الحلقة الأولى: منبت الشر
هل تعرف ما هي أعلى درجات القلق؟ -لا أعتقد، ولا حتى جربت حتى كيف تكون...إنها عندما يبلغ بك الأرق المرحلة التي لا تدرك فيها حتى أنك مصاب به.. وإن كنت الآن تحرك أصابع قدميك تحت فراشك الدافئ تتأمل سقف غرفتك تفكر في اللاشيء، أو تفلسف مواقف قديمة في حياتك، لتثبت لنفسك أنك قد مللت من كونك دائما على حق، وأن الآخرين مجرد حمقى ليس من حقهم أن يجلسوا معك على مائدة الجدال من الأصل! ...أو–على أسوأ الفروض– ربما حاولت تقليب صفحات رواية مملة كتلك التي بين يديك الآن حالاً عسي أن تبدأ في التثاؤب..حسنا..أياً كانت فرصتك في الحصول على بعض الوقت من النوم الثمين، فهي حتما أفضل من فرصتي....فأنا لست في فراشي الآن.. والقصة التي تمسك بها الآن بين يديك هي قصتي أنا شخصياً.. والأهوال التي رأيتها كافية وكفيلة بطرد النوم من أمخاخ كسالي العالم، حتى ولو كان الغلاف الجوي هو التركيز الأساسي لأجود أنواع الغازات المنومة!
كما ترى فإنني أحتمي الآن بإحدى أشجار الكافور المغروسة في نهاية الطريق الذي يعتبر آخر ما له صلة بالعمران من مدينة (السويس)، في الاتجاه الذي تنطلق منه العربات إلى (القاهرة)..الرياح تعصف بالرمال فتثقب بها وجهي، وتحرض أوراق الكافور على العراك، فلو أستمر الأمر كثيراً على هذا النحو لأصبت بالصمم التام، ولتحول وجهي إلى مصفاة من النوع الممتاز!
كنت أتأمل الجبال التي حولتها نجوم (فبراير) إلى كابوس أسود أمام خلفية من الأزرق الثقيل. وكان الطريق ينحدر لأسفل، حتى كأنك تشعر أنت الآخر بأنك فوق قمة جبل غير الذي يرتفع أمامك، أو بأنك على حافة هاوية في نهاية العالم.
أعرف أنك بدأت تشعر بالملل، ولكن.. لم تتعجل الأمور؟ سوف تعرف كل شيء في حينه. وسوف تتعرف على هذا المكان أكثر بعد قليل. ولكن، دعني أولاً أنصحك بشيء مهم: يجب أن تعرف أنك إذا انطلقت من السويس إلى القاهرة فلن تجد هذا المكان – وإذا انطلقت من القاهرة إلى السويس، أيضاً لن تجد هذا المكان. وفي كلا الحالتين لا أنصحك بمحاولة العثور عليه.. ليس لأنك لن تعثر على سبيل إليه ما حييت.. بل لأنك إذا وجدته؛ فقد يكون هذا هو أخر شيء تفعله في حياتك.. !
* * *
نزلت من أعلى المنحدر، أسير بين التلال والجبال التي تعلو هنا وتنخفض هناك حتى وصلت إلى الممر الرئيسي الذي ينتهي بالبلدة.. ولا داعي بالطبع لأن أخبرك أن هذه البلدة لا اسم لها... ولم يطلقون عليها اسما؟.. إنها غير موجودة على الخريطة!.. حتى إذا حاولت الحصول على أحد إثباتها من مكتب المساحة التابع لمحافظة السويس فسوف يرمونك هناك بنظرات ربما تراها للمرة الأولى في حياتك، هي مزيج من الشك والشفقة و("ما هو رقم الهاتف الخاص بمستشفي الأمراض العقلية؟")، كأنك تحاول شراء قرطاس آيس كريم في الإسكيمو!.. نصيحتي الثانية لك: "لا تسأل أبداً عن هذا المكان!"-سوف تعرف القيمة الذهبية لهذه النصيحة في النهاية... أما الآن..
أما الآن، دعني أصف لك المكان الذي تتحدد معالمه تحت الضوء الشاحب القادم من اللا مكان.. إنهم لا يسكنون الكهوف هنا، لأن كلمة الجبال جعلتك تتخيل المكان مأوي لمطاريد الصعيد.. الواقع أن الساحة الرئيسية كانت أقرب إلى ما يمكنك أن تشاهده في إحدى قري جنوب أسبانيا..هي مساحة نظيفة من الأرض في قلبها بئر ما (وبالرغم من أنها تبدو المصدر الوحيد للماء هنا، إلا أنني لم أر أحداً من سكان البلدة يقربها من قبل، ربما أنني لست ملاحظا جيداً، أوقد يكون السبب هو أنني لم أمكث هنا طويلاً). وعلى محيط الدائرة التي يقع في مركزها البئر هناك مجموعة من المنازل بسيطة الطراز، كلها بيضاء اللون، وفي أحد جوانب المكان هناك ما يشبه مقر الحكم بالنسبة لهم هنا أو – بصورة أوضح – كأنه أحد المعابد الخاصة بديانة مجهولة..البيوت هنا ليست متلاصقة، من ثم يمكنك أن ترى فيما بينها الدروب الضيقة التي تتفرع من الساحة الرئيسية متوغلة في عمق المكان، ولكن الضوء شديد الخفوت سوف يمنعك من أن ترى نهايتها (إن كان لها نهاية). ولكن ما الذي تريد أن تراه في مكان مقبض كهذا؟ وعلى أية حال فإنك إذا.. مهلا.. هل تسمع هذه الخطوات القادمة من قلب الظلام؟ بالطبع لا.. لكني اسمعها بوضوح.. تقترب.. تقترب.. تقترب.. و..
* * *
إنك على وشك أن تسألني: ما هي علاقتك بهؤلاء القوم؟..ولماذا تبدو وكأنك غريب عن المكان ومن أبناءه في الوقت عينه؟... كيف؟.. وماذا؟... وما الذي..؟.. أعرف تماماً أن السؤال هو أبسط حقوقك الطبيعية، ولو لم يكن، فهو كذلك الآن مادمت قد أفرغت وقتك لسماع حكايتي، ومن واجبي أن أمنحك كل الإجابات التي تبحث عنها، أما مسألة أن تصدق ما سوف أقوله لك أو تكذّبه؛ فإنها تعود إليك بالكامل!
الآن اقترب منى أكثر لأن صوتي سوف يبلغ حد الخفوت التام أحياناً وأخشى أن يتصادف هذا مع تفصيلة هامة، أعد لنفسك كوب من الشاي لو أن لديك رغبة في هذا، أغلق الباب جيداً، ثم تأكد من أنه لا ارتباطات مهمة لديك اليوم، وبأنه لن يناديك أحدهم بعد قليل، وذلك لأن الوقت الذي سوف نمضيه معاً ربما يطول بعض الشيء.. هذه ليست قصة حياتي وإنما تاريخ هؤلاء القوم الذين – ربما – كنت أنتمي إليهم!
* * *
ليسوا من بني البشر! كلا. لا أمزح، إنهم ليسوا آدميين مثلي ومثلك ومثل شقيقك وأصدقاءك، ومن يتسلقون الحافلة معك، وينامون معك في فراش واحد، إنهم جنس حي من ضمن عشرات – وربما مئات – الأجناس التي تعيش حولك ولا تراها أو تلك التي بنت حضارتها في أماكن لم تحلم أبداً بوجودها، فضلاً عن الوصول إليها. أما بالنسبة للأفراد فأسماؤهم تختلف بالطبع عن تلك الأسماء التي اعتدت أن تسمعها كل يوم، وأعتقد أنك سوف تعرف بعضها في حينه، لأنني لا أنوي أن أسود لك قائمة بالأسماء العجيبة، لأنك لا تقرأ إحدى روايات الخيال العلمي إياها التي تسمع فيها آلاف المسميات كأن إعصارا أطاح بمقلب نفايات!
الآن، وقد عرفت شيئاً عن مكانهم تسأل: هل لهم وجود في أي مكان آخر؟..لا أظن أن لدي الشجاعة الكافية التي تؤهلني للإجابة على هذا السؤال.. ولكن.. اطمئن، فلا يوجد (منهم) في مصر إلا عشيرتهم التي تدخل ديارها معي الآن في المنطقة الجبلية من مدينة السويس. كيف تبدو سماتهم الشخصية؟..عادية جداً..البشرة ناعمة للغاية لها درجات اللون البنفسجي وبعض الخطوط من الأحمر النبيتي. الإناث لهن شعر أزرق (كحلي أحياناً) يتركنه لينسدل حتى الخصر أو يعقصنه خلف الرأس ليكون عملياً أكثر (حتى النساء هناك يعبأن بهذا الهراء)! أما الرجال فمعظمهم صلع الرؤوس تماماً حتى تعتقد أن (المينوكسيديل) لم يصنع بعد!.. أخبرني البعض أن هذه ليست هي هيئتهم الحقيقية وأن لديهم القدرة على التشكل كالحرباء، فإن كان هذا تنكراً ليخفف من تأثير ملامحهم الأصلية، فماذا يا ترى أسوأ من رجل بنفسجي أصلع وامرأة مخططة الوجه؟
فيما بعد سوف تعرف أن قدرتهم على تغيير أشكالهم والإحلال في صور وأجسام أخرى ليست إلا بغرض التواجد بيننا، إنهم يتخذون هيئة البشر في سهولة تامة وبراعة مطلقة، هذا ضروري طبعاً.. تخيل مثلاً عندما تسطع الأضواء في حالة السينما بعد انتهاء العرض لتجد أن الفتاه المجاورة لك – والتي انشغلت بها عن الفيلم – بنفسجية البشرة ولها أنياب!.
كيف كان منشأهم؟ لن تجد من يجيبك بدقة على هذا السؤال، إلا أن بدايتهم موغلة في القدم، ومنذ هذه البداية وهم بيننا.. لم يأتوا من كوكب أخر كما يعتقد خيالك الخصب، أرجوك، إنك لا تقرأ أحدي قصص (ويلاند دريو).. إنهم معنا منذ البداية وربما كانوا قبلنا.. إلا أنني اعتقد أن لدي ما يثبت بشكل مؤكد أن الظهور الأول لهم كان في (السويس)، هذا الشيء لا يمكن التأمين على حقيقته بسهولة.. من الصعب أحياناً أن يتذكر المرء ملامح القابلة التي أشرفت على ولادته!
هل أجبت على أسئلتك؟ أتمني! ... بالتأكيد ليس كلها؛ فهنالك المزيد. هل ترغب في معرفته؟.. هناك.. في المنزل الذي أقيم فيه الآن بالولايات المتحدة حيث كان مستقري لأعوام طوال، قبواً نضع به أثاثنا القديم ومقتنياتنا التي لم نعد في حاجة إليها ولا نستطيع التخلص منها كذلك، في أقصى أركان هذا القبو توجد خزانة ملابس عتيقة إذا رأيتها سوف تظن أنها كانت في حجرة نوم (ماري أنطوانيت) يوماً!..لكني عرفت فيما بعد أنها كانت ضمن الديكور الذي استعملوه في إنتاج فيلم (جين إير)... وراء الباب الثالث في هذه الخزانة، وضعت تحت معطف مطر قديم كنزي الثمين من كل الأوراق والمتعلقات التي كنت اجمعها (عنهم) بعناية وصبر طيلة حياتي السابقة.
كنت أعلم أنهم سوف يجدونني يوماً.. وكنت أعلم أنني يجب أن أذهب لأواجههم..ولكن، قبل كل شيء، دعونا نعود للوراء سوياً، ليس عام أو عامين، بل أعوام طويلة تمتد حتى سنوات الصبا الأولى حيث بدأت الأحداث الحقيقية لقصتنا.
* * *
الحلقة الثانية: رحلة مدرسية
في الساحة الكئيبة بين الجبال اقتحمتني الذكري بلا استئذان.
لا تسألني لماذا ينحرف سائق الحافلة التي تحملنا إلى (العين الساخنة)، لأن الطريق في هذا الوقت كان شنيعاً، أعني بالطبع ذلك الذي ينبت من مدينة السويس عبر الجبال.
كنا وقتها في الصف الثاني الثانوي (وربما الأول أو الثالث) لا أذكر، لكنها كانت دراستنا الثانوية بالتأكيد لأننا لم نفزع من تعطل الحافلة في منطقة مقطوعة، وربما وجدناها مغامرة مثيرة بشكل ما.. في حين كاد السائق يختنق لان آخر ما كان يتمناه هو أن تتوقف سيارته في هذا المكان الذي لا تسكنه إلا الجبال ومع صبية وفتيات حمقي. ووجود الفتيات يؤكد المرحلة العمرية بالنسبة لي، لأن دراستي المشتركة كانت في المدرسة الثانوية (وكذلك الابتدائية بالطبع، لكني كنت أصغر من أن أتذكر أي شيء لو كان قد حدث هذا إثنائها!).
على أية حال كنا سعداء سعادة الصبا عندما تتورط مع رفاقك الذين يماثلونك عمراً في مكان واحد بعيد.
وحتى يبعث الله المدد مع سيارة عابرة راح سائقنا يدخن بقنوط بعد عدة محاولات مع محرك الحافلة العنيد، وقبل الغروب بقليل نصبنا معسكراً، كانت قائمة الرحلة تقتصر على ثمانية فقط ممن وافق ذويهم على قيام أبنائهم وبناتهم برحلة إلى منطقة جبلية قد تستغرق اليوم كله، أنا و(أحمد إلهامي) و(محمد إلهامي) وهما شقيقان ينتميان لعالة ميسورة و(عبد الناصر رشاد) وجاء مرغماً تحت ضغط مني فهو أقربهم إلى، رغم أن هذه الرحلة البسيطة مرهقة مادياً بالنسبة له، و(سلوى) و(مي) و(زينب) و(مها) ولم أكن اعرف الكثير عنهن بطبيعة الحال، الأولى والثانية تسكنان الجانب القصي من السويس حيث يقطن علية القوم هنا وهما كالأختين، تربيتا معاً وتفعلان كل شيء معاً تقريباً، والثالثة هي ما كان مقدور لي أن تمس شغاف قلبي في تلك المرحلة الحرجة من العمر، وكنت أنوي أن أصارحها بعبارة ما في رحلتنا السعيدة تلك لولا الموقف المقبض الذي واجهنا والذي سوف تعرفه بعد قليل، والأخيرة ابنة لأسرة متوسطة، قوية الشخصية في مواقف معينة ومرهفة الحس في مواقف أخرى، هي من ذلك الطراز الذي لا تستطيع التنبؤ بردود أفعاله؛ لكن شجاعتها الأدبية وإخلاصها الواضح في كل ما تفعل وتقول جعلها الصديق الثاني بعد (ناصر) والأول من الجنس الآخر.
أربعة فتيان وأربع فتيات، يمكنك أن تقول أي تلميح يخطر على بالك، لكني أذكر أن (ناصر) و(مها) قد تشاجرا كلامياً و(أحمد) كان يدخن سيجارة سرقها من والده وهو يحدثنا عن الطريقة التي تعقص بها (مي) شعرها، وأنا كنت قد تركت قلبي في حقيبة (زينب)، واعتقد أن (سلوى) كانت تتبادل النظرات خلسة مع (محمد)، ربما كانت الوحيدة بيننا التي استطاعت أن تحبه.
* * *
-"يا للروعة!"
-"روعة؟"
-"أراهنك على أننا سنكشف عن جثة غول أو سوف يخرج لنا مجرم هارب من بين شقوق الجبل قبل أن يأتي الفجر!"
هكذا تبادلنا حديثا هامسا، لكن (محمد) طمأننا: -"بل سيلتهمنا ذئب خرافي بحجم قبة هذه الصخرة!"
ضربته (مي) بكوعها، فكف عن التظرّف، وانتفض شقيقه (أحمد) بحركة مسرحية قائلاً: -"هيا يا أبطال سفينة فضاء مدرسة (العاشر من رمضان) الثانوية، هاجموا كوكب (عتاقة)..اذهبوا وحطموه، واقتلوا الأفاعي وسممّوا الحيوانات، وطهروا الهواء من غبار الطلع، واحفروا الأرض واستخرجوا منها أسرارها؛ هدّموها بالمعاول، ثم انسحبوا حالما تكونون قد حصلتم على ما تريدون، وإلا فإن الكوكب هو الذي سيسيطر عليكم..مزّقوا قشرة هذا الكوكب ثم اهربوا قبل أن ينفجر هذا العالم الجديد في وجوهكم!"
كان من هواة قصص سيوف الليزر وأفلام المجرات الحلزونية التي لا يوجد أكثر منها في العالم، كما هو واضح. واستجابة لخطبته الحماسية، تلقى نظرات نارية أخرسته على الفور، فدارى حرجه بأن سألني: -" (هادي)! هل أحضرت مطواتك معك؟"
أدرت وجهي أتأكد من انشغال سائقنا في محاولات عبثية مع الحافلة المعطلة، بينما عقد (ناصر) حاجبيه، مركّزاً نظرة متسائلة متشككة على وجهي، وهتفت (سلوى): -"مطواة؟ يا للهول!"
وعكست النار التي أشعلناها بقداحة (أحمد) الدهشة على وجه (زينب) التي تمتمت في شيء من التهكم: -"وما حاجتك إلى مطواة في رحلة لطيفة كهذه يا سيدي؟"
تنحنحت مجيباً وأنا أتحسس جيب بنطالي الخلفي: -" (العين الساخنة) بها ألغام دفينة من أيام الحرب، فكرت في أننا ربما احتجنا إلى تعطيلها! ولا تنسي وجود ثعابين أو سحالي!"
اتسعت عيناها رعبا: -"أفضل أن ينسفني لغم على أن التقي بسحلية! لكنك أحمق على كل حال، فمنذ متى والألغام تبطل مفعولها السكاكين؟"
لمع النصل المعدني وهو يقفز من زنبرك المطواة أمامهم، وشهق (محمد) منبهراً، فقلت بفخر وأنا أقلّب بها ركية النار: -"فليقل كل منكم ما شاء، وليسخر من يسخر، فعندما يخرج علينا أياً كان المختبئ بين حجب الظلام حولنا، فلعل هذه المطواة يكون لها مفعول أقوى من اللسان الطويل!"
همت (مي) بالرد، لو لا أن بترت عبارتها وتبدلت ملامحها.
-"ماذا دهاك؟..هل .."
لكنها أشارت بيدها أن اصمتوا ففعلنا، لكن صوتاً غير فرقعة النار واصطدام المعادن ببعضها في محاولات السائق لإصلاح الحافلة لم نسمع!
-"لقد أصابك الظلام بهلاسات سمعية فيما يبدو؟"
اربد وجهها دون رد، وهنا سمعنا صوت..
كانت صيحة أنين خافتة من أعماق السرداب الممتد إلى جانب (عبد الناصر). لم تكن صرخة رجل ولا صرخة امرأة ولا صرخة حيوان. وخيّم بعد ذلك صمتٌ عصيٌ. وانتظرنا الصيحة الثانية والثالثة والرابعة، لكن لم يحدث شيء. وإذ بي أشعر باهتزاز ارضي. أطلقت (سلوى) صرخة حادة رفيعة سريعة، وانتفض أكثرنا واقفين، وسمعنا الصوت من جديد واستمر الصوت عدّة دقائق كان بإمكاني خلالها أن أنصتَ بتركيز كبير رغم الرعب ورغم الأعصاب المشدودة. وتوقفت عن العبث في الشعلات وقبضت على مطواتي بشدة وعندما خَفُتَ الصوت أخيراً، تابعتُ السرداب بعينيّ.. الصخرة في الواجهة ثم التي تليها على كل جانب ثم الثانية على الداخل وهكذا حتى تغيب في سواد الليل من دون توقف.
امتقعت وجوه الجميع بلا استثناء، واحتضنت (مي) صديقتها (سلوى)، بينما تقدم (أحمد) قليلا إلى الأمام، وهو يقول بصوت متحشرج: -"هل نستكشف الأمر؟" ونظر لي كأنه ينتظر الجواب مني وحدي ولم أعرف بم أجيب، فقال شقيقه: -"معك سلاحك على كل حال!"
وكانت (مها) هي أكثر الفتيات تماسكاً، لكنها قالت بوجه شاحب: -"لعل أحدهم في مأزق!"
مادامت إحدى الفتيات قد تحمّست بشكل ما للاقتحام فلا مجال للتراجع! وإلا فالويل للجبان!
* * *
كان الجدار الصخري قد بلغ مستوى صدري الآن.
توقفت ثانية ورفعت المشعل (هي قطعة من الخشب أشعلنا فيها النار) فوق جدار الحجارة، وقد أرسل أشعّة خافتة على ثنيات الصخر وتعرّج بطن الجبل في الداخل..
وانفجر فجأة سيل من الصرخات العالية الحادّةِ من حنجرة ذلك الشكل المكوّر في السواد.
هتف (أحمد): -"يا الله!"
بدا وكأنه يدفعني بعنفٍ إلى الوراء.
-"إنها مجموعة من الفئران!"
-"فئران!"
وللحظة وجيزةٍ ترددتُ، وارتجفتُ، ثمَّ استللتُ مطواتي من جيبي الخلفي حيث أودعتها هناك لأتمكّن من استخدام كلتا يدي في تسلق جدران الشق الجبلي، وبدأت أتلمّس به محيط الكوّة التي خلقتها التداخلات الحجرية فوق تبة الرمل.
* * *
لم نتوغل لكننا لم نكن نعد نلزم بر الأمان!
كنت أقود كتيبة الاستكشاف/الإنقاذ اشق طريقي بين الصخور والصرخات الرفيعة التي ظلت مستمرة بعد تأكدنا أنها ليست لفئران، إنها صرخات من نوع حاد غريب، لا ينتمي لبشري ولا لأي كائن حي، وهكذا يمكنني القول إن مهمة الإنقاذ أصبح الدافع وراءها هو الفضول وحب المغامرة، أو هي رغبة في الانتحار يستطيع عالم نفسي مهم ترجمتها إلى كلمات لاتينية طويلة.
أقول إننا تركنا الركن الأمين الآمن رغم أننا لم نتعمق إلى الداخل، لأن ذلك هو ما ظننته، وما أعطاني ذلك الشعور الكاذب هو نشاطنا على شكل سلسلة تبدأ بي في التجويف الحجري ثم (عبد الناصر) خلف ظهري تماماً يليه (أحمد) الذي لا يكف عن جعل الحياة أكثر صعوبة بعبارات متلاحقة من نوع: "ما معنى استعمال نصل المطواة في الصخر؟ إنك تتلفها بلا جدوى يا مستر (إنديانا جونز)!" أو "ماذا لو بدأت الجدران تنطبق على بعضها؟"
وأجابته (مها) التي كانت وراءه: -"سوف نتحول إلى حفريات!"
تمتم (محمد) خلفها: -"شكراً لتشجيعك!"
وظلّت الفتيات الثلاث واقفات عند المدخل، لكنهن لم يؤثرن السلامة وبدأن في التسلل خلفنا في الممر الجبلي الضيّق، وأستطيع التخمين أن (زينب) أرادت إن تعرف ما هو حجم الكنز الذي عثرنا عليه ولم تطق الانتظار، فتبعتها (مي) خوفاً من أن تبقى وحدها في الساحة الخالية، والتصقت بالأخيرة توأمها الحميم (سلوى) بعد أن ألقت نظرة على السائق المنشغل بالتدخين والابتكار والشجار مع معدات إصلاح موتور الحافلة الميت.
وهكذا كنا جميعا داخل الجبل!
* * *
كنا نترك مكاننا بين هامات الجبال العملاقة كوحوش ليلية أسطورية، ونتخذ طريقنا داخلين باطن الجبل نفسه، وكانت الفتحة في نهاية الشق واسعة جدا.. جدا جدا، استطعت من خلالها النظر ولكني شعرت بالقشعريرة في عظامي عندما حدقت فيه.. وأصبح كل شيء حولنا هو النتوءات السوداء البارزة نميزها باللمس لا بالنظر، ولم يعد هناك من ضوء إلا الجذوة البرتقالية القادمة من الساحة الخالية حيث كنا نجلس وتعطي للمدخل تأثيرات مخيفة، وعدا بقايا الشعلة الصفراء التي ترسم بقع صدئة على الجدران الشاهقة حيث بدأت ظلالنا تستطيل؛ هناك ظل يحرك رأسه مراراً..هذا (أحمد) الذي لم يكف لحظة عن التعليق والثرثرة، وهذا الظل الذي يلتصق أعلاه بظلي لـ(ناصر)، والظل الذي يبدأ بشعر طويل وينتهي بالسراويل يخص (مها)..ثمة مصدر ثالث للضوء يأتي من نهاية الفتحة أمامنا حيث انتهت رحلة الشق الطويل، ووجدنا أنفسنا في ساحة تحدها الجدران المائلة من كل جانب وتنعم بضوء مجهول المصدر، غريب التأثير..إنه أشبه بإضاءة لمبات النيون الخفيفة المصنفرة الزجاج..ضوء أبيض ممزوج بالأزرق الباهت، أو لعله البنفسجي المشع بالفضة. وكانت البقعة مكنوسة ومهندسة الأركان كأنها مصممة بفعل يد بشرية، ولكن من يدري، في الطبيعة العديد من التشكيلات والتبلورات التلقائية التي تفوق قدرة الإنسان على التشكيل!
كان (أحمد) هو أول من تكلم: -"تبدو وكأنها مهبط للأطباق الطائرة!"
طويت مطواتي معلّقاً: -"أو مقر المطاريد."
وقالت (مها) وهي تتخلص مما علق بشعرها من الرمال: -"هذا غريب!"
وكانت (مي) و(سلوى) هما آخر من انضم للحفل، حيث بدأ (ناصر) يتحرك في المكان مستكشفاً ثغراته، وراحت (زينب) تنفض التراب عن تنورتها، بينما ربت (محمد) على كتفي وسمعته يهمس: -"أنظر!"
والتفت إلى حيث كان يشير وانضم الباقون..
في النقطة المقابلة له من الجدار الذي يواجهه كانت هناك خطوط طولية عديدة تمتد من أعلى الجدار إلى أسفله، لكنها مع تدقيق بسيط تنحسر عن بقعة معينة في منتصفه بما يواجه رأس إنسان بالغ، وفي هذه البقعة الممسوحة من الجدار هناك من نقش وبدقة رقم ثمانية الإنجليزي!
سمعت (مي) بجانب وجهي تقول: -"ليس هذا المكان هو ابن الطبيعة البار إذن؟"
-"هناك من سبقنا يا رجال!!"
كان هذا هو (أحمد)، مازحاً كعادته.
وتمتم (ناصر):
-"ما معنى هذا؟"
رد (أحمد) في بساطة مسرحية: -"المعنى واضح يا سيدي، ما لم تكن الشخص الوحيد في العالم الذي لم يشاهد أفلام المعبد الملعون والبحث عن الأزتك؟"
-"أي أستك يا خبير السينما؟"
رفع (أحمد) عينيه إلى أعلى بمعنى (ارحمني من الجهلة يا رب) وقال بسرعة: -"لا عليك. يفترض –إذا كان كل شيء يسير بتسلسل منطقي- أن تكون هذه العلامة هي ثقب المفتاح الذي ندخل بواسطته المغارة التي سوف نلقى فيها هلاكنا..أغلبنا على الأقل!"
التفت إليه في حركة حادة، وتسلطت عليه نظرات ملتهبة من الفتيات، وهتفت (مها): -"(أحمد)!..اخرس!"
-"حاضر!"
لكن ما يقوله منطقي رغم كونه متشائم أكثر من اللازم وسينمائي.
-"حسناً.. ومن يهتم بترتيب كل هذا..في صالح من أن نقع في الفخ، وهل كان يعرف أن الحافلة سوف تتعطل بنا هنا بالتحديد وأننا سوف نحاول الدخول؟"
ظننت أنني أفحمه، ففوجئت بـ (محمد) شقيقه يجيب: -"الذي يصنع هذا التجويف الجبلي المخيف بمثل ذلك الصبر والإتقان فهو حتماً قادر على أمور كثيرة."
وقالت (مي): -"تذكر أننا دخلنا نتبع أصوات مريبة غريبة، ولعل صاحب هذا المكان هو من أتلف الحافلة بطريقة ما في بادئ الأمر!"
قلت متهكماً: -"كيف أيتها الذكية؟ بالإشعاع غير المرئي أم بمجال كهرومغناطيسي قوي؟"
عقدت حاجبيها في عناد ووضعت يديها في خاصرتها متحدية: -"هناك أساليب أكثر بساطة وفعالية يا قاهر الفضاء..القليل من المسامير على الأرض مثلاً، فعلها (يونس شلبي) كثيرا في (محطة الأنس) دون الحاجة إلى حقل إشعاع أو مولدات طاقة!"
جزّ (أحمد) على أسنانه سعيداً بالمدافعين عن فكرته، وسأل (ناصر): -"طيب! إذا سلّمنا بأن هذا هو ثقب المفتاح، فأين المفتاح نفسه؟ هذا بالطبع إذا جرؤنا على دخول أيا كان ما يمكن دخوله ها هنا!"
كنت أعرف الإجابة لكني لم أرد أن أوح إليهم بأفكار. نعم، لست محبا للمغامرات، سمني جبان إذا شئت، لكني كنت أرغب في العودة، وكان عندي الحق كله!
-"المطواة!"
(أحمد) العبقري طبعا كان هو صاحب الاقتراح. لن يصمت هذا الأحمق قبل أن يورّطنا في فخ لا فكاك منه..
وهنا وجدتني تحت ضغط محسوم النتيجة؛ تحت جحيم نظرات الجميع، تفضل أيها الهمام يا من كان يفخر منذ قليل بالمدية المتوترة في جيب بنطاله الخلفي، أرنا المهارة يا راعي البقر، أنظر..انه مجرد رمز صغير منقوش في الصخر عليك أن تعمل فيه مديتك لفتح الباب الصخري على الكنوز والجماجم والآثار النادرة، أو اقتحم بها المجهول ونحن معك، يا..يا صاحب المطواة! هو هو هو! هي هي هي! هل تعتقد أننا نبالغ؟ شاهدنا الكثير من الأفلام الرخيصة؟ إذن لم لا تحاول وتثبت أننا حمقى أغبياء وان هذا مجرد حجر مصمت أصم أبكم لا شيء وراءه سوى حجر وراءه حجر وراءه حجر؟
(ناصر) لا يعترض على حماس أغلبهم، وكنت أنتظر العون منه على الأقل.
(محمد) تبرق عيناه وهو يقف مكتوف الذراعين ينتظر الدخول بفارغ الصبر.
(أحمد) يطقطق بلسانه في ترقب وشماتة وظفر وشغف وبهجة وقلق وعبث.
(مي) تتبادل مع (سلوى) النظرات، وعندما تتراجع إحداهما تشجعها الأخرى.
(مها) تنظر إلى عيني مباشرة وتهز كتفها كأنها تقول (لا تنظر إلي، خذ القرار الصحيح وحدك، لا توجد تلميحات لدي، ولن يرحمك أحد منّا!"
(زينب) تجيل البصر بين وجوه زميلاتها وأخيرا تنظر إلي بعينين صافيتين مندهشتين..وكان هذا يكفي!
زفرت من أعماقي محنقاً (ولاعناً في سري) وأخرجت المطواة العزيزة وجذبت حلقتها فتحرر النصل الفضي الصغير..اقتربت من الحائط الصخري أمامنا وتسللت إلى أنفي رائحة التراب المبلل والعطن القديم..مددت سن السلاح في جزء من تجويف الدائرة العليا في رقم ثمانية اللاتيني المحفور وحاولت إقحامه بالداخل لكنه اصطدم بالحجر على مسافة قريباً فتيقنت من أن هذا مجرد نقش سطحي بفعل بشري أو بفعل الطبيعة، لكنه ليس ذو آليات سحرية معقدة قادرة على تحريك الجدار حول نفسه لندخل قاعة المفاجئات!
-"هل ترون؟ لا شيء! انه مجرد.."
-"دعني أحاول أنا!"
هتف بها (محمد) وهو ينتزع مني المطواة في حركة مفاجئة، فصحت من الدهشة والألم: -"آي..اللعنة..لقد..لقد جرحتني!"
اقترب الآخرون مننا وكان كفي قد أصابته المدية وبدأ ينزف. وغمغم (محمد) في جزع: -"أنا آسف..ولكن..أنظر..أنا من جرح!"
أطبقت أصابعي على كفي المصاب ونظرت إلى الدم الذي لوث كفه هو الآخر إذا تناول المدية مني قصراً، بينما (ناصر) يحاول إن يرى ما حجم الجرح عندي، وقبل أن أحدد ما إذا كان (محمد) قد جرح هو الآخر أم هي دمائي الموجودة على كفه، كان يمسح يده فوق الجدار متقززاً و..
وهنا ارتجت الأرض تحت أقدامنا.
* * *
لم يدر الجدار حول محوره كما توقعنا، ولم يرتفع لعلى ولم تسقط البوابة الحجرية العملاقة، بيد أن الباب لم يكن في أي ركن حولنا، بل تحت أقدامنا!
الذي أذكره هو أن الأرض كانت تنشق من تحتنا. ليس في حركة واحدة كما في الانفجارات، وليس ببطء يسمح لنا بالتراجع، وإنما وجدنا الدائرة التي كنا نقف فوقها من الأرض تنفصل عن المحيط الخارجي لها وكأنها كانت مقطوعة بمنشار عملاق من قبل ولم تحتمل الثقل.
كان (ناصر) يتشبث بيدي التي تنزف، و(محمد) يحاول السيطرة على وقفته ومطواتي في يده الملوثة بالدم، وسقطت إحدى الفتيات فوق رؤوسنا ونحن نهوي لأسفل، أنا و(ناصر)كل منا يمسك بتلابيب الآخر، وأحد الأولاد يتعلق بقميصي من الخلف، والتراب يسقط من محيط الدائرة الحجرية التي تسقط في الهوة التي تحتها وتتحطم متفتتة لنجد قطعاً من الحجارة تصيب وجوهنا بينما تصدم رؤوسنا ببعضها وبالحجارة المبطنة للجوف المظلم، وشعر إحدى الفتيات يدخل فمي.
وانتهت الرحلة أخيراً ونحن نرتطم بعنف في مركز دائرة أكبر من السابقة، ورغم ما كنا نشعر به من ألم وجروح لم نكشف بعد عن مواضعها؛ فإننا لم ننتبه لكل ذلك، لأن ما رأيناه أمامنا كان مدهشاً بحق!
* * *
ساحة واسعة كالميدان، ناعمة الجدران، مضاءة بضوء أبيض مزرق هادئ مخدّر، وعلى مسافات متساوية تماماً على محيط الدائرة تراصت ألواح حجرية عملاقة كأنها مقاعد مجلس خاص من نوع ما. وكلها تقع على حدود دائرة أصغر من المحيط الكلي للساحة، بحيث يمكن للجالس فوق أي منها أن يلمس كتف الشخص الجالس على أي من المقعدين المجاورين له يميناً ويساراً.
وكنا ننهض من عثرتنا الكبيرة نتأمل المكان.
سمعتهم يسعلون ويتأوهون من حولي، وقال (أحمد) وهو يتلفت حوله: -"هل بقى لديك أي شك الآن، أن كل شيء كان معد لاستقبالنا؟"
كان عدد المقاعد المصنوعة من الحجر هو ثمانية لا تنقص ولا تزيد!
قال (ناصر) وهو يمد يده يلمس أقرب المقاعد إليه: -"إما أن نكون قد انتهينا، أو أننا مقدمون على كشف مدهش!"
استندت (زينب) على المقعد خلفها وتمتمت:-"الأرجح أننا قد شربنا المقلب حتى الثمالة وليهنأ من نصب الفخ فقد وقعنا ونجح!"
جلس (محمد) على مقعده، وهو يغلق المطواة، ويمسح الدم في صدر قميصه:-"هذا هو السؤال؟ من فعل كل هذا؟"
مددت إليه كفي التي بدأ يجف الدم فوقها أطالب بسلاحي العزيز، بينما تقول (مي):-"أياً كان الذي صمم هذه المكيدة الصخرية فهو رجل جنتلمان على الأقل، لقد أعد لنا هذه المقاعد وبعددنا تماماً!"
وقف (أحمد) عند أقرب مقعد إليه وقال:-"نعم! لنأخذ هدنة قبل الفخ التالي، ولنتعرف على بعض أكثر، ونتجاذب أطراف الحديث!"
قالت (زينب) معلّقة:-"ولم لا؟"
سألتها:-"فيم تفكرين؟"
-"إننا لم نلاحظ أن رقم ثمانية كان يشير إلينا رغم العلاقة الواضحة، وكان هذا الرمز هو سبب ما وصلنا إليه. ماذا لو اتخذ كل منا مجلسه على هذه المقاعد؟"
-"ماذا تعنين؟"
سألتها (سلوى)، فردت واجمة:-"لا أعرف..ربما إذا.."
أكمل (ناصر) عبارتها: -"ربما إذا جلسنا فوقها لأحدث ثقلنا حركة ميكانيكية معينة في نظام بوابات هذه الكهوف المتداخلة، وبشكل ما ربما انفتحت أمامنا ثغرة النجاة، أو ارتفعنا بالأرضية لأعلى كرد فعل عكسي!"
-"أو هبطت بنا لأسفل كرد فعل انتقامي!!"
وكان بعضهم قد اتخذ مجلسه بالفعل ووافقت (مها) وتبعها (أحمد)، وأشار إلي (ناصر) أن (دعنا نحاول)، ورحت أفكر في الأمر لحظات، واضح أننا ندخل من مأزق لآخر أخطر من السابق، والأمر يبدو وكأنها مرتبة هاهنا، بدءاً من صرخات الشق الجبلي ثم رقم ثمانية الذي اعتبروه ثقب المفتاح ولم تفلح معه المطواة، ثم هذا..وكذا كنت آخر من صعد الدرجة قبل مقعده.
هناك شيء وشيك الحدوث، قلبي أنبأني بذلك قبل أن يحدث، ولابد أن يحدث شيء!
صاح (أحمد): -"مرحى يا فرسان المائدة المستد.."
كانت المقاعد كلها تهتز، وتنزل لأسفل عدة سنتيمترات ثم تتوقف، صرخت إحدى الفتيات ورأيت (مها) تتشبث بذعر بحافة مقعدها، وحاول أحدهم أن يترك مقعده لكنه سقط فوراً فوقه، وهنا انفتحت بؤرة ملتهبة من الجحيم في مركز الدائرة.
انطلقت خطوط من الأشعة البيضاء والزرقاء والصفراء من جوف الأرض، من فتحة يتشقق عنها المركز، وغمر المكان ضوء يتنقل من بين الألوان الثلاثة واحداً تلو الآخر، وتنتشر في أعمدة الأشعة خطوط منحنية من دخان أحمر لا مثيل له، سمعت واحد منهم يقول شيئاً لم أتبينه، وراحت خيوط الدخان تتكاثف وتتجاوز حدود مخروط الأشعة الملونة التي تصعد لتشق طريقها عبر فوهة الحفرة التي سقطنا فيها، و..يا إلهي! يا إلهي!!
كانت الخطوط الحمراء تتشكل كحدود لأجساد شبه بشرية، تمل هذه الحدود أطياف الأشعة الملونة بالأبيض ويظل الضوء الأصفر مميزاً للحد الخارجي لها وتنفصل الخطوط المضيئة الزرقاء فتبعد الأجساد المتشكلة عن بعضها، تبتعد عن بعضها وتقترب منا!
كان كل واحد منهم يتخذ أشكالاً متتالية، بشرية وغير بشرية، وأكثرها وحشي قبيح تميزها الأفواه المفتوحة كأنها تتألم، وكما اقترب أحدها مني، كان يقترب واحد منها من كل منّا.
كانت (زينب) تصرخ بلا انقطاع فوق المقعد على يميني، و(ناصر) يحاول ركل الشيء على يسراي.
أمسكت يد (زينب)، حيث بدأت الكائنات تقترب منا وهتفت: -"(ناصر)، ناولني يدك..بسرعة!"
كان يطوح بقدميه وكفيه في وجه الشيء اللعين، لكنه استطاع إن يسمعني وفعل ما قلته، كفه التي ترتجف يغرقها العرق الآن تمسك بكفي.
-"فهمت!..لكن..هذا هراء يا (هادي)!"
-"لنحاول!..وإن كان هراء..فسوف نموت حالاً بفعل هراء!"
وصرخت بالجميع: -"تماسكوا يا حمقى..ليمسك كل منكم بيدي من يجاوره على الجانبين!..أسرعوا!"
كانوا يفعلونها وهم من الذعر في مداه الأبعد.
ورأيت الوجه الكريه يبتعد في حركة مفاجئة عن وجهي، وكذا فعل الشيئان أمام (ناصر) و(زينب)، واستطعت أن أرى جميعهم يتراجعون، إذ كانت الكتل البيضاء الجهنمية تحتشد في مخروط الأشعة والدخان الذي خرجت منه من باطن الأرض، وفي هذه المرة انطلقت لأعلى كالصاروخ تعبر فتحة الأرض التي صارت فتحة السقف الآن. تبعتهم عشرات الكائنات المشابهة في الهيئة والتكوين، كلها تصعد لأعلى..انفتح باب الجحيم وانطلقت الشياطين من مكمنها..عشرة منهم..عشرات منهم..مئات..ألوف!
وراحت الأرض ترتج من تحتنا من جديد، عندما شعرت بكف (زينب) كالثلج، ورأيتها مغشي عليها، أتمنى ألا تكون قد ماتت من الذعر، ونظرت إلى من أستطيع رؤيته منهم في هذا الضوء الشيطاني، لأجد رؤوسهم تتدلى فوق صدورهم، وأخيراً ألقيت نظرة على (ناصر) فوجدت نظراته تزيغ ويغيب عن الوعي.. يغيب..عن ..الوعي.. يغيبون ..عن.. الوعي..أغيب..عن..الوعي..أغيب..عن..
* * *
عمى الضوء الأبيض عيناي عندما فتحتهما. ولكن.. لا كائنات شيطانية تنطلق من الأرض لتملأ الكون، ولا رائحة للتراب، ولا (ناصر) ولا (زينب).
رفعت كفي إلى رأسي الذي تقرعه الطبول من الداخل، فوجدت أن كفي مضمد بشاش أبيض!
أمي تجلس على طرف الفراش، وجهها ممتقع، تحاول أن تبتسم لكنها لا تستطيع، وأبي يقف إلى جواري، كل هذا اللون الأبيض لا يوجد إلا في مستشفى.
-"أبي..إن.."
-"شششش...لا تتكلم الآن..سوف نتحدث فيما بعد."
-"ولكن..ما حدث..أعني أين...؟"
قاطعني وهو يمسك بكفي المضمدة:
-"وجدك سائق حافلة رحلة المدرسة ملقى أنت ورفاقك ممزقين الثياب منكوشي الشعر وبعضكم مصاب..إنها إصابات غير خطيرة ولكن.."
-"ولكن كيف..؟"
نظر إلى عيني مباشرة وقال بتركيز:
-"فيما بعد يا بني..يبدو أنكم قد ابتكرتم لعبة قاسية جداً أثناء تعطل الحافلة ..الله أعلم بما حدث..لكن زملائك سوف يواجهون ألعابا أكثر قسوة من أهاليهم في الأيام التالية، سوف يجد الآباء عسراً شديداً في تفهم موقف أولادهم وبناتهم مبهرجين الثياب مغمى عليهم في معسكر مشترك بمنطقة جبلية مهجورة! أما نحن، فسوف نكتفي أنا وأمك بإصابتك أو فليكن بيننا شأن آخر فيما بعد!"
* * *
الحلقة الثالثة: فيما بعد
بزغ القمر في السماء أصفر بارد.
لكن هنا في منطقة الفيلات ببور توفيق خنقت عاصفة ترابية سماء فبراير، واندفعت الريح بعنف إلى الشارع الرئيسي فاستسلمت لها أشجار الزينة على حيّد الطريق، وكسوة السيارات القليلة التي وقفت منفردة أمام أبواب الفيلات والبيوت ذات الطابق الواحد معلنة عجزها بلا مقاومة.
كان (بسيوني)؛ حارس المنطقة، قد احتجز في كوخه ذو السقف الصفيحي والجدران الخشبية على بعد سبعة أمتار من أقرب فيلا إليه، فيلا دكتور (عبد المنعم) وقد تجمدت بندقيته العتيقة غير المعمّرة.
وانقطعت الحركة عن المكان في هذا الوقت المتأخر من الليل، وكان آخرها وصول الآنستان الصغيرتان (مي) و(سلوى) في سيارة الأولى من مدرستهما، والديهما هما صاحبي الفيلتان المتجاورتان في مواجهة كشك الحراسة، والد (مي) هو الدكتور (عبد المنعم لطفي) طبيب الجهاز الهضمي والكبد ذاع الصيت، هو الذي تولى العناية بوالدة (بسيوني) المسنّة عندما أصابتها غيبوبة كبدية في العام المنصرم، ووالد (سلوى) لواء شرطة، إنه بحكم العادة يبالغ في احترامه، لكنه لا يحبه كثيراً، ولا يعتقد أن معظم جيرانه يفعلون، ولا حتى زوجته السيدة المهذبة اللطيفة مدام (نورا).
الغريب هو أن الفتاتان ما كانتا أبداً تلجآن لأي من والديهما في توصيلهما للدار. صحيح إن مدرستهما المشتركة (العاشر من رمضان) تقع في الطرف الآخر من المدينة، لكنهما كانتا دائماً تعتمدان على نفسيهما في الوصول في موعد محدد كل يوم.
لم يفهم ما هو سبب أن يقوم الطبيب المنشغل دوماً باستلام البنتين من المدرسة كل يوم تقريباً هذه الأيام (وذات مرة كان اللواء والد (سلوى) هو من تولى هذه المهمة.) فما السبب في هذا الاهتمام الطارئ؟ لن يعرف أبداً، إنه لم يكن أباً على كل حال، ولا يفهم هذه الأمور، ربما تصيب الآباء نوبة اهتمام مفاجئ ببناتهم، خاصة إذا بدأت تطرأ عليهن تغيرات كالتي ظهرت على (مي) و(سلوى) في الأيام الأخيرة؛ اللون الشاحب والوجوم والنظرات الزائغة.
ولكن..ما الذي يعنيه في كل هذا على أية حال؟
إنه ينتظر العاصفة هنا ويتسلى بالعبث في مفتاح المذياع المربوط بأستك مطاطي انتزعه من سروال قديم ليثبّت به البطاريتين الجافتين من الخلف بأوراق، والأصوات تأتي منه متقطعة مغبشة، وفي الخارج تعوي الريح وتتحول إلى الصراخ، فينظر (بسيوني) في توتر ثم يعود إلى المحاولات الخرقاء مع مذياعه.
إنها الريح رغم كل شيء!
لكن الريح لا تخدش الأبواب.. ولا تترك ظلالاً مستطيلة على الأرض!!
ينهض من مكانه، رجلاً ضخم البنيان، بديناً، يرتدي كنزة صوفية زرقاء حال لونها وزي رجال الأمن الرسمي ولفافة تبغ تتدلي من ركن فمه، ووجهه الذي يحمل قسمات أهل الريف تضيئه الانعكاسات البرتقالية من مصباح الكيروسين المعلق من السقف.
يعود الخدش من جديد.
لا أحد يربي الكلاب هنا! فما هذا؟
ثمة كلابة معدنية باردة من الخوف تقبض على قلبه، كان هذا موسماً سيئاً في السويس هذا العام.
قبل أن يقرر ما يجب عمله حيال هذا الصوت، يستطيل الظل أكثر أمام باب كوخه. هناك صوت ارتطام كأنما شيء ثقيل بشكل يضرب الجدار خلف ظهره.. يتراجع.. يضرب الجدار من جديد.. يرتجف الجدار الخشبي خلفه حيث ألصق بوستر مهتريء الأطراف لفريد الأطرش وتهب نسمة باردة ثلجية من السقف الصفيحي.
يتجمد (بسيوني) في مكانه غير فاهم ما معنى هذا.
الظل الذي يكسو الأرض أمام كوخه، والضرب على الجدار الذي بدأ يصدم ظهره! يحاول العبث في جيوبه بحثاً عن خرطوش البندقية وأن يدعم اللوح الخشبي وراءه في الوقت نفسه، لكن قبل أن يمد يده إلى المقعد الذي يجلس عليه، ضرب الشيء المجهول الجدار بقوة غير معقولة، مهشماً إياه من أعلاه إلى أسفله.
يتماسك الجدار لحظة.. يهتز رأسياً.. يدخل الشق الناتج فيه رأس أبيض عملاق وعيناه الصفراوان تتوهجان بين جبين أزرق ووجنتان كالعجين الأزرق.
هل كان هذا أكبر كلب رآه (بسيوني) في حياته؟
هل كان هذا أكبر وحش رآه (بسيوني) في حياته؟
ويزمجر فيما يشبه كلام البشر إلى درجة مرعبة!
يتهاوى الجدار أخيرا، يتحطم، يستسلم. وفي لحظة أصبح الشيء المريع بالداخل.
في ركن الكوخ كانت هناك علبة الخرطوش بين أدوات أخرى.. التقطها (بسيوني) وأمسكها..
علبة من الكرتون البني، مدعمة بإطار معدني أسود مكتوب عليه أرقام كثيرة وكلمات إنجليزية.. يمزق الورق المقوى بأسنانه، بينما الكائن يشق طريقة بالداخل ويعوي.. عيناه الصفراوان تتوهجان صوب الرجل المحاصر في الركن....
أبيض كأنه مخلوق الجليد.. كأنه عاصفة ثلجية تدخل من الباب الذي تهشم في منتصفه.. يثب وهو يعوي، بينما (بسيوني) ينتزع الأسطوانات الحمراء كلها من العلبة.. تعوي الرياح وتعوي.. يبدأ الصراخ.. هذا الشيء جارح.. يوخز مخالبه في بدن الرجل ويهم بعض عنقه.. الكائن المشع الضخم يملأ الكوخ ويتكاثف بالداخل كالدخان السميك..
(بسيوني) يحاول السيطرة على جهازه العصبي ..يزحف إلى بندقيته التي سقطت..يلمس طرفها المعدني البارد ويبدأ في سحبها بين أصابعه..الأنياب كالشفرات الحادة تجرح عنقه..اللعنة!..أي مخلوق هذا؟
يقبض على طرف ماسورة البندقية رغم الألم والرعب..
تستقيم في يده ..وفي يده الأخرى الخراطيش مضمومة إلى صدره فيما بينه وبين الغول الذي خرج عليه من حيث لا يدري..
يضرب بكعب البندقية مصباح الكيروسين الذي يتدلى من أعلى..
يتهشم ويسقط فوقهما، يبلل الكيروسين صدره إذ يتسلل عبر ملابسه الصوفية..وتفعم أنفه الرائحة العطرية المميزة للسائل الجاهز للاشتعال..الفتيل الملتهب يلحم الشعلة في قماشة الثوب فوق صدره ..الأنياب تنغرس في جانب عنقه..والنار تولد فوق قلبه مباشرة..تصل إلى علبة الخرطوش ..
الأنياب كالإبر..
رائحة الوقود..
اللهب الحارق..
و..
ينفجر كل شيء، ويبتلعه قلب الوردة الجهنمي..
في الخارج ظل عويل الريح مهتاجاً منتشيا لا ينقطع .. كل شيء هو الشتاء الأسود والليل القاتم..سواد مدلهم لا تضيئه سوى شعلة ضخمة كانت منذ دقائق كوخ الحراسة الذي ينعم فيه (بسيوني) بحياته ..على الأقل.
* * *
في شتاء هذا العام، كانت الأمور تتوتر بشدة بين والدي (مها)، وفي حجرتها عرفت أن الجدال قد انتهي مع صفق الباب بشدة معلناً رحيل الأب. قامت مسرعة إلى النافذة، وأزاحت الستار قليلاً إلى جانب واحد واختبأت خلفه لكي تراه وهو يخرج إلى الشارع، كانت تعرف أنه سوف يرفع رأسه لأعلى.
كان الضوء الميت لشمس نوفمبر الغائبة يلمع في دموع عينيها، ولا يزال جفناها متورمان من أثر بكاء الأمس، أذي الضوء عيناها فأغلقتهما للحظة وعندما فتحتهما من جديد كان والدها قد اختفي.
السماء العظيمة مشحونة بالمطر، لكنها كانت أضعف من المساء فسقطت منها القطرات الحارقة مباشرة من قلبها الذي بلغ سن الرابعة عشر أمس الأول، ومن الروح الطفلة خرجت مناجاة للسماء البيضاء، إن ما تشعر به الآن هو إحساس بالذنب والرغبة والخوف والألم، كل هذه المشاعر دفعة واحدة، وكلها ممتزجة بشكل عجيب، لعل الأول هو أكثرها عمقاً وتبريرا لذاته، لكنه لم يكن بنفس الوضوح الذي شعرت به في المرات التي عاقبتها فيها أمها بسبب الإهمال أو عند ما كانت تصرخ في وجهها لأنها نست أن تجدل شعر أختها الصغيرة، أو عندما كانت تشعر بالخجل عند تتأفف أمها ويضيق صدرها بينما هي تحاول أن تقص عليها ما حدث لها اليوم في المدرسة، إنه إحساس يختلف، إحساس بدأ مع العبارة المبتورة التي سمعتها في شجار الأمس:
- "من أجل البنتين."
اخترقت هذه العبارة العامود الأساسي الذي يسندها من الداخل، بالرغم من أنها لم تجد لها مغزى محدد، أم لعلها رفضت أن تجد لها معني لأنه سوف يكون اتهاما لا تحتمله!.. بالأمس كان الخلاف الحاد.. (من أجل البنتين).. الآن يرحل أبوها أمام عينيها (من أجل البنتين)... وهي كبرى البنتين، فلا تزال (مارينا) في التاسعة من عمرها، ومراراً كانت أمها تقول:
-"إنك الأخت الكبرى، أنت بمثابة أمها، إذا أخطأت (مارينا)، فسوف أعاقبك أنت."
أما المشاعر الثلاث الأخرى فلم تدر إلى أي مدى تمتد جذورها بالداخل، ربما لأن الإحساس بها كان ظاهرا على السطح في شكل يمكنها أن تحدد موضعه، الرغبة في عودة أبوها وفي أن يكون كل ما حدث مجرد حلم، هذه الرغبة تشعر بها كالمغص الحاد في منطقة البطن، بينما كان الألم يسري عبر عمودها الفقري ويسيل إلى الركبتين، أما الخوف...
الخوف كان غريباً لا يمكن وصفه، كان كذراع بيضاء كهذه السماء، ذراع ثابتة كالصلب، بارد كالثلج، قوية كصوت أمها، ذراع طويلة بلا أصابع، بل مخالب، بيضاء أيضاً، هذه الذراع تدخل فمها وتمتد عبر حلقها الجاف كالتراب، الناعم كالجليد، لتعتصر قلبها في قبضة من المخالب. هذه القبضة المخلبية تحاول إخراج قلبها من مكانه عبر حلقها!..
من خلفها صوت (مارينا) وهي تعبث ببعض فيونكات الشعر. أسدلت الستار، واستدارت في اتجاه الغرفة والدموع لازالت تملأ عينيها...
شكراً للحزن الذي لم يجعلها تصرخ عندما رأت ذلك الشيء!
* * *
لحظة واحدة رأته فيها.. وفي اللحظة التالية اختفي...
* * *
(مارينا) تجلس على الفراش بقميص النوم الأبيض وفي يدها بعض الشرائط الملونة بينما شعرها المبلول لم يجف بعد، ومن خلفها. كان الشيء العملاق يملأ المكان، كتفاه عريضان من الحائط إلى الحائط، جسده هو كتل من السحاب الأبيض كالمعلق في أجنحة السماء وأغلقت عنه الستار الآن. الرأس مستطيل مغطي بشعر ناعم مفرود. أبيض تماما. العينان، عديمتا اللون... كلا، كان لها لون الفم. أزرق. ازرق يميل إلى القرمزي، بل البنفسجي. الجسد يتحرك بالكامل، ليس في أي مكان، بل في مكانه هو، كشلال، يجري من أعلى لأسفل ويتناثر من على الأجناب، أبيض كالماء الرائق المتكاثف. من الرأس يصعد لهب أبيض. ومن العينين يسيل الدم.. دم ارجواني يجري على الصدر ويشق طريقة إلى منطقة البطن ليتشكل في دائرتين.. واحدة فوق الأخرى. والدم الغامق يسيل باتحاد من على الجانبين. وباستمرار ليغذى الدائرتين ولا يحيد عن مجالهما. الشيء مريع. الشيء هو الرعب ذاته. لم تكن له مخالب لكنها شعرت بوجود المخالب. لم يكن له أنياب. لكنها رأته يفتح فمه ويكشف عن أنيابه. وبالأنياب والمخالب يتلوى ويحيط بجسد (مارينا) أكثر من الخلف. كأنه سوف يبتلعها في جوفه الأبيض الضبابي. قبل أن تفهم معني هذا، اختفي...
قبل أن تصرخ، اختفي...
عبرت الحجرة بسرعة البرق الذي سوف يسطع في المساء بعد قليل ورفعت جسد أختها الصغيرة من على الفراش واحتضنتها، دفنت شعرها المبتل بين ذقنها وكتفها فشعرت برطوبته وبفروه رأسها الدافئة على عنقها، والجسد الضئيل بين ذراعيها مستسلما بالرغم من إنها لم تفهم، لكن الطفلة الصغيرة كانت قد بدأت تلاحظ أن والديها يتصرفان بغرابة في الأيام السابقة- على الأقل أكثر من ذي قبل – فلماذا لا تنضم أختها الكبرى إلى حفل المخابيل؟..
لقد رأت أمها من قبل تتحدث إلى نفسها في المرآة وتضحك على نكات قالها شخص غير موجود، وعندما رأتها حاولت أن تضربها، لكنها بدلا من هذا راحت تصرخ في وجه (مها) لأنها قد سمحت لها بأن تتلصص على من هم أكبر منها، وقالت لها شقيقتها في سريه تامة أن أمهما تعاني من بعض الإرهاق يلازمها منذ طفولتها عندما رأت أخوها يموت أمام عينيها، ولقي أبوها حتفه بعد أيام وظلت تعتقد أن أمها هي السبب، هكذا عرفت (مها) الحكاية من والدها، لكن تفاصيلها عرفتها بالكامل من عمتها.
في حضن أختها فكرت (مارينا) أن أمها هي ملاك حقيقي، لا تصرخ في وجهها أبداً، تلقي باللائمة على (مها) عندما تخطيء هي، بالرغم من أنها لم تحتضنها أبدا كما تفعل (مها) الآن، ولكن الدفء الذي يتسرب إلى جسدها النحيل من صدر أختها وذراعيها لابد أنه هو نفس الدفء الذي كان من الممكن أن تشعر به في أية لحظة لو احتضنتها أمها، لكن أمها أقوي منهم جميعاً. إنها لا تبكي كما تفعل (مها) ولا تشرد طويلاً كما يفعل والدها، بل أن أصابع أمها أكثر قوة وهي تقبض على كفها الصغير، الخاطرة الأولى كانت أن هذا مؤلم وغير عادل، لكن ما بقي لما بعد هو إعجابها بشخصيتها، قوة حقيقية وصلابة، وفي هذه اللحظة بالتحديد سبق ما تشعر سنها؛ فشعرت وكأن أختها ليست إلا غريب تصادف أن يقلب لها صفحة اليقين، وفي حضنها جاءها الاستعداد بأن تعرف أشياء أخرى.
* * *
للحظة شعرت به.. في اللحظة التالية اختفي...
* * *
من أين جاء هذا الضوء الأبيض؟
غمر الحجرة، لكن (مها) لم تتحرك، كان وهما؟، سمعت دوي الرعد الآن، فهل كان البرق؟، ولكن الستار مسدل على النافذة الوحيدة، لكنها شعرت به حقاً.. شعرت بلمسته، ناعمة ومؤلمة في آن، ناعمة كالحرير ومؤلمة كنبات "أبو شوك"، ومعه تأثير ممتع بالخوف والأمان معاً كما تداعب الأمواج الباردة – بلطف – جسد من هو علي وشك أن يغرق حالاً، كأن جسمها النحيل الصغير يتعرض لهجوم حاد لظاهرة الأنفلونزا الصينية – عضلات مشدودة، ووخزات في الجلد وأعصاب تئن – إنها ترتجف.. لكن أمواج الخوف لا تسحبها نحو أغوار مظلمة الآن، بل تدفعها إلى شاطئ أمين.. هو حضن شقيقتها.
* * *
شعرت بشفتي (مها) وهما تقبلان شعرها المبلول فسرت في جسدها رعشه عجيبة، طفلة بسنوات عمرها التسعة تجد الخوف رمزا رومانتيكياً مثل إصرار أختها على أن يسكنوا في منزل له شرفة تطل على القمر، ومثل كفها الرفيق وهي تدهن شعرها بزيت الزيتون، ومثل طقم الـ (هافانا) الذي لم تعد أمها ترتديه لكنها لازالت تحتفظ به على سبيل الذكري، ومثل نعومة حركات قطها (كيك) وهو يغير من جلسته في حجرها.
* * *
الخوف، الخوف، الخوف.
* * *
انه هو ذلك الكيان الأبيض المدهش الذي ظهر في لحظه واختفى في لحظه، والذي خرج من دخان القلق الدائر هنا ليدفعها في حضن أختها، فتحية لهذا الخوف الذي منحها كل هذا الدفء والأمان.
كم من الوقت ظلت (مارينا) بين ذراعي شقيقتها؟، لم تعرف أيا منهما، ربما دقائق، وربما ساعات، لقد أظلمت الحجرة مما رجع الاحتمال الثاني، لكن الواقع انه عندما رفعت (مها) أختها إلى صدرها لتحميها من ... منه! .. وبينما ظلت هذه الأخيرة تقف على ركبتيها على الفراش ترتجف بين كفي (مها)، لم يستغرق هذا أكثر من ثلاث دقائق فقط.
هل كان ما رأته (مها) حقيقي؟ إنه لم يستمر لأكثر من ثانية فظنت أنها تهذي...
هل ما شعرت به (مارينا) حقيقي؟ ربما.. على أية حال فقد ظلت (مارينا) ملازمة للفراش طيلة الأيام الخمسة التالية لهذه الليلة، ارتفعت حرارتها، ونست (مها) كل شيء عن الشيء الذي رأته يهاجم أختها (أو هكذا تخيلت وقتها) لأن الأمور قد ازدادت عمرا بمرض (مارينا)، خاصة بسبب أمها التي ظلت تلعن والدها لتركهم في ظروف كهذه..
وإلى جوار فراش (مارينا) جلست (مها) بين جلد شقيقتها الساخن والدواء المر والأقراص البيضاء والمنيل المبتل، وسط كل هذا أمضت (مها) الوقت، بين تأمل سحب الشتاء خلف النافذة المغلقة وبين محاولة أن تجد شيئاً من المتعة في الصفحات الأولى لـ(آنا كارنينا)، الزوجة تكشف خيانة زوجها مع خادمه فرنسية، لم تجد ما يدفعها لمواصلة القراءة ولكن عندما قرأت على لسان الأمير (ستيفا): أنها لن تصفح عني ... إن الذنب كله ذنبي أنا!، خطر لها أن أمها سوف تنهرها الآن عن مواصلة القراءة، وأيضاً فكرت أنه سوف يكون رائعاً لو أن هذا الزوج الخائن – الشجاع – كان أبوها، لكنها نحت هذا الخاطر بسرعة عن عقلها، وكذلك نحت الرواية المملة وعثرت أصابعها على رواية مترجمة لـ(برام ستوكر) هي (ممر الثعبان)، عرفت أنها لن تمل بسرعة، وكانت البداية شائقة، بالرغم من أنها لم تكن مثيره للهلع كما في (كونت دراكيولا) التي قرأتها بعد أن شاهدت الفيلم، الحقيقة أنها تقريباً شاهدت عدداً لا بأس به منها، كلها بالأبيض والأسود وتقريباً حفظت ملامح كل من قاموا بدور مصاص الدماء الرهيب – طبعا عندما يتأنقون ويتبادلون المجاملات مع ضيوف الحفل وليس عندما يروق لهم احتساء مشروب احمر اللون، ففي هذه الحالة تبرز الأنياب وتصبح الشفاه في لون الدم – سوداء اللون على الشاشة، لكنها بالتأكيد كأحمر شفاه قاني كالذي تستعمله غانيات باريس، كما راق لها أن تتخيلهن وهي تتأمل المرأة التي حاول الرسام أن يجعلها مثيره لكنه فشل، على غلاف (سافو) – والناب الأبيض دائما يلمع قبل أن ينغرز في رقاب الحسناوات، لا تسقط قطرة دم واحدة، لكن أحمر الشفاه أعطاها الإيحاء بان الدم يسيل من رقبة الفتاه أو من فم الكونت النهم، كل مصاصي الدماء سواء، لكنهم بين السادة لكل منهم وجه مختلف حسب من يؤدي الدور، (كريستوفر لي)، (ريجي نالدر)، (فرانك لانديلا)، (فرانسيس ليديرير)، (بيلا لوجوسي)، حفظت أدق تفاصيل ملامحهم والاختلافات الشخصية في حركاتهم، بالرغم من أنها لم تعرف اسم أي منهم، وجدت انه لمن المثير للإعجاب حقا أن تري أن بإمكان الرجل أن يبدو وسيماً مهذباً بادي الرقي، يتكلم بهدوء الأرستقراطيين، ويتصرف بأخلاق الجنتلمان، بينما هو قادر على أن يحكم قبضته على مملكة الليل وأن يجعل من رجال العلم تابعين، وأن يفتن الفتيات البريئات معدومات الحيلة.
* * *
يأخذها الخيال فتتمني لو كان لوالدها كل خصال الكونت الرهيب، وفي منطقة أبعد تجد انه لا بأس أن تكون هي نفسها ضحية مصاص الدماء الجميل الغامض، وقادها (ممر الثعبان) إلى (مقبرة الفئران) ووجدت متعه لا توصف في هذه النوعية من القصص التي وجدتها في أغراض خالها الذي سافر إلى الخارج. كانت بينها كتب غليظة الحجم نوعاً، (شجرة الجازورينا)، (أشياء تتداعى)، (أن تملك وأن لا تملك)، (يد الله الأكيدة) وغيرها. وقد أحبت أن تقرأ كل هذه الكتب يوما لكنها كانت سريعاً ما تمل عند الصفحة الخامسة في أي منها ولم تفهم – بأعوام عمرها الستة عشر- المقصود من بعض تراكيب الأحداث، ولم تجد الإمتاع الذي منحته لها قصص أخرى أقل عدداً في الصفحات – مثل قصص (ستوكر) و(آرثر كونان دويل) – في هذه القصص مغامرة تبدأ وتنتهي.. وهناك المزيد من الرعب! ممتع أن يرتجف جسدها وهي تقلب الصفحات التي تري فيها ليدي (أرابيلا) تتحول إلى دوده بيضاء هائلة على سطح البرج أمام عيني المسكينة الهشة (ميمي)، فكانت هي نفسها (ميمي) الساذجة...
* * *
فهل كانت الدودة البيضاء العملاقة هي فقط ليدي (أرابيلا)؟!.
* * *
من فوق روايتها ألقت نظره على وجه (مارينا) الشاحب.. هل ما تشعر به وهي تقرأ هذا الآن هو حقاً تجربه جديدة عليها؟..هل تتعرف على الخوف للمرة الأولى؟.. هل كان ما رأته منذ أيام هو مجرد حلم رديء تراه في يقظتها؟.. مجرد خيال متعب ليس إلا؟
إنها لا تعرف إجابة أي من هذه الأسئلة..كل ما تعرفه هو أنها تقرأ – فقط – لتستعيد ذكري الخوف الذي لم تفسر وجوده .. تحاول أن ترى الشيء مرة أخرى بين صفحات القصص.
* * *
وفي الليلة التالية لمرض شقيقتها رأت (مها) الشيء مرة أخرى...
* * *
كانت – كاليوم السابق – مع أختها الراقدة على الفراش طوال اليوم. وجدتها فرصة جيده لتقرأ، أو لعلها وجدت القراءة نفسها فرصة لتهرب من المزاج السيئ لأمها، إنها تطلب منها أشياء كثيرة مرهقة لا تريد معظمها في الحقيقة ثم تنفجر في وجهها صارخة بلا داع، لكي يعم على الأرض السلام كانت تغلق الباب عليها وعلى (مارينا) وتغوص في المقعد (الفوتيل) المجاور للفراش وتقلب بين الروايات بحثاً عن واحده لم تقرأها. اكتشفت أنها في هذا اليوم قد انتهت من جزء كبير من قصة (ستوكر) – (تحت غروب الشمس) ولكنها دون سبب واضح قررت أن تبدأ (أنا كرانينا) من جديد، كأنها تبحث عن حالة تناسب الجو المحيط بها، وهذه المرة شعرت بأنها تفهم ما يحدث، بدءاً من (إن العائلات السعيدة كلها تتشابه أسباب سعادتها، أما العائلات التعيسة فإن لتعاسة كل منها سبب خاص يختلف عن أسباب تعاسة غيرها) وحتى حل موعد الحفلة الراقصة الكبرى، (كورسانكي) الوسيم يدعو (كيتي) إلى الرقصة الرباعية الأولى، وعندما أحاط خصرها الرقيق، وضعت (مها) شريط الأسبرين الفارغ بين الصفحات لتحديد موقعها من الكتاب قبل أن تنهض ذاهبة إلى الحمام لكي... لكي تغسل وجهها.
بالرغم من أنها قد اعتادت على أن تترك أمها الصالة مظلمة، فقد انقبض قلب (مها) عندما فتحت بابا الحجرة لتواجه الجو المعتم إلا من الضوء الأزرق المتموج المصاحب لأصوات من زمن مضي تراه أمها الآن من خلال فيلم عربي قديم على شاشة التلفاز في حجرة المعيشة مفتوحة الباب في نهاية الصالة.
قبض الوجوم قلبها، كأن هذا الظلام هو – وحده –خطية العالم الكبرى التي لن يغفرها إلا الله، لابد أن الدنيا قد أظلمت على هذا النحو عندما قرر (هيرودس) أن يقتل الأطفال خوفاً على عرشه.
الحق أقول لكم أن ركبتي (مها) في هذه اللحظة كانتا عبارة عن نوع من الـ(جيلي) الذي لم يمكث طويلاً في الثلاجة، وبدا لها أن بابا الحمام في النهاية الأخرى من الصالة هو بابا جهنم أو الباب الذي سوف تفتحه على كابوس لن تنساه حتى لو عاشت ثمانين عاماً.
قدماها ترتجفان كأنها تتقدم على حافة سفينة بينما هي لا تجيد السباحة، كأن الغول بانتظارها خلف بابا الحمام، كأن أعضاء مجلس (السنهدريم) سوف يلقون عليها حكماً ظالماً الآن.
والآن فقد تذكرت – رغم أنها لم تنس قط – الكائن الشنيع الشكل الذي توهمت وجوده خلف شقيقتها من قبل.. فها هي تتقدم الآن لتفتح باب الحمام لا لشيء إلا لتراه واقفاً بطول المكان مستعدا لالتهامها (وربما لفعل ما هو أسوأ)...
وبدا لها (الطريق) الأسطوري إلى الحمام في هذه اللحظات (التي مرت دهراً) وكأنه جسر التنهدات الذي كانوا يسوقون عليه المحكوم عليهم بالإعدام وبالسجن مدى الحياة من قصر (دوجيه) إلى جسر (فينيسيا) القديم.
يقف الكائن الرهيب الذي يشبه ثعبانا هائل الحجم الآن بانتظارها خلف باب الحمام... (مافيش حاجة تقدر تبعدنا عن بعض)؛ الأصوات تأتيها من التلفاز البعيد حيث يحتضن (شكري سرحان) كتفي (فاتن حمامه)؛ لكن هذا لم يمنعها من أن تسمع صوت فحيح الشيء خلف الباب.
فكرت في أن تعود أدراجها إلى حجرتها، نعم، سوف تعود وتجلس على المقعد المريح بجوار سرير (مارينا) ثم تقنع نفسها بأنها ليست في حاجه إلى دخول الحمام الآن (ربما ولا في هذه الليلة) ثم تستكمل قراءة (أنا كارنينا) من حيث توقفت. نعم، ربما كان هذا لن يبعث على الراحة، لكنه بالتأكيد أكثر أماناً..
لكنها يجب ألا تصدق في وجود عالم الغيلان والعفاريت وما إلى هذه الأمور، كما أنها فعلا في حاجة إلى دخول الحمام الآن، والإرهاق والضغط النفسي والجلوس لساعات في جو الحجرة البارد والوسادة التي وضعتها على معدتها وهي تقرأ، كل هؤلاء يؤكدون أن نداء الطبيعة يجب أن يلبّي! بالرغم من خوفها تتقدم كالمخدّرة، أكثر وهناً من أن تنفض عنها المخاوف، أكثر ضعفا من أن تتخذ قراراً بالرجعة.
بعد لحظات سوف تحدث المأساة.. سوف يظهر الشيء ليفتح فمه الذي يشبه مقبرة ليبتلعها.... سوف...
* * *
الحلقة الرابعة: قصاصات
رأيت ما كان وما حدث قديماً، وفهمت الآن أن معقل الشياطين الذي فتحنا أبوابه دون قصد ينادي من جديد وكنت أعلم أنني سوف ألبي النداء، لكني لم أكن أعلن هذا حتى لنفسي، ولم أكن أعلم ما فائدة كل هذا البحث والتجميع، فقط كنت (ولازلت) أشعر بالراحة لأنني أحمل شيئاً يخصهم!.
بعض هذه الأوراق قصاصات من الجرائد اليومية والأسبوعية ومن المجلات والدوريات بأكثر من لغة (منها العربية والهولندية).
أنظر إلى هذه الصورة المحشورة وسط طائفة من الحروف الروسية المزركشة التي تعطيك الانطباع بإنجليزية تم العبث في بعض حروفها.. الصورة لفتاه مقتولة ممزقة الثبات، الجثة ترقد على جانبها الأيسر، خصلة طويلة من الشعر تلتصق بالوجه أمام العين اليمنى وجرح طويل يمتد من الجزء الداخلي لعظمة الترقوة أعلى الكتف إلى ما خلف الأذن حتى يلوث شعرها البني بالدم الغامق..
لست من هواة الاحتفاظ بهذه الأشياء، لكن خد الفتاه الأبيض يحمل علامة صغيرة لكنها واضحة، رقم ثمانية باللغة العربية (وهي الثمانية ذات الدائرتين التي اعتدنا أن نكتبها بالإنجليزية).. ربما ظنها محقق أحمق أو قارئ عادي مجرد وحمة مثلاً أو وشماً من تلك الأشياء التي يحب الأجانب وضعها على أجسامهم رسماً وثقباً..
لكنني كنت أعرف ما هي... أنا وحدي أعرف ما هي... إنها علامتهم...!
ولا داعي على الإطلاق لأن تمعن النظر في هذه الصورة بالذات، لأنك سوف تجد هذه اللقطة تتكرر مراراً... في صفحة الحوادث والقضايا بإحدى جرائدنا اليومية كان هناك هذا الخبر الصغير:
(- حسام ربيع، السويس:
("حادثة غريبة وقعت تفاصيلها أمس الأول بعمارة (الفرح) الكائنة بشارع (الجمهورية)، عندما سمع الجيران صرخات قادمة من الداخل، كانت لامرأة تصرخ في ألم، ولما كانت الأمور بينها وبين زوجها في غاية التوتر بالآونة الأخيرة – على حد قول سكان العمارة – أسرع بعضهم يقتحمون الشقة المذكورة ليجدوا الزوجة مغشياً عليها في الصالة، بينما الزوج يقف إلى جوارها يحاول أن يفهم كالآخرين، أو أنه يحاول أن يقاوم التوابع السيئة القادمة مع المقتحمين. وبالتحقيق في الواقعة تبين أن الزوجة قد أصيبت بصدمة ما؛ مما جعل استجوابها عسيراً، بينما يتفق الجيران على أن الزوج هو الذي قام بتعذيبها وصنع بآلة حادة ملتهبة هذه العلامة العجيبة في وجهها على شكل رقم (8) الإنجليزي، وينفي العقيد (سمير شكر الله) وجود هذه الآلة في مكان الحادث أو وجود شاهد عيان رأى المتهم أثناء ارتكاب عملية التعذيب التي تحقق فيها النيابة التي لم تخل سبيل الزوج باعتباره المتهم الوحيد في هذه الواقعة، وأخر شخص رأي المجني عليها وكان موجوداً بجوارهاً وقت الحادث.")
بعد أسبوع من نشر هذا الخبر، وفي نفس الجريدة كان هناك مقالاً طويلاً في باب المرأة كتبته (إيمان السعيد) الصحفية المخضرمة التي كرست قلمها للدفاع عن حق المرأة المهضوم أمام الوحش الهمجي الأحمق العنيف البشع الشيطاني اللعين الـ... الرجل، الذي يرهقها باحتياجات لا تنتهي ويحبسها في الدار كالدجاجة ثم يشوّه وجهها على سبيل إثبات الذات، ثم تؤكد أن الحادث السابق هو النتيجة الحتمية لسنوات القهر والـ.. ما إلى هذا الكلام! ..
طبعاً أنا لم احتفظ بهذه الجريدة من أجل هذا الهراء، بل بسبب خبر آخر في نفس العدد، خبر صغير جداً نشر في ذيل الصفحة الثانية:
("زميلنا الصحفي (حسام ربيع) يختفي فجأة وفي ظروف غامضة." )
ومن جريدة أمريكية قديمة:
-(بورتلاند)- برس هيرالد -11 يوليو.
(".. العثور على (ويليام فادن) -27 سنه – والذي أبلغت زوجته الشرطة المحلية باختفائه في 8 مارس الماضي.. عثرت عليه دورية راكبة على الرصيف المؤدي إلى (باسي بارك) في منتصف الليلة الماضية، ومن الفحص المبدئي لجثة (فادن) يمكن القول بأنه قد قضي نحبه على أثر الضرب المفضي إلى الموت باستعمال آلة حادة عند موضع القلب، هذه الآلة تركت أثراً يبدو كعدة دوائر احتشدت في تكوين عجيب، ومن المرجّح أن الجريمة تمت في مكان مختلف ثم تم نقل الجثة حيث وجدتها الدورية، إذ لا يوجد أي أثر للدماء التي نزفها (فادن)، والتي يؤكد الطبيب الشرعي أنها كمية كبيرة جداً...")
* * *
هذا الطبيب التقيت به وجهاً لوجه وبيننا جثة امرأة، خلع قفازة المطاطي وهي يقول في لهجة عجيبة مع هزة رأسه الحائر يتذكر الحادث المؤسف:
-"إن كمية الدم التي فقدها هذا المسكين كافية لجعل مصاص العالم يرقصون طرباً!!"
هذا الطبيب هو أستاذي في جامعة (باسادينا) عندما كانت البعثات إلى الولايات المتحدة تتوالى من كافة البلدان ومن بينها مصر، قبل أن تتحول أثناء خلافات عبد الناصر مع الأمريكان إلى الاتحاد السوفييتي.
لم أكن أدرس الطب وإنما العلوم الميتافيزيقية.. من الصعب أن تصدق أن جامعة محترمة تهتم بهذا الضرب من الأمور، لكن هذا حقيقي، وعندما تشاهد قاعة المحاضرات العملاقة التي ازدانت جدرانها العتيقة بصور فوتوغرافية هائلة الحجم بالأبيض والأسود لإسحق نيوتن الذي قدّم نقلة حاسمة للعلماء من عهد الدجل والهرطقة إلى عصر تحليل الضوء واتجاه القوة، ولبرتراند راسل وهيجل وادوارد موجابي، سوف تفهم أن دراسة علم ما وراء الطبيعة هي الرابط الوحيد بين هؤلاء العلماء، وعندما ترى المعمل الضخم المكتظ بالحاويات الخزفية والدوائر الكهربية وحجرة التشريح الملحقة به، سوف تتيقن من أننا لا نمزح هنا، وأننا لا نهيم على وجوهنا في الأروقة والحدائق نتفلسف ونقرأ التاروت، بل نجمع الأدلة المتفحمة ونحلل بقايا الأوراق والأطياف الغامضة ونشرح الجثث إذا لزم الأمر حتى نعرف الخفي من أمور معينة تقف في الحد الفاصل بين الوهم والعلم.
-"إذن..؟"
يقول وهو ينزع شريحة سميكة من جلد الرقبة والطبقة الدهنية التحتية ليكشف حزمة الشرايين والأوردة:
-"إذن يكون سبب الوفاة هو أي شيء غير القذارة الروتينية التي كتبوها في محضر الشرطة!..أنظر..هذان الثقبان محفوران بعناية في الشريان السباتي..أنياب مصاص دماء..هل هناك تفسير آخر..ولكن هذا الدراكيولا العصري لم يثقب الناحية الأخرى من الشريان وأخفى أثر الثقب على الجلد..إنه دقيق وماهر!"
دراستي وعملي وحياتي بالكامل في الولايات المتحدة.. جاء بنا أبي لأبدأ دراستي الجامعية هنا بعد وفاة والدتي في مصر بعد فترة مرض طويلة كانت تذوي فيها شيئاً فشيئاً حتى تهاوت تماماً، ودون الدخول في تفصيلات كثيرة لا داعي لها يمكنك التخمين كيف امتزجت في الحياة الأمريكية حتى النخاع وامتصتني طريقتهم في العيش والتفكير، حتى ردود الأفعال والمشاعر التلقائية كالدهشة والسباب كنت أمارسها بالأمريكية وبلغة رجل الشارع هنا.
في العام الأول لنا هنا لم يكن أبي يتصرف بغرابة بدافع الغربة، كان يتصرف بنوع من التوجس له طابع (ماكارثي) أكثر مما كان لدى الأمريكان أنفسهم تجاه الغزو الشيوعي إبان الحرب الباردة..
كان يبدو كالمطارد..وكانت علامات الانتظار المشوب بالقلق في كل مرة تزداد.. وتزداد... وتزداد.. ويبدو أن الرعب الذي كان يعيشه أبي قد وصل حده.. وكان ما يرعبني أنا هو حذره الشديد في كل تصرفاته مع الآخرين دون سبب واضح ودون تاريخ للهوس وكان خوفي منه وعليه يزداد كذلك.. كنت أراقبه جيدا.. كان يزداد توجّساً في كل لحظة.. هل رأيتم ما فعله في المنزل؟. لقد أوصد كل الأبواب والنوافذ وتخلص من كلب الحراسة لأنه لم يعيد يطيق سماع نباحه.. لقد كان مضطربا، نعم لقد كان كذلك. وفي الساعة الأخيرة من الليل يتسلل إلى السطح (ينتظرهم)!
وعلى فراش مرضه في الليلة التي مات فيها أخبرني بكل ما يجب أن أعرفه:
-"لم تمت أمك بذات الرئة، بل كانت تدفع ثمن زواجها مني!"
بدأ قمر الحقيقة يبزغ مكتملاً مكتنزاً:
-"هل تذكر اليوم الذي تعطلت فيه حافلتك عند جبل عتاقة، وكل هذا الكلام الذي رحت تردده عن القوم غريبي الأطوار الذين خرجوا عليكم هناك؟"
هززت رأسي أن نعم، وهل تنسى ذكرى كهذه؟
-"اكتفينا أنا وأمك يومها باللوم، لكننا لم نتهمك بالكذب أو المبالغة أبداً، هل تعرف لماذا؟"
سألته بنظرة حائرة، فأجاب بوهن وهو يبتسم بمرارة:
-"كانت أمك واحدة منهم!"
لا يمزح الرجل وهو في لحظات عمره الأخيرة، لكني لم افهم لما يقول معنى، لم أفهم سوى أن الباب يفتح على مصراعيه أمامي لأواجه المجهول وربما ما هو أسوأ، وانه لا يجب أن يموت حالاً، يجب أن أعرف!
-"هنالك الكثير منهم في كل مكان، يظهرون كالبشر، لكنهم ليسوا كالبشر، وهم في العادة يسكنون باطن الأرض والأماكن النائية والمهجورة في العالم، ولا ينتشر منهم سوى القليلين بين الآدميين لسببين لا أكثر: إما هروب الأخيار منهم من براثن النظام الصارم الذي يحكم قبضته عليهم كما فعلت أمك حيث تزوجتها قبل أن أعرف وعندما فعلت كان الأوان قد فات وكانوا قد وصلوا إليها وانهوا حياتها انتقاما.."
وسعل –ربما للمرة الأخيرة في حياته-ثم تابع:
-"..وإما يخرجون للانتشار بيننا للحصول على قوت الأعوام التالية!"
عظيم! وما هو قوت الأيام التالية؟
-"إنهم لا يتركون مكامنهم إلا في مواسم محددة كلما مرت ثمانية أعوام تقريباً، لا لشيء إلا لجلب وجبتهم المفضلة: الدم البشري الدافئ!"
ابتلعت ريقا جافا مرا وتمتمت:
-"مصاصو دماء؟!"
ولكن ما لم أخبركم به إن ما كنتم تعتقدون خطأ انه هذيان ممزوج بالهلع أصابني، لم يكن إلا حدة في الحواس.... والآن أقول لكم هنالك وفي تلك اللحظة تهادى إلى أذني صوت ضعيف.. كان صوتا غامضا.. وسريعا.. مثل صوت عقارب الساعة عندما تكون يضع أحدهم كفه عليها ليخرسها... لم أعرف هوية لذلك الصوت؟.. هل كانت نبضات قلب الرجل الذي يفارق الدنيا تاركاً خلفه السر المؤلم؟.. ولكن الفكرة زادت من خوفي وكانت الضربات الخافتة محيطة بوعيي تماماً حتى اعتقدت أنني اسمع كل الجيران يدقون على جدران المنزل من الخارج..وكانت دقات قلب أبي الأخيرة أشبه بصوت الطبول عندما تحفز الجنود للحرب. ومع كل ذلك جلست ساكنا وانتظرت. وكنت قليلا ما أتنفس..
هز أبي رأسه بصعوبة بالغة وأجاب وهو يمد يده بإعياء تحت الوسادة ويبرز مفتاح صدئ:
-"أقرب شيء لهذا، لا وقت للاختلاف على المسميات.. خذ هذا المفتاح، إنه يخص خزانة خاصة بمحطة قطار (أوريجون) رقمها مكتوب عليه، هناك سوف تجد كتاب سميك ذو غلاف أسود، إنه يخصهم وهو مهم جداً بالنسبة لهم، يمكنك القول إنه كتابهم المقدس، به من أسرارهم ما به، وبه ما يخص أصلهم وفصلهم كذلك، سوف تجد هناك كل شيء عنهم تقريباً، حافظ على كل هذا، فنجاتك معلقة به!"
مددت يدي أتناول المفتاح البارد بوجوم وقلت بحلق جاف:
-"ولكن..إننا هنا منذ وقت طويل يا أبي.."
-"..فلماذا الآن؟ ..هل تذكر يوم مغادرتنا مصر قديماً؟"
نعم أذكر..تلا هذا واقعة رحلتي الغامضة لباطن الجبل مع (ناصر) (مها) و(محمد إلهامي) والآخرين..استمع إلي والدي يومها بهدوء وحذر ولم يبالغا في رد الفعل، لكننا كنا نحزم متاعنا بعدها بأيام ونرحل إلى أمريكا.
-"هل كانوا يعرفون أنك ابني فأسقطوك في الفخ للانتقام مني؟ لا أعرف، لكني لم أكن أنوي الانتظار لمعرفة الإجابة، ما دامت قد وصلت إليهم أو وصلوا هم إليك فهذا يعني أن دائرة الدم قد بدأت ولا بد وأن تكتمل، لعل رحيلنا وقتها هو الذي شتت انتباههم عن تحقيق الأذى ببقية زملائك يا (هادي) لكن..لكن دلائل أكيدة وصلتني هنا أنهم قد عرفوا الطريق إلينا..هذه الجرائم..كما رأيت أحدهم يتسلل بالجوار..أين يختبئون؟ هذه ليست مشكلة بالنسبة لجنس اعتاد أن يسكن باطن الأرض تحت بلدان البشر، وإذا كانوا قد استوطنوا جبل عتاقة في السويس، فالجبال تملأ (فيرمونت) و(أوريجون) ولعل سلاسل جبال الولايات تحتشد بهم الآن!"
-"ولكن..هل يعني هذا أن (السويس)..؟"
أومأ بالإيجاب بقدر ما سمحت به الطاقة الباقية في جسده:
-"أظن ذلك..إن رفاقك القدامى هم أيضاً في خطر..لا تنس أنكم من فتح باب هذا الجحيم بعد أن كان مطموراً لأعوام وربما لقرون..لكنك أنت من يهمني أمره طبعاً، اذهب..خذ ما تركته لك في الصندوق، ولكن دع هذه الخطوة هي الأخيرة، سوف تجد مفكرة صغيرة في المكتب بها بيانات عن رجل قابلته بالمصادفة عندما ذهبت إلى مؤسسة الميتافيزيقا التي تدرس بها، إنه يدعى (ديفيد ميلر) عرفت أنه يبدأ في الاهتمام بالأمر، اذهب إليه لعله يفيدك..ولكن..الشيء الأهم هو.."
وكانت هذه هي كلماته الأخيرة قبل أن تفيض روحه:
-"يجب أن تعود إلى السويس لتغلق الدائرة!"
قبضت روح أبي وأنا أقبض على المفتاح المعدني البارد المخيف ورقم (612) محفور فوقه بين الزخارف التي تحمل اسم المحطة.. هذا المفتاح الذي يعتبر طوق نجاتي..أو تصريح وفاتي!
* * *
انتهت مراسم دفن والدي.
حاولت بعسر ترتيب الأمور كما رآها أبي قبل رحيله.
كتبت عنوان المدعو (ديفيد) في وريقة دسستها في جيبي. ولكن كنت أجد صعوبة في الوصول إليهم..لقد انقطعت صلتي بالسويس منذ سنوات، ولم تستمر سوى رسائل ورقية بيني وبين (ناصر) الذي صار من رجال الأعمال و(مها) التي أصبحت تكتب في مجلة أطفال عربية، وكنت أعرف هاتف الشركة التي افتتحها (محمد إلهامي) من (أحمد) الذي بدا ينشط في الحقل الفني ويصر على متابعتي بأخباره من آن لآخر. سوف أهاتف من أعرفهم ولعلهم قادرين على إخطار الباقيين.
* * *
الحلقة الخامسة: صفقة شياطين
على ساقين ترتجفان من الوتر وقف (عبد الناصر رشاد) إلى النافذة التي تعطيك مشهداً رائع الجمال للبحر، لكن قلقه البالغ الآن كان يجعل من المستحيل أن تتأمل وان تكتب أولي قصائدك عن نقاء الطبيعة. أعصابه المكهربة حالت دون أن يستمتع بلون الغسق المدهش كأن علبه اللون الأرجواني قد انسكبت على صفحة السماء...
كانت كل الخلايا الرمادية والبيضاء – والسوداء لو وجدت – تتصارع في حلبة التفكير المهول بخصوص الاجتماع الذي سوف يعقد في مكتبة صباح الغد، كل أجهزة التكييف فشلت في إطفاء النيران التي تشتعل تحت جلده، والمقاعد الجلدية الوثيرة الباهظة الثمن فشلت في أن تقنعه بالجلوس ولو للحظة.. حتى (مروه يوسف) سكرتيرته لم تستطع – بالأحرى لم تجرؤ – أن تنبس ببنت شفه، فاكتفت بأن تراقبه وهي تريح نفسها بفكرة أنها لا تستطيع – حقا – مساعدته بأي شيء...
نقر (عبد الناصر)على زجاج النافذة بنفس الطريقة التي ينقر بها الشاب الذي ينتظر فتاته في لقائهما الأول على مقعد في الحديقة العامة، ثم أنه قطب حاجبيه كأنه يجيب على سؤال عسير، وأخذ يروح ويجيء أمام عيني (مروه) القلقتان من فكرة أن ينفجر فجأة كعادته...
خطر لها أن الوحوش الكاسرة التي ينقلونها في أقفاص المامبو من غابات جنوب شرق أسيا لا يفرق منظرها كثيراً عن منظرة وهو يذرع الحجرة جيئة وذهاباً...
بحركة عصبية أخذ يمرر أصابعه خلال شعره الأسود الفاحم... إنه وسيم حقا – هكذا فكرت (مروه) للحظة – ولو لم يكن هو صاحب مجموعة الشركات الضخمة الشهيرة تلك لصار ممثلا لامعا بالتأكيد...!
الآن تراقبه باهتمام وعطف حقيقيين، وأدهشها أنها للمرة الأولى منذ بدأت العمل معه منذ ثلاث سنوات لا تشعر بتلك الرهبة – التي تجدها محببة إلى نفسها أحياناً – عندما تراه يقطب حاجبيه..
لقد بدا الآن ضيق الصدر بشكل يثير الشفقة بحق...استجمعت شجاعتها وقالت دفعة واحدة وبسرعة كأنها تخشي أن تتوقف فجأة عن الكلام في منتصف العبارة: -"أعتقد أن مندوب الشركة الأمريكية على وشك الوصول يا سيدي... يمكنك الذهاب وسوف أنتظره أنا."
التفت إليها وحدق في وجهها لدقيقة كاملة كأنه لم يفهم ما الذي تعنيه..
حقاً... ما معنى ما تقول؟...
إنها تعرف جيداً انه لا يستطيع الاسترخاء تاركا للآخرين مهمة أن ينتظروا تطورات الوضع...
-"شكراً يا(مروه)"
كيف قالها بكل هذا الحنان بالرغم من قلقه..
يا له من رجل!
شعرت بحرارة مفاجئة تدفعها إلى النهوض وإلى أن تذهب إليه في مكانه و...
-"يمكنك أن تغادري إذا شئت.. اعتقد أنني قد نسيت مرور الوقت عندما..."
-"سوف أبقي."
قالتها بحماس أدهشة وأدهشها هي نفسها...لكن دهشته لم تستمر لأكثر من ثوان، فسرعان ما شرد بصره من جديد وراح ينقر على أطراف المكتب وهو يفكر...
أما لهذا الانتظار من نهاية؟..
كانت (مروه) ترمق إظفارها الطويلة المقلمة بعناية غير تامة تناسب سكرتيره تستيقظ في السادسة صباح كل يوم وذلك في المحاولة السابعة والعشرين للتظاهر بأنها غير موجودة هنا، ولكنها عندما رفعت رأسها تلقائيا لأعلى ارتعدت فرائصها عندما رأت كرتين من الدم في مكان عيني مديرها، كادت تصرخ، لولا أنه ربت على ظهر كفها في رقه متوترة، وهو يغمغم بلهجة عجيبة كأنها حشرجة موت: -"أعرف أنك لن ترحلي لو طلبت منك ذلك، ولكني أعدك بمكافأة و.."
بتر عبارته لأنه لم يجد ما يكملها به، الواقع انه كان يعرف أن كل تصرفاته تبدو غريبة جداً...
ولكن..هذه الصفقة لا يجب أن تفلت من بين يديه (كما كان يحلو لرجال الأعمال الذين عاشرهم طوال حياته العملية أن يقولوا)..
انه يجد في هذا الوقت شيئاً مطمئناً أن أسرار هذه الصفقة لن تتسرب، خاصة وأنه لا احد يعلم بتفاصيلها إلا هو وسكرتيرته التي يثق بها تماماً. وأخيراً هؤلاء الأمريكان في (أوريجون) والذين لا يقلون عنه اهتماماً بسرية الأمر حتى أنهم أحاطوا شخصية عميلهم الخاص هنا ومندوبهم القادم من هناك بسريه جديرة بأجهزة المخابرات..
لكنه يشعر بأنه ليس على ما يرام...حرارة غريبة تسري في كل أنحاء جسده، والعرق اللزج يغطي باطن كفيه حيث ترتجف تحتهما أنامل (مروه)...هل يمكن أن يقودك القلق إلى الجنون..؟ نعم، بالتأكيد...وإلا فلماذا يصطبغ كل شيء حوله باللون الأحمر؟... ولماذا يجد أنفاسه تتلاحق بهذه السرعة كأنه كان يركض ألاف الأميال؟... ورأي للحظة لمحة من طفولته في عيني (مروه)..
عندما بدأ فقيراً، هذه الصفة التي كانت دائماً تعني له أن لا بأس أبداً في استبدال حرف (الفاء) بها بحرف (الحاء).. وإلا فلماذا كان التشابه القوي بين الكلمتين؟.. رأي خاص؟... كلا لم يكن هذا رأيه الخاص، بل هكذا كانوا ينظرون إليه.. هكذا كانوا يعاملونه.. منذ متى – على كل حال – كان له رأيه الخاص؟.. ليس قبل الآن.. انه المدير.. انه ثري... لدية مليون ونصف رأي خاص في بنك التحدي.. صاحب المال هو صاحب الرأي.. هكذا تعلم.. هذا الرأي غير صائب؟ لا يهم.. انه قادر بنقوده على أن يجعلهم يبتلعونه ويشربون خلفه دلوا من المهانة..!
وضع (عبد الناصر) كوب الماء الذي جلبته له (مروه) على مكتبة بعد أن تجرّع نصفه، وقد لاحظ أن يدها الممسكة بالكوب لازالت ترتجف وهي تناوله إياه، فقال وهو يمرر أصابعه بين شعره الأسود:
-"كلانا يعرف أنني لا يمكن أن أنام هانئ البال اليوم متظاهرا بأن الغد قادم ومعه حلول كل شيء.. كلانا يعرف أن مندوب الشركة لابد وأن يأتي اليوم، وهؤلاء القوم لا يخلفون موعداً، وعدم وصوله حتى هذه اللحظة لا يعني أنه قد تكاسل أو راحت عليه نومة أو أن المواصلات مزدحمة أو.. كلانا يعرف أن هذا التأخير إلا معني واحد فقط..."
وظل محدقاً في عينيها مباشرة، فتألق في عينيها بريق الفهم والقلق معا وهي تغمغم كأنها تتحدث إلى نفسها:
-"أنك لا تعني..."
-"(محمد إلهامي).. خصمنا اللدود..من سواه؟.."
قال الاسم في نبرة تحمل كراهية واضحة.
-" هل تذكرين محاولاته للاستيلاء على عملية قارون... وتذكرين عميله الذي اندس بين موظفيها العام الماضي... ماذا كان اسمه؟، (سامح محروس) أليس كذلك؟، هذا الذي رحل من هنا ومعه كل أوراق مناقصة (كلاريد وكلايتون)..."
كانت تعرف هذا، لكنها حاولت أن تطمئنه، لكنها لم تستطع، لأنه وجدت شكوكه منطقية تماما، كانت على علم بمحاولات شركة (إلهامي) لعرقله سير العمل هنا، وعندما سألته عن سر هذا العداء المستمر من ناحيتهم، أجابها بأنهم يضعون مجموعة شركاته في مركز لوحه التصويب لديهم هناك، لم يقنعها هذا تماماً، لكنها بالطبع لم تسأل أكثر، وتعجبت من الحقيقة التي كشفها لها بالمصادفة وهي أنهما كانا صديقي طفولة واحدة وكانت طوال مدة عملها هنا كانت تري طبيعة العلاقة بين (محمد إلهامي) و(عبد الناصر رشاد) مثل علاقة المشاكسة الحميمة بين (توم وجيري)..
بالطبع لم تخبره أبدا بهذا الخاطر الأخير، لكنها – عندما تذكرته الآن – ابتسمت ابتسامه عابره.. ابتسامة لم يلحظها عندما نظرت إلى عينية مرة أخرى للتأكد من هذا التصرف الغير لائق، فرأته قد أراح رأسه على ظهر المقعد وكفه تدير الكوب النصف مملوء في شرود، بينما سبحت عيناه في الماء الذي كان يتقلب في الكوب في كل اتجاه، فقاقيع صغيرة جداً، لكنها كثيرة تطفو على السطح وفي العمق... في العمق كان الماء راكداً تماماً.. رائقا تماماً.. شفافا تماماً...
وكذلك صار جدار الزمن شفافا ولا تتنبه من حواسه سوى الصورة القديمة المتأرجحة على برقية قصيرة من أمريكا،(انتظرني قريباً لأمر عاجل. هادي الحجار)، لم يفهم لكنه تأمل الماء الرائق ومن خلاله رأي الأيام التي كانوا فيها كلهم أصدقاء، هو و(محمد إلهامي) و(أحمد) شقيقه و(مي عبد المنعم) و(مها جرجس).. صداقة الصبا النقية كالماء بالرغم من أنها لا تخلو أبدا من مضايقات، ... وفي فناء المدرسة تحت مظلة المبني الرئيسي (لأن السماء أمطرت بغزارة في هذا اليوم) وقف هو على حافة حوض الزهور فازداد طولا وأعلن لهم جميعاً عن اليوم الذي سوف يغدو فيه ثرياً وربما فكر في شراء المدرسة نفسها! ضحكت الفتاتين في مرح بينما قهقه (محمد) حتى كاد يصاب بأزمة قلبية، لكن (أحمد) ابتسم كعادته وتعلقت عيناه بعين (عبد الناصر) في نظرة سريعة لم يستطع تفسيرها (لكنها كانت تعطيه الإحساس بعبارة واضحة لم يقلها أحد: سوف تكون ما تريد، إننا نثق بك تماماً.) وبالرغم من أن ردود أفعال (أحمد) كانت هادئة خاطفة في الغالب، إلا أنه لم يكن أبداً تلك الشخصية الوديعة المنطوية على نفسها، بالعكس: كان أكثرهم جراءة واقتحاما... أنه أول من واتته الشجاعة على القفز من سور المدرسة (وكان أول من تلقى العقاب كذلك).. يومها أفشت سره – كما قال – مدرسة الأحياء التي لم تكن هيئتها تفرق كثيراً عن "هيدي لامار"، بالطبع لو كانت هذه الأخيرة خنفاء، ولو ظلت حية حتى الآن، لابد أن (ماري شيللي) قد رأتها قبل أن تكتب (فرانكنشتين)!.. هذا كان رأي (مها).. وكان (أحمد) هو أول المدخنين بينهم، كانت (مي) هي من أعلنت الخبر لهم، لكنه بالطبع لم يبال، بل لعله لم يفعلها إلا ليعرف الباقون مقدار شجاعته ووجد الأمر أكثر مصداقية أن لا نعرف عن هذا منه، كان يعلق السيجارة بين شفتيه بالطريقة التي كان يفعلها (فرانكلين ديلانو روزفلت)، وهكذا أطلق عليه (عبد الناصر) اسم – (أحمد روزفلت)... وقفت خلفهم (مها) في ذلك اليوم وقالت مداعبه: "(روزفلت) و(عبد الناصر) في شلة واحده!... يا لنا من محظوظين!"... لم يضحك سوي (محمد) – وخطر لـ(عبد الناصر) وقتها – وفي مناسبات كثيرة بعد ذلك – أن هذه كانت المرة الوحيدة التي يسمع فيها (محمد) يضحك من قلبه!.. (هل يمكنه أن يضحك مثلنا؟... فضلاً عن أن يكون له قلباً...) وكان (محمد إلهامي) الأكثر سماجة وصاحب الدعابات الثقيلة، إنك لا تعدم واحدا مثله في كل مجموعة من الرفاق في مثل هذا السن (أو في سن أصغر أو أكبر)، لكن أسلوب هذا الفتي كان متوحشاً نوعا ما، جداله حار ويمد ذراعه دائما للإمام في دعوة لتسوية النزاع الكلامي باليد، لم يكن ضخم الجثة كما يمكنك أن تتخيل، بل يكاد يكون نحيلا مثل ماسورة بندقية محشورة بالبارود، لكنه استطاع ان يجعل الآخرين بخشونه ويتجنبون الاحتكاك به، كما أننا نخشى الديناصورات وفي أذهاننا صورتها التي نعرفها من السينما، بالرغم من أن هناك ديناصورات لا يزيد حجمها عن حجم الديك الرومي!.. لقد قال أحدهم يوماً –"إذا كانت لك ذاكرة قوية وذكريات مريرة، فأنت أشقي أهل الأرض." – فنحن حقا التعساء إذا تذكرنا كل المواقف السيئة التي وجدنا أنفسنا غارقين فيها حتى الذقون بسبب (محمد إلهامي)...
وكانت عائلته من هؤلاء الأثرياء الذين فقدوا ما لديهم تقريباً عندما قامت الحكومة في عام 1961 بتأميم الشركات والمؤسسات الكبرى لصالح الشعب، وتعيين أصحاب هذه الشركات لإدارتها من قبل الحكومة، وفيما بعد سوف يتولى والد (محمد) المسؤولية عن والده الذي مات بعد صراع طويل مع تصلب الشرايين واضطرابات القلب، وجاءت المرحلة الثانية في حياة الابن بالتعامل مع الجهات الأجنبية (في إطار تغيير سياسات الدولة من جديد) – سبق (عبد الناصر) في فهمة لخطورة تحويل القطاع العام إلى خاص – وقرر أن يسترد الأموال التي أخذتها الدولة من أبية ومنه، ولكن سرا، وعن طريق علاقاته الخفية وإرساء عطاءاته على (بون فوكس) وهي شركة أمريكية تعامل مع وكيلها في مصر خلال عمليات سابقة وسهل له أمور كثيرة، باختصار أراد أن يسترد حقه من الدولة عن طريق تقاضي العمولات والرشاوى السرية، متوهما انه صاحب حق فيها، وإن ما اخذ من أبيه بالقوة لابد أن يعيده هو بأي وسيله...
ظن البعض أن هذه الرغبة الانتقامية هي في الأصل حب مخلص لوالده، لكن الذي اقترب من الابن – كما اقتربنا نحن – عرف كل شيء عن العلاقة السيئة بين الابن وأبية، وفي أكثر من مناسبة جاءهما- (أحمد) و(عبد الناصر) – متعكر المزاج يركل أحجار الطريق، لان السيد الوالد كان ساهراً قرب الباب عندما عاد الابن المحترم من سهرته اللطيفة فجراً..
بالطبع ما كان يثرثر كثيرا بخصوص التقريع الذي يناله من أبية أمامهما أي حرج في السخرية منه: "إنه كالأفيال، لا ينام إلا خمس ساعات في نهاية اليوم!"
وقبل وفاته بأسبوع واحد رأى والده -للمرة الأخيرة – هو يحشر نفسه في باب سيارته ثم ينادي (محمد) ويطالبه بألا يتأخر كثيرا في عودته إلى المنزل، بينما كان (أحمد إلهامي) يكتم وجهه في كتف (عبد الناصر) ليمنع ضحكاته من الخروج، فاحتشدت تحت جلد وجهه الأبيض فصار كحساء الطماطم!.. وعندما رحلت السيارة انفجر فجأة وكاد يسقط مغشياً عليه،..كان الشقيقان مختلفان تماما، اللهم غلا في المناسبات التي يسلم فيها كلا منهما بسطوة الأب الضخم، وعدا ذلك كان (أحمد) على خلاف شقيقه محباً للفنون، خفيف الظل نوعاً، حاضر النكتة، ويحفظ الكثير من الأشعار، وهو قادر على إعادة تمثيل مشاهد سينمائية كاملة من الذاكرة! ترى من كانت الفتاة التي كشفوا وقتها إن بينهما قصة عاطفية من نوع ما؟ هل كانت (مي) أم (سلوى) أم..؟
-"(ماريان)؟"
قطع صوت (مروه) استرسال خواطره، والتفت في حركة حادة إليها ليراها تقبض على سماعة الهاتف في يدها وتخبره:-"يقولون إن العميل الأمريكي قد وصل..إنها امرأة..اسمها (ماريان بلاك)!"
عقد (ناصر) حاجبيه وردد:-"امرأة؟"
مطت (مروه) شفتيها وهزت كتفيها غير عالمة بما يجب عليها فعله، لكنه لوح بكفه وهو ينهض مسوّيا حلته:-"فلتكن الشيطان ذاته، دعيهم يدخلونها، ولينته هذا الأمر!"
وكان على حق مرتين..كانت هذه هي بداية النهاية لأمور كثيرة..
وكانت المرأة هي الشيطان ذاته!!
* * *
الحلقة السادسة: جرائم قتل والفاعل مجهول
غمغم (أندي) لصديقة (ديفيد):-"هل تعرف؟ ربما تكون على حق للمرة الأولى في حياتك.. إن العلامات على صدر هذا الرجل تشبه إلى حد كبير مجموعة متداخلة من رقم ثمانية! ..."
وهز رأسه يطرد الصورة المريعة منها وراح يضرب ركبته بمضرب البيسبول ويتأمل الفتيات اللاتي لم يتعرف عليهن بعد في فناء المدرسة، بينما انهمك (ديفيد) في قراءة تفاصيل الخبر وشرد عقله بعيداً فلم يسمع (أندي) الذي ردد عليه عبارة ما ثلاث مرات وفي الرابعة:-" (ديف)!.. أين أنت أيها الأحمق؟.. ألا تسمع؟.. كنت أقول: ألا تعتقد أن (سيدني) من الممكن أن تكون أكثر إثارة لو كفت عن وضع اللون الأحمـ.....؟"
قاطعة (ديفيد) فجأة وفي شرود سأل:-" هل تذكر مسز (ووديس) التي كانت تدرس لنا العام الماضي؟"
حك (أندي) جبهته بمضرب البيسبول يفكر في: ما الداعي لهذا السؤال الأحمق الآن؟!
وفي الإجابة على هذا السؤال الأحمق:-"يا للشيطان!.. أرملة (دراكيولا)؟!.. ما الذي ذكرك بها الآن؟"
غاص (ديفيد) في الخاطر المخيف أكثر وتمم:-"كانت ترتدي دائما سلسلة بها حلية لها نفس الشكل."
يسأل ويد متوترة تضع المضرب على العشب:-"أي شكل؟"
من الجانب الأخر يجيب الفتي النحيل:-"رقم ثمانية."
* * *
من بين ما احتفظ به هذه:
بورتلاند/ برس هيرالد- 1 اكتوبر
تحقيق: فيل ميلارد
"مدرسة (ديرسلي) العليا تشهد حادثة سوف تظل عالقة بأذهان كل طالب أو مدرس أو موظف تعيس الخط قادته الصدفة ليدي جثة الشاب (أندي هيل)، 16 عاماً، في منتصف ملعب البيسبول بالمدرسة، تهشمت جمجمة الفتى تماماً وقدرت بلا حراك إلى جوار مضرب البيسبول الذي استخدام في تحطيم رأسه، ولازالت آثار الدماء الجافة عليه، كانت الجثة عارية إلا من السروال الداخلي، وعلى كل بوصة مربعة من جلده كان محفوراً رقم ثمانية، كأن جيشاً قد يلقي أمراً بمارش عسكري فوق الجثة وهو يرتدي أحذية تحمل كعوبها نقشاً لهذا الرقم، وأقر الطبيب الشرعي أن تفاعل خلايا الجلد مع الجروح ووجود سجحات وتسلخات حولها يؤكد أن هذه النقوش التي لها معني قد تم صنعها على الجسم قبل الوفاة، ياللبشاعة! أي آلام عاني منها (أندي) المسكين!.."
ومع هذه القصاصة احتفظت بصورة فوتوغرافية مشققة بفعل الزمن وأدوات التحميض البائدة، في الصورة رجلين وامرأة، أما أول الرجلين فهو في الخامسة والثلاثين من عمره تقريباً، له وجه بريء ونظرة شاردة، وزاوية فمه التي امتلأت بالتجاعيد قبل الأوان تنم عن حياة حافلة بالمتاعب وفي ابتسامته المرتبكة كل معاني الاستسلام والتضحية بالنفس... هذا الرجل هو (ديفيد ميلر).
المرأة كانت تقف بين الرجلين وتبدو أصغر منه بعام أو عامين، تبدو فاتنة حقاً بشعرها الأشقر وشفتيها المكتنزتين وقوامها الرشيق الذي ملأ فستانها الضيق ذو الثنيات الكثيرة الدقيقة (على موضة (مارلين مونرو) في (البعض يفضلونها ساخنة)). وأول خاطر يتبادر إلى ذهنك عندما تقع عيناك على هذه الصورة هو: يا إلهي!.. هذه المرأة ليست بحاجة أبداً إلى هذا الفستان الأحمر الصارخ لكي تبدو حسناء، هذه الحقيقة تبدو واضحة تماماً.
طبعاً سوف تجد عسراً في تمييز الألوان هنا، لأن الأحمر بعد كل تلك السنوات صار أقرب إلى البني المحروق، دعك من أن الصورة قد تم التقاطها أصلاً في عجالة في بداية عهد لم يزل فيه معظم المصورين يشمئزون من التطور الحديث في كيماويات التحميض.
على أية حال، فهذه المرأة هي (سيدني ملير) زوجة (ديفيد).. أمّا الرجل الثاني، فمن الواضح أنه الأكبر سناً بين الثلاثة (ربما ضعف عمر الآخر!) وقور يتسم برصانة ودبلوماسية وفي عينية نظرة هادئة ملول، نظرة من يلتقطون له هذه الصورة رغماً عنه... هذا الرجل هو أنا!!!.
* * *
تم التعارف بيننا في السينما، عندما كنت أشاهد فيلماً فرنسياً مملاً اسمه (سر كيموكو). بطل الفيلم مراسل صحفي يري الفتاه (كيموكو) في كل مكان.. في الملعب.. بين المتفرجين... بين أعضاء لجنة التحكيم.. في الطريق، وأخيراً يستطيع أن يلتقي بها.
ويدور بيننا الحوار:
-"هل تصدق أن يوجد شخص ما- أو شيء ما- في أكثر من صورة وأكثر من مكان، في نفس الوقت؟"
هذا هو السؤال الذي مال به الرجل المجاور لي في الصالة ليهمس به في أذني، شعرت بالحيرة للحظة، فلم يكن من المعتاد في هذه الأيام تبادل الأحاديث مع الغرباء، خاصة بعد الأحداث الأخيرة والتي يرجح الرأي العام أن يكون وراءها قاتل متسلسل من طراز خاص، لكني أجبته والظلام يلفّنا والأحداث البطيئة لازالت تدور على الشاشة أمامنا:
-"نعم أصدق!... إننا في عالم أصابه الخبال يا عزيزي، ومن الممكن أن يحدث فيه أي شيء في أية لحظة!"
توقعت منه معارضة أو احتجاجاً صامتاً على الأقل، ولكن فيما يبدو أن ما قلته أرضاه على نحو ما وأتفق مع فكرة قديمة لدية أرّقت منامه طويلاً.
كان (ديفيد) قد حصل على منصب هام في مؤسسة محدودة النشاط تهتم بدراسة بعض الظواهر الخارجية عن قوانين الطبيعة، لعلها من أولى الجهات التي اهتمت بمناقشة هذه الأمور، ويبدو أن (ديفيد) قد حصل على هذا المنصب هناك بعد أن نال إعجاب رئيسه بتحقيقين لهما ثقلاً علمياً واضحاً وليس مجرد فانتازيا خيالية كعادة ما يقدم إلى هذه المؤسسات، ولأنه كان واسع الخيال بعض الشيء ما أهله إلى رؤية خفية خلف بعض الغوامض..
ويبدو أن سعة خياله هذه كان لها نشاط غير عادي منذ فترة لا بأس بها، عندما بدأ يلمح إلى أن الجثث التي يتم العثور عليها الآن في كل مكان وفي أوضاع مهينة مزدانة بعلامات غريبة، ليست هي باقة الزهور التي يهديها سفاح مخلص لمجتمعه، بل أن الأمر أكبر واخطر من هذا بكثير، راق هذا الرأي للبعض لكن الأغلبية ظلت مؤمنه بهذا القاتل الذي عاش طفولة قاسيه وسوف يعاني من شيخوخة حافلة بتأنيب ضمير أكثر قسوة، إن لم يكن حبل المشنقة قاسياً بما يكفي!..
* * *
ولم يكن (ديفيد) ممن يصادقون رجل الشارع أو حتى ممن ينشطون في اللقاءات المفتوحة، وعدا أسرة زوجته وبعض زملاؤه في المؤسسة، لم يكن له أي أصدقاء على الإطلاق ... وهكذا فإن خواطره لم تتجاوز هذه الدائرة، وحتى بين هؤلاء لم تكن الفكرة ذات قبول يرضيه.. بالفعل! حسناً أيها العزيز (ديفيد)، ليس القاتل العتيد الذي تبحث عنه كل عين هو المسئول عن هذه الجرائم، فمن يكون؟.. هذا هو المغزى الواضح من كل رأي يسمعه...
يقول له صوت زميلة (كاوفمان) وهو يضع قدح القهوة بين جبل الأوراق على المكتب:-"ولكنها – في النهاية – مجرد جرائم قتل من تلك التي تحدث كلما أشرقت الشمس."
ويبتسم رئيسه ابتسامة أبوية (وكان يتعاطف مع مسألة أن (ديفيد) عاش دون أب منذ الرابعة):-"خيال خصب لا أكثر، يمكنك أن تضع به بذور ألف خاطرة وألف فكرة، فتطرح غداً مليون حادثة لم تحدث ومليون حادثة ومليون رواية لن تقنعك أنت نفسك إذا أمعنت التفكير!"
ويشرق وجه (سيدني) وهي تعد له وجبة من الكبد والبصل من فوق طاولة المطبخ:-"ربما أحببتك لأنك دائما تعثر على ما تبحث عنه..."
يبحث عن الأمل بين شفتيها، فتكمل:-".. لكنك الآن تبحث عن شيء لا وجود له."
وعندما يعود إلى غرفته القديمة في الدار التي نشأ بها طفلاً، تغمغم امة في حنان:-"إنه (أندي)، أليس كذلك؟"
تبرق دمعة في عينه ولا يجيب...
هل تعرف؟..لا...، لكنها على الأقل ربما تكون الوحيدة التي تؤمن به!.
يفتح خزانه كتبه على أنغام (ايرل هوكر) في أغنية (يجب أن تخسر) وفي جوفها كتبه ومجلاته الهزلية القديمة التي قضي بين صفحاتها طفولته ويتذكر كلمات (ويليام كارلوس ويليامز): (على السطح.. نفسي/ وتحته/ الذكاء والشباب مدفونان/ جذور؟/ كل مناله جذور).. حياته بالكامل مدفونة تحت تل الذكريات المؤلمة، ومشكلته أنه سوف يظل إلى الأبد يتذكر ما ينساه الآخرين، تمني كثيراً أن يفر من الخواطر ومن رائحة الأوراق، ولكنه قدره! لأسباب كهذه يلعبون الترابيز و(رالي) السيارات، لا شيء إلا ليسقطوا من عل أو يموتون وسط الحطام والنار، وها هو يسير في إصرار عجيب نحو حتفه، وضعية مثالية لعبث إغريقي، لن تبدأ حياتك أبداً مادامت الكوابيس تطاردك، ومادامت ثعابين القلق تزحف تحت فراشك وتهدد باعتصار قفصك الصدري أو حقن ُسمّها الأزرق في شرايين روحك.
ها هي الجريدة التي كان يمسكها في ذلك اليوم وفي إحدى صفحاتها تجويف بقي بعد أن اقتطع منها (أندي) صورة مثيرة لـ(إستر وليامز) بلباس بحر إيطالي!
يومها اتهمه بالحمق، لكن الأحمق الوحيد كان هو (أندي) المسكين...
وعندما كانت جثثه تنضج تحت شمس ملعب البيسبول منذ سنوات كان يعقدون حواجبهم وهو يتساءلون عن السفاح الغامض الذي تسلل إلى المدرسة لارتكاب جريمته البشعة وقتل مراهق ربما كانت أسوأ ذنوبه هي مضايقة الفتيات أو سرقة خمسة دولارا من مدخرات أمه.
ليس السفاح هو من فعلها!
ردوا عليه بأن هذه حماقة ثم لم يجادلوا أكثر لأنه بدا منهاراً يومها!.. لكنهم.. وحدهم.. الحمق! انه ليس قاتلكم الخفي أيها السادة، يمكن أن تخدعوا أطفالكم حتى لا يتأخرون بعد السادسة ليلاً عن المنزل، فكرتكم هذه لن تنطلي على من رأي ما رأيته وعرف ما عرفته.
تريدون دليلاً؟...هاكم!.. على حافة الطبعة الثالثة من (نيويورك تايمز)، واقرأوا المانشيت الرئيسي:
(جزار الرقم (8) يتفوق على نفسه.)
تحقيق/ مورث ساوندرس
"متى يمل هذا الرجل؟ متى يفقد واجب الحذر؟. أنه يتحرك في صمت ويظن – وهو محق في هذا – أنا لن نقتفي له أثراً، يضرب ضربته في الظلام ثم يتبخر في ضوء النهار، ولكن جريمته تبقي تفوح منها رائحة الدم والإثم. ما الذي فعله هذه المرة؟ عائلة (زاك ميلز) في نهاية شارع (ستريلاند أغينيو)، الفاجعة كانت من نصيب من يقطنون بالجوار، كل من غرف آل (ميلز) في الواقع شعر بالحزن من أجلهم (الحزن المهزوز برجفة الرعب)، وإذ أفلت الضحايا من الحزن، فأننا نتساءل كم الرعب الذي عانوا منه في اللحظات الأخيرة. على كل حال فأن أي منهم لم يعد يشعر بأي شيء الآن على الإطلاق بدأ الأمر ينكشف عن طريق بائع اللبن الذي هم بترك الزجاجات الممتلئة لصباح يوم جديد أمام عتبة آل (ميلز)، لكنه وجد (للمرة الثانية على التوالي) زجاجات الأمس لازالت، مكانها لم تمس. ظن في البداية أنهم قد سافروا أو انتقلوا إلى دار أخرى، لكنه رأي دراجة (كريس) مسنودة برشاقة على بيت الكلب الخشبي كالعادة، كما وجد الباب الرئيسي مفتوحاً (وتذكر أنه كان كذلك بالأمس أياً؛ لكنه لم يهتم) بالطبع كان لابد أن يدخل ليتحقق من شكوكه وليعرف ما الذي يدور هنا بالضبط، ولم يتذكر وقتها أن الفضول قتل القط كما يقول الانجليز، بعد دقائق سمع الجميع صرخات (توم) هذا هو اسمه- ثم حدث أن أتبعتها صرخات أخرى، صرخات من دخلوا المنزل ليروا ما الأمر، وكان هناك (توم) منتصباً كالعامود بين عائلة (ميلز)، جثث عائلة (ميلز)، (زاك) عند عتبة الحمام، مطروحاً على الأرض، وجهه لصق البلاط، (هارييت) – الزوجة – يتدلي جسدها من فوق ظهر الأريكة حيث أنقسم عمودها الفقاري إلى نصفين (فاقدة لكل أثر للحياة بالطبع). الأطفال الثلاثة (هاري) و(كريس) و(كارتين)، ساقطين على أرضية حجرة المعيشة بلا حراك، رؤوس المرأة والطفلين كانت تتدلي لأسفل من فوق الأريكة والمقعد الضخم، والأذرع ممتدة كأنها تحاول التشبث بأخر عربة في قطار الحياة، الأجساد ملتوية في أشكال مختلفة، وبعض الملابس ممزقة وقد جفت أجزاء كبيرة منها من الدم المتجلط عليها، جثة (كاثرين) كانت ممدودة أمام التلفاز بينما احدي قدميها مرفوعة فوق المنضدة إلى جانب الجهاز الذي ظل يعمل ليومين لعيون ميتة وأذان صماء وأدمغة فقدت الدم المؤكسد الدافئ، وتغطت ساق الطفلة من الكاحل إلى الفخذ بالدم الأسود الجاف، بينما تمزق أنف (كريس) وغرق صدره في بركة سوداء من السائل الثمين الذي كان يجري في عروقه منذ يومين، وقد تعري ظهر (هاري) كاشفاً عن عدد من الطعنات الدقيقة من مؤخرة الرأس وحتى الردفين، يا إلهنا الرحيم، ما الذي كان يدور في العقل المريض الذي نفذ هذه المذبحة؟ لابد وأن هذا المشهد الرهيب سوف يظل مطبوعاً في أذهان شهود الفاجعة، خاصة عندما بدأت الصدمة في الزوال وحان الوقت للرؤية القريبة لرقم (8) المطبوع على كل مكان ظاهر من الجلد البشري لجثث أسرة (ميلز)، هذا الرقم البغيض مألوفا جداً، إن هذا المخبول يضع لنا علاقة المميزة في كل مرة، وكل مرة نسأل متى ينتهي مخزون المرض في عقل هذا الشيطان. متى يكف عن...؟.
وما الذي لدينا هنا...؟ قصاصة من (سان فرانسيسكو كرونيكل) – الخامس من مايو..:
...الصيد ثمين هذه المرة!.. لا تحاول العد على أصابعك وإلا كان حتمياً أن تملك مائة إصبع.. مراسلنا العتيد (والت ريبلي) يدخل مع رجال الـ (FBI)- لان الأمر قد خرج عن نطاق الشرطة المحلية إلى حانة (الكلب الأحمر) التي يعرفها كل مراهق يجرب البيرة للمرة الأولي وكل سائق شاحنة على الطريق السريع وكل رجل له زوجة مناكدة.. الحانة الشهيرة المجاورة لمحطة البنزين، واللافتة الوردية التي تعدك بأشياء كثيرة حمراء يمنحها لك (الكلب) لقاء القليل من الدولارات (والقائمة لا تشمل نبيذ (شاتوبريان) وحده!!). الجديد أنه في الليلة السابقة لم يخسر رواد الحانة أموالهم فقط هذه المرة، بل حياتهم أيضاً! كما فقدت الحانة نفسها فتي البار والنادل. المكان هنا فوضي حقيقية، الجثث على الأرض والمقاعد والبار، وعلى خشبة المسرح الصغير كان هذه المشهد السريالي المأسوي للراقصة الشقراء التي اتخذت جثتها وضعيه عجيبة يبدو أنها أخر وضعيه خليعة تأخذها في حياتها – لا يمكن أن نصف هذا، لأنه – ببساطة – بالغ الشناعة!!.. من فعلها؟ لا داعي للإجابة، لأنكم تعرفونها جيداً، والذي لم يعرف منهم حتى الآن، ليأت ويتأمل الجثث التي تعرف أجزاء منها كاشفة عن عشرات من رقم ثمانية اللاتيني! .. وبقع كبيرة من الدم.. يبدو أن (الكلب الأحمر) قد صار كذلك فعلاً، وليس ذلك بسبب الخمر أو ما"كانت" تقدمة لك (إيفيتا) – الراقصة الشقراء! – مقابل عشرون دولاراً!...
اليوم، وفي نفس الوقت تقريباً.. فقط كانت أحداهما في (ستريلاند أفينيو) بـ(نيويورك) والأخرى في حانة على الطريق السريع بـ(سان فرانسيسكو)، وهنا تظهر عدة حقائق مهمة: أولاً: حتى لو امتلك هذا السفاح خاصية الانتقال الأتي منهم غير قادر على ارتكاب الجريمتين في نفس الوقت، وفي موقعين تفصل بينهما كل هذه المسافة. ثانياً: إذا أستطاع بشكل ما أن يفاجئ أسرة (ميلز)، فكيف يظل يفعل هذا مع حانة بها من الرواد والعاملين ما يزيد على الخمسين في أصعب الأحوال؟ وكيف لم يستطع أحد الإفلات؟ تقتل الراقصة والنادل وعامل البار وأربعة من الرجال الأشداء مهمتهم هي منع الشغب!
ويقتل سبعة رجال في دورة المياه الملحقة رغم أن الباب الخلفي للحافة قريب جداً1 بل ويقتل واحد وثلاثون رجلاً وامرأة في الطابق العلوي (وهو الذي خصصته إدارة الحانة لنشاطها الداعر على سبيل التوسع في العامين الأخريين!)، لماذا لم يقفز أحدهم من النافذة بدافع الهلع على الأقل، الأمر لا يحتاج إلى طول تفكير؟ خاصة ولابد أنهم قد شعروا بالهرج الذي يحدث في الطابق الأرض أولاً!
عصابة؟!!..وكم يكون عدد أفراد هذه العصابة التي لا تمنح أية فرصة لمخلوق للإفلات؟ ناج واحد على الأقل يخبرنا بما حدث..كيف قتلت بهذا الإتقان؟..
لا جريح واحد! كلها إصابات قاتلة! ورغم احتمال كونهم عصبة من القتلة يعد تفسيراً منطقياً لحدوث الجريمتين هنا وهناك في ذات الوقت، إلا إنها لا تناسب ما هو معروف من طبيعة القتل الواحدة الخاصة بالقتلة المتسلسلين!
ثم كيف تقتحم عصابة بيتا هادئاً في (ستريلان أفينيو) دون أن يشعر بذلك عجوز يتشمس في الفناء المجاور أو صبيه يلعبون؟ وكيف يفعلون الشيء ذاته مع (الكلب الأحمر) دون أن يفطن إلى ذك أي من عمال محطة البنزين الملاح لها؟ صحيح أن الحانة دوماً، لكن صرخات الهلع والألم يمكنك تمييزها عن صيحات السكارى!
لماذا لم يسمع أحد صوت طلقات نارية؟ فإذا لم تكن العصابة – أو السفاح – ستعمل أسلحة من هذا النوع، لماذا لم يحاول (جورجي)، عامل البار العجوز، أن يستعمل مسدسه (الكولت) الضخم للدفاع عن نفسه، والذي وجدته لجنة التحقيق الفيدرالية لا يزال في مكان بالدرج الخاص به بالبار لم يمس؟ فقط جثة (جورجي) تحت هذا الدرج!.
الدافع؟! لا يوجد أي دافع على الإطلاق فيما يبدو! خزينة (الكلب الأحمر) بها سبعة ألاف دولار على الأقل فضلاً عن الموجود في جيوب الرواد وأدراج البار ومكتب مدام (ماري) بالدور العلوي، ربما يفوق المبلغ الكلي عشرين ألف دولار، لكن سنتاً واحداً لم يؤخذ من مكان، ومبلغاً لا بأس به بالإضافة إلى صندوق الحلي والمجوهرات الخاص بعائلة (ميلز)، لم تمتد على أيهما يد!.
(هارييت ميلز) لم تغتصب، ولا أي دليل على إهانة أنثوية لجثة ابنتها، كذلك لا توجد أي محاولة للانتهاك الجسدي أو ممارسة الجنس عنوه مع أي من داعرات (الكلب الأحمر)- تسعة عشر امرأة!. كذلك لا توجد أي إشارة طيبة لمحاولة العبث بجسد (إيفيتا) التي كانت قد تخلصت من كل ملابسها تقريباً وهي تقوم بأداء رقصتها العارية!.
أسئلة كثيرة، والإجابات: لا توجد!
والإجابة التي يلمح بها (ديفيد) هي عنوان ورقة بحثية جديدة يقدمها للمؤسسة التي يعمل بها:"أياً كان الفاعل في هذه الجرائم فهو ليس بشرياً!"
قصاصات الجرائد وسجلات الشرطة التي تؤكد حدوث هذه الجرائم منذ الخمسينات وحتى الآن، وتزامن بعضها مع الأخر عبر مسافات شاسعة (خاصة الأخيرتين؛ إلا إذا استطاع منفذهما أن يعبر الولايات من (نيويورك) عند الساحل الشرقي إلى (سان فرانسيسكو) إلى الساحل الغربي في نفس الساعة!)..
كذلك تقرير الطبيب الجنائي: لا أسلحة نارية! ربما هي مدي أو سكاكين! كميات كبيرة من الدم مفقودة، لكنها ليست في مسرح الجريمة، لا أثر لعراك أو شغب أو محاولة للدفاع عن النفس إلا في حدود بسيطة لا تتناسب مع وضع الجثث والألم الواضح في ملامحها.
تقارير الشرطة للصحافة تؤكد على فكرة سفاح واحد، قاتل متسلسل، لا يصدق، لان فكرة عصبة من القتلة سوف تجعل الذعر – الموجود بالفعل – يتضاعف.
أما فكرة أن يكون الفاعل غير بشري فهي فكرة طريفة بحق!!
ولكن كيف الطريق إلى إثباتها يا أخ (ديفيد)؟! الكل يكتم ابتسامات ساخرة (ومشفقة) ...: سهل أن تجد تفسير ميتافيزيقي لأي لغز! ولكن هل من دليل؟.. حسناً! يبدو أنه ما من مخلوق يصدق... اللهم إلا رجل واحد... رجل قابلة صدفة في دار العرض!!
الحلقة السابعة: ثلاثة أعداء ورجلان وسر واحد
في الأيام التالية صرت أقرب الناس إلى (ديفيد ميلر)، لا علاقة لهذا بالغرام من النظرة الأولى، بل بأسباب محددة صريحة، الرجل بائس ضائع يجمع الأدلة على إن الجرائم التي تحدث هنا وهناك تنذر بطاعون من نوع جديد.. لا يصدقه أحد ..أنا فقط!..فعلى الرغم من أنني من لحم ودم مثله؛ فأنا أنحدر من نسل الجنس الذي يتنبأ بقدومه (ديفيد) لكنه لا يتصور كيف يكون حقاً،..ومن ناحيتي كنت بحاجة إلى عون نفسي على الأقل، ومساعدات علمية وعملية فلا تنس أن (ديفيد) يعمل في ذات الحقل الذي أنتمي إليه (ترى هل اختار لي أبي هذه الدراسة الخاصة ليجعلني مستعداً ليوم كهذا؟)، وهكذا ترانا نلتقي في ليلة مظلمة ملبدة بالغيوم، وكان البرد شديدا، وكنت أرتدي معطفاً أسود وأحيط أسفل وجهه بشملة من الصوف البني، وأرخي حافة القبعة على جبينه أجد الخطى في شارع (أنسشاير).
وأمام المنزل رقم 81 توقفت لحظة، ثم ارتقيت درج السلم، وضغطت زر الجرس وسمعت الرنين في الطابق الأرضي، ثم انفتح الباب.
-"تفضل بالدخول،..هلم!"
بدا لي وجه (ديفيد) أشبه بظل من السماء المكفهرة.
سألته بصوت خافت هو على الهمس اقرب:-"هل أنت وحدك؟"
أومأ بالإيجاب وأفسح لي طريقاُ إلى الداخل:-"هذا هو بيت العائلة ولا أحد منهم يقطنه منذ سنوات بعيدة..اختاروا حياة الجانب الريفي في (أوريجون)."
ثم ألقى نظرة إلى الحقيبة السوداء التي أثقلت يدي وقال:-"تعال معي!"
راقبته وهو يرقى السلم إلى الطابق الثاني، ثم هززت كتفي وتبعته وأنا أقول لنفسي: لابد أنه مصاب بالبرد الشديد وإلا ما كان صوته على هذه الدرجة من التحشرج، ومن ذا الذي لا يصاب بالبرد في مثل هذا الطقس اللعين؟
وعندما صعد بضع درجات، راح يصفّر في هدوء نغم أغنية قديمة معروفة، مطلعها: يجب أن تخسر!
إنه منزل جميل، عتيق الطراز لكنه شديد الفخامة وديكوراته متقنة تثير الإعجاب، الجدران مغطاة بخشب الأرو، البهو واسع ذو نافذة كبيرة تغسلها قطرات المطر التي بدأت في الهطول، وهناك لوحات كثيرة، ليست لرسامين معروفين، لكن ذوقها نادر، وإلى اليسار تصميم مدخل المطبخ كعادة الفلاحين الأمريكان ورأيت بعين الخيال مائدة كبيرة في وسط المطبخ تتصدرها طاهية زنجية ضخمة الجسم تشرب الدم من رقبة مقطوعة أمامها في الطبق الأساسي!
تلاشت هذه الصورة الخيالية المتجهمة ووجدتني أتأمل المصابيح الصغيرة على الجدران الصاعدة إلى الطابق الثاني مع ارتفاع درج السلم،و.. وفجأة رأيت ظلا يمر بالنافذة..
وثب قلبي بين ضلوعي.. هو ذا رجل غريب يتسلل حول المكان.. هل أتوهم؟ ربما.. إن الظلام يطمس كل المعالم بالخارج وليس من الهيّن إن تتبين أية موجودات..ثابتة أو متحركة.. ثم إنني سمعت صوتاً مريباً ينبعث من خلف باب المطبخ..
-"هنا!"
قالها (ديفيد) وهو يشير إلى باب غامق اللون، فأقف إلى جواره وهو يفتحه، ثم ندخل.
كانت حجرة رجل لا امرأة..مقاعد ضخمة وثيرة وكميات هائلة من الكتب وستائر سميكة ثمينة ذات ألوان زاهية..وهناك جبل من المجلات على الركن الأيسر.. وقصاصات الصحف تملأ جانب الجدار الذي يعلو المكتب المزدان بأباجورة خافتة الضوء، وبصفوف من المجلدات، تقدّم وأزاح بعضها وأشار إلى الصفحة الصفراء العريضة المنشورة على سطح المكتب والتي خط عليها بالحبر الأسود ما يشبه مخططات حساب المثلثات، أو تفريعات الأبنية الجزيئية التي تمل كتب الكيمياء العضوية، وبالأحمر وضع نقاط في أماكن وزوايا متفرقة هنا وهناك.
-"كل نقطة حمراء تمثل تاريخ حدوث جريمة لها ذات الطابع الخاص برقم ثمانية اللاتيني، والخط الأسود الرئيس هنا يشير إلى تسلسل هذه الجرائم..أنظر..بالنظر السريع سوف ترى أن حوادث القتل تحدث بمتوالية حسابية بسيطة تعتمد على الرقم ثمانية ومضاعفاته."
تأملت المشهد وسألته: -"وهذه الأرقام إلى الجانب الأيمن..إلام تشير؟"
رسم بإصبعه خط وهمي يصل بين كل رقم وكل نقطة حمراء، وهو يقول مفسراً: -"هذا هو عدد الضحايا في كل مرة؟"
راقبت المسألة دقيقة وقلت: -"وهل خضع ذلك التتابع لمتواليتك أيضاً؟"
بدا كالمتردد الحانق وغمغم في قنوط: -"لا..كانت هناك زيادة تحدث باطراد، ولكن ثمة حوادث كان ضحاياها فرادي فيما بعد مما أخلّ بالزيادة المتوقعة..حتى المتوالية التي وصلت إليها لا تفيد في شيء، إنها فقط تثير الاهتمام."
هززت رأسي وقلت: -"ربما إذا اخترت أداة قياس مناسبة ونظام حسابي متقدم أكثر لتوصلنا إلى حقيقة مهمة!"
-"ألا وهي؟"
-"فلنحسبها أولاً؟"
ووضعت حقيبتي على المقعد المجاور للمكتب وتبادلنا النظرات في لحظة عابرة قبل أن أعالج قفلها وافتحها واخرج من جوفها رزمة من الأوراق المهترئة مربوطة بشريط مطاطي وبجهاز صغير في حجم الآلة الحاسبة لكنه يعمل يدوياً"
ابتلع ريقه بصوت مسموع، كان مميزاً، أكثر وضوحاً من ندف الثلج التي بدأت تضرب النافذة وراء الستار الدسم: -"ما هذا؟"
أجبته وأنا أفض لفافة الورق: -"هذه معلومات أكثر دقة تخص موضوع بحثك."
ووضعت الأداة المعدنية الثقيلة على المكتب متابعاً:-"وهذه الآلة كانت تخص أبي رحمه الله، يمكنك القول أنه قد قطع شوطاً طويلاً من عمره سعياً وراء الشيء ذاته."
مد إصبع بارد يلمس المعدن الأسود: -"هذه العجلة الصغيرة هناك تكشف عند إدارتها أرقاما في هذه الفجوة الصغيرة..هناك أنواع من التقويم السنوي والساعات يعمل بذات الآلية، لكن الفكرة هنا أنك بمساعدة العجلة المقابلة تحرك ترساً بالداخل لكتابة رقم الخاص وفقاً للجدول الذي سوف تجده هنا في الصفحة الأولى، وبوضع تاريخ اليوم في هذه الفتحة.."
قاطعني متمماً عبارتي:-"..نستطيع التنبؤ بموعد الضربة التالية؟"
-"بالضبط!"
غمغم وهو يجيل النظر بين الأوراق والآلة ووجهي المقنّع: -"ولكن..كيف اخترع والدك شيء كهذا ما لم يكن..؟"
أعرف أن الشكوك سوف تنتابه هو الآخر، أعرف ذلك وقبلته منذ وجدتني أغوص في هذا البحر الهائج من المتاعب وأنا مجبر على تعلّم السباحة، فأنا الآن ألعب في سيرك ذي ثلاث حلبات: لا يجب أن تعرف الشرطة شيئاً عن هذه الأمور وإلا فسوف تحوم حولنا الشبهات ونحن أحوج ما نكون إلى السرية لإنهاء هذه اللعنة التي لن تستطيع الشرطة نفسها التعامل معها قبل أن يتفاقم الأمر، كما إن ما لدي من المعلومات يجب أن يقلق (ديفيد) ويجعله يتساءل عن السبب وراء اهتمامي بالعمل معه ما دمت أعرف كل شيء عن كل شيء، ما لم أكن من رجال الشرطة الذين يرتابون في أمره أو من الجنس غير الآدمي الذي يسعى لكشفه والسيطرة عليه، وفي الحالتين يجب أن يضع احتمال التخلص مني في أقرب وقت وإلا فعلتها قبله!، الأمر الثالث وهو الأكثر خطورة هو –كما يمكنك أن تخمن- أهل أمي من مصاصي الدماء الذين قضوا عليها وربما على أبي وفي الغالب يجدّون السعي خلفي الآن، وعلى أحدنا أن يسبق الآخر!
-"لا وقت لمثل هذه الأسئلة يا عزيزي، دعنا نجري حساباتنا وفقا للمعطيات التي شقيت في جمعها بالأيام السابقة."
وجلست بجوار حقيبتي الفارغة وجذب هو لنفسه مقعداً ثم فرد الصحيفة الصفراء التي خططها بعناية وصبر، وأعددت أنا آلتي بوضع الرقم صفر في كل فتحة وأدرت العجلات على الجانبين في وضع الاستعداد.
ومن جديد انتابني الإحساس بأن ثمة شيء ليس على ما يرام، فطردت الفكرة بعيداً عن رأسي. فكل شيء ليس على ما يرام.. ما هو الطبيعي في رجل مستوحد يدوّن بإتقان تواريخ جرائم متسلسلة تحدث كل يوم، والآخر يسعى خلف أهل أمه من مصاصي الدماء الذين جاءوا خلفه هو ووالده من السويس إلى أوريجون؟
كان يملي علي الأرقام وأنا أقوم برصها في الخانتين بحرص وبشيء من الرهبة. ولاختبار دقة الآلة جرّبنا أولا التواريخ التي حدثت فعلاً تبعاً لمتوالية (ديفيد) الحسابية. وكانت النتائج صحيحة في كل مرة بما يثير الهلع!
-"لقد اقتربنا!"
كان هذا هو الرقم الفردي الأخير الذي يجب أن يملأ الخانة اليسرى، وهكذا بدأت بمنتهى البطء أدير العجلة اليمنى بأصابع ترتعش وفي الخانة الشاغرة كان رقما جديدا يتكوّن.
-"يا للعجب..إنه..إنه.."
تنحنحت في عصبية: -"إنه تاريخ اليوم!"
-"يا للشيطان!..هذا يعني أن.."
بتر عبارته وهو يتراجع للخلف في حركة مذعورة أسقطت كتاباً من فوق المكتب.
-"إنه أنت..أنت واحد منهم..كنت أعرف هذا..كنت أعرف هذا!"
وفي حركة سريعة رأيته يتناول قضيباً معدنياً لامعاً كان مسنوداً إلى مكتبته مما يستخدم لتحريك قطع الخشب في المدفأة.
وهم بأن ينهال به على صدري.
-"توقف أيها الأحمق..لست.."
لكنه كان كالمجنون لا يجدي معه جدال.. وكانت الآلة المعدنية هي أقرب شيء أدافع به عن نفسي.. فقبضت عليها بمجمع قبضتي وألقيتها نحوه..ارتطمت برأسه، فسقط فوق الستار العملاق الكثيف الذي يغطي النافذة العريضة، وهنا.. وهنا رأيت الهول ذاته!
* * *
تتهشم النافذة الكبيرة في غرفة (ديفيد) ويتناثر الزجاج..وبدلاً من أن يسقط أرضاً أو يهوي خارجها، يندفع إلى الداخل ومعه تدخل الريح السوداء من الخارج، ومعها رقائق الجليد.. والوحوش..
أربعة أو خمسة أو ستة كائنات عملاقة بيضاء اللون، بل لها لون أبيض مزرق كلون الشرارات الكهربية التي ترى الكابلات الضخمة تبصقها إذا انقطع واحد منها..
أتجمد في مكاني..يجمدني الرعب وعدم التصديق..
إنهم عمالقة..ربما ارتفاعهم سبعة أو ثمانية أقدام، بالرغم من هيئتهم المنحنية وهم يدفعون (ديفيد) جاحظ العينان معهم على الداخل، الدم يسيل من جانبي عنقه حيث غرز أحدهم مخالبه في لحمه، مخالب طويلة بنفسجية قاتمة اللون تبرز من أذرع بيضاء مزرقة وأجسادهم عارية بلا شعر، صلع الرؤوس، عيونهم نارية.
وبالرغم من أنني كنت تقريباً أتوقع كل شيء، لكن الرعب صعق قلبي بفعل الهجوم المباغت..
عرفنا تاريخ الضربة التالية.. والآن عرفنا مكانها..
مددت يدي إلى الأمام أحاول عبثا إنقاذه وكان هو يطوح بكلتا ذراعيه مذعور وكنا أنا وهو نعرف أنه يتحول إلى جثة الآن. إنهم عمالقة ذوي أنياب يمزقونه بها فيما بينهم مما أخرهم عني لحظات سمحت لي بمتابعة المشهد الفظيع بسرعة خرافية وأنا أعيد شحن أوراقي وآلتي في الحقيبة من جديد.
الأنياب تمزق اللحم وتمتص آخر قطرة من الدم في الموضع الذي تنغرز فيه. قميصه الأبيض تحت المعطف تلوث كله بالدم، وتغيرت معالم وجهه وتوقفت على الملامح المصدومة بينما كانت الكتل البيضاء العملاقة تلتهم وليمتها في نهم.
لقد حانت الساعة ولم يعد من الممكن تأجيلها. هرولت أحمل حاجياتي وأركض أسفل درج السلم عبر البراويز والتحف وفتحت الباب على عاصفة مجنونة من المطر والثلج والبروق.
ضربات قلبي أسرع مما يجب. ولا وقت لالتقاط الأنفاس. رحت أركض تاركا الباب مفتوح خلفي يشع من داخله الضوء الأصفر الهادئ المميز لبيت العائلة الوقور المألوف لا يعلم مخلوق أن صاحب هذا البيت يتم التهامه بالطابق العلوي. وبمعنى أدق يتم امتصاص دمه بفعل جنس من الأبالسة لا يمكن تصور وجودهم إلا في أفلام الرعب الرديئة. جنس غير بشري نهض من رقاده تحت جبل عتاقة بالسويس منذ سنوات وسنوات وها هو يطاردني على امتداد جبال أوريجون الخضراء التي يعلم الله وحدها كم وحش ملعون يسكن باطنها.
كليتي تؤلمني لكني لم أتوقف عن الركض.
الأشجار المكسوة بالجليد تمر بجواري وقطرات المطر تسقط على وجهي مباشرة كالمسامير وكتل الثلج ترتطم بوجهي.
انحرفت عند نهاية الطريق..ألهث وأخفف من سرعتي مرغماً حيث يبدأ المارة القليلون ينظرون إلي شذراً، فلا أحد منهم يركض على هذا النحو بسبب المطر، كما أن منظري المشعث المذعور والحقيبة الجلدية السوداء تحت إبطي يوحيان بأفكار عديدة ليست في صالحي بالمرة.
ورميت بجسدي المتهالك على مقعد انتظار الحافلات مطمئناً لوجود بائع الجرائد العجوز بالجوار..
غداً أو بعد غد سوف تكون الصفحة الأولى في الرزمة الملقاة أمامه على الرصيف يبللها المطر حاملة في ركنها خبر عن ضحية جديدة تلوث جسدها علامات الرقم ثمانية، إنه الأستاذ المحترم (ديفيد ميلر) خبير ما وراء الطبيعة الذي كان يتحدث كثيراً في الآونة الأخيرة عن كائنات خرافية يرجح أنها هي المسئولة عن كل شيء!
الخيوط الأولى للصبح سوف تنتشر في الأفق بعد قليل، وفي الحافلة سأكون في مأمن (منهم) لأذهب في مشواري الأخير لمحطة القطار لأحصل على محتويات الصندوق 612 وبعدها سوف أبدو كالمتشردين في صالة انتظار الطائرة التي سوف أعود بها إلى مصر..إلى السويس..إلى جبل عتاقة حيث يجب أن نغلق البئر الملعون الذي تسببنا في فتحه قديماً!
* * *
الحلقة الثامنة: وتكتمل الدائرة
سوداء! كل ما فيها أسود! شعرها ورموشها وقرطها.. طلاء أظفارها والجاكت المخملي والتنورة القصيرة.. وأكثر شيء أسود فيها هو حدقتيها الواسعتين العميقتين تسحبك فيهما ببطء ..ببطء!
-"ناصر رشاد"
-"ماريان بلاك"
جرى التعارف بسرعة وجلست أمامه تضع ساقاً على ساق:
-"إن وقتنا ضيق على ما أعتقد، مستر (ناصر)، فلندخل في الموضوع مباشرة."
-"بالتأكيد، هذا أنسب."
-"أعرف. هكذا يقولون في (فيرمونت)."
-"(فيرمونت)..كنت أحسب الأمور تتم في (مانهاتن) قبل كل شيء."
يسألها وهو يبتعد في عينيها السوداوان العميقتان، حتى رنين الهاتف يأتي من عالم آخر.
-"الأمور تتغير يوماً بعد يوم، لكن العرض الذي أحمله لا يمكنك رفضه!"
تبتسم بركن شفتيها ابتسامة غامضة، وبصعوبة ينتبه لـ(مروه) وهي تميل بجوار هامسة بصوت استطاع أن يميز أنه مملوء بالدهشة رغم خفوته:-"هذا غريب! هل تعرف من يريدك على الهاتف؟..(محمد إلهامي)!"
تبدّلت ملامحه ونهض بسرعة ليتناول سماعة الهاتف، وجاءه صوت (محمد) كأنه من مكان مكتوم رغم الجلبة حوله:
-"(ناصر)!..أخرج من مكتبك فوراً، هذه المرأة..إنها ليست ما تظنه..إنها.." وتحشرج صوته بينما التفت (ناصر) إلى المرأة التي رآها تحدق في وجهه بثبات، "اتصل بي (هادي الحجار) من أمريكا..حدثت أمور كثيرة تخص..تخص الموضوع القديم..أترك كل شيء ..إننا هنا..نفس المكان!"
سقطت سماعة الهاتف من يده، وأطلق ساقيه كالمجنون يركض عبر باب القاعة والدرج و..وتحجرت سكرتيرته في مكانها لا تفهم، بينما تبدلت ملامح المرأة لثوان وبدأت تلعق شفتيها بلسان غامق اللون!
***
-"لا أستطيع يا (مي)، (علي) سوف يصر على أن يأتي معي، يمكنني أن أشرح له الموقف و.."
-"كلا..تعالي وحدك يا (سلوى)، اتركي زوجك خارج الموضوع، تعرفين إن الموضوع يخصنا وحدنا.."
-"..يا رب!..أعرف..ولكن..عندما بدأوا يظهرون بعد رحلتنا القديمة..وقتها لم نفعل أي شيء..فلماذا الآن؟"
-"كان خطرهم محدود وقتها..الأمر استفحل هذه المرة..جرائم قتل..هنا ..وحيث سافر (هادي)..هذه الفجوة الشيطانية لن يغلقها سوانا."
-"والباقين؟"
-"سوف أحاول الاتصال بـ(زينب). وداعاً"
* * *
توقفت السيارة الجيب السوداء وسط عاصفة من الغبار، عند إشارة ضوئية من مصباح متوسط الحجم أشعله (أحمد إلهامي) على جانب الطريق الصحراوي، ووقف يلوح بكفيه أمام الكشاف الذي ثبّته بسقف سيارته، شعره يلمع بالجيل، وابتسامته العريضة فوق لحيته الدوجلاس:-"اقترضت هذا الكشاف من الأستوديو!"
وحيث وقفت في الركن المنعزل كانت الخطوات تقترب مني..وتقترب..وتقترب..
-"(مها)!..كيف حالك؟"
-"أهلاً يا (هادي)..هل تحب أن أقول إنني بخير؟"
ذات الابتسامة المتعبة والوجه المرهف الذي لا يتكرر.-"لا..لا أحد منا بخير..وجودنا هنا يؤكد أننا لسنا بخير."
خرج (ناصر) من سيارته السوداء، واحتضنني حتى كاد يكسر ضلوعي ثم صافح (أحمد) بحرارة أقل، ولوح لـ(محمد) بكفه، فرد له الأخير التحية بذات الفتور، ثم صافح (مها).-"أما من فرصة للتراجع؟"
قالتها (سلوى) وهي تنشد التأييد من (زينب)-لم تتزوج (زينب)، حرصت على أن أعرف هذه المعلومة، وكانت كل أخبارها قد انقطعت عني وعن (ناصر) وعن (مها) والأخيران هما همزة الوصل الوحيدة التي كانت بيني وبين وطني- ونظرت (زينب) إلي تفوّضني للإجابة، نظرتها أثلجت صدري وأعادتني لذكريات باسمة وقررت لي أن أقتحم الهول من جديد:
-"كنا السبب بطريقة أو بأخرى في فتح بوابة هؤلاء الـ..الكائنات فيما مضى، فإذا لم يكن الالتزام الأخلاقي نحو ضحاياهم الذين نسمع عنهم الآن، فعلى الأقل إننا نعرف أنهم لن يتركونا وكما كان لكل منا واقعته معهم قديما، فإنهم سوف يعاودون الكرة ولعلهم يحيلون حياة أولادنا جحيما، وصدقيني، لو رأيت ربع ما رأيته هناك.."
-"كلنا رأينا ما رأيناه يوماً ما!"
وجاءنا صوت (أحمد) الرنّان وهو يسلّط ضوء الكشّاف على شق معين في الجبل:-"إذن..هل ندخل يا شباب!!!"
* * *
هذه المرة كانت هناك ثمانية ظلال تتحرك ببطء أقل وبارتفاع أطول والظلال النسائية منها كانت تمتلئ قليلا عن ذي قبل..هذه المرة كان (ناصر) يرتدي حلة سوداء باهظة الثمن، ولم يعد بحاجة ليسند كفه على ظهري ونحن نتسلل داخلين في صف واحد..هذه المرة كانت (مي) و(سلوى) تتحركان بتثاقل وتسويان ملابسهما في كل خطوة..هذه المرة كان (محمد) أقل كلاماً وكان شقيقه أكثر استعراضاً..هذه المرة كنا نعرف طريقنا ولم تكن هناك مفاجآت..هو هو الطريق الممتد في جوف الجبل..وها هي الحفرة العملاقة التي صنعناها بدافع الفضول أو المغامرة أو الحماقة..وسمعت صوت (زينب) خلف ظهري ساخراً:-"آخر الطريق يا جماعة..وصلنا (محطة الأنس)!"
سمعتهم يضحكون، بينما دمعت عيناي من التأثر لا من الغبار.
ذات المكان الكئيب..ذات الجدران المشعة بالضوء..ذات الفتحة اللعينة في باطن الأرض..
دخلنا الساحة الواسعة، وشد (ناصر) على ذراعي فابتسمت ابتسامة سريعة، بينما صاح (أحمد) بأعلى صوته:-"انتوا يا بتوع يا بنزينا!!!"
قهقهت واحدة منهن وضربه شقيقه على ظهره، وداريت ضحكتي ونحن نواجه المقاعد الحجرية الثمانية..
-"تعرفون ما يجب علينا فعله!"
هزوا رؤوسهم، وقال (محمد):
-"عرفنا ذلك تلقائياً ونحن صغار!"
-"وقتها فعلناها بإلهام خارج عن إرادتنا واستطعنا أن نبعدهم عنا وقتها!"
-"أبعدناهم عنّا، وأطلقناهم يعيثون في الأرض فساداً!"
-"وهكذا سنفعلها الآن من جديد، لعلنا جذبناهم ليدخلوا مكمنهم ونأمل أن يبقوا بداخله..هل انتم مستعدّون!"
أومأ بعضهم بالإيجاب، وابتلع أحدهم ريقه لكننا بدأنا نأخذ مجلسنا كما فعلناها منذ سنوات..
هذه المرة (مها) عن يميني و(أحمد) عن يساري..ونظرت في عيني (زينب) عبر الدائرة وتبادلنا ابتسامة..
-"حسناً..يعلم الله وحده نتيجة ما نفعله الآن. هل يرغب أحدكم في قول شيء ما..أي شيء!"
-"نعم."
كان هذا هو (أحمد)، والذي تابع عندما نظرنا إليه باهتمام:-"دراجتي التي تسببت في احتراقها خلف سور المدرسة..لن أسامحك على هذا أبداً!"
-"عليك اللعنة!"
بدأت الأيدي تشتبك كما في الزمان القديم..
يدي في يد (مها) ويد (مها) في يد (ناصر) وهو يمسك بكف (مي) التي شبكت أصابعها مع أصابع (سلوى) والأخيرة أمسكت يد (محمد) فتناول كف شقيقه الذي لكمني في كتفي هاتفاً:-"لن أسامحك أبداً"
ثم أمسك بكفي، واهتزت الأرض، فتشبثنا بمقاعدنا، ليست مفاجأة، لكننا كنا نأمل أن نكون واهمين وأنه لا أثر لما نفعله.
وهنا.
انفجر الضوء الأبيض المزرق فوقنا..
وهبطت أعمدة من النور الأصفر المشحون بالدخان الرمادي والخطوط الحمراء..أغمضنا أعيننا هربا من المنظر الشنيع..من الوجوه الطويلة مفتوحة الأشداق..من الغيلان التي تعود الآن من الفجوة التي هربت منها منذ زمان مضى..
الضوء المبهر يغمر كل شيء..
صرخات..ضوء..صرخات..ضوء..تراب..ضوء ..صرخات..ثم فقدت الوعي..
* * *
..الضوء الذي ملأ بصري الآن هو ضوء الشمس..قرص برتقالي معلق في منتصف السماء بين سحب لا تأثير لها..لسعة برد في جسدي وأنا أنهض من رقدتي بين الرمال مهدود البدن..ولمحت (مها) تتسند على ذراع (زينب)، بينما (ناصر) يرقد على ظهره يتأمل السماء وتحولت حلته الفاخرة إلى لون آخر أفتح بفعل الرمل والتراب.. واعتدل (محمد) في جلسته وراح يتأمل الصخور المهشمة حولنا، ويتحسس الكدمات في وجهه..
غمغمت (سلوى):-"هل انتهى الأمر؟"
هززت رأسي في حركة تمنيت أن يكون معناها: نعم!
وصاح (أحمد):-"مرحى!"
***
وهكذا سوف يعود كل منا إلى حياته التي اعتادها، بالطبع سوف تكون هناك كوابيس من آن لآخر، لكنها على الأقل من النوع المسالم الذي يتسلل عبر الجدران ولا يمص دمك، مجرد أحلام سيئة يكفي أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وألا تثقل وجبة العشاء..
سوف تعود فلانة إلى بيتها وزوجها..وسوف يعود صاحب الشركات إلى إمبراطوريته..وسوف يعود النجم إلى أضواءه.. وسوف تعود الكاتبة إلى قصصها..
أما أنا فربما أعود إلى الولايات المتحدة، أو أبدأ حياة جديدة في مسقط رأسي ومدينتي القديمة..
قد نعاود الاتصال بيننا أو تأخذنا الشواغل..لا أحد يعرف!
كل ما نرجوه هو أن نكون قد أغلقنا الدائرة الدموية التي تسببنا في تحررها من تحت الأرض ومن بين الجبال..
هذا ما أتمناه.
شتاء 2005
كلمة المؤلف
هل أغلقنا دائرة الدم؟
هذا السؤال إجابته معلّقة الآن. لكن الأكيد هو أن خيوط كثيرة تمتد وخطوط أكثر لازالت مفتوحة. لدينا وقت كاف فيما بعد لنسد كل الثغرات ونكشف عن كل الأسرار التي ظلت طي الكتمان ها هنا.
أحب أن أطمئنك أن كل ما جاء ذكره في هذه الرواية من خيال المؤلف ولا توجد مثل هذه الفجوة الجهنمية في مدينة السويس وأي تشابه بين أي اسم أو حدث أو مكان في نص الرواية هو مصادفة ليس إلا. أسماء الأعلام الواردة في هذه القصة جاء لخدمة أغراض أدبية فقط ولا تعني سوى اعتراف المؤلف بتأثيرها في حياتنا اليومية.
وأخيرا. يجب أن أقول أن هذه الرواية مهداة إلى سبعة من أعز أصدقاء صباي في السويس. ياسر رضوان..أحمد تهامي.. محمد تهامي.. شريف طلعت.. أيمن محمود ..هبه ميخائيل.
Hany_haggag@hotmail.com