ككل سنة وضمن احتفالات الهيئة العربية للمسرح بالمسرح العربي وقبل انعقاد فعاليات كل دورة من المهرجان يقوم فنان مسرحي بتوجيه رسالة اليوم العربي للمسرح، الدورة الحالية والتي تنعقد بدولة الكويت اختارت فنانا عربيا يدعونا في كلمته الى مسرح مقاوم وحر ينتصر لقيم الإنسان في الحياة والجمال منفتح أكثر على بعده الكوني.

لم يعد أمامنا خيارات.. و لا نملك رفاهية الوقت

زيناتي قدسية

إخوتي و أصدقائي...

يا مَن تصنعون الجمال في زمن يُصرُّ فيه المتهافتون على إنتاج القبح.

توقي كبير،  و شغفي أكبر،  لهذا اللقاء الذي دعتنا إليه الشارقة المشرقة،  المدينة_المنارة،  مركز الذوق الفني الرفيع،  ممثلةً بهيئتنا العربية للمسرح،  لنحجَّ كلنا إلى واحة الثقافة و العلوم و الإبداع العربي والإنساني،  إلى هذا البيت،  بيتِنا العربي الكويتي العريق و الأصيل،  بيت الأمن و السلام.. هذا البيت الذي طالما جمعنا في أوقاتٍ كنا فيها أشتاتاً،  واحتوانا بذراعيه الحانيتين ودفء قلبه في أزمان عزَّ فيها اللقاء.. نحن الذين نشكل البقية الباقية التي ما تزال متمترسة على أسوار حصن الجمال،  مدافعين عنه ببسالة قل نظيرها.

أصدقائي...

من أمِّ البدايات،  أمِّ النهايات. من رائحة الزيتون و الكرمة و الزعتر التي تعبق من "فستيان" أم سعد،  من العاشق،  العائد إلى حيفا مُحمَّلاً ببرقوق نيسان.. من روح غسَّان،  معلمي الأول،  فاتحة وعيي و إدراكي للأشياء و الحياة. من "إجزم" قريتي الهاجعة على كتف حيفا و ظلال الكرمل كفرخ حمام يستدفئ بجناح أمه.. حيث الولادة.

من "دمشق"،  شامةِ الدنيا،  أمِّ المدنِ و روحِ التاريخ.. دمشق،  ثقافتي،  هواي،  مرآة روحي،  كل التجربة...

ستة و أربعون عاماً في "دمشق"،  وقبلها أربع سنوات في عروس الشمال "إربد".. خمسون عاماً ليست شيئاً في عمر الزمن،  و لكنها العمر الحقيقي لتجربتي في المسرح،  والحياة إذا شئتم.. منازلة لم تتوقف يوماً،  حاولت خلالها أن أمسك بتلابيب هذا الفن الصعب العصيّ،  ولم أفلح.. لكنني و منذ وقت مبكر أدركت أنني مقبل على خوض معركة شرسة قد تطول،  ولا أدري لصالح من ستحسم نتائجها.. ومع مرور الزمن و احتدام المعركة أدركت أن المسرح قضية كبرى وتحتاج رجالاً على مقاسها.

أيها الأعزاء: إذا كان للشعوب برلمانات،  فإن المسرح هو برلمان الثقافة الشعبية دون منازع. و لكي يتحول المسرح في بلادنا إلى برلمان للثقافة الشعبية حقاً،  فإنني _مع الأصوات التي سبقتني،  وبعيداً عن تكرار ما قلناه و كتبناه و نظَّرنا له منذ مائة عام و يزيد،  أدعوكم للاندفاع بوعي و جرأة و حكمة نحو مسرحنا الجديد و المقاوم.. وأن نحوِّل كل المساحات المتاحة_ و أقتبس من الدكتور القاسمي:[إلى أمكنة للتعبير عن المقاومة التي تبديها الأفكار التنويرية ضد الأفكار الظلامية،  و أن نجعل من مسرحنا مدرسة للأخلاق،  و الحرية].. انتهى الاقتباس.

نعم أيها الأخوة.. مسرح جديد حر ومقاوم،  بدأت إشاراته الأولى تتبدى منذ عشر سنوات.. حرٌ مقاوم.. لأن المسرح بطبيعته حُرّ،  ومنذ نشأته الأولى كان مقاوماً،  وقدم آلافاً من العروض المسرحية المقاومة بمعناها الحرفي،  مقاومة المحتل،  الغازي،  العدو،  المستعمر،  و في كل دول العالم هناك دائماً حضور لافت للمسرح المقاوم و إن اختلفت أساليب التعبير عن روح المقاومة من مسرح لآخر. و ما دام هناك فاشيون و ديكتاتوريون،  و قابليات لنشوب حروب ثنائية أو كونية،  و ما دام على الأرض أربابٌ يتمسكون بربوبيتهم و يعملون على تخريب العالم و تدمير أمنه عبر التاريخ،  و ما دامت الآفة الإنسانية الماثلة أمامنا و المتمثلة في البعض الذي يرى العالم أضيق من أن يتسع له و للآخرين،  و يريد أن يعيش وحده جاعلاً نهج حياته: "هذا كله لي".. ما دام كل هؤلاء يعبثون بحياتنا و مصائرنا،  فإن المسرح المقاوم يبقى حيَّاً و يعبر عن حرية الإنسان و الشعوب و ثقافاتها... هذا من جانب.

و في الجانب الآخر،  ليس شرطاً أن يكون هناك احتلالاً أو غزواً عسكرياً أو مستعمراً لننشئ مسرحاً مقاوماً. ففي فترات السلم العالمي،  تبدو حاجة البشر لمسرح مقاوم ماسَّة و ملحة. و كأن هذا الهدوء و الاستقرار الظاهري و الاسترخاء المريب تختفي وراءه نُذُرُ التفجرات المباغتة و الحروب المدمرة. و ما سعي الدول المحموم لامتلاك الأسلحة بمختلف أنواعها،  و الصراع المعلن و الخفيّ على حيازة أكثرها فتكاً و تدميراً تحت مسمى التوازن الاستراتيجي،  إلا تهيئة و استعداداً لهذه التفجرات المباغتة. و لذلك،  فإن المفكرين و المثقفين و العلماء و الشعراء و رجال المسرح في مختلف أنحاء العالم،  حين يواجهون القبح بالجمال و اليأس بالأمل،  و حين ينتصرون للإنسان من أجل حريته و كرامته الإنسانية و حقه في الماء و الطعام و المسكن اللائق و الصحة و التعليم و الحب و إبداء الرأي و الدفاع عن حقه في الوجود.. حين ينتصرون لكل هذا،  إنما هم ينتمون بشكل أو بآخر إلى الثقافة المقاومة،  العلوم المقاومة،  الشعر المقاوم،  والمسرح الجديد الحر المقاوم.. البعيد عن التقليدية المتزمتة والمرتهنة لمفاهيم لم تعد قادرة على مواكبة متطلبات العصر.. مسرح متحرر من ظلامية الغول الذي ينشب أظفاره ليشد التجربة الإنسانية برمتها إلى الكهوف المظلمة.. مسرح جديد حر،  نقيض للحداثات المزيفة وغير الأصيلة والطارئة،  والتي أحدثت اختراقات مهولة في حياة البشر على كل المستويات. وأرجو أن لا أُفهم بأنني أدعو للانغلاق والانقطاع عن ثقافات العالم ومنجزاته الإبداعية.. على العكس،  أنا من قرية صغيرة من قرى الجليل في فلسطين،  لكنني أؤمن بأن العالم قريتي. و أنتمي لأسرة صغيرة،  و لكنني أؤمن بأن البشرية أسرتي،  وبأنني جزء لا يتجزأ من هذا النسيج الإنساني الرائع. وأؤمن أن على رأس واجبات الإنسان واجباً يدعوه إلى الاهتمام بمشاكل و قضايا العالم،  و إلى التفكير فيها و التعبير عنها بنفس الحرارة و الولاء الذي يتناول فيه مشاكل وطنه و ذاته.

و قد يقول قائل: هل فرغنا من مشاكلنا نحن حتى نولي وجهنا نحو مشاكل العالم؟.. لا لم نفرغ بطبيعة الحال.. بل إننا غارقون في المشاكل والأزمات و الكوارث حتى الأذنين.. لكننا لا نبتعد عن أنفسنا حين نقترب من العالم كله.. ولن نكون مبدعين حقيقيين قادرين على الدفاع عن قضايانا الإنسانية العادلة دون أن ندرك المفهوم السويَّ لكلمة "نحن". لأن "نحن" هذه،  ليست في التحليل النهائي لها سوى سكان هذا الكوكب جميعاً. و أنت و أنا إنما نبحث مشاكلنا نحن حين نوجه خواطرنا على المشكلة الإنسانية بأسرها.. و إنني أرحب كل الترحيب بمثاقفة إنسانية تكفل لي تمايزي و خصوصيتي الثقافية و الروحية،  و لا تلغي هوية الأصل أو تعمل على مسخها و تحويلها إلى كيان تابع ذليل.. مثاقفة محكومة بشرطيّ الحرية و التكافؤ.

أيها الأعزاء،  نحن اليوم نصعد الدرجات الأولى في سلَّم القرن الواحد و العشرين،  ولدينا من الطاقات البشرية و العقلية والإبداعية والمالية ما يمكِّننا من خلق مسرحنا الجديد.. لم يعد أمامنا خيارات.. ولا نملك رفاهية الوقت.. و علينا أن نكمل ما بدأناه بوعي و جرأة و تصميم أشد.. فكما أن المسرح الحي النابض نقيض البدايات الفاترة،  عدو الإيقاعات الميتة،  كذلك الحياة،  لا تزدهر بالتمطي و الاسترخاء.. والحرية وسعادة البشر لا تتحقق بالكسل والتثاؤب،  إنما تعمر الحياة و تزدهر بالتحديات و المواجهة وقوة الإرادة.. و أنتم أهل لهذه المواجهة.

و مع كل هذا التهشيم المريع و التوحش الذي نعيشه و نشهده في منطقتنا و العالم،  و في همروجة هذه الانكفاءات السريعة،  يكفينا شرفاً أننا ما زلنا نقبض على جمر التجربة.. أجل أيها الجميلون،  أنتم القابضون على جمر التجربة،  و لأنكم كذلك فأنتم تمثلون الارتسام الأنصع لشرفنا الإبداعي الباقي،  و لأنكم كذلك فسنبلغ المرفأ حتماً،  و سنحقق كل اجتراءاتنا الباسلة الماهرة.

أخيراً.. هذه الخشبة ابتلعت كل العمر.. خمسون عاماً بالتمام و لا كمال.. أرى كل شيء كما لو كان البارحة أو اليوم.. و كل شيء كان لها.. للتي غنيتُ لها كُل هذا العمر.. و سأظل أغني مع الذين غنوا لها،  و الذين سيشاركوننا الغناء.. مثلما كان.. و ما سيكون.. إلى أن تكون.. حبيبتي التي ستبقى تمتلك السماء.. هي وحدها لها قلبي،  هي وحدها تفتح روحي لما لا يمكن سمعُه،  هي وحدها و العجائب تندهش إذا مرَّت،  هي وحدها،  و سيبقى الشرف الإنساني مثلوماً إلى أن تخرج من الجحيم إلى رحاب الحرية،  و نتوجها درَّة لتاج العالم.. عالم متجدد أكثر حرية،  عالم يقف الناس جميعاً فيه أخوةً متحابين،  يطبعون سيوفَهم سِككاً،  و رماحَهُم مناجل.. لا ترفع أمةٌ على أمةٍ سيفاً.. و لا يتعلمون الحرب.. فيما بعد.