ذلك رفيقه في الكفاح (حازم انور) هذا المناضل صلب ارادة، الذي قد شفع له تقدمه في العمر واعتزاله التنظيم للخلاص من تصفيات امن ال(عريان)، خصوصا وان عباس كان كاتبا ومفكرا واعدا، فلابد وان كتب العديد من الدراسات والمقالات تؤشر وتوثق مسيرة الحزب آنذاك ... نرى ان اهتمام الرواية بالفعل التحليلي والتقييمي مهم جدا لمن يحاول (ابنة التاريخ) والحراثة والتنقيب في كهوفه ومنحنياته وكشف المسكوت عنه من قبل المؤرخ العادي، هذه المهمة الكشفية ولتنقيبيه هي من اهم صفات المؤرخ الاديب او الاديب المؤرخ الروائي بالخصوص ...

فقد تكرر في هذه الرواية فعل التوصيف مهيمنا على فعل التعريف والبحث لما وراء الظاهرة وما وراء الحدث فمثلا ماهي اسباب الصراع المرير بين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي، حيث ترتسم امام القارئ صورا شتى اساليب التعذيب والقهر والملاحقة للسلطة البعثية ضد معارضيها وخصوصا الشيوعيين وانصارهم.... ولكن لماذا كل هذا العداء وهذا الصراع، ماهي روافعه الاجتماعية والفكرية والاقتصادية .. ماهي اسباب حالة المد حد التحالف وحالة الجزر حد الابادة بين الحزبيين ؟؟؟

فالروائي يمتلك الحيز الكافي من حيث الوسيلة لوضع الحدث على طاولة التشريح بمشرط الجراح المفكر وريشة الرسام لكشف وتشخيص وتجسيد الظاهرة وتظهيرها بألوانها الحقيقة وليس كما هو ظاهرها ومظهرها / وليس كما يريد لها من قبل السلطات، فمثلا لماذا صدرت فتوى (الشيوعية كفر والحاد) في توقيتها آنذاك وهل الدافع هو الدفاع عن القيم والمبادئ الاسلامية والدينية، او ان ضرب مصالح الاقطاعيين وضرب مصالح الشركات البترولية الاحتكارية التي تبنها الشيوعيين هي السبب الكامن وراء هذا العداء الاسلاموي للشيوعيين؟؟

كما ان الروائي يمتلك حرية استدعاء الشخصيات الاجتماعية للكشف عن صفات ومعاناة وتداعيات القوى والطبقات الاجتماعية المتصارعة وكشف حقيقتها بعيدا عن سطوة وزيف الانحياز الأيديولوجي ....

الروائي ضمير التاريخ الصادق الجريء عابر الايدولوجيات، ومتجاوز سلطة الرقيب السلطوي، مما يتطلب منه ان يكون ملما بطبيعة مجتمعه من حيث تركيبته الطبقية والفكرية والسياسية وعاداته وتقاليده وموروثه

وردت هنة بسيطة في تاريخ اعلان الجبهة الوطنية بين البعث والشيوعي حيث ذكر الكاتب بانها كانت في 1975، والحقيقة هي اعلنت عام 1973، وقد اعلن عريان موتها عند اعتلائه الموقع الاول في السلطة عام 1979.

رواية هاطلة بجمال المفردة ورصانة الحبكة :
منذ الصفحة الاولى للرواية تطالعنا مفردة الهطول «اللحظات المتهاطلة بثقل وئيد»، ثم تتكرر هذه المفردة بمختلف تحولاتها من مصدرها في اغلب صفحات الر واية، مما يجعل الرواية هاطلة بالأبداع والمتعة ودقة التوصيف بامتياز كبير، مما يشير على قدرة الكاتب وامتلاكه للحس الجمالي والبعد التوصيفي وخزين كبير من جواهر اللغة .....

كما ان الكاتب امتاز بقدرته الفائقة في تظهير الحدث او الصورة بأدق تفاصيلها الوصفية والروحية، مما يجعلها تشعر بالامتلاء بمعناها ومبناها وصدق التعبير عن حقيقتها فمثلا عندما يصف حالة نجاة في وكر اسرها في دار البغاء يرسم صورة تشد القارئ وتجعله يتفاعل معها، واقول الحق والله لقد ابكيتني يا زيد وانا اقرأ وصف حال ((نجاة)):-

«نعم .. كانت نجاة ... هي ... هي!! خاوية، جريحة، ذاويه، تعبى، عجفاء، مرتبكة، منهارة، كسيرة، جزعة، ملولة، كئيبة، مضطربة، منعزلة، مستكينة، حزينة، ذليلة، شاحبة الوجه، ذابلة، الجفنين، جفيفه الشفتين، رعيشة الاصابع، ممصوصة الجسد، خاوية الفخذين، ضامرة البطن، نهداها ليمونتان معتصرتان منكمشتان، عيناها بحيرتان متكدرتان، ليس لها طاقة على النهوض، لا قدرة لها على النطق ... وحيدة، جريحة، مفككة .. لم تطلب قبلة اللقاء!! بل ترجت ساعة الخلاص!! ولم اسمع منها غير عبارة: اغثني .. انقذني ... انهم يبعثرونني قصدا في قتلي» ص303-304.

نلاحظ هنا قدرة الكاتب المذهلة على التوصيف وعرض الحالة بكل تحولاتها وقساوتها وايلامها وشناعتها، دلالة الصدق في التعاطف مع الحالة، وسعة مخزونه اللغوي، ودقة ملاحظته .. فقد صرخت ب(مبدر) يالك من جبان كيف تتخلى عنها وانت الحبيب المخلص، ما اجبنك واجبن صاحبك (عبد الرحمن )؟؟ كنت مقداما حين دعتك للمتعة والاستمتاع بجمالها وجسدها، ولكنك جبان منهزم حين تدعوك لخلاصها!!

نقول هذا رغم اننا نرى ان المقدمة (الأب كما رأيته ... البيت كما اراه) ص7 التي اتت قبل الفصل الاول كانت متكلفة التعابير، غائمة المعنى (يحتمي بالنهوض صوب الخروج)، اقرب الى خطبة في البلاغة منها الى لغة السرد الروائي الذي يأتي منسابا بلا تكلف، كما هو في كل فصول الرواية، حيث المفردة السلسة الشفافة الممتلئة بمعناها الراضية بمبناها، حيث تهيمن لغة واسلوبية الشعر السردي الممتع على مجمل فصول الرواية.

في الختام لا يسعني الا ان اقدم آيات الاعجاب والتقدير لهذا العمل الروائي الممتع والمبدع للروائي القدير الاستاذ زيد الشهيد، والذي جذبتني رواياته بشدة لقراءتها والكتابة عنها لأنها جديرة بالاهتمام، وبالخصوص اهتمامه بأدبنة تاريخ العراق بكفاءة عالية وسد النقص الكبير في توثيق تاريخ العراق ادبيا ...... متمنيا له المزيد من التألق والابداع مع اعتذاري ان اغفلت حدثا، او بالغة في التأويل، او تطفلت على خيارات الكاتب بالأمنيات.