لا تهم التفاصيل، كل ما في الأمر أني حزينة، ولا سبب مقنع لهذا الحزن. كل الأحزان صارت عندي قديمة، ولمن العجب حمل ما دار الزمان عليه وقدم. ما يزال جرح الطائرة الورقية، وقطتي المنسية التي تركتها هناك أحملها كما كنت وما أزال أحتفظ بدفتر خطت عليه وما يزال الربيع أخضر. مرت سنوات والربيع ما زال أخضر، لا يهم من يمشي عليه الآن و لا يهم من يبول عليه الآن... عبثا يريدون سرقة نفسي من نفسي ومحو صورتي من وجهي.
قلت لي يوما: أرى وجهي في عيونك وأحب جسمي لأنك جزء من جسمي، وأحب المرآة لأني أرى نفسي و أراك...
ما أزال أحس المكان ملكي وإن قال الجميع لقد طردوك من هناك، ولم يستطيعوا لأني أنا المكان والمكان أنا ولا شيء غيري ولا شيء سواي لأن السماء تبدأ عندي، وتنتهي عندي، وأنا البداية والمنتهى، وأنا فرح وألم السماء. وعدتني أن نذهب هناك في الربيع وجاء الربيع ونسيت ما قلت لي ولم أنس أنا، كيف يقولون إنسي؟ والطريق المسجى برائحة الدفلى والياسمين تقطع من بداية دمي إلى آخره، والمحطة المذكورة أيضا تحمل الأحلام وتنزلها على الرصيف، وأنا مارة أنظر إلى حلمي الصغير يحمل حقيبة رمادية دون أن يهتم بوجودي. والدالية التي أغصانها من خيوط الشمس، عنبها ممزوجة حلاوته بالضوء الحار، ودودة العنب تحرس الشمس حتى لا تنفذ كلها عبر الأوراق، وعند بداية الخريف تنهي دورة الحراسة لتسقط مع الورق، والمنزل العتيق قال لي: ظلي لا ترحلي معهم، لكني رحلت ولم تنتهي رحلتي ما دمت أحمل الطائرة الورقية، والقطة المنسية، والحلم الصغير، والدالية، والعنب، ودودة العنب، على ظهري وأمضي.
كان الرحيل بداية الربيع، لكن ملامح الفصل لم تبد بعد، لا ورود في الحديقة ولاشيء إلا الطين الأحمر المبلل، والسماء الغائمة، والأشجار العالية الحزينة، و كأن الجميع رآني أجمع الحقيبة وأبكي.
قطعت بعد هذا اليوم مسافات كثيرة، وحملت حقيبتي أكثر مما أريد وأكثر مما تتحمل حتى تمنيت لو ترتاح وتمنيت لو يأتي يوم لا أفكر فيه بالرحيل.
كانت الحافلة ممتلئة لكني وجدت مكانا منعزلا قرب النافذة، ورأيت كل المدينة تجري خلفي، ورأيت الشجر يعدو والسماء تبكي فتتساقط القطرات على زجاج نوافذ الحافلة مشكلة رسوما وخيالات: طفلة، وباقة ورد، وامرأة بشعر طويل مجعد.
مضت سنوات على هذا وما زلت أشعر بالغثيان يسكن روحي ممزوجة مرارته بحرارة الشمس اللاهبة التي تخترق السحب مرة بعد أخرى على طول الطريق، غثيان يجعلك تحس نفسك داخل قفص من الدوار الأخضر والوحدة. وصلت محطة القطار ووجدت الكل ينتظر الرحيل لا أحد مستقر. في المكان حقائب وضجيج وحكايات على رصيف السفر، رجل يدخن وينفخ دوائر متداخلة في نهاياتها في الفضاء، وامرأة شاحبة زادت شحوبها جلبابا أصفر وحناء في كفيها صفراء، وطفلها الصغير يريد أن يحبو فتمنعه فيصرخ ويعيد الكرة فتمنعه مرة أخرى. وبائع الحلوى المغلفة بالبلاستيك يتمنى لو تغري المنتظرين حلواه فينسوا بها ملل الانتظار. الصمت يملأ المكان ويخترق الأحاديث الثنائية الخفيفة، وكأن الانتظار حفل تأبين: جماهير، وحزن، وانتظار. ثم يطل وجه القطار معلنا وصوله فيتسابق المنتظرون نحو الوجهة ويبق الآخرون. تأخر قطاري أكثر مما توقعت و اختفى ضوء النهار ولبست السماء ثوب الليل، لم أستقبل - مرة قبل هذا- الليل وحدي. كان الليل سرا يقع خارج أسوار منزلنا القديم، وكان المساء عندي ضجيج ألفة ممتع ونافذة تطل على ضوء أعمدة نور الشارع العسلية البهيجة. أخذني التفكير ولم ألحظ كم قل المنتظرون، وظلت امرأة مدخنة وعجوز تحمل قطة داخل قفص ورجل يقرأ الجريدة حينا ويتلصص على المارة والسكة والنفق حينا آخر وعلي. حفرت الحقيبة في يدي أخدودا صغيرا وأخدودا آخر ظل في ذاكرتي يمتد امتداد الطريق. ثم أقبل قطاري المنتظر واتجهت نحوه دون تفكير مستسلمة للسفر.