الأديب يكتب للكافة
أيها الحفل الكريم سيدي الدكتور: لئن وجد ولا أخال أديب أو محب للأدب في هذا الشرق العربي يراود نفسه عقوق أو غرور حتى ليماري في فضلك عليه وإحسانك إليه وإلى الثقافة والفكر والاستنارة، فلست أنا إياه! وإذا جاز لي أن أطول إلى مقعد بين الأدباء وأتكلم باسم مجتهد من مجتهدة القلم في هذه الرقعة العربية من الدنيا، فإني أحيي فيك الرائد الذي صعد بنا إلى هضاب وذرى منها أشرفنا على آفاق رحبة مضيئة سواء منها أشرق في سالف الإرث العربي أو عريق الإرث اليوناني أو محدث الآداب العالمية، فليس منا نحن المعاصرين من لم تكن لك يا سيدي شركة سخية العطاء في تعليمه وتبصيره. وغاية ما أرجوه في موقفي هذا الذي شرفتني واهبتني بوقوفك معي فيه مساجلاً لا همّ لك إلا الحق، ألك كان الحق أم عليك، في مسألة حيوية تعني كل أديب وكل مواطن بقدر ما هو إنسان يعنيه خبز الروح، كما يعنيه خبز الجسد، أقول: غاية ما أرجوه في موقفي هذا أن لا يصدق عليّ، بعد ما علمتني، قول الشاعر: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتدّ ساعده رماني! ذلك أنك قد اخترت في هذه المسألة التي تباين فيها رأيانا أصعب الموقفين. ولا أشك في أنك ما كنت لترضى الأمر إلا من باب الفروسية التي تمنح الخصم أوثق موقف وأسهل موقف للدفاع والهجوم. فلك المنة. سيدي الدكتور، لمن تكتب؟ أللعامة أم للخاصة؟ لقد أوجب عليك الموقف الذي ارتضيته أن تقول: أنك للخاصة تكتب. فمن هم الخاصة هؤلاء؟ أما الكافة الذين أزعم أني أكتب لهم فهم معروفون يتألفون من هذه الجماهير التي تسعى سعيها وتكدح كدحها في مختلف دروب الحياة. العامل في المحترف أو المصنع، الفلاح في الحقل، الطالب في المدرسة، التاجر الصغير في الحانوت، الموظف الصغير في المكتب. جميع هؤلاء هم الكافة الذي أكتب لهم لسبب أولي أني من حيث لحقتني حرفة الكتابة فإنما يدفعني منطق عملي إلى مخاطبة العدد الأوفر من القراء، وفي هؤلاء الكافة العدد الأوفر من القراء. ولسبب أشد خطورة أني من حيث التمست الكتابة لم يكن لي بد من مادة لما أكتب، وفي حياة هؤلاء الكافة أغنى مادة أستطيع أن أنتقي منها لما أكتب، أنتقي إذ لا بد في كل صنيع فني من انتقاء، أنتقى من أفراحهم وأتراحهم، من آلامهم وأحلامهم، من واقعهم وما يتوقون إليه ويجهدون في سبيله. وهكذا آخذ منهم وأرد عليهم، يعطوني فلا أفقر ولا أجدب، وأعطيهم فلا يركد وجودهم ولا تبهت الألوان في حياتهم. وثمة سبب آخر هو في رأيي أشد الأسباب خطورة. فأنا من حيث كنت كاتباً فإني أحرص أن يؤثر ما أكتبه الأثر التوجيهي المثمر في شعبي. وهؤلاء الكافة هم القوام الذي لا شعب ولا أمة ولا قوم ولا وطن من دونه. ومهما يكن هذا الأثر التوجيهي الذي أنشد من وراء ما أكتبه، أعني صقلاً للذائقة التي تذوق الجمال، أو الباصرة التي تسبر المعرفة وتطمح إلى فهم الكون والتحكم فيه، أو للإرادة التي تتطلب حرية واستقلالاً للوطن، أو عدلاً اجتماعياً للمواطنين، وسحقاً للاستعمار في أي صورة، ولحروب الفتح والنهب والاستعباد، وتبتغي سلماً وثقافة ورفاهية للإنسانية، أقول مهما يكن هذا الأثر التوجيهي الذي أنشده من وراء ما أكتب فإنه يبقى حرفاً ميتاً ما لم يداخل هؤلاء الكافة، ما لم يتحول إيماناً واقتناعاً ونوراً في عقولهم وغضباً وتحدياً وحباً وتضحية في صدورهم، وعزماً وحركة وعملاً في سواعدهم. يقول توماس مان في فصل له عن "الفنان والمجتمع": "الفن آخر شيء يتوهم الأوهام عن مبلغ أثره في مصائر العالمين. برغم أن الفن قد قبح كل منحط ودني، فإنه لم يستطيع يوماً أن يوقف سير الشر. لقد حرص الفن أن يفيض على الحياة عقلاً وكرامة ولكنه قد عجز دائماً عن أن يضع حداً لأتفه السخافات. ليس الفن قوة ولا قدرة. إنه لا يعدو أن يكون عزاءً". هذا ما يقول الأديب الألماني العالمي توماس مان وأحسبه على تبصره وشموخ مهابته خاطئاً. وتجارب الإنسانية، هذه التي نعبر عنها بالتاريخ هي التي تخطئه الكتب المقدمة كالإنجيل والقرآن (أذكرهما باعتبارهما من الخالدات الأدبية) وآثار جون لوك وديدرو وفولتير وروسو وتوم باين ومكسيم غوركي الخ ... هذه الآثار وكثرة غيرها أكانت عزاءً كما يقول تومان مان أم أنها كانت قوة فاعلة في أحداث روحية ومادية تمثلت في الإحياءين المسيحي والإسلامي وفي الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية والروسية وشاركت في تكييف مصائر العالمين؟ وأما الفن لم يستطيع أن يقف سير الشر ولا أن يضع حداً لأتفه السخافات، والحماقات، فاعتراض يؤدي بنا الخوض فيه إلى مسائل فلسفية: ما عسى أن يكون الخير إذا فقد الشر؟ وما عسى أن يكون العقل والحكمة إذا عدم السخف والحمق؟ ومع ذلك فتوماس مان لم يكن مشتطاً كل الشطط في ما ذهب إليه. فالفن كثيراً ما يكون عاجزاً حقاً. ولكن متى وكيف؟ إن الفن، على تعريف قريب يكفي حاجتنا الساعة، إنما هو بالنتيجة صور وأفكار تؤدى في رونق وجمال ... والصور والأفكار لا تؤثر أثراً بنفسها وإنما الذين يؤثرون هم البشر عندما تلهمهم تلك الصور والأفكار. كان جون لوك الإنكليزي يقول: إن ملكية الملك ليست بحق إلهي وإنما هي بعهد وميثاق بين الملك والشعب. وهذا ما جهر به من بعده روسو الفرنسي في سفره "العقد الاجتماعي". وتلك فكرة لو لم تنبث في الشعب، في ظروف مهيئة، فكرة لو لم تصبح توجيهاً في مدارك الشعب لبقيت حرفاً ميتاً ولن لم يكن لها أثر ما كالأثر الذي ظهر لها في الثورتين الإنكليزية والفرنسية. ومالي أذهب بعيداً؟ فمناظري الدكتور طه حسين نفسه قد رأى في وقت من الأوقات رأياً في الشعر الجاهلي ربما لم يكن في حدّ نفسه ذا خطر عظيم. إلا أنه كان ذا خطر عظيم حقاً من حيث أنه كان اتهاماً شديداً لعقلية جامدة تستقيم عل ما ورثت عن السلف الصالح، وكان نقداً عنيفاً لأساليب النظر التقليدي في الأشياء وإلى الأشياء، وبالتالي كان دعوة جريئة على التحرر والتجديد في باب يفضي منه إلى التحرر والتجديد في أبواب أخرى أعظم خطراً. وضايق رأي الدكتور يومئذ فريقاً من ذوي السلطان والنفوذ فاضطهدوه وأحرقوا كتابه. وإنما أمكنهم أن يفعلوا ذلك لأن رأي الدكتور كان مقتصراً عليه وعلى قلة من المستشرقين في الغرب ومن الباحثين في الشرق العربي. وبكلمة أخرى لم يكن رأي الدكتور مما اتصل بالشعب ولا كان التواق إلى التحرر والتجديد أمراً انتشر وعمق في وعي الشعب، ولا كان إحتراق الكتب واضطهاد الباحثين شيئاً يعني الشعب ويثير موجاً صاخباً من الاستنكار. إن الفن وما يشتمل عليه أداؤه من رونق وجمال، والفن وما ينطوي عليه محتواه من صور وأفكار، يلبث كما يقول توماس مان، عاجزاً حقاً حتى يلهم البشر ويلهبهم، حتى يصبح قوة تحرك الشعب. وإذا كان الدكتور لم يقتنع بعد، فليأذن لي أن أرده إلى ميدان هو فيه سيد العارفين، وأذكره بمقدمة أنشأها لرسائل إخوان الصفاء، الجماعة الفلسفية المشهورة في تاريخ الفكر العربي. أراد الدكتور أن يصور زمن الجماعة: القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) فكان مما قاله في وصف ذكر العصر من أعصر العباسيين: "هناك مظالم قائمة ومحارم منتهكة ونفوس مطلوبة بغير ذنب وأموال مسلوبة في غير حق". وهذا ما يفسر لنا الاتجاه السياسي الذي ظهر ـ وأن حاولوا إبطاله ـ على تفكير الجماعة وحركتهم. .فرأوا أنهم في دولة سموها "دولة أهل الشر" وذهبوا على أن الدول "لها وقت معين منه تبتديء، وحدٌ إليه تنتهي"، فقد حان انهيارها وآن دمارها؛ لتقوم دولة أهل الخير. ورأوا أن دولة أهل الخير هذه، يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد واحد ويتفقون على رأي واحد ودين واحد ومذهب واحد، ويعتقدون بينهم عهداً وميثاقاً بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم". ثم اجتهدوا في أن يرسموا أساً عقائدياً لهذا الرأي الواحد والدين الواحد والمذهب الواحد. فخلصوا إلى فلسفة توفيقية لن ندخل في تفاصيلها، ولكن نخص منها بالذكر الموقف المستنير الذي وقفته الجماعة من تعدد الأديان ثم تعدد الشيع والفرق في الدين الواحد فقالوا ما خلاصته: إن كل دين لا يخلوا من حق وأن الأديان كلها مؤتلفة الأهداف، وإن تعددها راجع على أثر المراحل التاريخية التي انبثقت فيها، وأن تعدد الشيع والفرق في الدين الواحد عائد لا إلى حق وحقيقة بل إلى منافع تتعارض ومطامع تتضارب. وهذا موقف أيسر ما يقال فيه أنه كان جديراً على الأقل بأن يوجد تعايشاً منسجماً وتسامحاً وتفاهماً بين أهل الأديان والفرق والشيع المتعددة في بقعة من الدنيا قد آذاها وما زال يؤذيها استغلال تعدد أديانها وفرقها وشيعها بأيد تعبث من داخل وخارج تفسد الثقة وتزرع بذور الفتنة وتنفث سماَ في الجو. ولكن التجربة التي قام بها إخوان الصفاء لم تعط ثمرها المرجو برغم أن الانحلال الذي أخذ بعرى الدولة العباسية منذ عهد المتوكل كان يحوج على تجربة كتلك التجربة ولا يحرمها إمكانيات النجاح. لم يستطيع إخوان الصفاء أن يهدموا دولة أهل الشر ويشيدوا دولة أهل الخير، ولا قدروا أن يؤمنوا الظفر للموقف المستنير الذي أرادوه من تعدد الأديان وتعدد الفرق والشيع في الدين الواحد. ولماذا؟ ثمة أسباب كثيرة، يجيبنا الباحثون. إلا أني لأشك في أن احد هذه الأسباب الخطيرة أن إخوان الصفاء علقوا الأمل في تنظيم جماعتهم على قلة من الناس سموهم "الخيار الفضلاء" ولبثوا مقفلين على أنفسهم في نطاق ضيق من هذه القلة أو النخبة أو الخاصة كما أحسب الدكتور يقول ولم يطلقوا المجاري بينهم وبين الكافة أو الجماهير كما يتاح لأفكارهم (أعني إخوان الصفاء) أن تتحول من رسائل بالحبر إلى قوة وثابة في الشعب. ومع ذلك فيبدو أن إخوان الصفاء كانوا بين مفكرينا القدامى أفضل من غيرهم في هذا الوجه. فالكثرة الغالبة من قدامى مفكرينا قد اعتبرت الفكر امتيازاً لها بل احتكاراً، وقفت من الكافة موقف المتهم والمستريب والمستغبي والمستحمق لهؤلاء الكافة، فثمة كما يشهد مثلاً مغزى أشهر قصة فلسفية عربية قديمة: حي بن يقظان ثمة دين للخاصة ودين للكافة، يكفي العامة النقل والتقليد وأما العقل والتوليد فللنخبة. والفلسفة لم توجد إلا لقلة مفضلة بينما الكثرة حسبها الإيمان والتسليم، وهكذا ... ولسنا نجهل ما قد كان لهذا الموقف من وخيم العواقب على الشعب، والوطن والمجتمع، وعلى الفكر نفسه والمفكرين أنفسهم. فلقد هون هذا الموقف اضطهاد الشعب وتضييع الأوطان وإفساد المجتمع والتنكيل بالفكر والمفكرين أو دفعهم إلى العزلة والحيدة والازدواج في الشخصية وربما الاعتصام بالنفاق. سيدي الدكتور: سألتك في أول هذا الحديث عمن يكون هؤلاء الخاصة الذين قلت إنك تكتب لهم. وأعيد عليك السؤال. وأزيدك أني أنا يا سيدي أرى الخاصة لفظاً لا يكاد يثبت على مدلول معين واضح الحدود. إذاً نحن جعلنا القضية قضية مال وجاه كان الخاصة هؤلاء كناية عن ثلة من الأغنياء الكبار الذين يبذخون في المأكل والمشرب واللبس ويتسنى لهم مع ثرواتهم الفاحشة أن يأخذوا بالعادات واللياقات المصفاة المترفة. وأنا أجلك عن أن يكون هؤلاء هم الخاصة الذين تقصر همك على الكاتبة لهم. فهؤلاء إلا من عصم الله قلما يحتملون أن يكون الأدب غير متاع من باب النقش المزخرف والطلاء البراق والمسلاة المرفهة، يشرون ذلك كله بأموالهم ويستعينون به على دفع السآمة والرتابة وعلى حشو الفراغ الذي يملأ حياتهم ويكربهم أحياناً. وهؤلاء قلما يحتملون أن يكون الأديب غير نديم أو مهرج أو مبوق لهم يرتزق من فتات موائدهم بضرب من التجارة حقير هو التجارة بالكلمة. وإذا جعلنا القضية قضية علم ودقة ذوق وحس ودربة وإتقان أصبح الخاصة هؤلاء كناية عمن نصطلح على تسميتهم بالمثقفين. والمثقفون في عصرنا خصوصاً، العصر الذي زخرت فيه الحياة بالتجارب الخطيرة، واتسعت أبواب المعرفة على المدى الأبعد، وانتشر التعليم واتجه إلى التخصص في باب دون باب من المعرفة التي أصبحت ولا بد من تجزئتها لتمكن الإحاطة ولو بجزء منها، أقول: إن المثقفين هؤلاء يلحقون بالكافة أو يلحق بهم الكافة حتى يتضاءل الخط الفاصل بين الفئتين ويترجرج، فيدخل امرؤ في فئة الخاصة على اعتبار، ثم يدخل هو نفسه في فئة الكافة على اعتبار آخر. ما قولك يا سيدي في عامل مصنع للنسيج أو فلاح مزرعة عصرية، أهما مثقفان أم لا. بل كلاهما لا شك مثقف من وجه، لأن طبيعة العمل في مصنع النسيج وطبيعة العمل في المزرعة الحديثة، مع ما يلزم العملان من سياسة الآلات والخبرة في الغزل والأرض والشجرة والأسمدة كل ذلك ثقافة. وإذاً فهذا العامل والفلاح خاصة أم كافة؟ ثم ما قولك يا سيدي في طبيب ماهر في تشخيص العلة ووصف العلاج ولكنه أشد خلق الله سذاجة بل جهلاً حين يتناول الحديث الاجتماع والفلسفة والتاريخ فضلاً عن الزراعة أو الشعر. أمثقف هذا الطبيب أم لا؟ أخاصة هو أم كافة؟ بل هذا الرسام البارع والنحات الماهر، ولكنه لا يحسن الموسيقى والرقص والشعر وربما جهلهما جهلاً، أمثقف هو أم لا؟ أخاصة هو أم كافة؟ وهذا العالم من علماء الطبيعيات أو الفلك، الذي إذا قرأ كتابك "المعذبون في الأرض" حسبه من هذر القول لأنه ليس بحثاً في الذرة ولا في الجاذبية ولا في النظام الشمسي ولا في كوبرنيك ولابلاس أمثقف هو ومن الخاصة الذين تكتب لهم؟ بينما هذا الفلاح الصعيدي الذي إذا قرأ أو سمع كتابك نفسه وجد فيه ملامح من حياته وصوراً من همومه وتذوقه وأعجبه تعده جاهلاً ومن الكافة الذين لا تعنى بالكتابة لهم؟ سيدي الدكتور، أيها الحفل الكريم: ثمة نظريات في الأدب ودور الأديب لا يحيط بها حصر. نظرية ترى في الأدب خطفاً إلى عالم مسحور: حوادث عجيبة وأخيلة غريبة وألفاظ عذبة الرنين وسبك متين وصور كلامية بارعة أتشبيهاً سميت أم كناية أم مجازاً أم رمزاً. هذه النظرية لا ترى في الأدب إلا محض لذة وترفيه وعزاء وانتشار يخلقها الأديب ساكن البرج العاجي لقرائه أو سامعيه من قرار عبقريته أو من غيب يستند منه الوحي والإلهام. ونظرية ترى في الأدب انصرافاً إلى عالم الواقع ونقلاً وإظهاراً لما في هذا العالم الواقعي بكل جماله وقبحه وسواء أرضي الذوق أم سخط وسواء أطاقت الأخلاق أم أنفت. فالأدب لا يعدو أن يكون فناً للفن، وربما انحط معنى "الفن" في مفهوم هذه النظرية إلى محض الشكل وصياغته بالانقطاع عن المحتوى والمضمون. وأما الأديب بحسب هذه النظرية فلا يزيد عن أن يكون فناناً يحسن الوصف والتصوير لما يجعل الواقع بين يديه من شكول ونماذج، أو هو لا يحسن أكثر من سبك العبارات. ونظرية ترى في الأدب انفتاحاً على الحياة المتحركة المتجددة أبداً. تتجدد بأن يموت فيها ما هرم وتفسخ وانحل وبأن يثبت فيها ما ولد وأقبل على القوة والشباب. فالأديب بالتالي لا ينقل نسخة عن العالم الواقعي وليس هو محض أوصاف لما يعرض عليه الواقع من شكول ونماذج، أو محض رصاف للألفاظ، وإنما هو يميز في ما يصف ويصور، ظواهر الحياة التي تنمو من ظواهرها التي تذبل وتضمحل، لا يقصد من وراء ذلك إلى لذة وترفيه أو عزاء وانتشاء، أو مباهاة ببيان، وإنما يقصد على أن يدخل في وعي الجماهير أي هي الظواهر النامية في الحياة حولهم وأي هي الظواهر السائرة إلى ذبول واضمحلال، بغية إلى أن يوجههم إلى تغيير الحياة التغيير الذي تحتمله والذي يكون في الآن نفسه جمالاً وخيراً لأن الخلق الفني الصحيح انسجام بين الخيال والممكن، وبين الفني الجميل والأخلاقي الخير. وأنا أيها الحفل الكريم ويا سيدي الدكتور ممن يؤمنون بهذه النظرية الأخيرة في الأدب: إنه فعل خلق فردي، ولكن بمادة اجتماعية لا ميتافيزيقية، مادة تنبع من الحياة الشعبية المتحركة المتجددة، وتعود فتنصب في هذه الحياة الشعبية المتحركة المتجددة، لتجعلها أعمق وعياً في تحركها وتجددها. تعود فتنصب عبر نفس الفنان بعد أن خلا إلى ذاته ينتقي ويصطفي. ينتقي من أدق الدقائق في الخلق الأدبي أعني اللفظة والأسلوب والصورة إلى أعم مقومات الأدب وعناصره أعني الموضوع الذي يستلزم كما يصح موضوعاً أ ن يكون متصلاً بالجديد النامي في الحياة، وأن يخاطب الكثرة أعني الشعب لا القلة والنخبة وحدها أو الخاصة، وأن يجمع في الوقت نفسه فعلاً فنياً وأخلاقياً، خلافاً لما يرتئي بعض فلاسفة منهم الإيطالي بنديتو كروتشه الذي يحب أن يسربل ماهية الفن والخلق الفني بضباب غموض يدعوه الحدس. وإن هذا الذي سبق لي أن قلته عن وجوب انفتاح الأديب على حياة شعبه لتمييز ظواهرها التي تنمو من ظواهرها التي تذبل وتضمحل، ولتأييد ظواهرها النامية ومكافحة ظواهرها الذابلة المضمحلة، ليستتبع أن يكون كل أديب شيئاً من فيلسوف. فما من فن إلا وهو يسفر بالنتيجة وسواء أشاء الفنان أم أبى، عن طريقة في النظر إلى العالم. وبالتالي عن طريقة للمعرفة وطريقة في التفكير، أي: فلسفة. وعصرنا هذا يقضي بأن يكون الأديب بإرادة واعية منه فيلسوفاً، لاسيما اجتماعياً، يصدر عن فلسفة، يدرك بها أن الحياة متحركة متجددة لا مستنقعة جامدة، ويدرك اتجاه الحياة في حركتها وتجددها، ويدرك أن ينبوع القوة في هذه الحركة، والتجدد إنما هو الشعب، فإلى الشعب ينبغي له أن يتوجه. وأنت أعرف مني يا سيدي بأن لكل عصر قضاياه ومشاكله التي تبرز فيه وتشتد وتلحّ إلحاحاً حتى تصبح هي قضايا الجماهير ومشاكلها في ذلك العصر. وإذا قلنا الجماهير فقد قلنا الكافة. وأنت أعرف منّي أن أدب كل عصر حين يستحق اسمه يستحيل عليه أن لا ينفعل بتلك القضايا والمشاكل انفعالاً بطبعه بخصائصه المميزة. وإذا كان أدباً عميقاً قوياً فإنه يفعل في تلك القضايا والمشاكل ولا يقف عند حد الانفعال بها. ذلك بأن الإنسان ومنه الأديب الفنان، ليس متفرجاً بمسرحية هذا الوجود والكون والطبيعة (أو ما شئنا من الأسماء) وإنما هو بالذات بطل هذه المسرحية وعلى مصيره مدارها وهو الذي يعطيها معناها وغايتها. وهكذا كان لا بد لأدب كل عصر من أن يتعلق بمواضيع مشتقة من قضايا ذلك العصر ومشاكله، مواضيع هي هم جماهير ذلك العصر وبالتالي لا معدى للأديب عنها فهو يكتب فيها وهدفه الجماهير أو الكافة فيما يكتب، منفعلاً وفاعلاً متأثراً ومؤثراً. وعصرنا هذا يا سيدي الدكتور قد برزت فيه قضايا ومشاكل معينة واشتدت وألحت إلحاحاً حتى أصبحت هي قضايا الكافة ومشاكلهم: وهي في رأيي تدور على أربعة محاور: الاستقلال الوطني والحرية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلم بين الشعوب أو على تعبير أدق بين الدول ولا سيما كبراها. ومرجع هذه المحاور الأربعة كلها إلى زيادة تحقيق الإنسان لإنسانيته أو إلى تمكينه من تخطي طور إنسانيته الراهنة إلى طور أرقى، مع ما ينطوي عليه ذلك من نفي الاستعمار والاستثمار والقبح والفقر والمرض وإقرار الإخاء، والأمن والحرية والتراحم بين البشر وخلق نفس بشرية أسمى وأصفى وأقرب على الله وتقوية سلطان اليد والذهن البشريين على الطبيعة لتسخر كل طاقتها لسعادة الإنسان وإشاعة الجمال في حياته. وأديب العصر مسؤول عن أن يتصل أدبه اتصالاً حميماً بهذه المواضيع يستمد منها الروح والمضمون لأدبه ويتوجه به إلى الكافة، ولينوع من بعد العناوين والفنون والقوالب والأساليب ما شاءت له مواهبه التنويع. وأحسب أنه قد آن لي هنا أن أثبت بصورة لا تقبل اللبس والجدال ما أعنيه بالكتابة للكافة. إني أيها الحفل الكريم ويا سيدي الدكتور إنما أقصد بالكتابة للكافة ما قد سبق لي قوله الساعة: أن يستمد الأديب الروح والمضمون لأدبه من القضايا والمشاكل التي أؤكد أنها هي رأس قضايا العصر ومشاكله وأؤكد أنها هي همّ الكافة في هذا العصر، سواء من الكافة من قد بلغ اليوم مبلغ الوعي لتلك القضايا والمشاكل أو من هو بالغه غداً ولا ريب. بكلمة أخرى، إني لا أرضى بالكتابة للكافة ذلك المفهوم المبتذل الذي يزعم أن مدار الأمر في الكتابة للكافة، إنما هو العبارة الهينة الركيكة والمعاني السطحية والمواضيع الرخيصة التي تسلي أو تتملق غرائز البهيمة في الإنسان أو نزاعات الفطرة المتأخرة. هذه عندي ليست كتابة للكافة ولكنها ضرب من الكتابة يشجع عليه أولو المصلحة إما ليسد حاجة من أتخمتهم الثروة إلى تزجية الوقت، وإما ليشغل الشعب بالتفاهات عن الأدب الفني الجدي الرصين. وقد يحتج: ولكن الكافة لا تفهم ولا تذوق هذا الأدب الجدي الفني الرصين. وهنا لا غنى عن استدراك أسرع إليه: ما ينبغي لنا أن نخلط بين الأدب الذي يتوافر حظه من الجد والفن والرصانة والأدب الذي يكظّه اللفظ العويص، ويثقله التعمل والتعقيد والغموض. فإذا استدركنا هذا، بل إذا عرفنا أن السهولة والسلاسة والوضوح التي تأتلق معها الألفاظ ائتلاقاً وتشرق المعاني على النفس إشراقاً، ولا تتنافى مع الإنشاء العالي والفن الرفيع، وإنما تواكبه في أكثر الأحيان كما تشهد روائع الآثار الأدبية، إذا استدركنا وعرفنا هذا فقد سقط سبب من الأسباب المزعومة التي تحول بين الكافة وبين أن يفهموا الأدب الفني الجدي الرصين ويذوقوه ويفهموه حق الفهم والذوق. ولا أجد لي برهاناً أقرب من آثار الدكتور طه حسين نفسه ولاسيما كتابه الأيام، ففيه من الوضوح والسلاسة والسهولة ما لم يؤذ علو إنشائه ورفعة فنه بل كان المقوم لرفعة فنه وعلو إنشائه على بقائه في متناول الكافة. وكذلك أمثال المتنبي فإنها حفر وتنزيل له من الروعة الفنية ما لا أخال أحداً يماري فيه، حتى لحقت هذه الأمثال بعبارات الشعب وعاشت في لغته، مع العلم أن كل لغة إنما هي في الأصل لغة الشعب قد أوجدها الشعب، وهي تؤول إلى تيبس وتحنط في الكتب إن لم تثابر على اكتساب الحياة مما يشتق الشعب ويخترع في عبارة كل يوم. فالشعب حتى في العبارة الفنية لا يأخذ من الأدباء إلا أقل بكثير مما يعطيهم. يبقى صحيحاً برغم هذا أن كثيراً من روائع الآثار الأدبية لا تنقاد فوراً للفهم والذوق، ولا تتكثف مقاصدها وأسرار جمالها سريعاً، بل ربما انتظرت دهراً أو ربما رأى فيها دهر ما لم ير فيها آخر. ولكن هذا لا يصدق على تلك الآثار بالقياس إلى الكافة وحدهم بل بالقياس إلى من يدعون الخاصة أيضاً. أو فأروني أين هم الخاصة الذين يفهمون ويذوقون رائعة أدبية كالملهاة الإلهية لذانتي. أين هم الخاصة الذين يسبرون شخصية دانتي ويلمسون مقاصد رائعته وأسرار جمالها دون قراءتها عشرات المرات ودون قراءة عشرات الكتب في شرحها والتعليق عليها وفي سيرة شاعرها وتحليل عبقريته وعصره. وإذاً، فأين هم الخاصة وأين هم الكافة في هذا المضمار لا خاصة ولا كافة، بل جميعهم كافة. وكل ما في الأمر أن من طبيعة الروائع الأدبية أن يحتاج في فهمها إلى التكرار وأعماق الدرس وتعاقب الدارس والشراح. وسيدي الدكتور نفسه أجدر الناس بأن لا يدفع هذا الرأي، وإلا سألته ما بالك لم تترك الخاصة وحدهم يحصلون ما قد حصلته وأذعته للناس في المعري وابن خلدون وقادة الفكر الذين عقدت لهم فصلاً في كتاب مشهور. أيها الحفل الكريم: أنا أعلم أن الكثير مما قلته الليلة واعتصمت به في الدفاع عن موقف التزمته في هذه القضية يمتلئ بأصداء شنشنة عرفها الدكتور طه وعرفتموها من أخزم. وأخزم هنا هو أشياع المذهب الماركسي كما يبدو مطبقاً بشكل رسمي في إحدى دول العالم. وليس هنا مجال الخوض في التجربة السوفياتية من جميع وجوهها، ولا في المذهب الماركسي من جميع جوانبه، ولكن من باب جلاء الحقيقة والإنصاف لي ولكم وللقضية التي نتناقشها أقول: أني أدين بالأدب الموجِّه الموجَّه. وأزيد أن كل أدب إنما هو بطبيعته موجِّه وموجَّه معاً بوعي من الأديب أو بغير وعي. فليكن إذاً موجهاً بوعي من الأديب. وحرية الأدب واستقلال الأدب، إذا ظُن معناهما خلوه من التوجيه فإنهما وهم فارغ وادعاء باطل. ليست الحرية لا مسؤولية وليس الاستغلال لا مبالاة. ولكني أصر أقوى إصرار على أن يكون هذا التوجيه بفعل إرادي اختياري من الأديب حصل له اقتناع داخلي إقامة على الحقيقة بعدما تسنى له أن يعرفها بالشروط التي تعرف بها الحقيقة. هذا هو مفهوم حرية الأديب في نظري. فبالتالي أني أنكر أشد إنكار أن يكون التوجيه للأديب بقسر أو بإغراء من الدولة والحزب الحاكم. أنكر أشد الإنكار أن يكون معنى التوجيه للأدب تلقيناً من الدولة والحزب الحاكم. وإذا كنت أرى أن الأدب ليس هو شكله فقط، بل شكله ومضمونه متحدين متوافقين، وإذا كنت أرى أن الأدب ينبغي له أن يتمرس بقضايا العصر ومشاكله ويميز مع ذلك ظواهر الحياة النامية حوله من ظواهرها التي تذبل وتضمحل، ويتعلق بالمواضيع التي تبرز من جراء ذلك وتشتد وتلح، فأنا أنكر أن يعني شيء من هذا تقنيناً للمواضيع أو للأساليب من قبل الدولة والحزب الحاكم. لا بد للأدب من عنصر عدم انسجام بينه وبين المواضعات حوله. ولا بد في الأدب من نقد للأشياء حوله مع ما في هذه الأشياء (لا سيما الدولة وأصحاب أمرها). والدولة وأصحاب أمرها حين يستحيلون إلى "نرسيس معجب بنفسه" ويحولون الأدب إلى مرآة يطالع فيها نرسيس هذا جماله ويسخط على المرآة إذا أرته خطوط هجنة أو قبح في ملامحه، فقد فقد الأدب كل طعم. يولع الماركسيون السوفياتيون الرسميون بترديد هذه الكلمة: "الأدباء مهندسو الأرواح البشرية". صحيح. ولكن شرط أن لا يكون هؤلاء المهندسون قد هندس لهم سلفاً كل شيء! وإذا كنت أرى أن الأدب هو خلق فني يخلقه الأديب بفعل نفسي أي مؤثراً في الحقيقة الخارجية لا متأثراً بها فقط، ويتوجه بخلقه هذا على الكافة، فأنا أنكر أشد إنكار أن يكون تقويم الأدب بحسب الحكم الذي ترتجله عليه الكافة، فكما ينبغي في الأعمال الأدبية الاختمار كذلك ينبغي في الأحكام على الأعمال الأدبية. وقديماً سخر أفلاطون في شرائعه بالحماقة التي ارتكبوها زمناً في أثينا وصقلية وإيطاليا وهي أن يقرر الجمهور فوراً جودة المسرحيات التي يشهدها برفع الأيدي، فالمسرحية التي تظفر بالعدد الأوفر من الأصوات تكون هي الأجود! ماذا أقول؟ حتى في إرسال الرجال الصالحين إلى الندوات النيابية لم تفلح هذه الطريقة، فكيف في اخيتار أفضل الآثار الأدبية؟ سيدي الدكتور: على شرط أن لا يكون هؤلاء المهندسون المدعوون أدباء قد هندس لهم سلفاً كل شيء من قبل الدولة والحزب الحاكم، فالأدباء هم حقاً مهندسو الأرواح البشرية. هكذا تقول الاشتراكية الحرة التي اعتقدها. وليس الأدباء تجاراً وليس الأدب سلعة كما تتوخى الرأسمالية التي يتغرب معها الإنسان عن نفسه وعن الناس والتي تترجم القيم الإنسانية حتى السعادة والنجاح الفني إلى أرقام مالية. ومنذ أن كان الأدباء مهندسي الأرواح البشرية مع الشرط الذي أكدت عليه، فللأدب قيمة من القيم الفضلى ورسالة من الرسالات المثلى ولكن لا فعل لتلك القيمة ولا قوة لتلك الرسالة إلا حين يتصل الأدب بالكافة ويهز ضمائرهم وينير بصائرهم ويحركهم على مزيد في وجودهم من الجمال والخير. الأديب، س3، ع5، بيروت، نوار (مايو) 1955.
أيها الحفل الكريم سيدي الدكتور: لئن وجد ولا أخال أديب أو محب للأدب في هذا الشرق العربي يراود نفسه عقوق أو غرور حتى ليماري في فضلك عليه وإحسانك إليه وإلى الثقافة والفكر والاستنارة، فلست أنا إياه! وإذا جاز لي أن أطول إلى مقعد بين الأدباء وأتكلم باسم مجتهد من مجتهدة القلم في هذه الرقعة العربية من الدنيا، فإني أحيي فيك الرائد الذي صعد بنا إلى هضاب وذرى منها أشرفنا على آفاق رحبة مضيئة سواء منها أشرق في سالف الإرث العربي أو عريق الإرث اليوناني أو محدث الآداب العالمية، فليس منا نحن المعاصرين من لم تكن لك يا سيدي شركة سخية العطاء في تعليمه وتبصيره. وغاية ما أرجوه في موقفي هذا الذي شرفتني واهبتني بوقوفك معي فيه مساجلاً لا همّ لك إلا الحق، ألك كان الحق أم عليك، في مسألة حيوية تعني كل أديب وكل مواطن بقدر ما هو إنسان يعنيه خبز الروح، كما يعنيه خبز الجسد، أقول: غاية ما أرجوه في موقفي هذا أن لا يصدق عليّ، بعد ما علمتني، قول الشاعر: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتدّ ساعده رماني! ذلك أنك قد اخترت في هذه المسألة التي تباين فيها رأيانا أصعب الموقفين. ولا أشك في أنك ما كنت لترضى الأمر إلا من باب الفروسية التي تمنح الخصم أوثق موقف وأسهل موقف للدفاع والهجوم. فلك المنة.
سيدي الدكتور، لمن تكتب؟ أللعامة أم للخاصة؟ لقد أوجب عليك الموقف الذي ارتضيته أن تقول: أنك للخاصة تكتب. فمن هم الخاصة هؤلاء؟ أما الكافة الذين أزعم أني أكتب لهم فهم معروفون يتألفون من هذه الجماهير التي تسعى سعيها وتكدح كدحها في مختلف دروب الحياة. العامل في المحترف أو المصنع، الفلاح في الحقل، الطالب في المدرسة، التاجر الصغير في الحانوت، الموظف الصغير في المكتب. جميع هؤلاء هم الكافة الذي أكتب لهم لسبب أولي أني من حيث لحقتني حرفة الكتابة فإنما يدفعني منطق عملي إلى مخاطبة العدد الأوفر من القراء، وفي هؤلاء الكافة العدد الأوفر من القراء. ولسبب أشد خطورة أني من حيث التمست الكتابة لم يكن لي بد من مادة لما أكتب، وفي حياة هؤلاء الكافة أغنى مادة أستطيع أن أنتقي منها لما أكتب، أنتقي إذ لا بد في كل صنيع فني من انتقاء، أنتقى من أفراحهم وأتراحهم، من آلامهم وأحلامهم، من واقعهم وما يتوقون إليه ويجهدون في سبيله. وهكذا آخذ منهم وأرد عليهم، يعطوني فلا أفقر ولا أجدب، وأعطيهم فلا يركد وجودهم ولا تبهت الألوان في حياتهم.
وثمة سبب آخر هو في رأيي أشد الأسباب خطورة. فأنا من حيث كنت كاتباً فإني أحرص أن يؤثر ما أكتبه الأثر التوجيهي المثمر في شعبي. وهؤلاء الكافة هم القوام الذي لا شعب ولا أمة ولا قوم ولا وطن من دونه. ومهما يكن هذا الأثر التوجيهي الذي أنشد من وراء ما أكتبه، أعني صقلاً للذائقة التي تذوق الجمال، أو الباصرة التي تسبر المعرفة وتطمح إلى فهم الكون والتحكم فيه، أو للإرادة التي تتطلب حرية واستقلالاً للوطن، أو عدلاً اجتماعياً للمواطنين، وسحقاً للاستعمار في أي صورة، ولحروب الفتح والنهب والاستعباد، وتبتغي سلماً وثقافة ورفاهية للإنسانية، أقول مهما يكن هذا الأثر التوجيهي الذي أنشده من وراء ما أكتب فإنه يبقى حرفاً ميتاً ما لم يداخل هؤلاء الكافة، ما لم يتحول إيماناً واقتناعاً ونوراً في عقولهم وغضباً وتحدياً وحباً وتضحية في صدورهم، وعزماً وحركة وعملاً في سواعدهم.
يقول توماس مان في فصل له عن "الفنان والمجتمع": "الفن آخر شيء يتوهم الأوهام عن مبلغ أثره في مصائر العالمين. برغم أن الفن قد قبح كل منحط ودني، فإنه لم يستطيع يوماً أن يوقف سير الشر. لقد حرص الفن أن يفيض على الحياة عقلاً وكرامة ولكنه قد عجز دائماً عن أن يضع حداً لأتفه السخافات. ليس الفن قوة ولا قدرة. إنه لا يعدو أن يكون عزاءً".
هذا ما يقول الأديب الألماني العالمي توماس مان وأحسبه على تبصره وشموخ مهابته خاطئاً. وتجارب الإنسانية، هذه التي نعبر عنها بالتاريخ هي التي تخطئه الكتب المقدمة كالإنجيل والقرآن (أذكرهما باعتبارهما من الخالدات الأدبية) وآثار جون لوك وديدرو وفولتير وروسو وتوم باين ومكسيم غوركي الخ ... هذه الآثار وكثرة غيرها أكانت عزاءً كما يقول تومان مان أم أنها كانت قوة فاعلة في أحداث روحية ومادية تمثلت في الإحياءين المسيحي والإسلامي وفي الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية والروسية وشاركت في تكييف مصائر العالمين؟
وأما الفن لم يستطيع أن يقف سير الشر ولا أن يضع حداً لأتفه السخافات، والحماقات، فاعتراض يؤدي بنا الخوض فيه إلى مسائل فلسفية: ما عسى أن يكون الخير إذا فقد الشر؟ وما عسى أن يكون العقل والحكمة إذا عدم السخف والحمق؟ ومع ذلك فتوماس مان لم يكن مشتطاً كل الشطط في ما ذهب إليه. فالفن كثيراً ما يكون عاجزاً حقاً. ولكن متى وكيف؟ إن الفن، على تعريف قريب يكفي حاجتنا الساعة، إنما هو بالنتيجة صور وأفكار تؤدى في رونق وجمال ... والصور والأفكار لا تؤثر أثراً بنفسها وإنما الذين يؤثرون هم البشر عندما تلهمهم تلك الصور والأفكار. كان جون لوك الإنكليزي يقول: إن ملكية الملك ليست بحق إلهي وإنما هي بعهد وميثاق بين الملك والشعب. وهذا ما جهر به من بعده روسو الفرنسي في سفره "العقد الاجتماعي". وتلك فكرة لو لم تنبث في الشعب، في ظروف مهيئة، فكرة لو لم تصبح توجيهاً في مدارك الشعب لبقيت حرفاً ميتاً ولن لم يكن لها أثر ما كالأثر الذي ظهر لها في الثورتين الإنكليزية والفرنسية.
ومالي أذهب بعيداً؟ فمناظري الدكتور طه حسين نفسه قد رأى في وقت من الأوقات رأياً في الشعر الجاهلي ربما لم يكن في حدّ نفسه ذا خطر عظيم. إلا أنه كان ذا خطر عظيم حقاً من حيث أنه كان اتهاماً شديداً لعقلية جامدة تستقيم عل ما ورثت عن السلف الصالح، وكان نقداً عنيفاً لأساليب النظر التقليدي في الأشياء وإلى الأشياء، وبالتالي كان دعوة جريئة على التحرر والتجديد في باب يفضي منه إلى التحرر والتجديد في أبواب أخرى أعظم خطراً. وضايق رأي الدكتور يومئذ فريقاً من ذوي السلطان والنفوذ فاضطهدوه وأحرقوا كتابه. وإنما أمكنهم أن يفعلوا ذلك لأن رأي الدكتور كان مقتصراً عليه وعلى قلة من المستشرقين في الغرب ومن الباحثين في الشرق العربي. وبكلمة أخرى لم يكن رأي الدكتور مما اتصل بالشعب ولا كان التواق إلى التحرر والتجديد أمراً انتشر وعمق في وعي الشعب، ولا كان إحتراق الكتب واضطهاد الباحثين شيئاً يعني الشعب ويثير موجاً صاخباً من الاستنكار.
إن الفن وما يشتمل عليه أداؤه من رونق وجمال، والفن وما ينطوي عليه محتواه من صور وأفكار، يلبث كما يقول توماس مان، عاجزاً حقاً حتى يلهم البشر ويلهبهم، حتى يصبح قوة تحرك الشعب. وإذا كان الدكتور لم يقتنع بعد، فليأذن لي أن أرده إلى ميدان هو فيه سيد العارفين، وأذكره بمقدمة أنشأها لرسائل إخوان الصفاء، الجماعة الفلسفية المشهورة في تاريخ الفكر العربي. أراد الدكتور أن يصور زمن الجماعة: القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) فكان مما قاله في وصف ذكر العصر من أعصر العباسيين: "هناك مظالم قائمة ومحارم منتهكة ونفوس مطلوبة بغير ذنب وأموال مسلوبة في غير حق".
وهذا ما يفسر لنا الاتجاه السياسي الذي ظهر ـ وأن حاولوا إبطاله ـ على تفكير الجماعة وحركتهم. .فرأوا أنهم في دولة سموها "دولة أهل الشر" وذهبوا على أن الدول "لها وقت معين منه تبتديء، وحدٌ إليه تنتهي"، فقد حان انهيارها وآن دمارها؛ لتقوم دولة أهل الخير. ورأوا أن دولة أهل الخير هذه، يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد واحد ويتفقون على رأي واحد ودين واحد ومذهب واحد، ويعتقدون بينهم عهداً وميثاقاً بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم". ثم اجتهدوا في أن يرسموا أساً عقائدياً لهذا الرأي الواحد والدين الواحد والمذهب الواحد. فخلصوا إلى فلسفة توفيقية لن ندخل في تفاصيلها، ولكن نخص منها بالذكر الموقف المستنير الذي وقفته الجماعة من تعدد الأديان ثم تعدد الشيع والفرق في الدين الواحد فقالوا ما خلاصته: إن كل دين لا يخلوا من حق وأن الأديان كلها مؤتلفة الأهداف، وإن تعددها راجع على أثر المراحل التاريخية التي انبثقت فيها، وأن تعدد الشيع والفرق في الدين الواحد عائد لا إلى حق وحقيقة بل إلى منافع تتعارض ومطامع تتضارب. وهذا موقف أيسر ما يقال فيه أنه كان جديراً على الأقل بأن يوجد تعايشاً منسجماً وتسامحاً وتفاهماً بين أهل الأديان والفرق والشيع المتعددة في بقعة من الدنيا قد آذاها وما زال يؤذيها استغلال تعدد أديانها وفرقها وشيعها بأيد تعبث من داخل وخارج تفسد الثقة وتزرع بذور الفتنة وتنفث سماَ في الجو.
ولكن التجربة التي قام بها إخوان الصفاء لم تعط ثمرها المرجو برغم أن الانحلال الذي أخذ بعرى الدولة العباسية منذ عهد المتوكل كان يحوج على تجربة كتلك التجربة ولا يحرمها إمكانيات النجاح. لم يستطيع إخوان الصفاء أن يهدموا دولة أهل الشر ويشيدوا دولة أهل الخير، ولا قدروا أن يؤمنوا الظفر للموقف المستنير الذي أرادوه من تعدد الأديان وتعدد الفرق والشيع في الدين الواحد. ولماذا؟
ثمة أسباب كثيرة، يجيبنا الباحثون. إلا أني لأشك في أن احد هذه الأسباب الخطيرة أن إخوان الصفاء علقوا الأمل في تنظيم جماعتهم على قلة من الناس سموهم "الخيار الفضلاء" ولبثوا مقفلين على أنفسهم في نطاق ضيق من هذه القلة أو النخبة أو الخاصة كما أحسب الدكتور يقول ولم يطلقوا المجاري بينهم وبين الكافة أو الجماهير كما يتاح لأفكارهم (أعني إخوان الصفاء) أن تتحول من رسائل بالحبر إلى قوة وثابة في الشعب.
ومع ذلك فيبدو أن إخوان الصفاء كانوا بين مفكرينا القدامى أفضل من غيرهم في هذا الوجه. فالكثرة الغالبة من قدامى مفكرينا قد اعتبرت الفكر امتيازاً لها بل احتكاراً، وقفت من الكافة موقف المتهم والمستريب والمستغبي والمستحمق لهؤلاء الكافة، فثمة كما يشهد مثلاً مغزى أشهر قصة فلسفية عربية قديمة: حي بن يقظان ثمة دين للخاصة ودين للكافة، يكفي العامة النقل والتقليد وأما العقل والتوليد فللنخبة. والفلسفة لم توجد إلا لقلة مفضلة بينما الكثرة حسبها الإيمان والتسليم، وهكذا ... ولسنا نجهل ما قد كان لهذا الموقف من وخيم العواقب على الشعب، والوطن والمجتمع، وعلى الفكر نفسه والمفكرين أنفسهم. فلقد هون هذا الموقف اضطهاد الشعب وتضييع الأوطان وإفساد المجتمع والتنكيل بالفكر والمفكرين أو دفعهم إلى العزلة والحيدة والازدواج في الشخصية وربما الاعتصام بالنفاق.
سيدي الدكتور: سألتك في أول هذا الحديث عمن يكون هؤلاء الخاصة الذين قلت إنك تكتب لهم. وأعيد عليك السؤال. وأزيدك أني أنا يا سيدي أرى الخاصة لفظاً لا يكاد يثبت على مدلول معين واضح الحدود. إذاً نحن جعلنا القضية قضية مال وجاه كان الخاصة هؤلاء كناية عن ثلة من الأغنياء الكبار الذين يبذخون في المأكل والمشرب واللبس ويتسنى لهم مع ثرواتهم الفاحشة أن يأخذوا بالعادات واللياقات المصفاة المترفة. وأنا أجلك عن أن يكون هؤلاء هم الخاصة الذين تقصر همك على الكاتبة لهم. فهؤلاء إلا من عصم الله قلما يحتملون أن يكون الأدب غير متاع من باب النقش المزخرف والطلاء البراق والمسلاة المرفهة، يشرون ذلك كله بأموالهم ويستعينون به على دفع السآمة والرتابة وعلى حشو الفراغ الذي يملأ حياتهم ويكربهم أحياناً. وهؤلاء قلما يحتملون أن يكون الأديب غير نديم أو مهرج أو مبوق لهم يرتزق من فتات موائدهم بضرب من التجارة حقير هو التجارة بالكلمة.
وإذا جعلنا القضية قضية علم ودقة ذوق وحس ودربة وإتقان أصبح الخاصة هؤلاء كناية عمن نصطلح على تسميتهم بالمثقفين. والمثقفون في عصرنا خصوصاً، العصر الذي زخرت فيه الحياة بالتجارب الخطيرة، واتسعت أبواب المعرفة على المدى الأبعد، وانتشر التعليم واتجه إلى التخصص في باب دون باب من المعرفة التي أصبحت ولا بد من تجزئتها لتمكن الإحاطة ولو بجزء منها، أقول: إن المثقفين هؤلاء يلحقون بالكافة أو يلحق بهم الكافة حتى يتضاءل الخط الفاصل بين الفئتين ويترجرج، فيدخل امرؤ في فئة الخاصة على اعتبار، ثم يدخل هو نفسه في فئة الكافة على اعتبار آخر. ما قولك يا سيدي في عامل مصنع للنسيج أو فلاح مزرعة عصرية، أهما مثقفان أم لا. بل كلاهما لا شك مثقف من وجه، لأن طبيعة العمل في مصنع النسيج وطبيعة العمل في المزرعة الحديثة، مع ما يلزم العملان من سياسة الآلات والخبرة في الغزل والأرض والشجرة والأسمدة كل ذلك ثقافة. وإذاً فهذا العامل والفلاح خاصة أم كافة؟ ثم ما قولك يا سيدي في طبيب ماهر في تشخيص العلة ووصف العلاج ولكنه أشد خلق الله سذاجة بل جهلاً حين يتناول الحديث الاجتماع والفلسفة والتاريخ فضلاً عن الزراعة أو الشعر. أمثقف هذا الطبيب أم لا؟ أخاصة هو أم كافة؟ بل هذا الرسام البارع والنحات الماهر، ولكنه لا يحسن الموسيقى والرقص والشعر وربما جهلهما جهلاً، أمثقف هو أم لا؟ أخاصة هو أم كافة؟ وهذا العالم من علماء الطبيعيات أو الفلك، الذي إذا قرأ كتابك "المعذبون في الأرض" حسبه من هذر القول لأنه ليس بحثاً في الذرة ولا في الجاذبية ولا في النظام الشمسي ولا في كوبرنيك ولابلاس أمثقف هو ومن الخاصة الذين تكتب لهم؟ بينما هذا الفلاح الصعيدي الذي إذا قرأ أو سمع كتابك نفسه وجد فيه ملامح من حياته وصوراً من همومه وتذوقه وأعجبه تعده جاهلاً ومن الكافة الذين لا تعنى بالكتابة لهم؟ سيدي الدكتور، أيها الحفل الكريم: ثمة نظريات في الأدب ودور الأديب لا يحيط بها حصر. نظرية ترى في الأدب خطفاً إلى عالم مسحور: حوادث عجيبة وأخيلة غريبة وألفاظ عذبة الرنين وسبك متين وصور كلامية بارعة أتشبيهاً سميت أم كناية أم مجازاً أم رمزاً. هذه النظرية لا ترى في الأدب إلا محض لذة وترفيه وعزاء وانتشار يخلقها الأديب ساكن البرج العاجي لقرائه أو سامعيه من قرار عبقريته أو من غيب يستند منه الوحي والإلهام. ونظرية ترى في الأدب انصرافاً إلى عالم الواقع ونقلاً وإظهاراً لما في هذا العالم الواقعي بكل جماله وقبحه وسواء أرضي الذوق أم سخط وسواء أطاقت الأخلاق أم أنفت.
فالأدب لا يعدو أن يكون فناً للفن، وربما انحط معنى "الفن" في مفهوم هذه النظرية إلى محض الشكل وصياغته بالانقطاع عن المحتوى والمضمون. وأما الأديب بحسب هذه النظرية فلا يزيد عن أن يكون فناناً يحسن الوصف والتصوير لما يجعل الواقع بين يديه من شكول ونماذج، أو هو لا يحسن أكثر من سبك العبارات. ونظرية ترى في الأدب انفتاحاً على الحياة المتحركة المتجددة أبداً. تتجدد بأن يموت فيها ما هرم وتفسخ وانحل وبأن يثبت فيها ما ولد وأقبل على القوة والشباب. فالأديب بالتالي لا ينقل نسخة عن العالم الواقعي وليس هو محض أوصاف لما يعرض عليه الواقع من شكول ونماذج، أو محض رصاف للألفاظ، وإنما هو يميز في ما يصف ويصور، ظواهر الحياة التي تنمو من ظواهرها التي تذبل وتضمحل، لا يقصد من وراء ذلك إلى لذة وترفيه أو عزاء وانتشاء، أو مباهاة ببيان، وإنما يقصد على أن يدخل في وعي الجماهير أي هي الظواهر النامية في الحياة حولهم وأي هي الظواهر السائرة إلى ذبول واضمحلال، بغية إلى أن يوجههم إلى تغيير الحياة التغيير الذي تحتمله والذي يكون في الآن نفسه جمالاً وخيراً لأن الخلق الفني الصحيح انسجام بين الخيال والممكن، وبين الفني الجميل والأخلاقي الخير.
وأنا أيها الحفل الكريم ويا سيدي الدكتور ممن يؤمنون بهذه النظرية الأخيرة في الأدب: إنه فعل خلق فردي، ولكن بمادة اجتماعية لا ميتافيزيقية، مادة تنبع من الحياة الشعبية المتحركة المتجددة، وتعود فتنصب في هذه الحياة الشعبية المتحركة المتجددة، لتجعلها أعمق وعياً في تحركها وتجددها. تعود فتنصب عبر نفس الفنان بعد أن خلا إلى ذاته ينتقي ويصطفي. ينتقي من أدق الدقائق في الخلق الأدبي أعني اللفظة والأسلوب والصورة إلى أعم مقومات الأدب وعناصره أعني الموضوع الذي يستلزم كما يصح موضوعاً أ ن يكون متصلاً بالجديد النامي في الحياة، وأن يخاطب الكثرة أعني الشعب لا القلة والنخبة وحدها أو الخاصة، وأن يجمع في الوقت نفسه فعلاً فنياً وأخلاقياً، خلافاً لما يرتئي بعض فلاسفة منهم الإيطالي بنديتو كروتشه الذي يحب أن يسربل ماهية الفن والخلق الفني بضباب غموض يدعوه الحدس.
وإن هذا الذي سبق لي أن قلته عن وجوب انفتاح الأديب على حياة شعبه لتمييز ظواهرها التي تنمو من ظواهرها التي تذبل وتضمحل، ولتأييد ظواهرها النامية ومكافحة ظواهرها الذابلة المضمحلة، ليستتبع أن يكون كل أديب شيئاً من فيلسوف. فما من فن إلا وهو يسفر بالنتيجة وسواء أشاء الفنان أم أبى، عن طريقة في النظر إلى العالم. وبالتالي عن طريقة للمعرفة وطريقة في التفكير، أي: فلسفة.
وعصرنا هذا يقضي بأن يكون الأديب بإرادة واعية منه فيلسوفاً، لاسيما اجتماعياً، يصدر عن فلسفة، يدرك بها أن الحياة متحركة متجددة لا مستنقعة جامدة، ويدرك اتجاه الحياة في حركتها وتجددها، ويدرك أن ينبوع القوة في هذه الحركة، والتجدد إنما هو الشعب، فإلى الشعب ينبغي له أن يتوجه. وأنت أعرف مني يا سيدي بأن لكل عصر قضاياه ومشاكله التي تبرز فيه وتشتد وتلحّ إلحاحاً حتى تصبح هي قضايا الجماهير ومشاكلها في ذلك العصر. وإذا قلنا الجماهير فقد قلنا الكافة. وأنت أعرف منّي أن أدب كل عصر حين يستحق اسمه يستحيل عليه أن لا ينفعل بتلك القضايا والمشاكل انفعالاً بطبعه بخصائصه المميزة. وإذا كان أدباً عميقاً قوياً فإنه يفعل في تلك القضايا والمشاكل ولا يقف عند حد الانفعال بها. ذلك بأن الإنسان ومنه الأديب الفنان، ليس متفرجاً بمسرحية هذا الوجود والكون والطبيعة (أو ما شئنا من الأسماء) وإنما هو بالذات بطل هذه المسرحية وعلى مصيره مدارها وهو الذي يعطيها معناها وغايتها.
وهكذا كان لا بد لأدب كل عصر من أن يتعلق بمواضيع مشتقة من قضايا ذلك العصر ومشاكله، مواضيع هي هم جماهير ذلك العصر وبالتالي لا معدى للأديب عنها فهو يكتب فيها وهدفه الجماهير أو الكافة فيما يكتب، منفعلاً وفاعلاً متأثراً ومؤثراً.
وعصرنا هذا يا سيدي الدكتور قد برزت فيه قضايا ومشاكل معينة واشتدت وألحت إلحاحاً حتى أصبحت هي قضايا الكافة ومشاكلهم: وهي في رأيي تدور على أربعة محاور: الاستقلال الوطني والحرية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلم بين الشعوب أو على تعبير أدق بين الدول ولا سيما كبراها. ومرجع هذه المحاور الأربعة كلها إلى زيادة تحقيق الإنسان لإنسانيته أو إلى تمكينه من تخطي طور إنسانيته الراهنة إلى طور أرقى، مع ما ينطوي عليه ذلك من نفي الاستعمار والاستثمار والقبح والفقر والمرض وإقرار الإخاء، والأمن والحرية والتراحم بين البشر وخلق نفس بشرية أسمى وأصفى وأقرب على الله وتقوية سلطان اليد والذهن البشريين على الطبيعة لتسخر كل طاقتها لسعادة الإنسان وإشاعة الجمال في حياته. وأديب العصر مسؤول عن أن يتصل أدبه اتصالاً حميماً بهذه المواضيع يستمد منها الروح والمضمون لأدبه ويتوجه به إلى الكافة، ولينوع من بعد العناوين والفنون والقوالب والأساليب ما شاءت له مواهبه التنويع.
وأحسب أنه قد آن لي هنا أن أثبت بصورة لا تقبل اللبس والجدال ما أعنيه بالكتابة للكافة. إني أيها الحفل الكريم ويا سيدي الدكتور إنما أقصد بالكتابة للكافة ما قد سبق لي قوله الساعة: أن يستمد الأديب الروح والمضمون لأدبه من القضايا والمشاكل التي أؤكد أنها هي رأس قضايا العصر ومشاكله وأؤكد أنها هي همّ الكافة في هذا العصر، سواء من الكافة من قد بلغ اليوم مبلغ الوعي لتلك القضايا والمشاكل أو من هو بالغه غداً ولا ريب. بكلمة أخرى، إني لا أرضى بالكتابة للكافة ذلك المفهوم المبتذل الذي يزعم أن مدار الأمر في الكتابة للكافة، إنما هو العبارة الهينة الركيكة والمعاني السطحية والمواضيع الرخيصة التي تسلي أو تتملق غرائز البهيمة في الإنسان أو نزاعات الفطرة المتأخرة.
هذه عندي ليست كتابة للكافة ولكنها ضرب من الكتابة يشجع عليه أولو المصلحة إما ليسد حاجة من أتخمتهم الثروة إلى تزجية الوقت، وإما ليشغل الشعب بالتفاهات عن الأدب الفني الجدي الرصين.
وقد يحتج: ولكن الكافة لا تفهم ولا تذوق هذا الأدب الجدي الفني الرصين. وهنا لا غنى عن استدراك أسرع إليه: ما ينبغي لنا أن نخلط بين الأدب الذي يتوافر حظه من الجد والفن والرصانة والأدب الذي يكظّه اللفظ العويص، ويثقله التعمل والتعقيد والغموض. فإذا استدركنا هذا، بل إذا عرفنا أن السهولة والسلاسة والوضوح التي تأتلق معها الألفاظ ائتلاقاً وتشرق المعاني على النفس إشراقاً، ولا تتنافى مع الإنشاء العالي والفن الرفيع، وإنما تواكبه في أكثر الأحيان كما تشهد روائع الآثار الأدبية، إذا استدركنا وعرفنا هذا فقد سقط سبب من الأسباب المزعومة التي تحول بين الكافة وبين أن يفهموا الأدب الفني الجدي الرصين ويذوقوه ويفهموه حق الفهم والذوق. ولا أجد لي برهاناً أقرب من آثار الدكتور طه حسين نفسه ولاسيما كتابه الأيام، ففيه من الوضوح والسلاسة والسهولة ما لم يؤذ علو إنشائه ورفعة فنه بل كان المقوم لرفعة فنه وعلو إنشائه على بقائه في متناول الكافة. وكذلك أمثال المتنبي فإنها حفر وتنزيل له من الروعة الفنية ما لا أخال أحداً يماري فيه، حتى لحقت هذه الأمثال بعبارات الشعب وعاشت في لغته، مع العلم أن كل لغة إنما هي في الأصل لغة الشعب قد أوجدها الشعب، وهي تؤول إلى تيبس وتحنط في الكتب إن لم تثابر على اكتساب الحياة مما يشتق الشعب ويخترع في عبارة كل يوم. فالشعب حتى في العبارة الفنية لا يأخذ من الأدباء إلا أقل بكثير مما يعطيهم.
يبقى صحيحاً برغم هذا أن كثيراً من روائع الآثار الأدبية لا تنقاد فوراً للفهم والذوق، ولا تتكثف مقاصدها وأسرار جمالها سريعاً، بل ربما انتظرت دهراً أو ربما رأى فيها دهر ما لم ير فيها آخر. ولكن هذا لا يصدق على تلك الآثار بالقياس إلى الكافة وحدهم بل بالقياس إلى من يدعون الخاصة أيضاً. أو فأروني أين هم الخاصة الذين يفهمون ويذوقون رائعة أدبية كالملهاة الإلهية لذانتي. أين هم الخاصة الذين يسبرون شخصية دانتي ويلمسون مقاصد رائعته وأسرار جمالها دون قراءتها عشرات المرات ودون قراءة عشرات الكتب في شرحها والتعليق عليها وفي سيرة شاعرها وتحليل عبقريته وعصره. وإذاً، فأين هم الخاصة وأين هم الكافة في هذا المضمار لا خاصة ولا كافة، بل جميعهم كافة. وكل ما في الأمر أن من طبيعة الروائع الأدبية أن يحتاج في فهمها إلى التكرار وأعماق الدرس وتعاقب الدارس والشراح. وسيدي الدكتور نفسه أجدر الناس بأن لا يدفع هذا الرأي، وإلا سألته ما بالك لم تترك الخاصة وحدهم يحصلون ما قد حصلته وأذعته للناس في المعري وابن خلدون وقادة الفكر الذين عقدت لهم فصلاً في كتاب مشهور.
أيها الحفل الكريم: أنا أعلم أن الكثير مما قلته الليلة واعتصمت به في الدفاع عن موقف التزمته في هذه القضية يمتلئ بأصداء شنشنة عرفها الدكتور طه وعرفتموها من أخزم. وأخزم هنا هو أشياع المذهب الماركسي كما يبدو مطبقاً بشكل رسمي في إحدى دول العالم. وليس هنا مجال الخوض في التجربة السوفياتية من جميع وجوهها، ولا في المذهب الماركسي من جميع جوانبه، ولكن من باب جلاء الحقيقة والإنصاف لي ولكم وللقضية التي نتناقشها أقول: أني أدين بالأدب الموجِّه الموجَّه. وأزيد أن كل أدب إنما هو بطبيعته موجِّه وموجَّه معاً بوعي من الأديب أو بغير وعي. فليكن إذاً موجهاً بوعي من الأديب. وحرية الأدب واستقلال الأدب، إذا ظُن معناهما خلوه من التوجيه فإنهما وهم فارغ وادعاء باطل. ليست الحرية لا مسؤولية وليس الاستغلال لا مبالاة. ولكني أصر أقوى إصرار على أن يكون هذا التوجيه بفعل إرادي اختياري من الأديب حصل له اقتناع داخلي إقامة على الحقيقة بعدما تسنى له أن يعرفها بالشروط التي تعرف بها الحقيقة. هذا هو مفهوم حرية الأديب في نظري. فبالتالي أني أنكر أشد إنكار أن يكون التوجيه للأديب بقسر أو بإغراء من الدولة والحزب الحاكم. أنكر أشد الإنكار أن يكون معنى التوجيه للأدب تلقيناً من الدولة والحزب الحاكم.
وإذا كنت أرى أن الأدب ليس هو شكله فقط، بل شكله ومضمونه متحدين متوافقين، وإذا كنت أرى أن الأدب ينبغي له أن يتمرس بقضايا العصر ومشاكله ويميز مع ذلك ظواهر الحياة النامية حوله من ظواهرها التي تذبل وتضمحل، ويتعلق بالمواضيع التي تبرز من جراء ذلك وتشتد وتلح، فأنا أنكر أن يعني شيء من هذا تقنيناً للمواضيع أو للأساليب من قبل الدولة والحزب الحاكم. لا بد للأدب من عنصر عدم انسجام بينه وبين المواضعات حوله. ولا بد في الأدب من نقد للأشياء حوله مع ما في هذه الأشياء (لا سيما الدولة وأصحاب أمرها). والدولة وأصحاب أمرها حين يستحيلون إلى "نرسيس معجب بنفسه" ويحولون الأدب إلى مرآة يطالع فيها نرسيس هذا جماله ويسخط على المرآة إذا أرته خطوط هجنة أو قبح في ملامحه، فقد فقد الأدب كل طعم.
يولع الماركسيون السوفياتيون الرسميون بترديد هذه الكلمة: "الأدباء مهندسو الأرواح البشرية". صحيح. ولكن شرط أن لا يكون هؤلاء المهندسون قد هندس لهم سلفاً كل شيء! وإذا كنت أرى أن الأدب هو خلق فني يخلقه الأديب بفعل نفسي أي مؤثراً في الحقيقة الخارجية لا متأثراً بها فقط، ويتوجه بخلقه هذا على الكافة، فأنا أنكر أشد إنكار أن يكون تقويم الأدب بحسب الحكم الذي ترتجله عليه الكافة، فكما ينبغي في الأعمال الأدبية الاختمار كذلك ينبغي في الأحكام على الأعمال الأدبية. وقديماً سخر أفلاطون في شرائعه بالحماقة التي ارتكبوها زمناً في أثينا وصقلية وإيطاليا وهي أن يقرر الجمهور فوراً جودة المسرحيات التي يشهدها برفع الأيدي، فالمسرحية التي تظفر بالعدد الأوفر من الأصوات تكون هي الأجود! ماذا أقول؟ حتى في إرسال الرجال الصالحين إلى الندوات النيابية لم تفلح هذه الطريقة، فكيف في اخيتار أفضل الآثار الأدبية؟ سيدي الدكتور: على شرط أن لا يكون هؤلاء المهندسون المدعوون أدباء قد هندس لهم سلفاً كل شيء من قبل الدولة والحزب الحاكم، فالأدباء هم حقاً مهندسو الأرواح البشرية.
هكذا تقول الاشتراكية الحرة التي اعتقدها.
وليس الأدباء تجاراً وليس الأدب سلعة كما تتوخى الرأسمالية التي يتغرب معها الإنسان عن نفسه وعن الناس والتي تترجم القيم الإنسانية حتى السعادة والنجاح الفني إلى أرقام مالية.
ومنذ أن كان الأدباء مهندسي الأرواح البشرية مع الشرط الذي أكدت عليه، فللأدب قيمة من القيم الفضلى ورسالة من الرسالات المثلى ولكن لا فعل لتلك القيمة ولا قوة لتلك الرسالة إلا حين يتصل الأدب بالكافة ويهز ضمائرهم وينير بصائرهم ويحركهم على مزيد في وجودهم من الجمال والخير.
الأديب، س3، ع5، بيروت، نوار (مايو) 1955.